السيد علي بن الحسين العلوي
المحقق: السيّد عادل العلوي
الموضوع : الأخلاق
الناشر: منشورات دار الذخائر للمطبوعان
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٠٧
أجهل الناس بالله
( وأدرر على يدي أرزاقهم ) ما داموا صغاراً وأطفالاً حتى إذا بلغوا أشدهم سعوا في الأرض وأكلوا من كد اليمين . وفيه إيماء إلى أنه ينبغي للإنسان أن يحتاط ويحترز من أن يترك أيتاماً بلا مال ولا راعٍ وكفيل ، وفي الحديث : « إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس » وقريب منه قوله تعالى : « وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ اللَّـهُ مِن فَضْلِهِ ـ ٣٣ النور » .
وأجهل خلق الله بالله ودينه وسنته وشريعته ، من ترك العلاج للشفاء ، والسعي للرزق زاعماً ـ بلسان حاله وأفعاله ـ أنه قد أخذ من الله عهداً أن يعطيه ما يحتاج بمجرد نية التوكل دون أن يسرح ويتزحزح ! إن الله سبحانه هو الذي يشفي المريض ، ما في ذلك ريب ، ولكن بالعلاج ، ويطعم الجائع ولكن بالسعي تماماً كما يخلق الحيوان من النطفة والشجرة من النواة والليل والنهار من دوران الأرض . . . وهكذا كل ما في السموات والأرض من أسباب ومسببات ، تُرد إلى السبب الأول الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى .
|
أللّهُمَّ اشْدُدْ بِهِمْ عَضُدي ،
وَأقِمْ بِهِمْ أوَدي ، وَكَثّر بِهِمْ عدَدَي ، وَزَيّنْ بِهِمْ مَحْضَري ، وَأحْي بِهِمْ ذِكْري ، وَاكْفِني بِهِمْ في غَيْبَتي ، وَأعِنّي بِهِمْ عَلى حَاجَتي ، وَاجْعَلْهُمْ لي مُحِبّينَ ، وَعَلَيَّ حَدبِينَ مُقْبِلينَ مُسْتَقِيمينَ لي ، مُطيعينَ غَيْرَ عَاصينَ وَلا عَاقّينَ وَلا مُخَالِفينَ وَلا خَاطِئينَ ؛ |
|
وأعِنّي عَلى تَرْبِيَتِهِمْ وَتَأدِيبِهِمْ وَبِرّهِمْ ، وَهَبْ لي مِنْ لَدُنْكَ مَعَهُمْ أوْلاداً ذُكُوراً ، وَاجْعَلْ ذلِكَ خَيْراً لي ، وَاجْعَلْهُمْ لي عَوْناً عَلى ما سَألْتُكَ . |
هذا الجزء من الدعاء واضح لا يحتاج إلى الشرح والتفسير ، وأيضاً تقدم بالحرف أو بالمضمون في هذا الفصل وغيره ، ولذا نكتفي بالإشارة إلى المراد من بعض المفردات ، والفرق بين عطف الوالد على ولده ، وعطف هذا على أبيه ، ثم نذكر ما يهدف إليه الإمام بإشارة خاطفة .
( عضدي ) العضد : الساعد وهو من المرفق إلى الكتف ، والمراد به هنا القوة والمساعدة ، قال سبحانه : « سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ ـ ٣٥ القصص » أي يساعدك ويعينك ( أودي ) : ثقلي وحملي ، قال عز من قائل : « وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ـ ٢٥٥ البقرة » أي لا يثقله حفظهما ( حدبين ) : مشفقين .
