عناية الأصول في شرح كفاية الأصول - ج ٤

آية الله السيد مرتضى الفيروزآبادي

عناية الأصول في شرح كفاية الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد مرتضى الفيروزآبادي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات فيروزآبادي
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٣١

موارد قوة احتمال التكليف أو قوة المحتمل كالدماء والفروج ونحوهما لا انه يحتاط في الشبهات إلى ان يلزم الحرج منه فيدعه كما قد يستفاد ذلك من العبارة الأخيرة للشيخ وهي قوله فالأولى الحكم برجحان الاحتياط في كل موضع لا يلزم منه الحرج ... إلخ.

(قوله فافهم ... إلخ)

(يحتمل أن يكون) إشارة إلى وجوب الاحتياط في الأمور المهمة لدى الشارع كالفروج والدماء ونحوهما لا انه يحسن الاحتياط فيها بلا إلزام به وعليه فترجيح بعض الاحتياطات على بعض واجب لازم لا انه راجح مستحب (ويحتمل أيضاً) ان يكون إشارة إلى ان الملتفت إلى ذلك كما ان من الراجح له ترجيح بعض الاحتياطات احتمالا أو محتملا فكذلك من الراجح له ترجيح موارد قيام الأصل على الإباحة على موارد قيام الأمارة عليها (والله العالم).

هل تجري البراءة عن الوجوب التخييري

(بقي شيء) وهو أن الشيخ أعلى الله مقامه كما ظهر لك مما تقدم قد عقد لكل من الشبهة التحريمية الحكمية والشبهة التحريمية الموضوعية والشبهة الوجوبية الحكمية تنبيهات عديدة وقد انتخب المصنف من بين الكل مهماتها ولكن مع ذلك بقي فيها أمر مهم لم يتعرضه وهو التكلم حول جريان البراءة عن الوجوب التخييري وعدمه (فنقول) أن الشك في الوجوب التخييري يتصور على أقسام خمسة.

(الأول) أن يقع الشك في أصل توجه تكليف تخييري بأحد أمرين أو بأحد أمور (وفي هذا القسم) تجري البراءة عنه بلا إشكال كما تجري عن التكليف التعييني عيناً (وهذا القسم) مما لم يتعرضه الشيخ أعلى الله مقامه ولعله لوضوحه.

(الثاني) أن يعلم إجمالا بتوجه تكليف تخييري لا محالة ولم يعلم ان التخيير

١٢١

هل هو بين أمرين مثلا أو بين أمور ثلاثة كما إذا علم إجمالا انه مخير بين العتق وصوم ستين يوماً ولكن لم يعلم انه هل هو مخير بينهما فقط أو بينهما وبين إطعام ستين مسكيناً (وفي مثله) أيضاً لا ينبغي الإشكال في جريان البراءة عن الوجوب التخييري للأمر الثالث كما تجري عن الوجوب التعييني عيناً.

(نعم يشكل) جريان مثل حديث السعة فيه فإن جريانه مما يوجب التضييق على المكلف لا التوسعة (بل يشكل الأمر) في جريان حديث الرفع أيضاً بناء على اختصاصه بما إذا كان في رفعه منة على الأمة ولكن جريان باقي أدلة البراءة من حديث الحجب وغيره مما لا مانع عنه كما لا يخفى (وهذا القسم) أيضاً مما لم يتعرضه الشيخ ولكن يمكن استفادته من عموم كلامه (قال) أعلى الله مقامه الثالث أي من تنبيهات الشبهة الوجوبية الحكمية ان الظاهر اختصاص أدلة البراءة بصورة الشك في الوجوب التعييني سواء كان أصليا أو عرضياً كالواجب المخير المتعين لأجل الانحصار اما لو شك في الوجوب التخييري والإباحة فلا يجري فيه أدلة البراءة لظهورها في عدم تعيين الشيء المجهول على المكلف بحيث يلتزم به ويعاقب عليه إلى آخره فيكون قوله هذا عاماً يشمل القسم الثاني والثالث والرابع والخامس جميعاً

(الثالث) ما إذا دار أمر التكليف بين تعلقه بفرد معين أو بكلي شامل له ولغيره كما إذا علم إجمالا انه إما يجب إكرام زيد العالم تعييناً أو يجب إكرام مطلق العالم المنطبق على زيد وعمرو (ويطلق على هذا القسم) بدوران الأمر بين التعيين الشرعي والتخيير العقلي فإن الوجوب ان كان متعلقاً بإكرام زيد العالم فهو واجب تعييني شرعي وان كان متعلقاً بإكرام العالم فكل من إكرام زيد وعمرو واجب تخييري عقلي كما هو الشأن في الكلي وأفراده (وقد حكم الشيخ) في هذا القسم بمقتضى عبارته المتقدمة بعدم جريان أدلة البراءة عن الوجوب التخييري بالنسبة إلى عمرو نظراً إلى ما تقدم من دعوى ظهور أدلتها في عدم تعيين الشيء المجهول على المكلف (وحكم أيضاً) بعدم جريان أصالة عدم الوجوب يعني به استصحاب عدمه

١٢٢

نظراً إلى انه ليس في المقام الا وجوب واحد مردد بين الكلي والفرد المعين فأصالة عدم تعلقه بالكلي معارضة بعدم تعلقه بالفرد (فيتعين) هنا جريان أصالة عدم سقوط وجوب ذلك الفرد المعين المتيقن وجوبه اما تعييناً أو تخييراً بفعل هذا الفرد المشكوك وجوبه تخييراً (قال أعلى الله مقامه) بعد عبارته المتقدمة (ما لفظه) وفي جريان أصالة عدم الوجوب تفصيل لأنه ان كان الشك في وجوبه في ضمن كلي مشترك بينه وبين غيره أو وجوب ذلك الغير بالخصوص فيشكل جريان أصالة عدم الوجوب إذ ليس هنا إلّا وجوب واحد مردد بين الكلي والفرد فيتعين هنا إجراء أصالة عدم سقوط ذلك الفرد المتيقن الوجوب بفعل هذا المشكوك (انتهى)

