عناية الأصول في شرح كفاية الأصول - ج ٤

آية الله السيد مرتضى الفيروزآبادي

عناية الأصول في شرح كفاية الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد مرتضى الفيروزآبادي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات فيروزآبادي
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٣١

(وعليه) فحكمه في المقام بسقوط الاحتياط يكون على القاعدة (وعلى كل حال) الحقّ أن جميع ما تقدم في وجه وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة هو مما يجري في الشبهة الغير المحصورة حرفاً بحرف وأن شيئاً من الوجوه الستة التي نقلها الشيخ أعلى الله مقامه مما لا تنهض لرفع اليد عن الاحتياط في الشبهة الغير المحصورة سوى الوجه الثاني منها وهو لزوم المشقة في الاجتناب عن الكل إلّا انه ليس بدائمي فإن العسر انما يلزم إذا كانت الأطراف الكثيرة مما اشتد به الحاجة كما أشرنا بأن كانت من الأمور الضرورية كخبز أو ماء ونحوهما مما يتوقف عليه نظام العيش وإلّا فلا عسر في ترك الأطراف جميعاً.

(واما الوجه الأول) من الوجوه المتقدمة وهو الإجماعات المستفيضة التي اكتفى بها الشيخ أعلى الله مقامه فلا يغني شيئاً فإن الإجماع في المسألة على تقدير تسليمه هو ليس مما يكشف عن رأي الإمام عليه‌السلام بعد ما كان المدرك فيها هي الوجوه المتقدمة كلا أو بعضاً.

(واما الوجه الثالث) فكذلك لا يغني شيئاً فإن أخبار الحل وإن كان أكثرها ظاهراً في الشمول لأطراف العلم الإجمالي كما تقدم ولكن قلنا في روايات البراءة وفي أوائل الاشتغال أيضاً ان هذا الظهور غير معمول به عند الأصحاب فلا يعوّل عليه في رفع اليد عن الاحتياط أصلا (ولو سلم اعتباره فحملها على الشبهات الغير المحصورة جمعاً بينها وبين ما دل على الاجتناب بقول مطلق مما لا شاهد عليه فإنه جمع اقتراحي لا جمع عرفي.

(واما الوجه الرابع) فهو مثلهما في الضعف لما فيه من احتمال كون المراد من قوله عليه‌السلام أمن أجل مكان واحد ... إلخ أي أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة لا يحرم جبن ساير الأماكن مما لا يعلم انه يجعل فيه الميتة وان كان فيه احتماله وشبهته (وعليه) فجبن ساير الأماكن يكون من الشبهات البدوية لا من أطراف العلم الإجمالي (ولو سلم ظهور الحديث في مقصود المستدل فمن أجل

١٨١

حديث واحد سيما من مثل أبي الجارود لا يمكن رفع اليد عن قاعدة الاحتياط في جميع الشبهات الغير المحصورة.

(وأضعف من هذا كله الوجه الخامس) فإن احتمال العقاب وان كان ضعيفاً موهوماً في كل واحد من الأطراف الغير المحصورة ولكن المحتمل وهو العقاب الأخروي حيث كان قوياً جداً فلا يجوّز العقل رفع اليد عن الاحتياط في الأطراف أبداً وهكذا الأمر في كل ضرر قوي مثله وان كان دنيوياً لا أخروياً فإذا علم إجمالا أن في واحد من ألفي إناء بل وعشرة آلاف إناء سم قاتل يقطع به الأمعاء فوراً بلا مهلة أصلا فلا يكاد يجوّز العقل استعمال أحد الأواني بلا شبهة وان كان الاحتمال فيه ضعيفاً إلى الغاية بعد ما كان المحتمل فيه في غاية القوة.

(وأضعف من الكل الوجه السادس) فإن الكلام ليس في الشبهات الغير المحصورة الخارجة بعض أطرافها عن تحت الابتلاء كي يقال إنه لا يجب الاجتناب حينئذ عن الباقي مع حصر الشبهة فكيف بأطراف غير محصورة بل الكلام متمحض في الشبهة الغير المحصورة التي هي تحت ابتلاء المكلف بتمام أطرافها فهي مع كونها بهذه الصفة هل يجب الاجتناب عنها أم لا (هذا تمام الكلام) في الوجوه الستة التي استدل بها لعدم الاحتياط في الشبهة الغير المحصورة مع ما فيها من النقض والإبرام وقد عرفت ان أوجهها جميعاً هو لزوم العسر إلّا انه ليس بدائمي كما أشرنا آنفاً بل قد يتفق ذلك أحياناً (وعليه) فيقتصر في رفع اليد عن الاحتياط في الشبهة الغير المحصورة على موارد لزوم العسر خاصة لا غيرها.

(ثم إنه) مهما لزم العسر من اجتناب الكل في الشبهة الغير المحصورة وجاز الاقتحام فيها شرعاً لدفع العسر فهل يجوز ارتكاب الكل أم لا يجوز بل يجب إبقاء مقدار الحرام من الأطراف أو يجب الاكتفاء في الاقتحام بمقدار دفع العسر (الظاهر) انه لا دليل على حرمة ارتكاب الكل بعد ما جاز الاقتحام فيها لدفع العسر فإن المقام بعينه هو من قبيل ما إذا اضطر إلى بعض الأطراف المعين أو الغير

١٨٢

المعين ثم علم إجمالا ان أحدها نجس أو خمر مثلا (وإن كان) الشيخ أعلى الله مقامه قد قوّى عدم جواز ارتكاب الكل لاستلزامه طرح الدليل الواقعي الدال على وجوب الاجتناب عن المحرم الواقعي المعلوم بالإجمال (وفيه) ان مجرد العلم الإجمالي بوجود المحرم في الأطراف مما لا يوجب العلم بوجوب الاجتناب عنه بعد احتمال مصادفته مع ما يختاره المضطر لرفع اضطراره وهذا واضح.