بين عطف الوالد والولد
أوصى سبحانه الولد
بوالديه ، وأمره بالعطف عليهما ، ولم يوص الوالد بشيء من ذلك . والسر واضح ، لأن الولد بضعة من الوالد بل هو نفسه ولا عكس ، قال الإمام أمير المؤمنين (ع) لولده الإمام الحسن (ع) : « وجدتك بعضي ، بل وجدتك كلي حتى لو أن شيئاً أصابك أصابني » وكتب ولد لوالده : جُعلت فداك . فكتب إليه والده : لا تقل مثل هذا ، فأنت على يومي أصبر مني على يومك . ومن الأمثال عندنا في جبل عامل : قلبي على ولدي وقلب ولدي على الحجر . وقال سبحانه : « إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ـ ١٤ التغابن » وما قال : إن من آبائكم
وأُمهاتكم عدواً لكم فاحذروهم . لأن عاطفة الوالدين ذاتية كما أشرنا ، أما عاطفة الولد نحو أبويه فهي في ـ الغالب ـ مجرد المصلحة ، وقد تكون هذه المصلحة في موت والده . فينقلب عليه عدواً كما أشارت آية التغابن ، وفي الأشعار :
أرى ولد الفتى كلا عليه |
|
لقد سعد الذي أمسى عقيما |
فإما أن تربيه عدواً |
|
وإما أن تخلفه يتيما |
وكنت ذات يوم في « التكسي » ذاهباً إلى المطبعة ، وفيها مراهقان ، فسمعت أحدهما يقول للآخر : هنيئاً لك ، أبوك من ذوي الأملاك والأموال . فقال له علناً وبكل صراحة ووقاحة : « لكن العكروت ما كان يموت » والكثير من الجيل الجديد على هذه الطوية والسجية .
وبعد ، فان الولد إما نعيم ليس كمثله إلا الجنة ، وإما جحيم دونه عذاب الحريق ، والويل كل الويل لمن ابتلاه الله بامرأة سوء وولد عاق . . . والإمام (ع) يدعو الله ويناشده في أن يمده ويسعده بأولاد يحبهم ويحبونه ، أذلة عليه وعلى المؤمنين ، أعزة على أعداء الله وأعدائه ، وزين له في مغيبه ومحضره وفي الحديث : « ان الله سبحانه رفع العذاب عن رجل ، أدرك له ولد صالح ، فأصلح طريقاً ، وآوى يتيماً » .
|
وَأعِذْني وَذُرّيّتي مِنَ الشّيْطَانِ
الرَّجِيمِ ، فَإنّكَ خَلَقْتَنَا وَأمَرْتَنَا وَنَهَيْتَنَا ، وَرَغّبْتَنَا في ثَوابِ مَا أمَرْتَنَا ؛ وَرَهّبْتَنَا عِقَابَهُ ، وَجَعَلْتَ لَنَا عَدواً يَكيدُنَا ، سَلّطْتَهُ مِنّا عَلى مَا لَمْ تسَلّطْنَا عَلَيْهِ مِنْهُ ، أسْكَنْتَهُ صُدُورَنَا ، وَأجْرَيْتَهُ مَجَاريَ |
|
دِمَائِنَا ، لا يَغْفُلُ إنْ غَفَلْنَا ، وَلا يَنْسى إنْ نَسينَا ، يُؤمِنُنَا عِقابَكَ ، وَيُخَوّفُنَا بِغَيْرِكَ ؛ إنْ هَمَمْنَا بِفَاحِشَةٍ شَجّعَنَا عَلَيْهَا ، وَإنْ هَمَمْنَا بِعَمَلٍ صالِحٍ ثَبّطَنَا عَنْهُ ، يَتَعَرَّضُ لَنَا بِالشّهَواتِ ، وَيَنْصِبُ لَنَا بالشّبُهَاتِ ، إنْ وَعَدَنَا كَذَبَنَا ، وَإنْ مَنّانَا أخْلَفَنَا ، وَإلَّا تَصْرِفْ عَنّا كَيْدَهُ . . . يُضِلّنَا ، وَإلَّا تَقِنَا خَبَالَهُ . . . يَسْتَزِلّنَا . أللّهُمَّ فَاقْهَرْ سُلْطَانَهُ عَنّا بِسُلْطانِكَ ، حَتّى تَحْبِسَهُ عَنّا بكَثْرَةِ الدّعَاءِ لَكَ فَنُصْبِحَ مِنْ كَيْدِهِ في الْمَعْصومينَ بِكَ . |
( وأعذني وذريتي . . . ) واضح ، وتقدم بالحرف في الدعاء ٢٣ ( فانك خلقتنا وأمرتنا . . . . ) خلق سبحانه الإنسان ، ومنحه العقل والقدرة والحرية ، وبهذا العناصر الثلاثه مجتمعة يستحق الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية ( ورهبتنا عقابه ) أي خوفتنا عقاب عصيان ما أمرتنا به نهيتنا عنه ( وجعلت لنا عدواً ) وهو الوسواس الخناس الذي يغلي في الصدور من الحقد والحسد والعزم على غيرهما من المآثم . . . والدليل على إرادة هذا المعنى قوله : أسكنته صدورنا ، وأجريته مجاري دمائنا ، أما قوله : ( سلطته منا على ما لم تسلطنا عليه ) فمعناه أن هذا الواسواس الخبيث لا هو يذهب من تلقائه ، ولا نحن نستطيع الفرار منه . . . وهذا صحيح لا ريب فيه ، ومن أجل ذلك لا يحاسب سبحانه ويعاقب على أي شيء يدور ويمور في النفس من الإفكار والنوايا السوداء إلا إذا ظهرت وتجسمت في قول أو فعل .