(أقول)

اما عدم جريان البراءة عن الوجوب التخييري بالنسبة إلى الفرد المشكوك بدعوى ظهور أدلتها في عدم تعيين الشيء المجهول على المكلف فهو غير ظاهر ولا واضح وإن أشكل الأمر في جريان مثل حديث السعة وحديث الرفع كما تقدم ولكن لا مانع عن جريان غيرهما كحديث الحجب ونحوه (واما جريان) أصالة عدم الوجوب في هذا الفرد المشكوك فمها لا مانع عنه على الظاهر فإن الوجوب وان كان واحداً في المقام مردداً بين تعلقه بالكلي أو بالفرد المعين ولا يمكن إجراء أصالة عدم تعلقه بالكلي لمعارضتها بأصالة عدم تعلقها بالفرد المعين ولكن على تقدير تعلقه بالكلي ينشعب منه وجوبان تخييريان ولو عقلا أحدهما يتعلق بالفرد المعين والآخر بهذا الفرد المشكوك ولا مانع عن جريان أصالة عدم تعلق الوجوب التخييري بهذا الفرد المشكوك (وعليه) فالنتيجة في هذا القسم من دوران الأمر بين التعيين والتخيير وان كان هو وجوب الاحتياط والاقتصار على الفرد المتيقن دون المشكوك لكن لا لأصالة عدم سقوط المتيقن بفعل المشكوك بل للأصل الوارد عليها الرافع لموضوعها أي الشك وهو أصالة البراءة عن الوجوب التخييري في الفرد

١٢٣

المشكوك أو أصالة عدم تعلق الوجوب التخييري به فينحصر الوجوب قهراً ولو في الظاهر بالفرد المتيقن فيتعين.

(الرابع) ما إذا دار امر التكليف بين تعلقه بفرد معين على وجه التعيين وبين تعلقه به وبغيره على وجه التخيير كما إذا علم إجمالا انه اما يجب إكرام زيد تعييناً أو يجب إكرام كل من زيد وعمرو تخييراً وفي الشرعيات كما إذا علم إجمالا انه اما يجب العتق تعييناً أو يجب كل من العتق وصوم ستين يوماً تخييراً (ويطلق على هذا القسم) بدوران الأمر بين التعيين والتخيير الشرعيين (وقد حكم الشيخ) فيه بمقتضى عبارته الأولى المتقدمة بعدم جريان أدلة البراءة عن الوجوب التخييري في الفرد المشكوك لما تقدم من دعوى ظهور أدلتها في عدم تعيين الشيء المجهول على المكلف (وحكم أيضاً) بجريان أصالة عدم وجوب الفرد المشكوك تخييرياً وبجريان أصالة عدم لازمه أي عدم سقوط وجوب الفرد المعين المتيقن بفعل هذا المشكوك (قال) أعلى الله مقامه بعد عبارته الثانية (ما لفظه) واما إذا كان الشك في إيجابه بالخصوص يعني به في قبال ما إذا كان الشك في وجوبه في ضمن كلي مشترك بينه وبين الفرد المتيقن جرى أصالة عدم الوجوب وأصالة عدم لازمه الوضعي وهو سقوط الواجب المعلوم (انتهى).

(أقول)

والحق ان الكلام في هذا القسم هو عين الكلام في القسم السابق فتجري فيه أصالة البراءة عن الوجوب التخييري في الفرد المشكوك وهكذا أصالة عدم تعلق الوجوب التخييري به ويكون كل منهما وارداً على أصالة عدم سقوط المتيقن بفعل المشكوك رافعاً لموضوعها أي الشك ويقتصر لا محالة على الفرد المتيقن المعلوم وجوبه.

(ولكن) يظهر من الشيخ أعلى الله مقامه في الأقل والأكثر الارتباطيين قبيل الشروع في التنبيه على أمور متعلقة بالجزء والشرط الميل إلى جريان البراءة عن التعيين في دوران الأمر بين التعيين والتخيير الشرعيين في قبال وجوب الاحتياط

١٢٤

والاقتصار على الفرد المتيقن المعلوم وجوبه وذلك نظراً إلى كون التعيين كلفة زائدة وهي ضيق على المكلف وحيث لم يعلم فهي موضوعة عنه بل يظهر منه في المقام الأول من مقامات التراجيح أن ذلك مذهب جماعة في مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير ولكنه أخيراً في الأقل والأكثر قوي جانب الاحتياط والاقتصار على الفرد المتيقن (وهو الأصح) فإن العلم الإجمالي إما بتعلق الوجوب التعييني بالفرد المتيقن أو الوجوب التخييري بكل من المتيقن والمشكوك ينحل إلى العلم التفصيلي بوجوب المتيقن لا محالة إما تعيينياً أو تخييرياً والشك البدوي في وجوب المشكوك فيقتصر قهراً على الفرد المتيقن وتجري البراءة عن المشكوك وهكذا تجري أصالة عدم تعلق الوجوب التخييري به فتأمل جيداً.

(الخامس) ما إذا أمر بطبيعة وكان لها فرد متيقن وفرد مشكوك كما إذا قال أكرم عالماً ولم يعلم ان العالم هل هو منحصر بزيد كي يتعين إكرامه عقلا أو لا ينحصر به بل كل من زيد وعمرو عالم فنتخير بين إكراميهما عقلا (ويطلق على هذا القسم) بدوران الأمر بين التعيين والتخيير العقليين ويجري فيه جميع ما تقدم في الدوران بين التعيين والتخيير الشرعيين وفي الدوران بين التعيين الشرعي والتخيير العقلي حرفاً بحرف.

(ثم إن) من موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير العقليين ما إذا احتمل أقوائية المناط في أحد المتزاحمين أو في أحد الطرفين من دوران الأمر بين المحذورين فإن أقوائية المناط مرجح عقلي في كلتا الصورتين جميعاً فإذا احتمل وجودها في أحد الجانبين معيناً فيحتمل فيه التعيين العقلي كما انه حيث يحتمل عدم وجودها في كلا الجانبين فيحتمل فيهما التخيير العقلي فيكون الأمر فيهما دائراً بين التعيين والتخيير العقليين فيجب الاحتياط فيهما أيضاً فان العقل لا يكاد يجوز رفع اليد عن المتيقن المعلوم والأخذ بالمقابل المشكوك الغير المعلوم.

