تدوين القرآن

الشيخ علي الكوراني العاملي

تدوين القرآن

المؤلف:

الشيخ علي الكوراني العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: باقري
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٧

وما أدري كيف يمكن الجمع بين هذه الروايات وبين آية واحدة من آيات المنافقين في القرآن مثل قوله تعالى (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ)؟!

بل كيف يمكن الجمع بينها وبين ما روته نفس هذه المصادر ، كالأحاديث الصحيحة التي رواها الهيثمي في مجمع الزوائد ج ١ ص ١٠٨ (وعن عبد الله يعني ابن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ثلاث من كن فيه فهو منافق ، وإن كان فيه خصلة ففيه خصلة من النفاق : إذا حدث كذب ، وإذا اؤتمن خان ، وإذا وعد أخلف. رواه البزار ورجاله رجال الصحيح.

وعن ابن مسعود قال : اعتبروا المنافقين بثلاث ، إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر. فأنزل الله عزوجل تصديق ذلك في كتابه (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ) ... الى آخر الآية. رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح) انتهى.

والذي رواه الترمذي في سننه ج ٥ ص ٢٩٨ (عن أبي سعيد الخدري قال : إن كنا لنعرف المنافقين نحن معشر الأنصار ببغضهم علي بن أبي طالب. هذا حديث غريب. وقد تكلم شعبة في أبي هارون العبدي ، وقد روى هذا عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد).

وأحاديث الحاكم الصحيحة في المستدرك ج ٣ ص ١٢٩ (عن أبي ذر رضي الله عنه قال ما كنا نعرف المنافقين إلا بتكذيبهم الله ورسوله والتخلف عن الصلوات والبغض لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه. هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه).

وفي ص ١٣٨ (عن علي بن أبي طلحة قال حججنا فمررنا على الحسن بن علي بالمدينة ومعنا معاوية بن حديج ، فقيل للحسن إن هذا معاوية بن حديج الساب لعلي ، فقال عليّ به ، فأتي به فقال : أنت الساب لعلي؟ فقال ما فعلت. فقال والله إن لقيته وما أحسبك تلقاه يوم القيامة لتجده قائما على حوض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يذود عنه رايات المنافقين ، بيده عصا من عوسج. حدثنيها الصادق المصدوق صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد خاب من افترى. هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه) انتهى.

٨١

العمل الخامس : إعطاء مناصب هامة في الدولة الإسلامية للمنافقين!

وأول من فتح هذا الباب وأعطى مناصب الدولة للمنافقين هو الخليفة عمر .. وكان يبرر ذلك تبريرا عصريا فيقول إن مسألة الدين أمر بين الإنسان وربه .. والمنافق إثمه عليه! فقد روى في كنز العمال ج ٤ ص ٦١٤ (عن عمر قال : نستعين بقوة المنافق ، وإثمه عليه!) وفي ج ٥ ص ٧٧١ (عن الحسن أن حذيفة قال لعمر : إنك تستعين بالرجل الفاجر فقال عمر : إني لاستعمله لأستعين بقوته ثم أكون على قفائه ـ أبو عبيد) انتهى.

هذا مع أنه روي عن الخليفة قوله (من استعمل فاجرا وهو يعلم أنه فاجر فهو مثله) كنز العمال ج ٥ ص ٧٦١.

وقد برر البيهقي إعطاء المناصب للمنافقين بأنهم منافقون لينون ، فقال في سننه ج ٩ ص ٣٦ (عن عبد الملك بن عبيد قال قال عمر رضي الله عنه : نستعين بقوة المنافقين وإثمهم عليهم. وهذا منقطع فإن صح فإنما ورد في منافقين لم يعرفوا بالتخذيل والارجاف ، والله أعلم)!

ولكن محاولة البيهقي للتخفيف لا تنفع مع ما رواه البخاري ، في صحيحه ج ٨ ص ١٠٠ من أن المنافقين في زمن الخليفة عمر كانوا ـ بسبب بسط أيديهم وقحين متجاهرين ـ وأن حذيفة بن اليمان صاحب سر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أطلق صيحة التحذير من خطرهم فقال (إن المنافقين اليوم شر منهم على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كانوا يومئذ يسرون واليوم يجهرون!!) انتهى.

قرار حذف القنوت من الصلاة لأنه كان محل لعن قريش

العمل السادس : انتقام الخلفاء من القنوت!

فقد قرر فقه إخواننا السنة التخلص من القنوت في كل فريضة وحصره في صلاة الفجر والوتر ، أو فيما إذا نزلت نازلة بالناس فيدعو الإمام بشأنها ، وجوز الإمام أحمد أن يقنت الأمراء فقط في صلاتهم ويدعوا ، أما عامة المسلمين فلا ..!

٨٢

ومع أن القنوت بقي عندهم جزئيا ، لكنك تشعر وأنت تقرأ فتاواهم فيه أنه ما زال في أنفسهم منه شىء ، وكأنهم لم يستوفوا حقهم من قنوت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله! ثم تراهم لا يحبونه ولا يعلمونه لعوامهم! وإذا علموهم اقتصروا على سورتي الخلع والحفد ، أو دعاء القنوت الذي يروونه عن الإمام الحسن بن علي عليهما‌السلام ، وهو دعاء عام لا أثر فيه لذكر الكفار والمنافقين .. وهو الدعاء الشائع عندهم في عصرنا أكثر من سورتي الخليفة ، بسبب أن نصه أقوى من نصهما .. قال في فتح العزيز ج ٤ ص ٢٥٠ :

(واستحب الأئمة منهم صاحب التلخيص أن يضيف إليه (القنوت) ما روي عن عمر رضي الله عنه ..) ثم ذكر (السورتين).

ويبدو أن ترك القنوت وتحريمه كان مذهب الأكثرية في زمن بني أمية! بل تصاعد غيظ الفقهاء منه وأفتوا بأنه كان من أصله تصرفا شخصيا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لمدة شهر فقط ثم نهاه الله عنه ، أو كان مشروعا لكنه نسخ ، وهو الآن حرام وبدعة ..!