( يؤمننا عقابك ) يضمن لنا الأمن والأمان من غضبك وعذابك ( ويخوفنا بغيرك ) ومن ذلك أن الله سبحانه قال : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ ـ ٢٦٧ البقرة » والنفس الأمارة أو الوسواس يخوفنا الفقر ، إن أطعنا وأنفقنا ( وإن هممنا بفاحشة شجعنا عليها . . . ) يشير بهذا الى جهاد النفس التي تحاول التغلب بالهوى على العقل والتقوى ( ونصب لنا بالشبهات ) أظهر لنا الأفكار الخاطئة التي تُلبس الحق ثوب الباطل والباطل ثوب الحق ، وتوقع السذج البسطاء في الشك والحيرة .
( إن وعدنا كذبنا . . . ) يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً ١٢٠ النساء ( وإلا تصرف عنا كيده يضلنا ) إقتباس من الآية ٣٣ يوسف : « وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ » أي إن لم تعني على نفسي أكن من الجاهلين ( وإلا تقنا خباله ) : فساده ( يستزلنا ) يوقعنا بالزلل والخطايا ( فاقهر سلطانه عنا بسلطانك . . . ) هب لنا من لدنك صبراً عن الحرام ، ونصراً على الهوى حتى لا نعصيك في جميع الحالات ( تحبسه عنا بكثرة الدعاء لك ) حثثت على الدعاء ، ووعدت بالإجابة ، وقد دعونا أن تصد عنا كل مكروه ، وتوسلنا بك وأكثرنا ، فكن لدعائنا مجيباً ، ومن ندائنا قريباً .
|
أللّهُمَّ أعْطنِي كُلَّ سُؤلي ، وَاقْضِ لي حَوائِجي ، وَلا تَمْنَعْني الإجَابَةَ وَقَدْ ضَمِنْتَهَا لي ؛ ولا تَحْجُبْ دُعَائي عَنْكَ ، وَقَدْ أمَرتَني بِهِ . وَامْنُنْ عَلَيَّ بِكُلّ مَا يُصْلِحُني في دُنْيَايَ وَآخِرَتي مَا ذَكَرْتُ مِنْهُ وَمَا نَسِيتُ ؛ أو أظْهَرْتُ أوْ أخْفَيْتُ أوْ أعْلَنْتُ أوْ أسْرَرْتُ . |
|
وَاجْعَلْني في جَميع ذَلِكَ مِنَ الْمُصلِحين بِسُؤالي إيّاكَ ، المُنْجِحِينَ بِالطّلَبِ إلَيْكَ ، غَيْرِ الْمَمْنُوعِينَ بِالتّوَكّلِ عَلَيْكَ ، الْمَعَوَّدينَ بالتّعَوّذِ بِكَ ، الرّابِحينَ في التّجَارَةِ عَلَيْكَ ، الْمُجَارينَ بِعِزّكَ ؛ الْموسَعِ عَلَيْهِمُ الرّزْقُ الحَلالُ مِنْ فَضْلِكَ الْواسِعِ بِجُودِكَ وكَرَمِكَ ؛ الْمُعَزّينَ مِنَ الذّلّ بِكَ ، وَالْمُجَارينَ مِنَ الظّلْمِ بعَدْلِكَ ، وَالْمُعَافَينَ مِنَ الْبَلاءِ بِرَحْمَتِكَ ، وَالْمُغْنَيْنَ مِنَ الْفَقْرِ : بِغِنَاكَ ، وَالْمَعْصومِينَ مِنَ الذّنوبِ وَالزَّلَلِ وَالْخَطَإ بتَقْواكَ ، وَالْمُوفّقينَ لِلْخَيْرِ وَالرّشْدِ وَالصَّوابِ بِطَاعَتِكَ ، وَالْمُحَالِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الذّنوبِ بقُدْرَتِكَ ، التَّارِكينَ لِكُلّ مَعْصِيَتِكَ السّاكِنينَ في جِوارِكَ . |