(بقي) شيء وهو أن جميع ما تقدم في الشك في الوجوب التخييري يجري

١٢٥

في الشك في الوجوب الكفائي حرفاً بحرف غير أن أقسام الشك في الوجوب التخييري كانت خمسة وفي المقام ثلاثة إذ لا محصل للترديد بين العيني الشرعي والكفائي العقلي وبين العيني والكفائي العقليين وان كان يعقل بقية الأقسام بتمامها (فيمكن) الشك في أصل توجه تكليف كفائي إلى الجميع (ويمكن) العلم إجمالا بتوجه تكليف كفائي ولم يعلم انه متوجه إلى الكل أو باستثناء شخص خاص منهم كما إذا سلم رجل على جماعة وكان أحدهم يصلي فيدور الأمر بين وجوب رد السلام كفائياً على الجميع أو باستثناء المصلي خاصة (ويمكن) أن يدور الأمر بين توجه التكليف إلى شخص معين على وجه العينية وبين توجهه إليه وإلى غيره على وجه الكفائية كما إذا سلم في المثال على رجلين أحدهما يصلي والآخر لا يصلي فيعلم إجمالا انه اما يجب رد السلام على من لا يصلي عينياً واما يجب عليه وعلى المصلي كفائياً (وقد أشار) الشيخ أعلى الله مقامه إجمالا إلى جريان ما تقدم في الشك في التخييري في الشك في الكفائي وإن كان هو قد تعرض خصوص القسم الثاني من الأقسام المتقدمة (قال) في آخر التنبيه الثالث من تنبيهات الشبهة الوجوبية الحكمية (ما لفظه) ثم إن الكلام في الشك في الوجوب الكفائي كوجوب رد السلام على المصلي إذا سلم على جماعة وهو منهم يظهر مما ذكرنا فافهم (انتهى).

(أقول)

قد عرفت مما تقدم أن الشيخ إنما لم يقل بجريان البراءة عن الوجوب التخييري اعتماداً على ما ادعاه من ظهور أدلتها في عدم تعيين الشيء المجهول على المكلف (ومن المعلوم) ان هذه الدعوى مما لا تتم في المقام لأن المكلف به مما لا ترديد فيه كي لا تجري البراءة عنه وإنما الترديد في نفس المكلف (وعليه) فلا وجه لعدم جريان البراءة عن الوجوب الكفائي في المقام (ولعله) إليه أشار أخيراً بقوله فافهم (فافهم جيداً).

١٢٦

في أصالة التخيير

(قوله فصل إذا دار الأمر بين وجوب شيء وحرمته لعدم نهوض حجة على أحدهما تفصيلا بعد نهوضها عليه إجمالا ... إلخ)

قد عرفت في صدر البراءة أن الشيخ أعلى الله مقامه قد عقد للبراءة ثمان مسائل أربع للشبهة التحريمية وأربع للشبهة الوجوبية ومن كل أربع ثلاثة للشبهة الحكمية وواحدة للشبهة الموضوعية إذ منشأ الشك في الحكمية.

(تارة) يكون فقد النص.

(وأخرى) إجمال النص.

(وثالثة) تعارض النصين وفي الموضوعية منشأ الشك هو اشتباه الأمور الخارجية وعرفت أيضاً أن المصنف قد عقد للبراءة مسألة واحدة جمع فيها بين الكل كما عرفت منا هناك ان الحق كان عقد أربع مسائل لا ثمان ولا واحدة اثنان للتحريمية حكميها وموضوعيها واثنان للوجوبية حكميها وموضوعيها (وقد عقد الشيخ) لأصالة التخيير حسب مسلكه المتقدم في أصالة البراءة أربع مسائل ثلاثة منها للحكمية وواحدة للموضوعية وذلك لأن أصالة التخيير ليس لها شبهات تحريمية محضة ولا شبهات وجوبية محضة كي صح أن ينعقد لها ثمان مسائل بل يدور الأمر في الكل بين الحرمة والوجوب جميعاً (وعقد المصنف) لأصالة التخيير مسألة واحدة جمع فيها بين الكل أيضاً (والحق) هو عقد مسألتين لها لا أربع ولا واحدة فلكل من الشبهة الحكمية والشبهة الموضوعية مسألة مستقلة من غير تعرض لمنشإ الشك في الحكمية من فقد النص أو إجمال النص أو تعارض النصين (ولو بنى) على التعرض لمنشإ الشك فيها فالتعرض لأقسام إجمال النص من إجمال الحكم أو المتعلق أو الموضوع

١٢٧

أولى من التعرض لتعارض النصين وكان عدد المسائل حينئذ ستة مع فقد النص وتعارض النصين والشبهة الموضوعية.

(وبالجملة) الحق في تحرير أصالة التخيير أن يقال هكذا إذا دار الأمر بين وجوب شيء وحرمته فمنشأ الترديد (إن كان) (عدم الدليل) على تعيين أحدهما بالخصوص بعد قيامه على أحدهما في الجملة كما إذا اختلفت الأمة على قولين بحيث علم وجداناً انتفاء الثالث (أو إجمال الدليل) بحسب الحكم كما إذا أمر بشيء وتردد بين الإيجاب والتهديد (أو إجماله) بحسب متعلق الحكم كما إذا أمر بتحسين الصوت ونهي عن الغناء ولم يعلم ان الصوت المطرب بلا ترجيح هل هو تحسين واجب أو غناء محرم (أو إجماله) بحسب موضوع الحكم كما إذا أمر بإكرام العدول ونهي عن إكرام الفساق ولم يعلم أن مرتكب الصغائر هل هو عادل يجب إكرامه أو فاسق يحرم إكرامه (فالشبهة حكمية) (وان كان) منشأ الترديد هو اشتباه الأمور الخارجية كما إذا دار أمر زيد بين كونه عادلا يجب إكرامه أو فاسقاً يحرم إكرامه مع العلم بمفهوم العادل والفاسق تحقيقاً (فالشبهة موضوعية).