(نعم) إذا كان لزوم العسر من بعد العلم الإجمالي وتنجز التكليف به لم يبعد وجوب الاقتصار في الاقتحام على مقدار دفع العسر فقط لا أكثر.

في قاعدة العسر والحرج

(ثم إن) الكلام حيث انجر إلى ذكر قاعدة العسر والحرج فلا بأس بالإشارة إلى بعض جهاتها مختصراً فنقول (اما مدركها) فهي آيات ثلاث.

(الأولى) قوله تعالى في سورة البقرة يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر

(الثانية) قوله تعالى في المائدة ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم.

(الثالثة) قوله تعالى في سورة الحج وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين (واما مفاد الآيات) الثلاث التي هي مدركها (فقد يخطر بالبال) أن مؤداها ان الأحكام المجعولة في الدين ليست هي أحكاماً عسرة حرجة من قبيل صوم الوصال ونحوه بل هي أحكام سهلة سمحة كما يشهد بها بعض الاخبار وليس مؤداها أن أحد الأحكام المجعولة السهلة بالطبع إذا صار حرجياً بالعرض فهو مرفوع غير مجعول كالوضوء لدى البرد الشديد ونحوه (ولكن) الظاهر انه مما لا وجه له إذ كما أن صوم الوصال مثلا لو كان مجعولا في الدين صدق حينئذ انه تعالى قد أراد بنا العسر ولم يرد بنا اليسر وانه قد جعل علينا في الدين من

١٨٣

حرج فكذلك يصدق ذلك لو ثبت وجوب الوضوء مثلا لدى البرد الشديد وقد فرض عدم ارتفاعه بالعسر والحرج الطارئين (ويؤيد) هذا المعنى بل يدل عليه استشهاد الإمام عليه‌السلام بالآية الشريفة في رواية عبد الأعلى المروية في الباب ٣٩ من وضوء الوسائل الواردة في حكم من عثر فوقع ظفره فجعل على إصبعه مرارة فقال إن هذا وشبهه يعرف من كتاب الله ما جعل عليكم في الدين من حرج ثم قال امسح عليه فلو لم تكن الآية الشريفة الا لنفي الأحكام الحرجية بالذات من قبيل صوم الوصال ونحوه ولم تشمل الأحكام الحرجية بالعرض كالمسح على البشرة في موضع الجرح المجعول عليه المرارة لم يستشهد بها الإمام عليه‌السلام للمسح على الحائل أي المرارة وهذا واضح.

(واما تقدمها) على ساير الأحكام الشرعية فالظاهر انه لا خلاف في أن وجه التقدم هي الحكومة بمعنى أن الآيات الثلاث التي هي مدرك القاعدة حاكمة هي على أدلة الأحكام الشرعية كأدلة الصلاة والصيام والزكاة ونحوها نظراً إلى كونها ناظرة إليها والنّظر هو ملاك الحكومة كما سيأتي شرحها في الاستصحاب إن شاء الله تعالى.

(نعم لنا) بعض الأحكام الشرعية قوية الملاك جداً لا تكاد ترتفع بعسر ولا بحرج بل ولا بضرر إذا كان دون هلاك النّفس كوجوب حفظ العرض من الهتك أو وجوب إنجاء المؤمن من الهلاك ونحو ذلك من الأحكام القوية المهمة بل لنا بعض الأحكام لا تكاد ترتفع بحرج ولا بضرر وإن استلزم هلاك النّفس كوجوب حفظ نبي أو وصي نبي ونحوهما فمثل هذه الأحكام خارجة هي عن تحت أدلة الحرج بل الضرر بلا كلام.

(قوله باجتناب كلها أو ارتكابه ... إلخ)

فالأوّل للشبهة التحريمية والثاني للشبهة الوجوبية.

١٨٤

(قوله أو غيرهما مما لا يكون معه التكليف فعلياً ... إلخ)

أي غير العسر والضرر مما لا يكون معه التكليف فعلياً كما إذا كان كثرة الأطراف موجبة لفوت واجب أهم فيسقط معه التكليف المعلوم بالإجمال عن الفعلية لمزاحمته بالأهم وإن لم يكن الاحتياط فيها عسرياً ولا ضررياً.

(قوله كما أن نفسها ربما يكون موجبة لذلك ولو كانت قليلة ... إلخ)

أي كما ان نفس الأطراف ربما يكون موجبة لعسر موافقته القطعية ولو كانت محصورة قليلة كما إذا اشتد الحاجة إلى الاقتحام في بعضها معيناً أو مردداً على نحو لو لم يقتحم فيه وقع في العسر الشديد.

(قوله ولو شك في عروض الموجب فالمتبع هو إطلاق دليل التكليف لو كان وإلّا فالبراءة لأجل الشك في التكليف الفعلي ... إلخ)

أي ولو شك في عروض العسر الموجب لرفع فعلية التكليف المعلوم بالإجمال فالمتبع هو إطلاق دليل التكليف لو كان له إطلاق وإلا فالبراءة لكون الشك في أصل التكليف (وفيه) إن التكليف مقيد بعدم العسر لا محالة فإذا شك في تحقق العسر وعدمه بنحو الشبهة المصداقية كما هو ظاهر كلام المصنف فلا مجال للتمسك بالإطلاق بلا كلام فإنه من قبيل التمسك بالعامّ في الشبهات المصداقية للخاص وهو ممنوع جداً بل لا بد من الرجوع إلى البراءة لأنه شك في التكليف (اللهم) إلّا إذا كان هناك أصل موضوعي كاستصحاب عدم العسر فيما كان له حالة سابقة فيقدم على البراءة.