( أللهم اعطني كل سؤلي . . . ) مطلوبي وهو قضاء حوائجي ، فقد أنزلتها بك دون سواك ( ولا تمنعني الإجابة ، وقد ضمنتها لي ) بقولك : « ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ـ ٦٠ غافر » ثم بيّن الإمام (ع) هذه الحوائج بقوله : « وامنن علي بكل ما يصلحني . . . هذا هو هم المؤمن وهمته : الصلاح وعمل الخير في الدنيا ، والنجاة والخلاص في الآخرة ، لا التكاثر والتفاخر ( ما ذكرت منه وما نسيت . . . ) واضح ، وتقدم مثله في الدعاء ٢٢ .
( واجعلني في جميع
ذلك من المصلحين بسؤالي إياك . . . ) أسترشدك
بدعائي لكل ما فيه صلاحي في الدنيا وفوزي في الآخرة ( غير الممنزعين بالتوكل عليك ) أنت يا إلهي تسمع الشاكين إليك ، ولا تمنع المتوكلين عليك ، وأنا منهم ، وأيضاً أنا من ( المعودين بالتعوذ بك ) لقد عوّدت الذين يتعوذون بك ويلوذون ، أن لا تردهم خائبين ( الرابحين في التجارة عليك ) أي منك كقوله تعالى : « الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ ـ ٢ المطففين » أي من الناس ، والمجرور متعلق بالرابحين ، والمعنى من عمل صالحاً لوجه الله تعالى زاده من فضله ، والإمام يسأل الله أن يجعله من العاملين له لسواه ، ومن ( المجارين بعزك ) : المحفوظين بعناية الله وحراسته ( الموسع عليهم الرزق الحلال . . . ) ولا شيء أجل وأحل من لقمة يأكلها المرء بكدحه وسعيه لا بالرياء ورداء الصلحاء .
( المعزين من الذل بك ) أي بطاعتك ، وكم من أناس طلبوا العز بالنسب والثراء والخداع والرياء فاتضعوا وذلوا ( والمجازين من الظلم بعدلك ) أجرني بعدلك وقدرتك من كل ظالم ( والمعافين من البلاء برحمتك . . . ) ارحمني برحمتك ، وامنن عليّ قبل البلاء بعافيتك ، وأيضاً اغنني بفضلك عن الناس ، وأبعدني بعنايتك عن الخطأ والخطيئة ، ووفقني للعمل بطاعتك . . . وكل ذلك تقدم مراراً وتكراراً . وأخيراً اجعلني في الآخرة من ( الساكنين بجوارك ) ومن سكن في جوار العظيم الكريم فهو حرز حارز ، وحصن مانع من كل سوء .