في وجوه المسألة وبيان المختار منها

(قوله ففيه وجوه ... إلخ)

في المسألة وجوه خمسة.

(الأول) الحكم البراءة شرعاً وعقلا نظير الشبهات البدوية عيناً وذلك لعموم أدلة الإباحة الشرعية وحكم العقل بقبح المؤاخذة على كل من الفعل والترك جميعاً (وقد أشار إليه المصنف) بقوله الحكم بالبراءة عقلا ونقلا لعموم النقل وحكم العقل بقبح المؤاخذة على خصوص الوجوب أو الحرمة للجهل به ... إلخ.

(الثاني) وجوب الأخذ بجانب الحرمة (لقاعدة الاحتياط) حيث يدور

١٢٨

الأمر فيه بين التعيين والتخيير (ولظاهر) ما دل على وجوب التوقف عند الشبهة (ولأن دفع المفسدة) أولى من جلب المنفعة (وللاستقراء) بناء على ان الغالب تغليب الشارع جانب الحرمة على الوجوب وسيأتي تفصيل الكل إن شاء الله تعالى واحداً بعد واحد (وقد أشار إليه المصنف) بقوله ووجوب الأخذ بأحدهما تعييناً ... إلخ.

(الثالث) وجوب الأخذ بأحدهما تخييراً أي تخييراً شرعياً قياساً لما نحن فيه بتعارض الخبرين الجامعين لشرائط الحجية (وقد أشار إليه المصنف) بقوله أو تخييراً ... إلخ.

(الرابع) التخيير بين الفعل والترك عقلا مع التوقف عن الحكم بشيء رأساً لا ظاهراً ولا واقعاً (وقد أشار إليه المصنف) بقوله والتخيير بين الترك والفعل عقلا مع التوقف عن الحكم به رأساً (وقد اختاره الشيخ) أعلى الله مقامه أخيراً (قال) في صدر البحث (ما لفظه) فإن في المسألة وجوهاً ثلاثة الحكم بالإباحة ظاهراً نظير ما يحتمل التحريم وغير الوجوب ويعني بذلك الوجه الأول من وجوه المسألة (ثم قال) والتوقف بمعنى عدم الحكم بشيء لا ظاهراً ولا واقعاً ومرجعه إلى إلغاء الشارع لكلا الاحتمالين فلا حرج في الفعل ولا في الترك بحكم العقل وإلّا لزم الترجيح بلا مرجح ويعني بذلك الوجه الرابع من وجوه المسألة (ثم قال) ووجوب الأخذ بأحدهما بعينه يعني بذلك الوجه الثاني من وجوه المسألة (ثم قال) أو لا بعينه ويعني به الوجه الثالث من وجوه المسألة (ثم ساق الكلام) طويلا في تقريب الوجه الأول أي الحكم بالإباحة ظاهراً وبيان عموم أدلة الإباحة الشرعية وحكم العقل بقبح المؤاخذة على كل من الفعل والترك إلى أن عدل عن هذا كله (حتى قال) فاللازم هو التوقف وعدم الالتزام إلّا بالحكم الواقعي على ما هو عليه في الواقع ولا دليل على عدم جواز خلو الواقعة عن حكم ظاهري إذا لم نحتج إليه في العمل (انتهى)

(الخامس) التخيير بين الفعل والترك عقلا والحكم بالإباحة شرعاً (وهذا)

١٢٩

هو الّذي اختاره المصنف وأشار إليه بعد قوله المتقدم والتخيير بين الترك والفعل عقلا مع التوقف عن الحكم به رأساً بقوله (أو مع الحكم عليه بالإباحة شرعاً).

(أقول)

والحق من بين هذه الوجوه الخمسة كلها هو الوجه الرابع الّذي مرجعه إلى عدم جريان شيء من البراءة الشرعية والعقلية أصلا مع حكم العقل بالتخيير بين الفعل والترك (اما عدم) جريان شيء من البراءة الشرعية والعقلية أصلا فلما سيأتي في صدر بحث الاشتغال إن شاء الله تعالى من الوجوه العديدة لعدم جريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي مطلقاً ولو كان هو البراءة لا شرعيها ولا عقليها (مضافاً) إلى ما سيأتي من المصنف في المقام في وجه عدم جريان البراءة العقلية (مما حاصله) أن موضوع البراءة العقلية هو اللابيان ولا قصور في البيان مع وجود العلم الإجمالي بالتكليف غير أن عدم المؤاخذة وعدم تنجز التكليف في المقام مستند إلى العجز عن الموافقة القطعية لتردد التكليف بين الوجوب والحرمة وليس هو مستنداً إلى الجهل والحجب كما لا يخفى (واما حكم العقل) بالتخيير بين الفعل والترك فلعدم الترجيح بين الفعل والترك كما سيأتي من المصنف فالفرق إذاً بين ما اخترناه وما اختاره المصنف انه قدس‌سره يقول بجريان البراءة الشرعية ونحن لا نقول به.

(قوله لعدم الترجيح بين الفعل والترك وشمول مثل كل شيء لك حلال حتى تعرف انه حرام له ... إلخ)

قد عرفت أن مختار المصنف هو الوجه الخامس من وجوه المسألة وانه مركب من جزءين التخيير بين الفعل والترك عقلا والحكم بالإباحة شرعاً (فقوله) لعدم الترجيح بين الفعل والترك ... إلخ دليل للجزء الأول (وقوله) وشمول مثل كل شيء لك حلال حتى تعرف انه حرام له ... إلخ دليل للجزء الثاني (وقد أخذ المصنف) شمول مثل كل شيء لك حلال للمقام من الشيخ أعلى الله مقامه فإنه قد مال في بدو الأمر كما أشرنا إلى الوجه الأول من الحكم بالبراءة الشرعية والعقلية جميعاً وإن رجع

١٣٠

أخيراً إلى القول بالتوقف كما تقدم (قال) أعلى الله مقامه في صدر المسألة (ما هذا لفظه) وكيف كان فقد يقال في محل الكلام بالإباحة ظاهراً لعموم أدلة الإباحة الظاهرية مثل قولهم كل شيء لك حلال وقولهم ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم فإن كلا من الوجوب والحرمة قد حجب الله عن العباد علمه وغير ذلك من أدلته (إلى ان قال) هذا كله مضافاً إلى حكم العقل بقبح المؤاخذة على كل من الفعل والترك (انتهى).