(قوله وما قيل في ضبط المحصور وغيره لا يخلو من الخراف ... إلخ)

(قال الشيخ) أعلى الله مقامه اختلف عبارات الأصحاب في بيان ضابط المحصور وغيره فعن الشهيد والمحقق الثانيين والميسي وصاحب المدارك أن المرجع فيه إلى العرف فما كان غير محصور في العادة بمعنى انه يعسر عدّه لا ما امتنع عدّه لأن كل ما يوجد من الاعداد قابل للعد والحصر فهو غير محصور (إلى ان قال) وربما قيد

١٨٥

المحقق الثاني عسر العد بزمان قصير (إلى ان قال) وقال كاشف اللثام في مسألة المكان المشتبه بالنجس لعل الضابط أن ما يؤدي اجتنابه إلى ترك الصلاة غالباً فهو غير محصور كما أن اجتناب شاة أو امرأة مشتبهة في صقع من الأرض يؤدي إلى الترك غالباً (قال) انتهى (ثم قال) واستصوبه في مفتاح الكرامة (إلى أن قال) هذا غاية ما ذكروا أو يمكن أن يذكر في ضابط المحصور وغيره ومع ذلك فلم يحصل للنفس وثوق بشيء منها (انتهى) موضع الحاجة من كلامه رفع مقامه.

(أقول)

قد عرفت مما سبق ان غير المحصور بما هو هو وبهذا العنوان مما لم يدل دليل من آية أو رواية على عدم وجوب الاحتياط فيه بل الملاك في عدم الاحتياط فيه هو لزوم العسر (وعليه) فلا يهم تنقيح ضابط المحصور وغير المحصور وإنما المهم هو ملاحظة لزوم العسر وعدمه فإن لزم العسر لم يجب الاحتياط وإن لم يلزم العسر وجب الاحتياط بلا حاجة إلى رعاية العناوين المذكورة في كلام الأصحاب للمحصور وغير المحصور أصلا.

في الملاقي لأحد أطراف العلم الإجمالي

(قوله الرابع انه انما يجب عقلا رعاية الاحتياط في خصوص الأطراف مما يتوقف على اجتنابه أو ارتكابه حصول العلم بإتيان الواجب أو ترك الحرام المعلومين في البين دون غيرها وان كان حاله حال بعضها في كونه محكوماً بحكم واقعاً ومنه ينقدح الحال في مسألة ملاقاة شيء مع أحد أطراف النجس المعلوم بالإجمال ... إلخ)

إشارة إلى البحث المعروف بين الأصوليين من أنه هل يجب الاجتناب عن ملاقي أحد أطراف العلم الإجمالي بالنجاسة مثل ما يجب الاجتناب عن الملاقى بالفتح أم لا

١٨٦

(وقد عنونه الشيخ) أعلى الله مقامه في التنبيه الرابع من تنبيهات الشبهة التحريمية الموضوعية في الاشتغال (قال) الرابع ان الثابت في كل من المشتبهين لأجل العلم الإجمالي بوجود الحرام الواقعي فيهما هو وجوب الاجتناب لأنه اللازم من باب المقدمة من التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعي اما ساير الآثار الشرعية المترتبة على ذلك الحرام فلا يترتب عليهما (إلى ان قال) فارتكاب أحد المشتبهين لا يوجب حد الخمر على المرتكب (إلى ان قال) ما ملخصه وهل يحكم بتنجس ملاقيه وجهان بل قولان مبنيان (على ان الاجتناب عن النجس) يراد به ما يعم الاجتناب عن ملاقيه ولو بوسائط فإذا حكم الشارع بوجوب هجر كل واحد من المشتبهين فقد حكم بوجوب كل ما لاقاه (أو ان الاجتناب) عن النجس لا يراد به الا الاجتناب عن العين بنفسها واما تنجس الملاقي للنجس فهو تعبد خاص وحكم شرعي آخر لا ربط له بوجوب هجر النجس (إلى ان قال) والأقوى هو الثاني لما ذكر (إلى ان قال) فإذا حكم الشارع بوجوب هجر المشتبه في الشبهة المحصورة يعني به كل واحد من المشتبهين فلا يدل على وجوب هجر ما يلاقيه (انتهى).

(أقول)

إن ما دل على هجر النجس لا يكاد يدل الا على هجره بنفسه كما أفاد الشيخ لا على هجره وهجر كل ما لاقاه.

(ولو سلم فالشارع لم يحكم بوجوب هجر كل واحد من المشتبهين كي يكون حاكماً بوجوب هجر ملاقيه أيضاً بل العقل مما يحكم بذلك من جهة العلم الإجمالي بالنجس وعدم جريان الأصل في أطرافه لأحد الوجوه المتقدمة في أول الاشتغال واحداً بعد واحد وهذا واضح ظاهر.

(ثم إن الشيخ) أعلى الله مقامه بعد ما فرغ عن ذكر الوجهين المتقدمين في الملاقي بالكسر وقوّى الوجه الثاني منهما وهو عدم وجوب الاجتناب عنه (أورد على نفسه) بما حاصله أن وجوب الاجتناب عن الملاقي وإن لم يكن من جهة كون

١٨٧

الدليل على هجر الشيء دليلا على هجر ملاقيه أيضاً إلّا انه يكون من جهة أخرى وهي صيرورته بالملاقاة طرفاً للعلم الإجمالي كالملاقاة بالفتح فلا يبقى بينهما فرق أصلا (فأجاب عنه) بوجود الفرق بينهما وأن الأصل في الملاقاة بالفتح معارض بالأصل في عدله ويبقى الأصل في الملاقي بالكسر سالماً عن المعارض فإنه أصل مسببي تصل النوبة إليه بعد سقوط الأصل السببي بالمعارضة.

(أقول)

لو كان الاعتماد في وجه وجوب الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي على معارضة الأصول فقط لكان الأمر كما ذكره الشيخ أعلى الله مقامه فالأصل في الملاقى بالفتح يسقط بالمعارضة بالأصل في عدله ويبقى الأصل في الملاقي بالكسر سالماً عن المعارض فلا يجب الاجتناب عنه (لكن) على الوجهين الآخرين من كون العلم الإجمالي علة تامة للتنجيز أو كون التمسك بدليل الأصل في كل من أطراف العلم الإجمالي تمسكاً بالدليل في الشبهة المصداقية بالتقريب المتقدم في أوائل الاشتغال يجب الاجتناب عن الملاقي بالكسر جداً بعد صيرورته طرفاً للعلم الإجمالي بسبب الملاقاة فتأمل جيداً.