|
أللّهُمَّ أعْطِنَا جَميعَ ذَلِكَ
بِتَوفِيقِكَ وَرَحْمَتِكَ ، وَأعِذْنَا مِنْ عَذابِ السّعيرِ ، وَاعْطِ جَميعَ الْمُسْلِمينَ وَالمُسْلِمَاتِ وَالْمؤمِنينَ وَالْمُؤمِنَاتِ مِثْلَ الّذي |
|
سَألْتُكَ لِنَفْسي وَلِوُلْدي في عَاجِلِ الدّنْيَا وَآجِلِ الآخِرَةِ . إنّكَ قَريبٌ مُجيبٌ سَميعٌ عَليمٌ عَفوٌ غَفُورٌ رؤُوفٌ رَحِيمٌ ؛ وآتِنَا في الدّنْيَا حَسَنَةً ، وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذابَ النّارِ . |
( أللهم اعطنا جميع ذلك . . . ) إشارة إلى كل ما تقدم من صحة الأبدان والأديان إلى وفرة الأرزاق والسكنى في جوار الرحمن ( واعط جميع المسلمين والمسلمات . . . ) ختم الإمام دعاءه هذا بالرجاء أن يوفق سبحانه ويسهل السبيل الى ما ذكر وسأل لنفسه ولذويه وأهل التوحيد ، لأن من أخص خصائص المؤمن أن يكون تعاونياً مع الجميع . وفي الحديث : المؤمن يحب لغيره ما يحب لنفسه . . . المؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى » هذا ، إلى أن العلاقة ما بين أفراد المجتمع الواحد حتمية لتشابك المصالح ووحدة المصير . ( وآتنا في الدنيا حسنة . . . ) تقدم مثله في آخر الدعاء ٢٠ .
الكوكب الدرّي
في حياة السيد العلوي
لمحة خاطفة من حياة آية الله المجاهد السيد علي بن الحسين العلوي " قدس سره " بمناسبة أربعين وفاته .
وقد أقدمنا على تأليف هذه المجموعة التي تمثل نواحي مختلفة من نواحي حياته تجسيدا وبقاء لآثاره ومآثره .
( وآثارنا تدل علينا |
|
فانظروا بعدنا الى الآثار ) |
وزبدة الكلام ان هذه المجموعة كشذرة من عقد نحر وقطرة من ماء بحر فعذرا من هفوة القلم وزلة القدم .
بسم الله الرحمن الرحيم
« وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّـهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّـهِ »
« النساء ١٠٠ »
نبأ مفجع وخبر موجع ويوم كئيب حزين ، فتّت الأكباد ، وأضرم الخلد ، وأدمى العين ، وأذبل الفؤاد ، وخيّب الآمال .
ايها القلم الحزين ، ما بالك والحزن انقضى ظهرك ، وأضاق صدرك وأدمى مقلتك ، وأجّجَ لهيب الفراق في أحشائك . . .
فراق الحبيب
إنه الشّعلة الوهاجة تنير كل سُبل الخير وطريق الهداية ودروب الصلاح ، انه رجل الدين المجاهد ، والمفكّر الإسلامي ، العلامة الحجة آية الله السيد علي بن الحسين العلوي طاب مضجعه ونوّر الله قبره .
أفل كوكبه الدريّ ، وغابت شمسه الزاهيّة ، وودّع الدنيا الفانيّة ، في ليلة وضُحها ، وفجئنا بما لم يكن بالحسبان ولم يخطر على البال قط ، بنبأ مُفجع . . .
فبَهت الناس ، وصعقوا من هذا النبأ المؤلم ، ولكنهم سرعان ما هبّوا . . .
فعلت الأصوات من
الحناجر ، والحسرات من القلوب والكل لا يصدق بعد ، ولكن شاءت الأقدار ، أن تصدقه ، وحكم الله لا
غالب له .
فكانت الثلمة العظيمة في الإسلام ، والفقدان الفادح في الأمة والفراغ العصيب في صحبه وأخوانه لا يسدّها شيء ، وليس لنا الّا الإستسلام لأمر الله الحكيم ، والقلوب مضرمة مفجعة بنار الفراق الطويل ، والعيون مذرفة دموع الحزن والكآبة والعزاء ، والناس يلهجون له بحسن الثناء ، ويعَزّون الأهل والأقرباء ، والأحباء ، ولمّا يصدّقون الخبر المفجع .
سيدي ومولاي :
يحق لنا جميعا أن نترك الحناجر هاتفة صارخة والدموع سائلة ساخنة وننادي وا أبتاه . . وا سيّداه . . . . . . وا مصلحاه . . . !!!