(قوله ولا مانع عنه عقلا ولا نقلا ... إلخ)

بل سيأتي في صدر بحث الاشتغال كما أشير آنفاً من الوجوه العديدة المانعة عقلا عن جريان الأصول العملية مطلقاً شرعيها وعقليها في أطراف العلم الإجمالي وإن لم يلزم منه مخالفة عملية فانتظر (هذا مضافاً) إلى ما عرفت من أن قوله عليه‌السلام كل شيء لك حلال ... إلخ هو مما لا يصلح للاستدلال به إلا في الشبهات الموضوعية دون الحكمية فتذكر.

(قوله وقد عرفت انه لا يجب موافقة الأحكام التزاماً ... إلخ)

أي وقد عرفت في الأمر الخامس من بحث القطع انه لا تجب الموافقة الالتزامية للأحكام الشرعية نظير ما يجب في الأمور الاعتقادية كي يمنع ذلك عن جريان البراءة الشرعية فيما دار أمره بين الوجوب والحرمة وينافي الحكم بإباحته ظاهراً مع العلم الإجمالي بأنه إما واجب أو حرام واقعاً (قال هناك) الأمر الخامس هل تنجز التكليف بالقطع كما يقتضي موافقته عملا يقتضي موافقته التزاماً والتسليم له اعتقاداً وانقياداً كما هو اللازم في الأصول الدينية والأمور الاعتقادية (إلى أن قال) أو لا يقتضي فلا يستحق العقوبة عليه (إلى ان قال) الحق هو الثاني.

(أقول)

بل قد عرفت منا أن الحق هو الأول وإن لم يكن تناف بين الموافقة الالتزامية وبين الحكم بالإباحة الظاهرية أو التوقف وعدم الحكم بشيء لا ظاهراً ولا واقعاً كما

١٣١

اخترناه هاهنا وذلك للتمكن من الالتزام الإجمالي بما هو الثابت للشيء في الواقع من الحكم الشرعي الإلهي.

(قوله ولو وجب لكان الالتزام إجمالا بما هو الواقع معه ممكناً ... إلخ)

أي ولو قلنا هناك بوجوب الموافقة الالتزامية لكانت هي ممكنة هاهنا فيلتزم بما هو الثابت للشيء واقعاً من الحكم الواقعي الإلهي من دون تناف بينه وبين الحكم عليه بالإباحة الشرعية الظاهرية (قال فيما تقدم) في الأمر الخامس من القطع (ما لفظه) ثم لا يذهب عليك انه على تقدير لزوم الموافقة الالتزامية وكان المكلف متمكناً منها يجب ولو فيما لا يجب عليه الموافقة القطعية عملا ولا يحرم المخالفة القطعية عليه كذلك أيضاً لامتناعهما كما إذا علم إجمالا بوجوب شيء أو حرمته للتمكن من الالتزام بما هو الثابت واقعاً والانقياد له والاعتقاد به بما هو الواقع والثابت وإن لم يعلم انه الوجوب أو الحرمة.

(أقول)

وأصل هذا الجواب أعني الجمع بين الحكم بالإباحة الظاهرية وبين وجوب الموافقة الالتزامية بالالتزام الإجمالي مأخوذ عن الشيخ أعلى الله مقامه فيما أفاده في المقام وإن لم يؤشر إليه هناك في العلم الإجمالي (قال) في صدر أصالة التخيير (ما لفظه) واما دعوى وجوب الالتزام بحكم الله تعالى لعموم دليل وجوب الانقياد للشرع ففيها (إلى ان قال) وإن أريد وجوب الانقياد والتدين بحكم الله تعالى فهو تابع للعلم بالحكم فإن علم تفصيلا وجب التدين به كذلك وإن علم إجمالا وجب التدين بثبوته في الواقع ولا ينافي ذلك التدين حينئذ بإباحته ظاهراً (انتهى) موضع الحاجة من كلامه رفع كلامه.

(قوله والالتزام التفصيلي بأحدهما لو لم يكن تشريعاً محرماً لما نهض على وجوبه دليل قطعاً ... إلخ)

إشارة إلى دفع ما قد يتوهم من انه إذا لم يمكن الموافقة الالتزامية التفصيلية وجب

١٣٢

الالتزام التفصيليّ بأحد الطرفين إما الوجوب وإما الحرمة تخييراً فلا تصل النوبة إلى الالتزام الإجمالي ومن الواضح المعلوم أن الالتزام التفصيليّ بأحد الطرفين مما ينافي الحكم بالإباحة الشرعية الظاهرية (فيجيب عنه) المصنف بأمرين.

(الأول) أن الالتزام التفصيليّ بأحدهما تشريع محرم.

(الثاني) انه مما لا دليل عليه قطعاً (وقد أجاب عنه) فيما تقدم في الأمر الخامس من مبحث القطع بنحو أبسط (قال) فيما أفاده هناك (ما لفظه) وإن أبيت إلا عن لزوم الالتزام به بخصوص عنوانه لما كانت موافقته القطعية الالتزامية حينئذ ممكنة ولما وجب عليه الالتزام بواحد قطعاً فإن محذور الالتزام بضد التكليف عقلا ليس بأقل من محذور عدم الالتزام به بذاته مع ضرورة ان التكليف لو قيل باقتضائه للالتزام لم يكد يقتضي الا الالتزام بنفسه عيناً لا الالتزام به أو بضده تخييراً (انتهى).