قال النسائي في سننه ج ٢ ص ٢٠٣ (عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قنت شهرا ، قال شعبة لعن رجالا ، وقال هشام يدعو على أحياء من أحياء العرب ، ثم تركه بعد الركوع هذا قول هشام. وقال شعبة عن قتادة عن أنس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قنت شهرا يلعن رعلا وذكوان ولحيان.

باب لعن المنافقين في القنوت ... عن سالم عن أبيه أنه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين رفع رأسه من صلاة الصبح من الركعة الآخرة قال : اللهم العن فلانا وفلانا يدعو على أناس من المنافقين فأنزل الله عزوجل (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ).

ترك القنوت ... عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه قال : صليت خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يقنت! وصليت خلف أبي بكر فلم يقنت ، وصليت خلف عمر فلم يقنت ، وصليت خلف عثمان ، فلم يقنت ، وصليت خلف علي فلم يقنت ، ثم قال يا بني إنها بدعة!) انتهى.

٨٣

وقد يكون المقصود بالقنوت هنا لعن الكفار والمنافقين ، لأن القنوت صار علما على اللعن .. ولكن ذلك يؤكد ما ذكرناه!

روايات القنوت الشاهدة الشهيدة!

ومع كل هذه الحملة على قنوت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، استطاعت بعض رواياته أن تعبر حواجز تفتيش السلطة والرواة وتصل الى أيدينا!! وبعضها يشهد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يدعو في صلاته على الكفار والمنافقين حتى توفاه الله تعالى! وأن بقايا عمل المسلمين بهذه السنة الشريفة كانت موجودة الى فترة من عهد بني أمية!

روى مالك في الموطأ ج ١ ص ١١٥ (عن داود بن الحصين ، أنه سمع الأعرج يقول : ما أدركت الناس إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان ... في قنوت الوتر اقتداء بدعائه صلى‌الله‌عليه‌وآله في القنوت).

وروى البخاري في صحيحه ج ١ ص ١٩٣ (عن أبي هريرة قال لأقربن صلاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان أبو هريرة رضي الله عنه يقنت في الركعة الأخرى من صلاة الظهر وصلاة العشاء وصلاة الصبح بعد ما يقول سمع الله لمن حمده فيدعو للمؤمنين ويلعن الكفار) ورواه مسلم في صحيحه ج ٢ ص ١٣٥ والنسائي في سننه ج ٢ ص ٢٠٢ وأبو داود في سننه ج ١ ص ٣٢٤ وأحمد في مسنده ج ٢ ص ٢٥٥ وص ٣٣٧ وص ٤٧٠ والبيهقي في سننه ج ٢ ص ١٩٨ وص ٢٠٦ والسيوطي في الدر المنثور ج ١ ص ٣٠٧ وقال أخرجه الدار قطني.

وروى أحمد في مسنده ج ١ ص ٢١١ (... عن الفضل بن عباس قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الصلاة مثنى مثنى ، تشهّد في كل ركعتين ، وتضرع وتخشع وتمسكن ، ثم تقنع يديك ـ يقول ترفعهما الى ربك مستقبلا ببطونهما وجهك ـ تقول يا رب يا رب ، فمن لم يقل ذلك ، فقال فيه قولا شديدا!)

ورواه في ج ٤ ص ١٦٧ وفي آخره (فمن لم يفعل ذلك فهي خداج) أي صلاته ناقصة. ورواه الترمذي في سننه ج ١ ص ٢٣٨ وفي آخره (ومن لم يفعل ذلك فهو كذا وكذا. قال أبو عيسى (الترمذي) : وقال غير ابن المبارك في هذا الحديث : من لم يفعل ذلك فهو خداج).

٨٤

وروى البيهقي في سننه ج ٢ ص ١٩٨ (عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان لا يصلي صلاة مكتوبة إلا قنت فيها! ومحمد هذا هو ابن أنس أبو أنس مولى عمر بن الخطاب ، ومطرف هو ابن طريف).

وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ج ٢ ص ١٣٨ (وعن البراء أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان لا يصلي صلاة مكتوبة إلا قنت فيها. رواه الطبراني في الأوسط ورجاله موثقون. وعن عائشة قالت قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنما أقنت لتدعوا ربكم وتسألوه حوائجكم ... وعن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قنت حتى مات ، وأبو بكر حتى مات ، وعمر حتى مات. رواه البزار ورجاله موثقون) انتهى.

ومن آراء فقهاء السنة الملفتة في القنوت : رأي ابن حزم الظاهري ودفاعه العلمي المطول عن سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في القنوت .. قال في المحلى ج ٤ ص ١٣٨ ـ ١٤٦ (مسألة : والقنوت فعل حسن .. في آخر ركعة من كل صلاة فرض ، الصبح وغير الصبح ، وفي الوتر ، فمن تركه فلا شىء عليه في ذلك .. ويدعو لمن شاء ويسميهم بأسمائهم إن أحب فإن قال ذلك قبل الركوع لم تبطل صلاته بذلك ... عن البراء بن عازب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقنت في الصبح والمغرب). وقال في هامشه (في النسائي ج ١ ص ١٦٤ ورواه الطيالسي ص ١٠٠ رقم ٧٣٧ عن شعبة ، ورواه الدارمي ص ١٩٨ ولم يذكر فيه المغرب ، ورواه أيضا مسلم ج ١ ص ١٨٨ والترمذي وصححه ج ١ ص ٨١ والطحاوي ج ١ ص ١٤٢ وأبو داود ج ١ ص ٥٤٠ و ٥٤١ والبيهقي ج ٢ ص ١٩٨).