(ثم إن الشيخ) أعلى الله مقامه قد اعترف بوجوب الاجتناب عن الملاقي بالكسر في صورة واحدة وهي ما إذا لاقى شيء مع أحد الإناءين وخرج الملاقى بالفتح عن الابتلاء ثم حصل العلم الإجمالي فحينئذ يقوم الملاقي بالكسر مقام الملاقى بالفتح المفقود لعدم جريان الأصل في المفقود بعد ما خرج عن الابتلاء فيقع المعارضة حينئذ بين الأصل في الملاقي بالكسر والأصل في عدل الملاقى بالفتح (ثم قال) فمحصل ما ذكرنا أن العبرة في حكم الملاقي يعني بالكسر بكون أصالة الطهارة سليمة أو معارضة (انتهى).

(أقول)

وظاهر ذلك انه لا عبرة في وجوب الاجتناب عن الملاقي بالكسر وعدمه بكون

١٨٨

الملاقاة من قبل حصول العلم الإجمالي أو بعده بل العبرة بكون الأصل فيه سالماً أو معارضاً وهو كذلك على المعارضة بل وعلى الوجهين الآخرين أيضاً من وجوه وجوب الاحتياط في أطراف العلم (من كون العلم الإجمالي) علة تامة للتنجيز (أو كون التمسك) بدليل الأصل في كل من الأطراف تمسكاً بالدليل في الشبهة المصداقية فلا عبرة يكون الملاقاة من قبل العلم أو بعده ففي كليهما يجب الاجتناب عن الملاقي بالكسر (غير انه يظهر من المصنف) الفرق بين الملاقاة من قبل حصول العلم الإجمالي وبعده (وحاصل كلامه) في ذلك ان الملاقي بالكسر له صور ثلاث

(فتارة) يجب الاجتناب عن الملاقى بالفتح دون الملاقي بالكسر.

(وأخرى) يجب الاجتناب عن الملاقي بالكسر دون الملاقى بالفتح.

(وثالثة) يجب الاجتناب عن الملاقي والملاقى جميعاً.

(اما الصورة الأولى) فهي كما إذا كانت الملاقاة من بعد العلم الإجمالي فحينئذ لا يجب الاجتناب عن الملاقي بالكسر (وقد علله) بقوله فإنه إذا اجتنب عنه يعني عن الملاقى بالفتح وطرفه اجتنب عن النجس في البين قطعاً ولو لم يجتنب عما يلاقيه فانه على تقدير نجاسته لنجاسته كان فرداً آخر من النجس قد شك في وجوده كشيء آخر شك في نجاسته بسبب آخر (انتهى) (وفيه) ان ملاقاة الشيء مع أحد أطراف العلم الإجمالي ولو كانت من بعد العلم الإجمالي هي مما يوجب انقلاب العلم الإجمالي بأحد الشيئين مثلا إلى العلم الإجمالي بأحد أشياء ثلاثة إما هذا. وملاقيه أو ذاك الآخر كما في الصورة الثالثة الآتية عيناً وحينئذ فإذا اجتنب عن الملاقى بالفتح وعدله وان كان قد اجتنب عن النجس المعلوم بالإجمال أولا يقيناً ولكن لم يجتنب عن النجس المعلوم بالإجمال ثانياً كذلك فيجب الاجتناب عنه رعاية للعلم الإجمالي الثاني الحادث.

(واما الصورة الثانية) فهي كما إذا حصل العلم الإجمالي إما بنجاسة الملاقى بالكسر أو عدل الملاقى بالفتح ثم حصل العلم بالملاقاة والعلم الإجمالي إما بنجاسة

١٨٩

الملاقى بالفتح أو عدله فحينئذ يجب الاجتناب عن الملاقي بالكسر دون الملاقى بالفتح (وقد علله) بقوله فإن حال الملاقى يعني بالفتح في هذه الصورة بعينها حال ما لاقاه في الصورة السابقة في عدم كونه طرفاً للعلم الإجمالي وأنه فرد آخر على تقدير نجاسته واقعاً غير معلوم النجاسة أصلا لا إجمالا ولا تفصيلا (انتهى) وفيه ما عرفته في الصورة السابقة فإنه بعد العلم بالملاقاة والعلم الإجمالي اما بنجاسة الملاقى بالفتح أو عدله ينقلب العلم الإجمالي الأول إلى العلم الإجمالي الثاني الحادث إما بنجاسة الملاقي بالكسر والملاقى بالفتح أو بنجاسة الشيء الآخر وحينئذ فإذا اجتنب عن الملاقي بالكسر وعدل الملاقى بالفتح وإن اجتنب عن النجس المعلوم بالإجمال أولا يقيناً ولكن لم يجتنب عن النجس المعلوم بالإجمال ثانياً كذلك ما لم يجتنب عن الملاقى بالفتح أيضاً كالملاقي بالكسر وعدل الملاقى بالفتح (ثم إن المصنف) قد ذكر لهذه الصورة الثانية مثالا آخر قد أشار إليه بقوله وكذا لو علم بالملاقاة ثم حدث العلم الإجمالي ولكن كان الملاقى يعني بالفتح خارجاً عن محل الابتلاء في حال حدوثه وصار مبتلى به بعده (انتهى) وهو بعينه ما تقدم من الشيخ أعلى الله مقامه مما اعترف فيه بوجوب الاجتناب عن الملاقي بالكسر دون الملاقى بالفتح وبقيام الأول مقام الثاني المفقود الخارج عن الابتلاء غير أن الشيخ لم يفرض دخول الملاقى بالفتح تحت الابتلاء ثانياً بخلاف المصنف ففرضه.