(قوله وقياسه بتعارض الخبرين الدال أحدهما على الحرمة والآخر على الوجوب باطل ... إلخ)

(رد على الوجه الثالث) من وجوه المسألة وهو وجوب الأخذ بأحد الطرفين إما الوجوب أو الحرمة تخييراً شرعياً قياساً لما نحن فيه بتعارض الخبرين الجامعين لشرائط الحجية (قال الشيخ) أعلى الله مقامه ومن هنا يبطل قياس ما نحن فيه بصورة تعارض الخبرين الجامعين لشرائط الحجية الدال أحدهما على الأمر والآخر على النهي كما هو مورد بعض الاخبار الواردة في تعارض الخبرين ولا يمكن ان يقال ان المستفاد منه بتنقيح المناط وجوب الأخذ بأحد الحكمين وإن لم يكن على كل واحد منهما دليل معتبر معارض بدليل آخر فإنه يمكن ان يقال إن الوجه في حكم الشارع هناك بالاخذ بأحدهما هو ان الشارع أوجب الأخذ بكل من الخبرين المفروض استجماعهما لشرائط الحجية فإذا لم يمكن الأخذ بهما معاً فلا بدّ من الأخذ بأحدهما وهذا تكليف شرعي في المسألة الأصولية غير التكليف المعلوم تعلقه إجمالا في المسألة

١٣٣

الفرعية بواحد من الفعل والترك بل ولو لا النص الحاكم هناك بالتخيير أمكن القول به من هذه الجهة بخلاف ما نحن فيه إذ لا تكليف إلّا بالاخذ بما صدر واقعاً في هذه الواقعة والالتزام به حاصل من غير حاجة إلى الأخذ بأحدهما بالخصوص (انتهى) (ومحصل) وجه بطلان القياس المذكور على ما يستفاد من مجموع كلامه الشريف ان الشارع في الخبرين قد أوجب الأخذ بكل منهما لاستجماعهما لشرائط الحجية وحيث لا يمكن الأخذ بالمتعارضين جميعاً فلا بدّ من الأخذ بأحدهما تخييراً كما هو الشأن في كل فردين متزاحمين من جهة عدم القدرة على الإتيان بهما جميعاً ومن هنا يظهر انه لو لم يكن في تعارض الخبرين نصّ يحكم بالتخيير أمكن القول به من هذه الجهة وهذا بخلاف ما نحن فيه فانه لا يجب الأخذ فيه شرعاً إلّا بما صدر واقعاً من الحكم الشرعي الإلهي المردد إثباتاً بين الوجوب والحرمة (وفيه) ان حكم الشارع بالتخيير في الخبرين المتعارضين لو كان من جهة التزاحم بين الفردين لكان التخيير بينهما على طبق القاعدة مع ان القاعدة فيهما كما ستأتي في محلها هي التساقط لا التخيير الا على السببية والموضوعية دون الطريقية (ولعل) من هنا قال أعلى الله مقامه أخيراً ثم إن هذا الوجه وإن لم يخل عن مناقشة أو منع إلّا أن مجرد احتماله يصلح فارقاً بين المقامين مانعاً عن استفادة حكم ما نحن فيه من حكم الشارع بالتخيير في مقام التعارض فافهم (انتهى) هذا كله حاصل ما أفاده الشيخ في وجه بطلان قياس المقام بتعارض الخبرين وقد عرفت ضعفه.

(واما المصنف) فحاصل كلامه في وجه بطلان القياس المذكور ان التخيير بين الخبرين المتعارضين على القول بالسببية والموضوعية وحدوث المصلحة والمفسدة في المتعلق بقيام الأمارة يكون على القاعدة ويكون من التخيير بين المتزاحمين واما على القول بالطريقية كما هو المختار فالتخيير وان كان على خلاف القاعدة فان القاعدة فيهما كما أشير آنفاً هو التساقط ولكن أحد الخبرين حيث انه واجد لمناط الطريقية من كون الخبر ثقة مثلا أو عدلا مرضياً أو معمولا به عند الأصحاب ونحو

١٣٤

ذلك مع احتمال إصابته ومطابقته للواقع فأدلة الترجيح أو التخيير تجعله حجة تعييناً أو تخييراً وأين ذلك من باب دوران الأمر بين المحذورين فإن المطلوب فيه هو الالتزام بما صدر واقعاً من الحكم الإلهي إجمالا وهو حاصل من غير حاجة إلى الالتزام بخصوص أحدهما فانه ربما لا يكون إليه بموصل.

(نعم) إذا أحرز أن الملاك في التخيير بين الخبرين المتعارضين شرعاً هو إبداؤهما احتمال الوجوب والحرمة فالملاك حاصل في المقام بلا كلام والقياس يكون في محله ولكن دون إثباته خرط القتاد.

(أقول)

والحق أن بطلان قياس ما نحن فيه بتعارض الخبرين مما لا يحتاج إلى هذا التطويل الّذي صدر من الشيخ والمصنف جميعاً (بل يقال) في وجهه إن التخيير الشرعي بين طرفي الاحتمال في المقام مما يحتاج إلى الدليل ولم يرد والمناط الّذي بسببه خيرنا الشارع بين الخبرين المتعارضين مما لم ينقح لنا على وجه اليقين كي نتعدى منهما إلى غيرهما وقياس المقام عليهما بلا تنقيح المناط باطل عندنا لا نقول به وهذا كله واضح ظاهر.

(قوله ومن جهة التخيير بين الواجبين المتزاحمين ... إلخ)

ولو قال من جهة التخيير بين الواجب والحرام المتزاحمين كان أصح.

(قوله إلّا ان أحدهما تعييناً أو تخييراً ... إلخ)

إشارة إلى الخلاف الآتي في محله من الترجيح أو التخيير بين الخبرين المتعارضين.