ثم قال ابن حزم (... عن أبي هريرة قال : والله إني لأقربكم صلاة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان أبو هريرة يقنت في الركعة الآخرة من صلاة الظهر ، وصلاة العشاء الآخرة وصلاة الصبح ، بعد ما يقول : سمع الله لمن حمده ، فيدعو للمؤمنين ويلعن الكفار ... عن البراء ابن عازب : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان لا يصلي صلاة إلا قنت فيها!!)

ثم قال (أما الرواية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن عباس رضي الله عنهم بأنهم لم يقنتوا فلا حجة في ذلك في النهي عن القنوت ، لأنه قد صح عن جميعهم أنهم قنتوا ، وكل ذلك صحيح قنتوا وتركوا ، فكلا

٨٥

الأمرين مباح ، والقنوت ذكر لله تعالى ، ففعله حسن ، وتركه مباح ، وليس فرضا ، ولكنه فضل.

وأما قول والد أبي مالك الأشجعي إنه بدعة ، فلم يعرفه ، ومن عرفه أثبت فيه ممن لم يعرفه ، والحجة فيمن علم لا فيمن لم يعلم! ...

وقال بعض الناس : الدليل على نسخ القنوت ما رويتموه من طريق معمر عن الزهري عن سالم بن عبد الله عن أبيه أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين رفع رأسه من صلاة الصبح من الركعة الأخيرة قال : اللهم العن فلانا وفلانا ، دعا على ناس من المنافقين فأنزل الله عزوجل (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) قال علي (ابن حزم) : هذا حجة في إثبات القنوت : لأنه ليس فيه نهي عنه ، فهذا حجة في بطلان قول من قال : إن ابن عمر جهل القنوت ، ولعل ابن عمر إنما أنكر القنوت في الفجر قبل الركوع ، فهو موضع إنكار ، وتتفق الروايات عنه فهو أولى ، لئلا يجعل كلامه خلافا للثابت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما في هذا الخبر إخبار الله تعالى بأن الأمر له لا لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن أولئك الملعونين لعله تعالى يتوب عليهم ، أو في سابق علمه أنهم سيؤمنون فقط.

... وأما أبو حنيفة ومن قلده فقالوا : لا يقنت في شىء من الصلوات كلها إلا في الوتر ، فإنه يقنت فيه قبل الركوع السنة كلها ، فمن ترك القنوت فيه فليسجد سجدتي السهو. أما مالك والشافعي فإنهما قالا : لا يقنت في شىء من الصلوات المفروضة كلها إلا في الصبح خاصة.

... قال علي (ابن حزم) : أما قول أبي حنيفة : فما وجدناه كما هو عن أحد من الصحابة نعني النهي عن القنوت في شىء من الصلوات ، حاشا الوتر فإنه يقنت فيه ، وعلى من تركه سجود السهو. وكذلك قول مالك في تخصيصه الصبح خاصة بالقنوت ، ما وجدناه عن أحد من الصحابة ولا عن أحد من التابعين. وكذلك تفريق الشافعي بين القنوت في الصبح وبين القنوت في سائر الصلوات ، وهذا مما خالفوا فيه كل شىء روى في هذا الباب عن الصحابة رضي الله عنهم ، مع تشنيعهم على من خالف بعض الرواية عن صاحب لسنّة صحت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم!

٨٦

قال علي : وقولنا هو قول سفيان الثوري. وروى عن ابن أبي ليلى : ما كنت لأصلي خلف من لا يقنت ، وأنه كان يقنت في صلاة الصبح قبل الركوع) انتهى.

كيف صار قنوت النبي (المصحح) سورتين من القرآن؟

العمل السابع : إضافة سورتي الخلع والحفد الى القرآن!

كل أصل (سورتي) الخلع والحفد هو الرواية المتقدمة التي تقول إن النبي كان يصلي ويدعو على قريش في قنوته ويلعنهم ، فنزل جبرئيل وأمره بالسكوت وقطع عليه صلاته وبلغه توبيخ الله تعالى وقال له (يا محمد إن الله لم يبعثك سبابا ولا لعانا! وإنما بعثك رحمة ولم يبعثك عذابا ، ليس لك من الأمر شىء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون. ثم علمه هذا القنوت : اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونؤمن بك ونخضع لك ونخلع ونترك من يكفرك. اللهم إياك نعبد ولك نصلّى ونسجد وإليك نسعي ونحفد ونرجو رحمتك ونخشى عذابك ونخاف عذابك الجد ، إن عذابك بالكافرين ملحق)!

وما دام جبرئيل علم ذلك للنبي فهو كلام الله تعالى ، وهو من القرآن!!

أما لما ذا صار هذا النص سورتين ببسملتين؟ فالأمر سهل ، أولا ، لأنهما فقرتان تبدأ كل منهما ب (اللهم).

وثانيا ، لأنه يجوز للخليفة عمر أن يضع آيات القرآن في سورة مستقلة! فقد قال السيوطي في الدر المنثور ج ٣ ص ٢٩٦ (وأخرج ابن اسحاق وأحمد بن حنبل وابن أبي داود عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال : أتى الحرث بن خزيمة بهاتين الآيتين من آخر براءة (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) ... الى قوله (وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) ، الى عمر فقال : من معك على هذا؟ فقال لا أدري والله إلا أني أشهد لسمعتها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووعيتها وحفظتها. فقال عمر : وأنا أشهد لسمعتها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة ، فانظروا سورة من القرآن فألحقوها ، فألحقت في آخر براءة) ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد ج ٧ ص ٣٥.

وثالثا ، لأنهم إذا أسقطوا من القرآن سورتي المعوذتين باعتبار أنهما عوذتان نزل بهما جبرئيل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ليعوذ بهما الحسن الحسين عليهما‌السلام ،

٨٧

ولم يقل له إنهما من القرآن! فلا بد لهم من وضع سورتين مكانهما لا سورة واحدة .. فيجب جعل النص قسمين!

