تدوين القرآن

الشيخ علي الكوراني العاملي

تدوين القرآن

المؤلف:

الشيخ علي الكوراني العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: باقري
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٧

بعد النبي ، وتدارك الخليفة عمر الأمر فجمع ما بقي منه ولم ينشره حتى يكتمل ويحين موعد نشره!

٥ ـ النسخة الموجودة برأي الخليفة لا زيادة فيها ، فكلها قرآن نزل من عند الله تعالى ، ما عدا سورتي المعوذتين وبعض الآيات ، فإن في نفس الخليفة منها شيئا ، وعنده حولها استفهاما!

٦ ـ يوجد عدد من آيات القرآن لم يكتبها الناس في القرآن ، وقد أمر الخليفة أن يكتب بعضها في القرآن واحتاط في بعضها وقال : لو لا أن يقول المسلمون إن عمر زاد في كتاب الله لأمرت بوضعها فيه!

٧ ـ القرآن نزل بألفاظ قريش ، فيجب أن يقرأ بلهجة قريش ، ولا يجوز أن يقرأ بلهجة هذيل أو تميم ، أو غيرهما من لهجات قبائل العرب.

٨ ـ القرآن فيه سعة للهجات العرب ، وهو معنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نزل القرآن على سبعة أحرف فقراءته بهذه اللهجات قراءة شرعية ، ولكن الأصح قراءته بلهجة قريش. أما القول بأن القرآن نزل على حرف واحد من عند الواحد ، فهو خطأ.

٩ ـ نص القرآن فيه مرونة تتسع لأكثر من الأحرف السبعة ولهجات العرب ، فيجوز قراءته بالمعنى بأي كلام عربي ، بشرط أن لا تغير المغفرة الى عذاب والعذاب الى مغفرة ، وكل قراءة يقرأ بها القرآن أي مسلم تكون شرعية منزلة من عند الله الواحد الأحد!

١٠ ـ تحاشيا لإحراج المفسر الرسمي للقرآن ، تقرر إغلاق كل أنواع البحث في القرآن ، ومعاقبة كل من يسأل عن شيء منه ، أو يبحث في آياته.

١١ ـ نظرا لخطورة موقع القرّاء وتعلق الناس بهم والتفافهم حولهم ، فإن كثرتهم تجعلهم مراكز قوى ، وتوجب الاختلاف بينهم .. لذلك يجب تقليل قرّاء القرآن الى أقل حد ممكن.

١٢ ـ يعمل القضاة بفهمهم للقرآن إذا لم يتعارض مع فهم الخليفة .. ثم بما أفتى به الخليفة والصحابة المرضيون عنده .. ثم يجوز للقاضي أن يعمل بظنه .. وإذا أخر القضية حتى يأخذ فيها رأي الخليفة فهو أفضل!

٦١

كما تتلخص مواقف الخليفة وقراراته بشأن السنة بخمسة قرارات ومواقف :

١ ـ منع تدوين سنة النبي منعا باتا ، تحت طائلة العقوبة ، وقد عاقب الخليفة عمر عددا من الصحابة على مجرد رواية الحديث عن النبي ، بالضرب والسجن ، وبقي عدد منهم في سجنه الى أن مات!

٢ ـ منع تدوين سنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله منعا باتا ، وهو قرار اتخذه الخليفة عمر مع زعماء قريش من زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، عند ما رأوا بعض الغرباء وبعض شباب قريش يكتبون كل ما يقوله النبي! وفي خلافة أبي بكر وخلافته جمع المكتوب من السنة وأحرقه! وأمر بإحراق المكتوب في المناطق البعيدة أو إتلافه!!

٣ ـ رفض الخليفة كتاب علي (الجامعة) الذي يزعم أنه بإملاء النبي ، وأن فيه كل ما يحتاج إليه الناس حتى أرش الخدش. بل كذّب وجود مثل هذا الكتاب ، فالنبي لم يخص عليا ولا أحدا من أهل بيته بشيء من العلم .. ولم يترك علما غير القرآن.