(قوله وأين ذلك مما إذا لم يكن المطلوب الا الأخذ بخصوص ما صدر واقعاً وهو حاصل ... إلخ)

مراده من الأخذ بخصوص ما صدر واقعاً هو الالتزام به وهو حاصل أي من غير حاجة كما أشرنا إلى الالتزام بخصوص أحدهما معيناً فإنه ربما لا يكون إليه بموصل

١٣٥

وليس مراده من الأخذ به هو العمل به فإن العمل به على وجه القطع ممتنع إلا احتمالا فكيف يقول وهو حاصل.

(قوله ولا مجال هاهنا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان فانه لا قصور فيه هاهنا ... إلخ)

ووجه عدم جريان البراءة العقلية كما أشرنا من قبل في ذيل بيان وجوه المسألة أن موضوع البراءة العقلية هو اللابيان ولا قصور في البيان في دوران الأمر بين المحذورين بعد العلم الإجمالي بالتكليف الإلزاميّ غير أن عدم المؤاخذة عليه انما هو للعجز عن موافقته القطعية كالعجز عن مخالفته القطعية فلا يجب الأول ولا يحرم الثاني لامتناعهما قطعاً نعم يتمكن المكلف من الموافقة الاحتمالية وهي حاصلة بنفسها سواء أتى بالفعل أو تركه من غير حاجة إلى الأمر بها أصلا وهذا واضح.

(قوله ثم إن مورد هذه الوجوه وإن كان ما لم يكن واحد من الوجوب والحرمة على التعيين تعبدياً إذ لو كانا تعبديين أو كان أحدهما المعين كذلك إلى آخره)

المقصود من هذه العبارة إلى قوله ولا يذهب عليك هو تضعيف ما أفاده الشيخ أعلى الله مقامه (قال) في صدر البحث بعد بيان وجوه المسألة (ما لفظه) ومحل هذه الوجوه ما لو كان كل من الوجوب والتحريم توصلياً بحيث يسقط بمجرد الموافقة إذ لو كانا تعبديين محتاجين إلى قصد امتثال التكليف أو كان أحدهما المعين كذلك لم يكن إشكال في عدم جواز طرحهما والرجوع إلى الإباحة لأنها مخالفة قطعية عملية (انتهى) (ومحصله) أن الحكم بالإباحة الظاهرية التي كانت هي إحدى وجوه المسألة مما لا يجري فيما إذا كان كل من الوجوب والحرمة تعبدياً أو كان أحدهما المعين تعبدياً إذ لو حكمنا حينئذ بالإباحة ولم نمتثل شيئاً منهما على وجه قربي لحصلت المخالفة القطعية العملية.

(فيقول المصنف) إن محل تلك الوجوه وان كان ما لم يكن واحد من

١٣٦

الوجوب والحرمة على التعيين تعبدياً كما أفاد الشيخ بل كانا توصليين أو كان أحدهما الغير المعين تعبدياً (ولكن المهم في المقام) وهو التخيير العقلي بين الفعل والترك مما يجري حتى فيما إذا كانا تعبديين أو كان أحدهما المعين تعبدياً فنتخير عقلا في الأول بين الإتيان بالشيء بنحو قربي وبين تركه كذلك وفي الثاني بين الإتيان بأحدهما المعين بنحو قربي وبين مجرد الموافقة في الآخر.

(نعم) يختص الحكم بالإباحة الشرعية بما إذا كانا توصليين أو كان أحدهما الغير المعين تعبدياً وإلّا لم يمكن الحكم بها وذلك لتصوير المخالفة القطعية فيما إذا كانا تعبديين أو كان أحدهما المعين تعبدياً ففي الأول يأتي بالفعل لا بنحو قربي أو يتركه كذلك وفي الثاني يأتي بأحدهما المعين لا بنحو قربي فتحصل المخالفة القطعية حينئذ بلا شبهة فتحرم.

(قوله ولا يذهب عليك أن استقلال العقل بالتخيير إنما هو فيما لا يحتمل الترجيح في أحدهما على التعيين ... إلخ)

(وحاصله) ان العقل انما يستقل بالتخيير فيما نحن فيه بين الفعل والترك إذا لم يحتمل الترجيح في أحدهما المعين وإلّا فلا يبعد استقلاله بتعين محتمل الرجحان دون غيره ومقصوده من الرجحان كما سيأتي التصريح به هو شدة الطلب أي الحاصلة من أقوائية المناط وأهمية الملاك.

(أقول)

ولا يخفى عليك ان احتمال الرجحان في أحد الطرفين إذا كان مرجحاً عقلا فالرجحان القطعي بطريق أولى (كما إذا علم) ان الشيء الفلاني الدائر أمره بين الوجوب والحرمة على تقدير وجوبه يكون ملاكه أقوى مما إذا كان حراماً أو بالعكس في قبال احتمال الأقوائية وقد تقدمت الإشارة في أواخر البراءة إلى أن كلا من أقوائية المناط واحتمالها مرجح عقلا في كل من المتزاحمين ودوران الأمر بين المحذورين غير انه عند احتمال الرجحان في أحد الجانبين يكون المورد من دوران الأمر بين التعيين

١٣٧

والتخيير العقليين دون ما إذا كان الرجحان قطعياً فلا دوران بينهما بل يتعين الراجح بلا كلام.

(قوله كما هو الحال في دوران الأمر بين التخيير والتعيين في غير المقام إلى آخره)

أي في غير دوران الأمر بين المحذورين كما في المتزاحمين إذا احتمل الترجيح في أحدهما المعين دون الآخر فإنه أيضاً من دوران الأمر بين التعيين والتخيير العقليين وقد استقصينا الكلام في أقسام الدوران وما لكل منها من الأحكام في أواخر البراءة فراجع.

(قوله ولكن الترجيح إنما يكون لشدة الطلب في أحدهما ... إلخ)

لمّا ذكر المصنف ان استقلال العقل في المقام بالتخيير انما هو فيما لا يحتمل الترجيح في أحدهما على التعيين وإلّا فلا يبعد دعوى استقلاله بتعينه أراد أن يذكر ما به الترجيح فقال ولكن الترجيح إنما يكون لشدة الطلب في أحدهما يعني بها الحاصلة من أقوائية المناط وأهمية الملاك كما أشرنا.