يبقى السؤال : من الذي ارتأى أن يسمى هذا القنوت المزعوم سورتين؟ هنا تسكت الروايات عن التصريح!

ومن الذي أمر أن تضاف سورتان ركيكتان الى كتاب الله تعالى وتكتبا في المصاحف؟ هنا تسكت الروايات عن التصريح!

ولكنها تنطق صحيحة متواترة صريحة بأن الخليفة عمر هو الذي عرفهما للمسلمين بقراءته لهما في صلاة الصبح دائما أو كثيرا! إما بنية الدعاء وإما بنية سورتين من القرآن! ومن الطبيعي أن تكونا موجودتين في مصحف عمر الذي كان عند حفصة .. الى أن أحرقه مروان بن الحكم بعد وفاتها حتى لا يقال إنه يختلف عن مصحف عثمان!!

ويشك الإنسان كل الشك في نسبة السورتين المزعومتين الى مصحف ابن مسعود وابن كعب .. وإن صح شىء من ذلك فلا بد أن يكون الخليفة عمر هو الذي أقنع ابن مسعود وابن كعب بكتابتهما في مصحفيهما! وسيأتي ما ينفع في ذلك في قصة المعوذتين!

قال السيوطي في الدر المنثور ج ٦ ص ٤٢٠ :

ذكر ما ورد في سورة الخلع وسورة الحفد.

قال ابن الضريس في فضائله أخبرنا موسى بن إسماعيل أنبأنا حماد قال قرأنا في مصحف أبي بن كعب اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثنى عليك الخير ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك قال حماد هذه الآية سورة وأحسبه قال اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نخشى عذابك ونرجو رحمتك إن عذابك بالكفار ملحق.

وأخرج ابن الضريس عن عبد الله بن عبد الرحمن عن أبيه قال : صليت خلف عمر بن الخطاب فلما فرغ من السورة الثانية قال : اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير كله ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك. اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك بالكفار ملحق.

٨٨

وفي مصحف ابن عباس قراءة أبيّ وأبي موسى : بسم الله الرحمن الرحيم. اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك. وفي مصحف حجر : اللهم إنا نستعينك. وفي مصحف ابن عباس قراءة أبيّ وأبي موسى : اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد ، نخشى عذابك ونرجو رحمتك إن عذابك بالكفار ملحق.

وأخرج أبو الحسن القطان في المطولات عن أبان بن أبي عياش قال سألت أنس بن مالك عن الكلام في القنوت فقال : اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير ولا نكفرك ونؤمن بك ونترك من يفجرك اللهم إياك نعبد ولك نصلّى ونسجد واليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى عذابك الجد إن عذابك بالكفار ملحق. قال أنس والله إن أنزلتا إلا من السماء!

وأخرج محمد بن نصر والطحاوي عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب كان يقنت بالسورتين : اللهم إياك نعبد ، واللهم إنا نستعينك.

وأخرج محمد بن نصر عن عبد الرحمن بن أبزى قال قنت عمر رضي الله عنه بالسورتين.

وأخرج محمد بن نصر عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن عمر قنت بهاتين السورتين : اللهم إنا نستعينك .. واللهم إياك نعبد ..

وأخرج البيهقي عن خالد بن أبي عمران قال بينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو على مضر إذ جاءه جبرئيل فاومأ إليه أن أسكت فسكت فقال : يا محمد إن الله لم يبعثك سبابا ولا لعانا وإنما بعثك رحمة للعالمين ولم يبعثك عذابا ليس لك من الأمر شىء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ، ثم علمه هذا القنوت : اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونؤمن بك ونخضع لك ونخلع ونترك من يفجرك اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك الجد بالكفار ملحق.

وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف ومحمد بن نصر والبيهقي في سننه عن عبيد بن عمير أن عمر بن الخطاب قنت بعد الركوع فقال : بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إنا

٨٩

نستعينك ونستغفرك ونثنى عليك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك. بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد ولك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك بالكفار ملحق. وزعم عبيد أنه بلغه انهما سورتان من القرآن من مصحف ابن مسعود.

وأخرج ابن أبي شيبة ومحمد بن نصر عن ميمون بن مهران قال في قراءة أبي بن كعب اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك اللهم إياك نعبد ولك نصلّى ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك بالكفار ملحق.

وأخرج محمد بن نصر عن ابن إسحاق قال قرأت في مصحف أبي بن كعب بالكتاب الأول العتيق بسم الله الرحمن الرحيم قل هو الله أحد الى آخرها. بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الفلق الى آخرها بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الناس الى آخرها بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثنى عليك الخير ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك. بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك بالكفار ملحق. بسم الله الرحمن الرحيم اللهم لا تنزع ما تعطى ولا ينفع ذا الجد منك الجد سبحانك وغفرانك وحنانيك اله الحق (يلاحظ في هذه الرواية أن السورتين ولدتا بنتا فصرن ثلاثة).

وأخرج محمد بن نصر عن عطاء بن السائب قال كان أبو عبد الرحمن يقرئنا اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير ولا نكفرك ونؤمن بك ونخلع ونترك من يفجرك. اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى عذابك الجد إن عذابك بالكفار ملحق. وزعم أبو عبد الرحمن أن ابن مسعود كان يقرئهم إياها ويزعم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرئهم إياها.

وأخرج محمد بن نصر عن الشعبي قال قرأت أو حدثني من قرأ في بعض مصاحف أبي بن كعب هاتين السورتين : اللهم إنا نستعينك ، والأخرى ، بينهما بسم الله الرحمن الرحيم. قبلهما سورتان من المفصل وبعدهما سور من المفصل.

٩٠

وأخرج محمد بن نصر عن سفيان قال كانوا يستحبون أن يجعلوا في قنوت الوتر هاتين السورتين : اللهم إنا نستعينك واللهم إياك نعبد.