٤ ـ انتقى الخليفة مجموعة من روايات سيرة النبي وأحداثها من وجهة نظره ، وعمل على تعليمها للأمة على أنها السنة والسيرة الصحيحة دون غيرها!

٥ ـ رفع الخليفة شعار (سنة النبي) التي رفضها بالأمس ، وعدّل شعار (حسبنا كتاب الله) الى شعار (حسبنا كتاب الله وسنة نبيه) أي كتاب الله كما يفهمه الخليفة عمر ، وسنة رسوله التي يرويها أو يمضيها.

وهناك قراران آخران يتصلان بالقرآن أيضا ، لأنهما قراران ثقافيان واسعا التأثير على الأمة ، وهما :

١ ـ قرار الخليفة الانفتاح على الثقافة اليهودية والمسيحية.

٢ ـ اهتمام الخليفة بالشعر الجاهلي وأمره بتعلمه وكتابته.

* * *

وبما أن إخواننا السنة يرون أن أعمال الخليفة عمر وأقواله حجة شرعية ، كأعمال النبي وأقواله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لذا نستعرض في الفصول التالية توثيق هذه المواقف والقرارات.

* * *

٦٢

الفصل الرابع

نقص القرآن وزيادته

في رأي الخليفة

٦٣
٦٤

نقص القرآن وزيادته في رأي الخليفة

ضاع من القرآن أكثره برأي الخليفة!

قال السيوطي في الدر المنثور ج ٦ ص ٤٢٢ (وأخرج ابن مردويه عن عمر بن الخطاب قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : القرآن ألف ألف حرف وسبعة وعشرون ألف حرف ، فمن قرأه صابرا محتسبا فله بكل حرف زوجة من الحور العين. قال بعض العلماء هذا العدد باعتبار ما كان قرآنا ونسخ رسمه ، وإلا فالموجود الآن لا يبلغ هذه العدة).

ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد ج ٧ ص ١٦٣ وقال (رواه الطبراني في الأوسط عن شيخه محمد بن عبيد بن آدم بن أبي إياس ، ذكره الذهبي في الميزان لهذا الحديث ، ولم أجد لغيره في ذلك كلاما ، وبقية رجاله ثقات).

ورواه في كنز العمال ج ١ ص ٥١٧ ورمز له (ط ص ، عن عمر) ورواه في ج ١ ص ٥٤١ ورمز له (طس ، وابن مردويه وابو نصر السجزي في الإبانة عن عمر. قال أبو نصر : غريب الإسناد والمتن ، وفيه زيادة على ما بين اللوحين ، ويمكن حمله على ما نسخ منه تلاوة مع المثبت بين اللوحين اليوم) انتهى.

ومن المعروف أن عدد حروف القرآن ثلاث مائة ألف حرف وكسرا ، وهي لا تبلغ ثلث العدد الذي قاله عمر في الرواية ، فيكون مقصود الخليفة ضياع أكثر من ثلثي

٦٥

القرآن بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله! ولا يمكن قبول رواية السيوطي بأن ما نسخ من القرآن أكثر من الثلثين!!

وقال ابن حجر في لسان الميزان ج ٥ ص ٢٧٦ (عبيد بن آدم بن أبي أياس العسقلاني : تفرد بخبر باطل ، قال الطبراني : حدثنا محمد بن عبيد ، قال حدثنا أبي ، عن جدي ، عن حفص بن ميسرة ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : القرآن ألف ألف حرف وسبعة وعشرون ألف حرف ، فمن قرأه صابرا محتسبا كان له بكل حرف زوجة من الحور العين. قال الطبراني في معجمه الأوسط : لا يروى عن عمر إلا بهذا الإسناد) انتهى.

ولكن قول ابن حجر إن الحديث باطل ليس له مستند علمي ، بعد أن مال الهيثمي الى توثيقه وقال إن محمد بن عبيد من شيوخ الطبراني ، وبقية رجال السند ثقاة .. وبعد أن كثرت مؤيداته وهي الأحاديث التي يقول فيها الخليفة (فقد فيما فقدنا من القرآن ... أسقط فيما أسقط ... قرآن كثير ذهب مع محمد! .. رفع فيما رفع).