عزّ والله علينا فراقك وعزّ على الأرواح والقلوب أن ترثيك ، وكنا نشعر بقوة نعتمد عليها ، ونستلهم من مغزها روح الجهاد والنضال فأين هي الآن ؟
سيدي أبتاه :
ما دار في خلدي أن اكتب ما اكتب ! وَدمي الحزين ينزف من عيني أيحق لي أن اكتب عن حياتك البطوليّة والصمود ، حياة العلم والعمل ، وأنت لن تموت ؟ سيدي العلوي انك خالد في التأريخ اذ عشت للإسلام والأمة الإسلاميّة .
لا تأخذك في الله لومة لائم ، اذ لا تخشى الّا الله ولا تهاب الّا الحق ، فأنك المجاهد الورع والعابد العالم والمصلح القتفاني في الله وخدمة خلقه .
ماذا اكتب عن حياتك ، وحياتك مليئة بالعمل المتواصل والكفاح المرير حتى مضيت الى ربّك قرير العين .
وقد خلّفت أمّة من الناس تحمل روحك وقلبك الحنون ، خلّفت علماء من طلبتك الكرام ، وشباباً ناهضاً ، وثروة علميّة من مطبوع وغير مطبوع ، خلّفت مواكب ومدارس إسلاميّة ، تربي الأجيال وتسمو بهم مدارج الكمال .
سيدي لم ولن تموت ولك المآثر الخالدة في المجتمع والنفوس ، لن تموت ولك كتب قيمة وشباب طاهر يسير نحو الهدف الذي كنت ترمي اليه ، وذلك حكومة الإسلام واقامة الحق والعدل في المجتمع .
فنم قرير العين ، فانا كما عهدت مخلصون .
مولاي سكنتَ الفراديس وجنّات عرضها السّموات والأرض .
وسرعان ما غاب شمسك النير .
الله اكبر . . .
لن أنسىٰ تلك
السويعة المريرة التي كنت بجنبك أقبل يديك الكريمة كرّات ودموع حبستها في حَدقة العين ، كي لا تحزن وأنت على سرير المستشفى ، توصى ولدك ، ولم يكن بالحسبان أن
نفقدك .
وفراق الأحبة والله أصعب .
لن أنسى آخر لحظة من الوداع الحزين عندما كانت يدي بين يديك الخالدة بمدادك الذي أفضل من دماء الشهداء تضغط عليها حبّاً وحناناً وشفقةً .
آه ساعة كئيبة ، لا أنساه مدى الحياة يحزّ قلبي ويأجّج لهيب الفراق في صدري فوا أسفاه على ذلك القلب الحنون المفقود ، وما يُجدي الأسف ولكن لا حول ولا قوّه الّا بالله العلي العظيم .
وما كان قيس فقده فقد واحد |
|
ولكنّه بنيان قوم تهدّما |
سيدي :
في هذا الظرف العصيب الذي تمرّ به الأمة الإسلاميّة ، في عراقنا المضطهد ، في هذه المرحلة الرساليّة الشاقة ، وفي هذه الأجواء التي تكالبت فيها على الإسلام والمسلمين كل قوى الألحاد والصهيونيّة ولا سيّما العفلقيّة في العراق الحزين .
في هذه الفترة الحاسمة المحتاجة الى جهابذة مفكرين مصلحين ، ومجاهدين صابرين ، وقاده أمناء ، أصيبت الأمة في كبدها بفقدك الغالي العزيز ، وانها لم تكن فاجعة آل العلوي فحسب انها فجيعة ايران والعراق فجيعة كل محب وموالي لأهل البيت عليهم السلام .
سيدي :
عذراً من روحك الطاهرة الزكيّة ، بأي المفاخر من حياتك أبدأ وبأيّ المناهج أشرع وأنت أبو المفاخر .
كنتَ النور تَغمر من روادك بضيائك الزاهر ، وَوَسع قلبك مشاكل الأمة ولم تغفل عنها لحظة حتى الأجل .
واستقبلت المصاعب والمتاعب بصدر رحب ، شُرح بالإسلام ، اذ تُؤمن بأنّ الجنة مأواك والنعيم نهاية حياتك .