(أقول)

والحكم في هذا المثال وان كان كما ذكره الشيخ والمصنف فيجب الاجتناب عن الملاقي بالكسر دون الملاقى بالفتح لخروجه عن تحت الابتلاء ولكن بعد ما دخل الملاقى بالفتح تحت الابتلاء ثانياً كما فرض المصنف لا وجه لعدم الاجتناب عنه لما أشرنا من انقلاب العلم الإجمالي الأول إلى العلم الإجمالي الثاني الحادث إما بنجاسة هذا وملاقيه أو بنجاسة الشيء الآخر فيجب رعاية الاحتياط في الملاقى بالفتح مثل ما يجب في الملاقي بالكسر عيناً.

١٩٠

(واما الصورة الثالثة) فهي كما إذا حصل العلم الإجمالي من بعد الملاقاة فحينئذ يجب الاجتناب عن كل من الملاقي بالكسر والملاقى بالفتح إذ نعلم حينئذ إجمالا إما بنجاسة الملاقي والملاقى أو بنجاسة طرف الملاقى بالفتح فيتنجز التكليف بالاجتناب عن النجس المعلوم في البين وهو الواحد أو الاثنين.

(قوله وأنه تارة يجب الاجتناب عن الملاقى دون ملاقيه ... إلخ)

هذه هي الصورة الأولى التي حكم فيها بوجوب الاجتناب عن الملاقى بالفتح دون الملاقي بالكسر وقد عرفت ما فيه.

(قوله وأخرى يجب الاجتناب عما لا لاقاه دونه ... إلخ)

هذه هي الصورة الثانية التي حكم فيها بوجوب الاجتناب عن الملاقي بالكسر دون الملاقى بالفتح وقد عرفت ما فيه أيضاً.

(قوله وكذا لو علم بالملاقاة ثم حدث العلم الإجمالي ولكن كان الملاقى خارجاً عن محل الابتلاء في حال حدوثه وصار مبتلى به بعده ... إلخ)

هذه هو المثال الثاني للصورة الثانية التي حكم فيها بوجوب الاجتناب عن الملاقي بالكسر دون الملاقى بالفتح وقد عرفت ان الحق هو ذلك بلا كلام ولكن الملاقى بالفتح بعد ما دخل تحت الابتلاء ثانيا يجب الاجتناب عنه مثل ما يجب الاجتناب عن ملاقيه عينا وقد بينا وجهه فلا نعيد.

(قوله وثالثة يجب الاجتناب عنهما ... إلخ)

هذه هي الصورة الثالثة التي حكم فيها بوجوب الاجتناب عن كل من الملاقي والملاقى جميعا وارتضيناه ولم نردّ عليه.

(وبالجملة) الحق عندنا هو وجوب الاجتناب عن الملاقي بالكسر في جميع الصورة الثلاث بتمامها فتدبرها جيدا.

١٩١

كيف يحتاط في الأمرين المترتبين شرعا

كالظهر والعصر

(ثم إن) هذا تمام الكلام في التنبيهات التي عقدها المصنف لبحث الاشتغال وقد انتخبها من مجموع التنبيهات التي عقدها الشيخ أعلى الله مقامه للشبهة التحريمية غير أن الشيخ عقد للشبهة الوجوبية أيضا تنبيهات لم يذكر المصنف شيئا منها وهي وان كانت أمورا غير مهمة إلا ان السابع منها مما لا يخلو عن فائدة فلا بأس بالإشارة إليه مختصرا (فنقول) ومحصل ما فيه أن الواجب المعلوم بالإجمال إن كان أمرين مترتبين شرعا كالظهر والعصر المرددين بين الجهات الأربع (فهل يعتبر) في جواز الدخول في محتملات الواجب اللاحق الفراغ من تمام المحتملات الأول كما صرح به في الموجز وشرحه والمسالك والروض والمقاصد العلية (أم يكفي فيه) فعل بعض المحتملات الواجب السابق لكن على نحو يعلم إجمالا بحصول الترتيب كما عن نهاية الأحكام والمدارك بأن يأتي بالظهر إلى جهة ثم يأتي بالعصر إلى تلك الجهة وهكذا إلى آخر الجهات في قبال الإتيان بالظهر إلى أربع جهات ثم الإتيان بالعصر كذلك (قولان) يبتني الأول منها على وجوب تحصيل العلم التفصيليّ بالامتثال مهما أمكن فإذا قدر على العلم التفصيليّ من بعض الجهات وعجز عنه من جهة أخرى فيجب مراعاة العلم التفصيليّ من الجهة التي يقدر عليها فلا يجوز لمن قدر على الثوب الطاهر المتيقن وعجز عن تعيين القبلة تكرار الصلاة في الثوبين المشتبهين إلى أربع جهات لتمكنه من العلم التفصيليّ بالمأمور به من حيث طهارة الثوب وإن لم يتمكن منه من حيث تعيين القبلة (ففي المقام) يجب الإتيان بتمام محتملات الظهر أولا ثم الإتيان بمحتملات العصر فإذا فعل كذلك فكل محتمل من محتملات العصر وإن

١٩٢

كان مرددا من جهة القبلة بينه وبين غيره ولكن لا ترديد فيه من حيث الترتيب ووقوعه بعد الظهر الواقعي بعد فرض الإتيان بمحتملات العصر بعد الفراغ عن تمام محتملات الظهر وهذا بخلاف ما إذا أتى بالظهر إلى جهة ثم أتى بالعصر إلى تلك الجهة وهكذا إلى ساير الجهات فإن كل محتمل حينئذ من محتملات العصر الا الأخير منها كما انه مردد من حيث القبلة فكذلك مردد من حيث الترتيب أي وقوعه بعد الظهر الواقعي إذ المفروض أنه بعد لم يأت بتمام محتملات الظهر ولعل الظهر الواقعي بعد لم يؤت به فهذا العصر واقع قبله (هذا كله) إذا قلنا بوجوب تحصيل العلم التفصيليّ بالامتثال بما هو هو (وأما إذا قلنا) بوجوب تحصيله من جهة أن العلم الإجمالي بالامتثال مما يوجب تكرار الصلاة كما في الثوبين المشتبهين على أربع جهات فلا يجب تحصيل العلم التفصيليّ بالترتيب في المقام إذ العلم الإجمالي فيه مما لا يوجب تكثير المحتملات فإن المحتملات فيه على كل حال ثمانية سواء أتى بمحتملات الظهر أولا ثم بمحتملات العصر أو أتى إلى كل جهة بظهر وعصر (وهذا واضح).