(أقول)

كما ان شدة الطلب وأقوائية المناط بل واحتمالها في أحدهما المعين يكون مرجحاً عقلا فكذلك لا يبعد ان يكون أقوائية الاحتمال أو احتمالها في طرف معين مرجحاً أيضاً عقلا لكن في خصوص دوران الأمر بين المحذورين لا في المتزاحمين.

(قوله بما لا يجوز الإحلال بها في صورة المزاحمة ووجب الترجيح بها وكذا وجب ترجيح احتمال ذي المزية في صورة الدوران ... إلخ)

لمّا ذكر المصنف ان الترجيح يكون بشدة الطلب في أحدهما يعني بها الحاصلة من أقوائية المناط أراد أن يحدد الشدة ويقيدها بما إذا كانت بمقدار معتد به بحيث يوجب الترجيح به عقلا بنحو البت والإلزام لا بمقدار يوجب الترجيح به بنحو الندب والاستحباب (فقال) بما لا يجوز الإخلال بها في صورة المزاحمة ... إلخ

١٣٨

أي كانت الشدة بمقدار لو كانت موجودة في أحد المتزاحمين لوجب الترجيح بها أو كانت بمقدار لو كانت في أحد الطرفين من دوران الأمر بين المحذورين لوجب ترجيح احتمال ذاك الطرف بسببها.

(أقول)

بناء على ما عرفته منا آنفاً من كون أقوائية الاحتمال بل واحتمالها في طرف معين مرجحاً عقلا في دوران الأمر بين المحذورين كقوة المناط أو احتمالها عيناً لا يبعد أن يشترط أيضاً كون قوة الاحتمال أو احتمالها هو بمقدار يجب الترجيح به لا مطلقاً.

(قوله ولا وجه لترجيح احتمال الحرمة مطلقاً لأجل أن دفع المفسدة أولى من ترك المصلحة ... إلخ)

(رد على الوجه الثاني) من وجوه المسألة وهو وجوب الأخذ بجانب الحرمة تعييناً (وقد رد قبل ذلك) على الوجه الثالث مفصلا (واما الوجه الأول والرابع) فلم يرد عليهما ولعله لأجل كون مختاره وهو الوجه الخامس مركباً منهما فأخذ الحكم بالإباحة شرعاً من الوجه الأول وأخذ التخيير بين الفعل والترك عقلا من الوجه الرابع (وكيف كان) قد أشرنا قبلا إلى الأمور التي استدل بها لهذا الوجه الثاني (من قاعدة الاحتياط) حيث يدور الأمر بين التعيين والتخيير (وظاهر) ما دل على وجوب التوقف عند الشبهة (وأن دفع المفسدة) أولى من جلب المنفعة (والاستقراء) بناء على أن الغالب تغليب الشارع جانب الحرمة على الوجوب (قال الشيخ) أعلى الله مقامه في ذيل بيان دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة (ما لفظه) لما عن النهاية من ان الغالب في الحرمة دفع مفسدة ملازمة للفعل وفي الوجوب تحصيل مصلحة لازمة للفعل واهتمام الشارع والعقلاء بدفع المفسدة أتم (قال) ويشهد له ما أرسل عن أمير المؤمنين عليه‌السلام من أن اجتناب السيئات أولى من اكتساب الحسنات (ثم قال) بل وقوله أفضل من اكتساب الحسنات اجتناب السيئات (انتهى) (وقال أيضاً) في ذيل بيان الاستقراء (ما لفظه) ومثل له

١٣٩

بأيام الاستظهار وتحريم استعمال الماء المشتبه بالنجس (انتهى) (واما المصنف) فلم يذكر من هذه الأمور الأربعة سوى الأمر الثالث فقط وكأنه لأهميته بالنسبة إلى ما سواه فخصه بالذكر وترك غيره (وعلى كل حال) حاصل ما أجاب به المصنف عن الأمر الثالث ان الواجب والحرام يختلفان وليس لها ضابط كلي فرب واجب لأهمية ملاكه وأقوائية مناطه يكون مقدماً على الحرام في صورة المزاحمة فكيف يقدم على احتمال الواجب احتمال الحرام في صورة الدوران بين مثليهما.

(أقول)

من المحتمل قوياً أن لا يقول الخصم بوجوب الأخذ بجانب الحرمة مطلقاً حتى في صورة الدوران بين الواجب الأهم أو محتمل الأهمية وبين الحرام المهم بل يقول في صورة التساوي بوجوب الأخذ بجانب الحرمة بدعوى ان دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة (ولعله إليه أشار المصنف) أخيراً بقوله فافهم (وعلى كل حال) الحق في الرد على الوجه الثالث ان يقال إن ما دار أمره بين الوجوب والحرمة إذا أحرز ان الحرام فيه هو أهم وأقوى مناطاً من الطرف الآخر أو احتمل الأهمية في جانبه دون الآخر فيتعين الأخذ به وإلّا فتقديم جانب الحرمة بنحو الإطلاق على الوجوب هو بلا ملزم (ودعوى) أن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة هي بلا برهان (واهتمام) الشارع والعقلاء بدفع المفسدة أتم غير معلوم فيما لم يحرز أهمية الحرام أو احتملت الأهمية في جانبه (وأما ما أرسل) عن أمير المؤمنين عليه‌السلام من أن اجتناب السيئات أولى من اكتساب الحسنات أو قوله أفضل من اكتساب الحسنات اجتناب السيئات (ففيه) من القصور من حيث السند بالإرسال بل الدلالة أيضاً للتصريح بالأولوية والأفضلية دون الوجوب ما لا يخفى (مضافاً) إلى ما فيه من احتمال كون المراد أن اجتناب المحرمات والورع عنها أفضل من الإتيان بالنوافل والمستحبات كقيام الليل وصيام النهار ونحوهما والله العالم (هذا تمام الكلام) في الأمر الثالث من الأمور التي استدل بها للوجه الثاني من وجوه المسألة

١٤٠