وأخيراً الى شعبك الحزين بفقدك أقدّم لمحة خاطفة من أبعاد حياتك الخالدة .
ولعلنا نوفق أن نشير الى لمحات وشذرات من سجل حياتك طاب ثراك وقدس الله روحك .
وانا لله وانّا اليه راجعون
الحزين الكئيب
مولده وحياته العائليّة :
ولد فقيدنا الراحل الى جوار رحمة ربّه الكريم في اليوم الثاني من محّرم الحرام عام ١٣٤٦ هجري قمري المصادف ٢٣ / ٦ / ١٩٢٧ ميلادي في محلّة ( ام النوّمي ) في بلدة الكاظميّة المقدسة ، وترعرع في أحضان الأيمان والتقوى ، وتغذّىٰ من ثدي العلم والعمل ، حيث انحدر من سلالة طيّبة طاهرة في التقوى والفضيلة ، في أرحام طاهرة وأصلاب شامخة ، وكان خيرة اولاد أبيه الصالح المتّقي الوقور السيد حسين قدس سرّه ذكوراً واناثاً في النشاط والحيويّة والذكاء ، والعمل الدائب والجهد المتواصل ، ونسبه الشريف وشجرته المباركة تصل الى الإمام السجّاد ، زين العابدين مولانا وسيدنا الإمام علي بن الحسين عليه السلام .
ويأتيك التفصيل بقلمه
وخطّه الشريف ، ولقد اقترن أبان بلوغه بأبنة عمّه ، وتُوفيت في الثامن عشر من عمرها وخلفت ثلاث ذكور وماتوا ، ورأى المصائب العظيمة حتى اشتهر بين مجتمعه بالوليّ الصبور ، وكانت المصائب تصبّ عليه حتى مماته لكثرة ايمانه وعمله . . . ثمّ تزوج السيدة العلويّة سليلة الكرام ، المنحدرة من سلالة الرسول ، وآل البتول ( عليهم السلام ) التي جاهدت معه طيلة عمره في خط العلم والعمل الجهادي حتى شهد في حقها ، فقيدنا الراحل امام جمع من طلابه ، اذ كان يتكلّم حول المرأة فقال : انّ نصف ما لي من العلم والشرف
والثواب فهو لأم أولادي حيث إنها ساعدتني وساندتني في العمل وطلب العلم .
وهي بنت رجل الدين ، صاحب المواكب الحسينية ، المتقى الورع ، كبير قومه السيد محمد الحسيني المشهور في النجف الأشرف .
فأنجبت له خمسة اولاد ذكور وأربعة أناث ، بعدما ماتا لهما طفلان صغيران .
وعندما ترعرعوا بلغوا الحلم والشباب ، أُستشهد لهما أربعة في آن واحد في سائحةٍ مؤلمةٍ في طريق الدعاء لأنتصار الثورة الإسلاميّة وقائدها ، وهم :
ثقه الإسلام السيد عامر العلوي السيد عقيل العلوي بنت العلى العلوي بنت الأيمان العلوي |
|
٢١ سنة ١٥ سنة ١٦ سنة ١٢ سنة |
والباقون حجج الإسلام السيد عادل الدين العلوي
|
السيد عماد الدين العلوي السيد عارف العلوي وبنتان |
وكان عطوفاً على
أولاده ، ويريد الخير والصلاح لهم دوماً ، وحتى كان يضحّي بنفسه من أجلهم ، كما لنا في ذلك قضايا
تأريخّية .
فَقَدَ أربعة من أفلاذ كبده وبعد أربعة أعوام فارق الدنيا بنوبة قلبيّة ، ثلاث مرات في ثلاث ليالٍ متواليّة وقُرب الساعة الثانيّة والنصف بعد منتصف الليل ، مسية يوم الأحد ، أرتحل الى رحمة ربه في مقعد صدقٍ عند مليك مقتدر .
فانا لله وانّا إليه راجعون .
وأخوتي الأعزاء في ليلة الأنقلاب جرعوا كأس الشهادة عندما ذهبوا . . . ليدعوا ربهم بنصرة الإسلام ونجاح ثوره الإمام الخميني .