وأخرج محمد بن نصر عن إبراهيم قال يقرأ في الوتر السورتين : اللهم إياك نعبد اللهم إنا نستعينك ونستغفرك.

وأخرج محمد بن نصر عن خصيف قال سألت عطاء بن أبي رباح : أي شىء أقول في القنوت؟ قال : هاتين السورتين اللتين في قراءة أبي ، اللهم إنا نستعينك ، واللهم إياك نعبد.

وأخرج محمد بن نصر عن الحسن قال نبدأ في القنوت بالسورتين ثم ندعو على الكفار ثم ندعو للمؤمنين والمؤمنات) انتهى.

وروى في كنز العمال ج ٨ ص ٧٤ و ٧٥ و ٧٨ وغيرها ، الكثير من روايات الخلع والحفد!! منها :

(عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب كان يقنت بالسورتين اللهم إنا نستعينك ، اللهم إياك نعبد ـ ش ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة والطحاوي.

عن عبد الرحمن بن ابزى قال : صليت خلف عمر بن الخطاب الصبح ، فلما فرغ من السورة في الركعة الثانية قال قبل الركوع : اللهم إنا نستعينك ... إلخ. ـ ش وابن الضريس في فضائل القرآن ، هق وصححه.

وقال في هامشه : ملحق : الرواية بكسر الحاء : أي من نزل به عذابك ألحقه بالكفار. ويروى بفتح الحاء على المفعول : أي عذابك يلحق بالكفار ويصابون به النهاية ٤ / ٢٣٨) ب.

عن عبيد بن عمير أن عمر بن الخطاب قنت بعد الركوع في صلاة الغداة ، فقال : بسم الله الرحمن الرحيم ، اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إياك نعبد .. إلخ. وزعم عبيد أنه بلغه أنهما سورتان من القرآن في مصحف ابن مسعود ـ عب ش ومحمد ابن نصر والطحاوي هق.

٩١

عن عبد الرحمن بن ابزى أن عمر قنت في صلاة الغداة قبل الركوع بالسورتين : اللهم إنا نستعينك ، واللهم إياك نعبد ـ الطحاوي.

ثنا هشيم قال : أخبرنا حصين قال : صليت الغداة ذات يوم ، وصلّى خلفي عثمان بن زياد فقنت في الصلاة ، فلما قضيت صلاتي قال لي : ما قلت في قنوتك؟ فقلت : ذكرت هؤلاء الكلمات : اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير كله ، نشكرك ولا نكفرك ، ونخلع ونترك من يفجرك ، اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك بالكفار ملحق ، فقال عثمان : كذا كان يصنع عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان ـ ش) انتهى.

وقال ابن شبة في تاريخ المدينة ج ٣ ص ١٠٠٩ (حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا هشام ، عن محمد : أن أبيّ بن كعب كتبهن في مصحفه خمسهن : أم الكتاب والمعوذتين ، والسورتين ، وتركهن ابن مسعود كلهن ، وكتب ابن عفان فاتحة الكتاب والمعوذتين ، وترك السورتين. وعلى ما كتبه عمر رضي الله عنه مصاحف أهل الإسلام ، فأما ما سوى ذلك فمطرح ، ولو قرأ غير ما في مصاحفهم قارئ في الصلاة ، أو جحد شيئا منها استحلوا دمه بعد أن يكون يدين به) انتهى.

وتعبيره (على ما كتبه عمر) يعني أن ما كتب في عهده كان بأمره وموافقته ، وأن من قرأ سورتي الخلع والحفد لا يستحل دمه لأنهما مما كتبه عمر. والظاهر أن اسم عمر في الرواية جاء خطأ بدل اسم عثمان. فتكون فتوى باستحلال دم من يكتب سورتي الخليفة عمر في قرآنه!

روى الشافعي في كتاب الأم ج ٧ ص ١٤٨ الحديث المتقدم عن البيهقي ، أي حديث (يا محمد إن الله لم يبعثك سبابا ولا لعانا ، وسورتي الخلع والحفد) وأفتى باستحباب القنوت بهما!

وقال مالك في المدونة الكبرى ج ١ ص ١٠٣ :

(قال ابن وهب : قال لي مالك لا بأس أن يدعى الله في الصلاة على الظالم ويدعو لآخرين وقد دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصلاة لناس ودعا على آخرين (ابن وهب) عن معاوية بن صالح عن عبد القاهر عن خالد بن أبي عمران قال بينا

٩٢

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو على مضر إذ جاءه جبريل فأومأ إليه أن أسكت فسكت فقال يا محمد إن الله لم يبعثك سبابا ولا لعانا وإنما بعثك رحمة ولم يبعثك عذابا ليس لك من الأمر شىء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون قال ثم علمه القنوت : اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونؤمن بك ونخضع لك ونخلع ونترك من يكفرك. اللهم إياك نعبد ولك نصلّى ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخاف عذابك الجد إن عذابك بالكافرين ملحق) انتهى.

وقال النووي في المجموع ج ٣ ص ٤٩٣ عن القنوت (.. والسنة أن يقول : اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت ، وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت ، إنك تقضي ولا يقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، تباركت وتعاليت. لما روى الحسن بن علي رضي الله عنه قال : علمني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هؤلاء الكلمات في الوتر فقال قل : اللهم اهدني فيمن هديت .. الى آخره. وإن قنت بما روي عن عمر رضي الله عنه كان حسنا ... وهو ما روى أبو رافع قال قنت عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد الركوع في الصبح فسمعته يقول اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ولا نكفرك ونؤمن بك ونخلع ونترك من يفجرك اللهم إياك نعبد ولك نصلّى ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى عذابك أن عذابك الجد بالكفار ملحق. اللهم عذب كفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك يكذبون رسلك ويقاتلون أولياءك. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات وأصلح ذات بينهم وألف بين قلوبهم واجعل في قلوبهم الايمان والحكمة وثبتهم على ملة رسولك وأوزعهم أن يوفوا بعهدك الذي عاهدتهم عليه وانصرهم على عدوك وعدوهم آله الحق واجعلنا منهم. ويستحب أن يصلي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد الدعاء).