(أقول)

قد عرفت منا في العلم الإجمالي في بحث القطع كفاية العلم الإجمالي بالامتثال وعدم وجوب تحصيل العلم التفصيليّ به مطلقا لا من جهة لزوم التكرار المستلزم للعب يأمر المولى كما ادعى ولا من جهة أخرى (وعليه) فلا مانع في المقام من الإتيان إلى كل جهة بظهر وعصر ليحصل العلم الإجمالي بالترتيب وأن العصر الواقعي قد وقع بعد الظهر الواقعي جزما من دون لزوم الإتيان بتمام محتملات الظهر أولا ثم الإتيان بمحتملات العصر ثانيا ليحصل العلم التفصيليّ في كل محتمل من محتملات العصر بأنه قد وقع بعد الظهر الواقعي فتدبر جيدا.

١٩٣

في الأقل والأكثر الارتباطيين

(قوله المقام الثاني في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين إلى آخره)

قد أشرنا في صدر بحث الاشتغال أن الأقل والأكثر الغير الارتباطيين مما لم يعقد لهما الشيخ ولا المصنف بحثا مستقلا يختص بهما وكأنه لوضوح الحكم فيهما إذ العلم الإجمالي مما ينحل إلى العلم التفصيليّ بالأقل والشك البدوي في الأكثر فتجري البراءة عن الأكثر وتقدمت الإشارة إليهما قبل ذلك في التنبيه الثالث من تنبيهات البراءة وعلى كل حال (الواجب الغير الارتباطي) هو ما لم يكن امتثال بعضه مرتبطا بامتثال بعضه الآخر كأداء الدين وقضاء الفوائت وصلة الرحم وإكرام العالم ونحو ذلك مما ينحل الواجب فيه إلى واجبات متعددة غير مرتبطة بعضها ببعض فإذا أتى ببعض وأخل ببعض فقد امتثل وعصى (والحرام الغير الارتباطي) هو ما لم يكن عصيان بعضه مرتبطا بعصيان بعضه الآخر كما في الكذب والغيبة وشرب الخمر وقتل النّفس ونحو ذلك من المحرمات التي ينحل إلى محرمات متعددة غير مرتبطة بعضها ببعض فإذا أتى ببعض وترك بعضا فقد عصى وامتثل (والواجب الارتباطي) هو ما كان امتثال بعضه مرتبطا بامتثال بعضه الآخر بان كان المطلوب فيه هو المجموع من حيث المجموع بحيث إذا أتى بالجميع الا واحدا لم يمتثل أصلا سواء كان أبعاضه أمورا وجودية كما في الصلاة أو عدمية كما في الصيام وفي العرفيات كالأمر بالمركبات والمعاجين أو الأمر بالسكوت ساعة واحدة لغرض مخصوص مثل أن لا يشعر بهم العدوّ لكونه في مكان قريب منهم بحيث لو تكلم آناً ما سمع كلامهم ولم يحصل الغرض أصلا فما كان هذا حاله فهو واجب ارتباطي وإن كان التكليف به في الظاهر بصورة النهي كما إذا قال في المثال الأخير لا تتكلم ساعة

١٩٤

واحدة فإنه واجب ارتباطي غايته أنه مركب من أمور عدمية كما في الصيام لا وجودية كما في الصلاة (والحرام الارتباطي) هو ما كان عصيان بعضه مرتبطا بعصيان بعضه الآخر بان كان المبغوض فيه هو المجموع من حيث المجموع بحيث إذا أتى بالجميع الا واحدا لم يعص سواء كان أبعاضه أمورا وجودية أيضا كما في النهي عن الغناء بناء على كونه هو الصوت المطرب مع الترجيع أو عدمية كما في النهي عن هجر الفراش أربعة أشهر.

(ثم إن) من تمام ما ذكر إلى هنا يظهر لك أمران.

(أحدهما) أن الحرام على ثلاثة أقسام (حرام) مرجعه إلى واجب ارتباطي على نحو كان المطلوب فيه هو مجموع التروك من حيث المجموع بحيث إذا ترك الجميع إلا واحدا لم يمتثل (وحرام) غير ارتباطي ينحل إلى محرمات متعددة (وحرام) ارتباطي على نحو كان المبغوض فيه هو المجموع من حيث المجموع بحيث إذا أتى بالكل الا واحدا لم يعص.

(ثانيهما) أن الواجب الارتباطي كما قد يدور أمره بين الأقل والأكثر كما في الصلاة ونحوها فكذلك الحرام الارتباطي قد يدور أمره بين الأقل والأكثر كما في الغناء إذا دار أمره بنحو الشبهة الحكمية أو الموضوعية بين كونه هو الصوت المطرب مع الترجيع أو بلا ترجيع غير أن في الواجب الارتباطي يكون الأقل معلوم الوجوب وفي الحرام الارتباطي يكون الأكثر معلوم الحرمة (ثم إن الشيخ والمصنف) لم يتعرضا حال الحرام الارتباطي المردد بين الأقل والأكثر كما لم يتعرضا حال الأقل والأكثر الغير الارتباطيين على ما أشير آنفا وكأنه لوضوح الحكم فيه أيضا فإن الأكثر معلوم الحرمة فيجتنب والأقل مشكوك الحرمة فتجري البراءة عنه سواء كانت الشبهة حكمية أو موضوعية (نعم قد أشار) الشيخ إلى الحرام الارتباطي المردد بين الأقل والأكثر مختصرا (قال) بعد الشروع في الشبهة الوجوبية من الاشتغال وتقسيمها إلى المردد بين المتباينين وبين الأقل والأكثر يعني بهما

١٩٥

الارتباطيين (ما لفظه) واعلم انا لم نذكر في الشبهة التحريمية من الشك في المكلف به صور دوران الأمر بين الأقل والأكثر لأن مرجع الدوران بينهما في تلك الشبهة إلى الشك في أصل التكليف لأن الأكثر معلوم الحرمة والشك في حرمة الأقل (انتهى) موضع الحاجة من كلامه رفع مقامه.