١ ـ حجة الإسلام سيد عامر العلوي |
( عمره ٢١ سنة ) |
٢ ـ السيد عقيل العلوي |
( عمره ١٥ سنة ) |
٣ ـ بنت العلي العلوي صاحبه كتاب الحجاب بالفارسي |
( عمرها ١٦ سنة ) |
٤ ـ بنت الإيمان العلوي |
( ١٢ سنة ) قدس سرهم |
حياته العلميّة والعمليّة :
منذ نعومة اظافره ـ قدس
سره ـ كان يحب العلم والعمل به ، له طموح يتسامى مع عزمه ونشاطه ، ولعلّ النبوغ والطموح أبرز سمة تميّزت بها شخصية فقيدنا الراحل السيد العلوي طاب ثراه ، فقد عرف الوسط العلمي والحوزات العلميّة ، بذكائه وولعه في طلب العلم ، منذ صباه ، فأقام على التعلّم والتعليم ولا يبالي بالكوارث والمشاكل التي تصبّ عليه كالوابل ، بل حُبّاً وشَوقاً ينتهي شوطاً بعد شوطٍ من كعبة آماله وأُمنياته ، فقد تعلّم القرآن وختمه في المكتب وهو صبي ترك اللّعب واللهو لأهله ، وفاق أترابه لما يحمل من ذكاء وحيويّة ، فدخل المدرسة ليتعلم العلوم الجديدة كالحساب والهندسة وما شابه ، وذلك في ( مدرسة اخوت ) في الكاظميّة المقدسة ثم دخل في سلك طلبة العلوم الدينيّة القديمة ، شوقاً للإسلام وحبّاً لمفاهيمه وتعاليمه القيّمة ، وفاق أقرانه وزملائه لمثابرته وعمله المتواصل ونشاطه المستمر ، وأخذ حظاً وافراً من العلوم الإسلاميّة كالنحو والصرف والمنطق والفقه والأصول والتفسير وما شابه ، وتوّج بالعمّة المباركة وزيّ رجال الدين ، في الجامع الهاشمي ، على يد سماحة آية الله المجاهد الفقيد السعيد السيد اسماعيل الصدر طاب ثراه ، بعدما حاز على رتبة الأستاذيّة وأصبح الأستاذ الأوحد في الجامع الهاشمي ، فشاع صيته في الكاظميّة المقدسة
وبغداد وأصبح منهلاً عَذِباً للشباب وطلاب الجامعات وطلبة العلوم القديمة ، وكان إمام جامع الهاشمي ، ومصباح بحبوحته ، ونائب السيد اسماعيل الصدر ، وأخذ يشق طريقه في العلم والعمل ، والتأليف والتصنيف ، لكي يصل القمة وأقصى مدارج الكمال ، والفقاهة ، لنبوغه وطموحه الذي قلّما له مثيل ، فطوى المراحل الثلاثة في دراسة العلوم القديمة من المقدمات والسطح والخارج ، حيث تَلمّذ في الأوّلين على يد العلامة النحرير الشيخ حامد الواعظي وآية الله السيد اسماعيل الصدر في العراق ، ومَن ثَمَّ هُجِّرَ الى ايران الأسلام ، فقصد الحوزة العلميّة في مدينة قم المقدّسة الثائرة ضدّ الطغاة والجبابرة ، وحضر درس الخارج لآيه الله العظمى السيد محمد رضا الگلبايگاني ، وآية الله العظمى السيد شهاب الدين المرعشي النجفي دام ظلّهما الوارف ، وَجاور كريمةَ أهل البيت السيدة المعصومة الطاهرة بنت رسول الله السيدة فاطمة بنت موسى بن جعفر عليهم السلام ، واشتغل مدرساً في الحوزة العلميّة كما كان في العراق منذ اكثر من ثلاثين سنة ، حتى تَخرّج على يديه الكريمتين وأنفاسه القدسيّة ، كثير من المؤلّفين والشعراء ورجال الدين الواعين المخلصين .
فحياته حياة العلم
والعمل كلها تدل على السبق والتبحّر والتعمق في المفاهيم الإسلاميّة والرسالة المحمديّة ، فحاز مراتب