وقال في ص ٤٩٨ :

(ولو قنت بالمنقول عن عمر رضي الله تعالى عنه كان حسنا وهو الدعاء الذي ذكره المصنف رواه البيهقي وغيره قال البيهقي هو صحيح عن عمر واختلف الرواة في لفظه والرواية التي أشار البيهقي الى اختيارها رواية عطاء عن عبيد الله بن عمر رضي

٩٣

الله عنهم قنت بعد الركوع فقال (اللهم اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات وألف بين قلوبهم وأصلح ذات بينهم وانصرهم على عدوك وعدوهم. اللهم العن كفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك ويكذبون رسلك ويقاتلون أولياءك. اللهم خالف بين كلمتهم وزلزل أقدامهم وأنزل بهم بأسك الذي لا ترده عن القوم المجرمين. بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك. بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد ونخشى عذابك ونرجوا رحمتك إن عذابك الجد بالكفار ملحق. هذا لفظ رواية البيهقي) انتهى.

وعند ما رأى النووي أن الخليفة حصر دعاءه بكفرة أهل الكتاب ليبعد الأمر عن كفرة قريش الوثنيين ، علق بقوله (وقوله اللهم عذب كفرة أهل الكتاب ، إنما اقتصر على أهل الكتاب لأنهم الذين كانوا يقاتلون المسلمين في ذلك العصر وأما الآن فالمختار أن يقال عذب الكفرة ليعم أهل الكتاب وغيرهم من الكفار ، فإن الحاجة الى الدعاء على غيرهم أكثر والله أعلم) انتهى!

ولكن النووي نسي المنافقين الذين نسيهم الخليفة!!

وقد حاول بعض الرواة أن يقوي أمر سورتي الخلع والحفد بأن عليا عليه‌السلام أيضا وافق الخليفة عمر وقرأهما في قنوته! فقد روى السيوطي ومالك في المدونة الكبرى ج ١ ص ١٠٣ عن (.. عبد الرحمن بن سويد الكاهلي أن عليا قنت في الفجر : اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ...)! ولكنها رواية شاذة ، وقد روت مصادر إخواننا السنة عن قنوت علي ضد ذلك ، وأنه كان يدعو على خصومة المنافقين! ففي كنز العمال ج ٨ ص ٧٩ (عن إبراهيم النخعي قال : إنما كان علي يقنت لأنه كان محاربا وكان يدعو على أعدائه في القنوت في الفجر والمغرب ـ الطحاوي)

وفي ص ٨٢ (عن عبد الرحمن بن معقل قال : صليت مع علي صلاة الغداة ، فقنت فقال في قنوته اللهم عليك بمعاوية وأشياعه ، وعمرو بن العاص وأشياعه ، وأبي الأعور السلمي وأشياعه ، وعبد الله بن قيس وأشياعه ـ ش) انتهى.

٩٤

ابن حزم يفتي بأن (السورتين) كلام غير مأثور!!

قال في المحلى ج ٤ ص ١٤٨ :

... وقد جاء عن عمر رضي الله عنه القنوت بغير هذا ، والمسند أحب إلينا. فإن قيل : لا يقوله عمر إلا وهو عنده عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قلنا لهم : المقطوع في الرواية على أنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولى من المنسوب إليه عليه‌السلام بالظن الذي نهى الله تعالى عنه ورسوله عليه‌السلام. فإن قلتم ليس ظنا ، فأدخلوا في حديثكم أنه مسند فقولوا : عن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم! فان فعلتم كذبتم ، وإن أبيتم حققتم أنه منكم قول على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالظن الذي قال الله تعالى فيه (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً).

وقال في المحلى ج ٣ ص ٩١ (ويدعو المصلي في صلاته في سجوده وقيامه وجلوسه بما أحب ، مما ليس معصية ، ويسمي في دعائه من أحب. وقد دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على عصية ورعل وذكوان ، ودعا للوليد بن الوليد وعياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام ، يسميهم بأسمائهم ، وما نهى عليه‌السلام قط عن هذا ولا نهي هو عنه) انتهى.

وكلامه الأخير تكذيب لحديث الشافعي والبيهقي (يا محمد إن الله لم يبعثك سبابا ولا لعانا)!

هل نفعت كل المقويات لبقاء سورتي الخليفة؟!

أكبر نجاح حققته سورتا الخلع والحفد أنهما سببتا التشويش على سورتي المعوذتين كما سترى! وأنهما دخلتا في فقه إخواننا السنة على أنهما دعاء القنوت المأثور ، كما رأيت!

ولعل أكبر نجاح أمكن تحقيقه لهما كان على يد السلطة الأموية ، التي تبنت قراءتهما مدة لا تقل عن نصف قرن على أنهما سورتان من القرآن! حيث تدل الروايات على أنهما عاشتا بالمقويات في حكم بني أمية .. ثم ماتتا؟!

٩٥

روى السيوطي في الإتقان ج ١ ص ٢٢٧ (وأخرج الطبراني بسند صحيح عن أبي إسحاق قال : أمنا أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد بخراسان فقرأ بهاتين السورتين : إنا نستعينك ، ونستغفرك)!! انتهى.

وعند ما يقول أحد : صلّى فلان بنا فقرأ بسورتي كذا وكذا فمعناه قرأهما على أنهما قرآن ، فقرأ إحداهما في الركعة الأولى والثانية في الركعة الثانية.

ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد ج ٧ ص ١٥٧ وصححه ، قال :

(وعن أبي إسحاق قال أمنا أمية ابن عبد الله بن خالد بن أسيد بخراسان فقرأ بها من السورتين إنا نستعينك ونستغفرك قال فذكر الحديث. رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح!)