الوجه الأول لوجوب الاحتياط

عقلا وتضعيفه

(قوله والحق ان العلم الإجمالي بثبوت التكليف بينهما أيضا يوجب الاحتياط عقلا بإتيان الأكثر ... إلخ)

هذا هو الوجه الأول لوجوب الاحتياط عقلا في الأقل والأكثر الارتباطيين وهو العلم الإجمالي بالتكليف وعدم انحلاله في نظر المصنف كما ستعرف (ثم إن الشيخ) أعلى الله مقامه قد جعل الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين على قسمين.

(الأول) الشك في الجزء.

(الثاني) الشك في القيد.

(اما القسم الثاني) فسيأتي الكلام فيه في التنبيه الأول من تنبيهات المبحث إن شاء الله تعالى.

(واما القسم الأول) فعقد له الشيخ حسب مشيه المتقدم في البراءة وبعدها أربع مسائل فإن منشأ الشك.

(تارة) يكون فقد النص.

(وأخرى) إجمال النص.

(وثالثة) تعارض النصين.

١٩٦

(ورابعة) هو اشتباه الأمور الخارجية فما سوى الأخيرة شبهة حكمية والأخيرة موضوعية (كما ان المصنف) عقد له حسب مشيه المتقدم في البراءة وبعدها مسألة واحدة (والحق) هو عقد مسألتين له لا واحدة ولا أربع مسألة للشبهة الحكمية ومسألة للشبهة الموضوعية وذلك لاختلافهما في الحكم كما ستعرف.

(وعلى كل حال) يظهر من الشيخ أعلى الله مقامه من مجموع كلماته هنا أي في صدر الأقل والأكثر وفي ذيل البراءة النقليّة أي عن الجزء المشكوك أن في الشبهة الحكمية أقوالا ثلاثة.

(القول بالاحتياط) وهو لبعض متأخري المتأخرين.

(والقول بالبراءة) وهو للمشهور من العامة والخاصة ومن المتقدمين والمتأخرين

(والتفصيل) فيجب الاحتياط عقلا لا شرعا فتجري البراءة الشرعية دون العقلية.

(وقد اختار هو أعلى الله مقامه) القول الثاني في المسألة وهو جريان البراءة عقلا ونقلا (قال ما لفظه) وكيف كان فالمختار جريان أصل البراءة لنا على ذلك حكم العقل وما ورد من النقل اما العقل فلاستقلاله بقبح مؤاخذة من كلف بمركب لم يعلم من أجزائه إلا عدة أجزاء ويشك في انه هل هو هذا أوله جزء آخر وهو الشيء الفلاني ثم بذل جهده في طلب الدليل على جزئية ذلك الأمر فلم يقتدر فأتى بما علم وترك المشكوك خصوصا مع اعتراف المولى بأني ما نصبت لك عليه دلالة فإن القائل بوجوب الاحتياط لا ينبغي أن يفرق في وجوبه بين أن يكون الآمر لم ينصب دليلا أو نصب واختفى غايته أن ترك النصب من الآمر قبيح وهذا لا يرفع التكليف عن المكلف (إلى أن قال) وأما الدليل النقلي فهو الاخبار الدالة على البراءة الواضحة سندا ودلالة (إلى ان قال) وقد تقدم أكثر تلك الاخبار في الشك في التكليف التحريمي والوجوبيّ منها قوله عليه‌السلام ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم فإن وجوب الجزء المشكوك محجوب علمه عن العباد فهو موضوع

١٩٧

عنهم فدل على أن الجزء المشكوك وجوبه غير واجب على الجاهل كما دل على أن الشيء المشكوك وجوبه النفسيّ غير واجب في الظاهر على الجاهل (ثم قال) ويمكن تقريب الاستدلال بأن وجوب الأكثر مما حجب الله علمه فهو موضوع ولا يعارض بأن وجوب الأقل كذلك لأن العلم بوجوبه المردد بين النفسيّ والغيري غير محجوب فهو غير موضوع (ثم قال) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رفع عن أمتي ما لا يعلمون فإن وجوب الجزء المشكوك مما لم يعلم فهو مرفوع عن المكلفين أو ان العقاب والمؤاخذة المترتبة على تعمد ترك الجزء المشكوك الّذي هو سبب لترك الكل مرفوع عن الجاهل (قال) إلى غير ذلك من أخبار البراءة الجارية في الشبهة الوجوبية (انتهى) (ثم إنه أعلى الله مقامه) في أثناء البراءة العقلية (قد أورد على نفسه) بما حاصله أن ما تقدم في وجه وجوب الاحتياط في المتباينين من العلم الإجمالي موجود في المقام بعينه فيجب الاحتياط فيه مثل ما يجب في المتباينين (ثم أجاب عنه) بما حاصله أن العلم الإجمالي منحل في المقام إلى العلم التفصيليّ بوجوب الأقل والشك البدوي بوجوب الأكثر فلا يبقى مانع عن البراءة في الأكثر (هذا كله) من أمر الشيخ أعلى الله مقامه.