قال السيوطي في الدر المنثور ج ٥ ص ١٧٩ (وأخرج عبد الرزاق في المصنف عن ابن عباس قال : أمر عمر بن الخطاب مناديه فنادى إن الصلاة جامعة ، ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : يا أيها الناس لا تجزعن من آية الرجم ، فإنها آية نزلت في كتاب الله وقرأناها ، ولكنها ذهبت في قرآن كثير ذهب مع محمد ...).

وقال في كنز العمال ج ٢ ص ٥٦٧ (من مسند عمر رضي الله عنه ، عن المسور بن مخرمة قال قال عمر لعبد الرحمن بن عوف : ألم نجد فيما أنزل علينا أن جاهدوا كما جاهدتم أول مرة؟ فإنا لم نجدها ، قال : أسقط فيما أسقط من القرآن). وقال في رواية أخرى : .. فرفع فيما رفع!

وفي ج ٦ ص ٢٠٨ (عن عدي بن عدي بن عميرة بن فروة ، عن أبيه ، عن جده أن عمر بن الخطاب قال لأبيّ : أو ليس كنا نقرأ من كتاب الله أن انتفاءكم من آبائكم كفر بكم؟ فقال بلى ، ثم قال : أو ليس كنا نقرأ الولد للفراش وللعاهر الحجر ، فقد فيما فقدنا من كتاب الله؟ قال : بلى!) انتهى.

٦٦

سور ضاعت ، وسور مبتكرة ، وسور يجب حذفها!

سورة الأحزاب ، ضاع منها أكثر من ٢٠٠ آية!

روى في كنز العمال ج ٢ ص ٤٨٠ (من مسند عمر رضي الله عنه ، عن حذيفة قال قال لي عمر بن الخطاب : كم تعدون سورة الأحزاب؟ قلت ثنتين أو ثلاثا وسبعين ، قال : إن كانت لتقارب سورة البقرة ، وإن كان فيها لآية الرجم ـ ابن مردويه).

وروى نحوه أحمد في مسنده ج ٥ ص ١٣٢ ، ولكن عن أبي بن كعب.

وكذا الحاكم في المستدرك ج ٢ ص ٤١٥ ، وج ٤ ص ٣٥٩ وقال في الموردين (هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه). ورواه البيهقي في سننه ج ٨ ص ٢١١ كما في رواية الحاكم الثانية.

وروى في كنز العمال ج ٢ ص ٥٦٧ (عن زر قال قال لي أبيّ بن كعب : يا زر كأين تقرأ سورة الأحزاب؟ قلت ثلاثا وسبعين آية ، قال : إن كانت لتضاهي سورة البقرة ، أو هي أطول من سورة البقرة ، وإن كنا لنقرأ فيها آية الرجم. وفي لفظ : وإن في آخرها الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم ، فرفع فيما رفع (عب ط ص عم ، وابن منيع ن ، وابن جرير وابن المنذر ، وابن الأنبارى في المصاحف ، قط في الإفراد ، ك وابن مردويه ، ص).

ورواه السيوطي في الدر المنثور ج ٥ ص ١٨٠ ، ثم قال (وأخرج ابن الضريس عن عكرمة قال : كانت سورة الأحزاب مثل سورة البقرة أو أطول ، وكان فيها آية الرجم) انتهى.

وبما أن سورة البقرة ٢٨٦ آية ، فيكون الناقص من سورة الأحزاب حسب هذه الرواية أكثر من ٢٠٠ آية!!

سورة براءة ضاع أكثرها ..!!

قال الهيثمي في مجمع الزوائد ج ٥ ص ٣٠٢ :

(وعن أبي موسى الأشعري قال نزلت سورة نحوا من براءة فرفعت فحفظت منها إن الله ليؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم ـ فذكر الحديث. رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير علي بن زيد وفيه ضعف ، ويحسن حديثه لهذه الشواهد).