قال ابن الأثير في أسد الغابة ج ١ ص ١١٦ (وأما أمية بن عبد الله فإن عبد الملك استعمله على خراسان ، والصحيح أنه لا صحبة له .. وقد ذكر مصنّفو التواريخ والسير أمية وولايته خراسان وساقوا نسبه كما ذكرناه. وذكر أبو أحمد العسكري عتاب بن أسيد بن أبي العيص ثم قال : وأخوه خالد بن أسيد وابنه أمية بن خالد. ثم قال في ترجمة منفردة : أمية بن خالد بن أسيد ذكر بعضهم أن له رواية وقد روى عن ابن عمر).

وترجم له البخاري في تاريخه الكبير ج ٢ ص ٧ والرازي في الجرح والتعديل ج ٢ ص ٣٠١ والمزني في تهذيب الكمال ج ٣ ص ٣٣٤ وقال (عن سعيد بن عبد العزيز : دعا عبد الملك بغدائه فقال : أدع خالد ابن يزيد بن معاوية ، قال : مات يا أمير المؤمنين. قال أدع ابن أسيد ، قال : مات يا أمير المؤمنين. قال أدع روح بن زنباع ، قال : مات يا أمير المؤمنين. قال ارفع ، ارفع. قال أبو مسهر : فحدثني رجل قال : فلما ركب تمثل هذين البيتين :

ذهبت لداتي وانقضت آثارهم

وغبرت بعدهم ولست بغابر

وغبرت بعدهم فأسكن مرة

بطن العقيق ومرة بالظاهر

قال خليفة بن خياط : وفي ولاية عبد الملك ، مات أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد. وقال الحافظ أبو القاسم : بلغني أن أمية بن خالد ، وخالد بن يزيد بن معاوية

٩٦

وروح بن زنباع ، ماتوا بالصنبرة في عام واحد. وبلغني من وجه آخر أن روحا مات في سنة أربع وثمانين. وقال أبو بشر الدولابي : حدثني أحمد بن محمد بن القاسم ، حدثني أبي ، حدثني أبو الحسن المدائني ، قال : سنة سبع وثمانين ، فيها مات أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد. روى له النسائي وابن ماجة حديثا واحدا) انتهى.

ويظهر من ترجمة أمية أنه نشأ في مكة كغيره من بني أمية ، ثم وفد على عبد الملك فجعله من ندمائه وسكن في الشام حتى عدوه في الشاميين ، ثم ولاه عبد الملك خراسان .. فالقصة التي يرويها الطبراني عنه بسند صحيح كما يشهد السيوطي لا بد أن تكون بعد أكثر من نصف قرن من وفاة الخليفة عمر!!

وهذا يقوي أن تكون السلطة الأموية قد تبنت سورتي الخليفة كسورتين أصيلتين من القرآن ، وتبنت كتابتهما في المصحف بدل المعوذتين اللتين ليستا في رأيهم أكثر من عوذتين كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يعوذ بهما الحسن والحسين عليهما‌السلام ، كما سنرى!

لكن مع كل هذه الجهود الرسمية لدعم هذين النصين الركيكين ، فإن قوة القرآن الذاتية قد نفتهما عنه كما تنفي النار عن الذهب الزبد والخبث .. وتجلى بذلك أحد مصاديق قوله تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) ، وكفى الله المسلمين شر سورتي الخلع والحفد والحمد لله ، ولم يبق منهما إلا الذكرى السيئة لمن أراد أن يزيدهما على كتاب الله تعالى!! وإلا الدعاء في فقه إخواننا ، والحمد لله أنهما صارتا دعاء من الدرجة الثانية ، لأن الدعاء الذي رووه عن الإمام الحسن عليه‌السلام أبلغ منهما!

القنوت في فقه الشيعة

القنوت في فقهنا جزء مستحب مؤكد من صلاة الفريضة والنافلة ، ويدعو المصلي فيه بالمأثور أو بما جرى على لسانه ، لنفسه أو للمؤمنين ولو بأسمائهم ، ولا يجوز الدعاء على المؤمنين ولا لعنهم. ويجوز أن يدعو على ائمة الكفر والنفاق ولو بأسمائهم ، ويجوز أن يلعنهم ..

٩٧

قال المحقق الحلي المتوفي سنة ٦٢٤ في المعتبر ج ٢ ص ٢٣٨ :

(اتفق الأصحاب على استحباب القنوت في كل صلاة فرضا كانت أو نفلا مرة ، وهو مذهب علمائنا كافة ، وقال الشافعي : يستحب في الصبح خاصة بعد الركوع ، ولو نسيه سجد للسهو لأنه سنة كالتشهد الأول ، وفي سائر الصلاة إن نزلت نازلة قولا واحدا ، وإن لم تنزل فعلى قولين. وبقوله قال أكثر الصحابة ، ومن الفقهاء مالك قال : وفي الوتر في النصف الأخير من رمضان لا غير. وقال أبو حنيفة : ليس القنوت بمسنون بل هو مكروه إلا في الوتر خاصة فإنه مسنون. وقال أحمد : إن قنت في الصبح فلا بأس ، وقال : يقنت أمراء الجيوش.

لنا : أن القنوت دعاء فيكون مأمورا به لقوله تعالى (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) وقوله (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) ، ولأن الدعاء أفضل العبادات فلا يكون منافيا للصلاة ، وما رواه أحمد بن حنبل عن الفضل بن عباس قال (قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الصلاة مثنى مثنى ، وتشهد في كل ركعتين ، وتضرع ، وتخشع ، ثم تضع يديك ترفعهما الى ربك مستقبلا ببطونهما وجهك وتقول يا رب ..) وعن البراء بن عازب قال (كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يصلي صلاة مكتوبة إلا قنت فيها) ورووا عن على عليه‌السلام (أنه قنت في الصلاة المغرب على أناس وأشياعهم) وقنت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في صلاة الصبح فقال (اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين بمكة واشدد وطأتك على مضر ورعل وذكوان وأرسل عليهم سنين كسني يوسف).