(واما المصنف) فقد اختار القول الثالث في المسألة وهو التفصيل المتقدم فيجب الاحتياط عقلا لا شرعا (وقد اعتمد) في وجه وجوب الاحتياط عقلا وعدم جريان البراءة العقلية فيها على عدم انحلال العلم الإجمالي بالتكليف لتجري البراءة عن الأكثر (كما انه استند) في وجه عدم الانحلال إلى أمرين.

(أحدهما) ما أشار إليه بقوله لاستلزام الانحلال المحال ... إلخ (وتقريبه) أن وجوب الأقل فعلا على كل حال إما لنفسه أو لغيره مما يتوقف على تنجز التكليف المعلوم بالإجمال مطلقا ولو كان متعلقا بالأكثر إذ لو كان متعلقا بالأكثر ولم يكن منجزا لم يترشح الوجوب الغيري إلى الأقل فلو كان وجوب الأقل فعلا على كل حال مستلزما لعدم تنجز التكليف المعلوم بالإجمال إلّا إذا كان متعلقا

١٩٨

بالأقل دون الأكثر كما هو المدعي كان ذلك خلفا لا محالة (وفيه) ان وجوب الأقل فعلا على كل حال إما لنفسه أو لغيره مما لا يتوقف على تنجز التكليف المعلوم بالإجمال مطلقا ولو كان متعلقا بالأكثر بل يتوقف على مجرد العلم الإجمالي بتكليف مردد بين الأقل والأكثر بمعنى أنه بمجرد أن حصل لنا العلم الإجمالي كذلك يتولد منه العلم التفصيليّ بوجوب الأقل على كل حال إما نفسيا أو غيريا والشك البدوي في وجوب الأكثر فيتنجز الأقل دون الأكثر وهذا واضح.

(ثانيهما) ما أشار إليه بقوله مع انه يلزم من وجوده عدمه ... إلخ (وتقريبه) أن الانحلال يستلزم عدم تنجز التكليف المعلوم بالإجمال على كل حال أي ولو كان متعلقا بالأكثر وعدم تنجزه كذلك يستلزم عدم وجوب الأقل مطلقا أي ولو غيريا وعدم وجوب الأقل مطلقا يستلزم عدم الانحلال فالانحلال يستلزم عدم الانحلال وهو محال (وفيه) ان الانحلال وان كان يستلزم عدم تنجز التكليف المعلوم بالإجمال على كل حال أي ولو كان متعلقا بالأكثر ولكن عدم تنجز التكليف المعلوم بالإجمال كذلك مما لا يستلزم عدم وجوب الأقل مطلقا وذلك لما عرفت من عدم توقف وجوب الأقل مطلقا على تنجز التكليف المعلوم بالإجمال كذلك بل يتوقف على مجرد العلم الإجمالي بتكليف مردد بين الأقل والأكثر كما بينا (وعليه) فلا يلزم من الانحلال عدم الانحلال.

(وبالجملة) الحق في المسألة هو ما اختاره الشيخ أعلى الله مقامه من جريان البراءة العقلية والنقليّة عن الجزء المشكوك وإن شئت قلت عن وجوب الأكثر (اما النقليّة) فلما عرفت شرحه من الشيخ وسيأتي له مزيد توضيح عند تعرض المصنف لها إن شاء الله تعالى (واما العقلية) فيمكن شرح جريانها بعبارة أوضح (فنقول) لا إشكال في أن مجرد أمر الشارع بمركب من المركبات مما لا يصحح العقاب عليه بل لا بد له من بيان أجزائه وشرائطه فما بينه من الاجزاء والشرائط صح له العقاب عليه وما لم يبينه من الاجزاء والشرائط أو بينه ولم يصل إلى المكلف

١٩٩

ولو بعد الفحص بحد اليأس لم يصح له العقاب عليه فإن العقاب بقدر البيان هذا إذا كان المركب أمرا مخترعا من الشارع (واما إذا كان) أمرا عرفيا يعرفه العرف فكذلك حيث ان مجرد الأمر به مما لا يصحح العقاب عليه ما لم يكن من العرف بيان لأجزائه وشرائطه فما كان من الاجزاء والشرائط يعرفه العرف ويبينه للمكلف إذا راجعه صح العقاب عليه وما لم يكن كذلك لم يصح العقاب عليه.

(وبالجملة) إن المركب سواء كان أمرا مخترعا من الشارع كالصلاة أو أمرا عرفيا يعرفه العرف كالمعاجين هو مما لا يصح العقاب عليه بمجرد الأمر به إلا بقدر البيان على أجزائه وشرائطه فما كان عليه بيان من الشرع أو العرف صح العقاب عليه وإلّا فلا وهذا لدى التدبر واضح فتدبر.

(قوله وتوهم انحلاله إلى العلم بوجوب الأقل تفصيلا والشك في وجوب الأكثر بدوا ... إلخ)

يعني بالمتوهم الشيخ وقد عرفت تفصيل كلامه زيد في علو مقامه كما انك قد عرفت ان الانحلال حق لا محيص عنه وأن ما أفاده المصنف في وجه عدم الانحلال ضعيف لا يصار إليه.

(قوله ضرورة لزوم الإتيان بالأقل لنفسه شرعا أو لغيره كذلك أو عقلا ... إلخ)

(أما الترديد) في لزوم الإتيان بالأقل بين كونه نفسيا أو غيريا فواضح فإن التكليف إن تعلق في الواقع بالأقل فهو واجب نفسي وإن تعلق بالأكثر فهو واجب غيري أي مقدمة للأكثر (واما الترديد) على تقدير كون الأقل واجبا غيريا بين كون الغيري شرعيا أو عقليا فهو كذلك واضح إذ على القول بوجوب المقدمة يكون الوجوب الغيري المتعلق بها شرعيا وإلّا فيكون عقليا فإن وجوب المقدمة عقلا مما لا خلاف فيه وانما الخلاف كما تقدم في محله هو في وجوبها شرعا للملازمة مضافا إلى حكم العقل بلزوم الإتيان بالمقدمة.

٢٠٠