ومن طريق أهل البيت عليهم‌السلام روايات ، منها رواية زرارة عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال (القنوت في كل صلاة في الركعة الثانية قبل الركوع) وروى محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام أيضا قال (القنوت في كل ركعتين في التطوع والفريضة) وروى صفوان الجمال قال (صليت مع أبي عبد الله أياما فكان يقنت في كل صلاة يجهر فيها ولا يجهر فيها) انتهى.

وهكذا تمسك الفقه الشيعي بسنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في القنوت باعتبار أنه تشريع ثابت مفتوح الى يوم القيامة ، يدعو فيه الفرد المسلم أو الحاكم المسلم إن شاء لنفسه وإخوانه ، ويدعو فيه إن شاء على المنافقين والكافرين ..

٩٨

وهكذا .. أدان الأئمة من عترة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله اتهام رسول الله من أجل تبرئة الملعونين على لسانه! وتمسكوا بشهادة الله سبحانه بحق نبيه (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى .. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) واعتقدوا بأن النبي لا يمكن أن يلعن غير المستحق .. بل تدل الروايات عن الأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام على أن لعنة الأنبياء أو بعض أنواعها تجري في ذرية الملعون ..! لأن اللعن لا يصدر منهم إلا بعد علمهم بنضوب الخير من الملعون ومن صلبه! فقد روى الكليني في الكافي ج ٥ ص ٥٦٩ (عن سدير قال : قال لي أبو جعفر ـ الإمام محمد الباقر عليه‌السلام ـ : يا سدير بلغني عن نساء أهل الكوفة جمال وحسن تبعل ، فابتغ لي امرأة ذات جمال في موضع ، فقلت : قد أصبتها جعلت فداك ، فلانة بنت فلان ابن محمد بن الأشعث بن قيس. فقال لي : يا سدير إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعن قوما فجرت اللعنة في أعقابهم الى يوم القيامة! وأنا أكره أن يصيب جسدي جسد أحد من أهل النار!) انتهى.

وفي مجمع البيان في تفسير قوله تعالى (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) وقال أبو جعفر عليه‌السلام أما داود عليه‌السلام فإنه لعن أهل أيلة لما اعتدوا في سبتهم ، وكان اعتداؤهم في زمانه ، فقال اللهم ألبسهم اللعنة مثل الرداء ومثل المنطقة على الحقوين فمسخهم الله قردة ، وأما عيسى فإنه لعن الذين أنزلت عليهم المائدة ، ثم كفروا بعد ذلك!

المؤامرة على سورتي المعوذتين!

يتضح من روايات سورتي المعوذتين في مصادر إخواننا السنة أنه كانت توجد مؤامرة لحذفهما من القرآن ، ولكنها فشلت والحمد لله ، وحفظ الله المعوذتين جزء من القرآن عند كل المسلمين! وهو سبحانه القائل (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ).

ولكن لما ذا هذه المؤامرة؟ وما هو هدفها؟ ومن هو أصلها؟!

الاحتمال الأول : أن المعوذتين لم تعجبا السليقة العامة للعرب! كما يفهم مما رواه البيهقي في سننه ج ٢ ص ٣٩٤ (عن عقبة بن عامر الجهني قال : كنت أقود برسول

٩٩

الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ناقته فقال لي : يا عقبة ألا أعلمك خير سورتين قرئتا؟ قلت بلى يا رسول الله. فأقرأني قل أعوذ برب الفلق ، وقل أعوذ برب الناس ، فلم يرني أعجب بهما فصلّى بالناس الغداة فقرأ بهما ، فقال لي : يا عقبة كيف رأيت؟ كذا قال العلاء بن كثير. وقال ابن وهب عن معاوية عن العلاء بن الحارث وهو أصح).

ثم رواه برواية أخرى جاء فيها (فلم يرني سررت بهما جدا ...).

ثم رواه برواية أخرى تدل على أن عقبة هو الذي سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عنهما ، وأن النبي أراد تأكيد أنهما من القرآن فصلّى بهما (عن عقبة بن عامر أنه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المعوذتين فأمهم بهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صلاة الفجر) انتهى.

الاحتمال الثاني : أن محاولة حذفهما من القرآن جاءت بسبب ارتباطهما بالحسن والحسين عليهما‌السلام! فقد روى أحمد في مسنده ج ٥ ص ١٣٠ (... عن زر قال قلت لأبيّ : إن أخاك يحكّهما من المصحف ، فلم ينكر! قيل لسفيان : ابن مسعود؟ قال نعم. وليسا في مصحف ابن مسعود ، كان يرى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعوذ بهما الحسن والحسين ولم يسمعه يقرؤهما في شىء من صلاته ، فظن أنهما عوذتان وأصر على ظنه ، وتحقق الباقون كونهما من القرآن فأودعوهما إياه!).

وروى نحوه ابن ماجة في سننه ولكن لم يذكر الحسن والحسين ، قال في ج ٢ ص ١١٦١ (عن أبي سعيد ، قال كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتعوذ من عين الجان ، ثم أعين الأنس ، فلما نزل المعوذتان أخذهما وترك ما سوى ذلك).

وروى الترمذي في سننه ج ٣ ص ٢٦٧ أن النبي كان (يتعوذ من الجان وعين الإنسان حتى نزلت المعوذتان ، فلما نزلت أخذ بهما وترك ما سواهما).

ورواه في كنز العمال ج ٧ ص ٧٧ عن (ت ن ه ، والضياء عن أبي سعيد).

وروى البخاري في صحيحه تعويذ النبي للحسنين عليهما‌السلام بدعاء آخر غير المعوذتين ، قال في ج ٤ ص ١١٩ (... عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعوذ الحسن والحسين ويقول إن أباكما كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق : أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة).

١٠٠