٦٧

وقال في ج ٧ ص ٢٨ :

(عن حذيفة قال تسمون سورة التوبة هي سورة العذاب وما تقرءون منها مما كنا نقرأ إلا ربعها. رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات).

وقال الحاكم في المستدرك ج ٢ ص ٣٣٠ :

(... عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن عبد الله بن سلمة عن حذيفة رضي الله عنه قال ما تقرءون ربعها يعني براءة وإنكم تسمونها سورة التوبة وهي سورة العذاب هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه).

وقال السيوطي في الدر المنثور ج ١ ص ١٠٥ :

(وأخرج أبو عبيد في فضائله وابن الضريس عن أبي موسى الأشعري قال نزلت سورة شديدة نحو براءة في الشدة ثم رفعت وحفظت منها أن الله سيؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم!).

وقال في ج ٣ ص ٢٠٨ :

(وأخرج ابن أبي شيبة والطبراني في الأوسط وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه عن حذيفة رضي الله عنه قال التي تسمون سورة التوبة هي سورة العذاب والله ما تركت أحدا إلا نالت منه ولا تقرءون منها مما كنا نقرأ إلا ربعها!!) انتهى.

والظاهر أن أصل ادعاء هذه السورة من أبي موسى الأشعري ، وأن آيات وادي التراب المزعومة منسوبة إليها! وأما آية أبي موسى عن تأييد الدين بالفجار فقد يكون هدفها تبرير إعطاء مناصب الدولة الى المنافقين والفساق!!

ولا بد أن تكون هذه السورة المزعومة موجودة في مصحف أبي موسى الذي صادره منه حذيفة بأمر الخليفة عثمان وكان أبو موسى يترجاه أن يترك له الإضافات ولا يمحوها ، وسيأتي ذكره في بحث جمع القرآن!

وهذا يضعف رواية نقص سورة براءة عن حذيفة ، وإن صحت عنه فقد يكون قال : إنكم لا تقرءونها حق قراءتها ، فحرف الرواة كلامه .. لأن حذيفة كان يحذر من المنافقين الذين كشفتهم السورة وحذرت منهم!!

٦٨

سورتا الخلع والحفد المزعومتان!

من أعجب ما تجد في مصادر إخواننا السنة قصة (سورتي) الخلع والحفد ..! وقد ربطتهما الروايات الصحيحة بالخليفة عمر ، حيث كان يقرؤهما في صلاته على أنهما سورتان من القرآن ، أو دعاء في القنوت! وذكرت المصادر أنهما كتبتا في مصاحف عدد من الصحابة المقربين من الخليفة عمر ، والمتتبع لمسألة الكتابة في المصاحف يعرف أن أحدا من أصحاب المصاحف لم يكن يجرأ أن يكتب سورة في مصحفه إلا بأمر عمر ورأيه ..! ويشعر أن الذي أعطى السورتين (الشرعية) هو عمر بقراءته لهما في صلاته .. وأن بعض الصحابة الذين كانوا يؤكدون على أنهما سورتان من القرآن ، كانوا يتقربون بذلك الى الخليفة!!

وقد روى الرواة قصتهما ، وأحيانا بشيء من الخجل ، ولكن بدون توجيه أي اتهام أو حتى استفهام الى الخليفة الذي كان يقرؤهما دائما في صلاته ، أو الى الذين كتبوهما في مصاحفهم من جماعته!

ولو أن أحدا غير الخليفة وجماعته روى سورة غير موجودة في القرآن ، أو قرأها في إمامته في الصلاة ، لكان للرواة أصحاب الغيرة على القرآن كلام آخر معه ، وحساب آخر ، ولكنه الخليفة عمر!

ويتوقف فهم قصة (سورتي) الخلع والحفد أو سورتي الخليفة عمر ، على معرفة قصة قنوت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ودعائه في قنوته على أئمة الكفر وقادة الأحزاب ، الذين هم بالدرجة الأولى زعماء قريش ، ثم على بقية أعداء الله ورسوله من المشركين والمنافقين .. لذلك نحن مضطرون الى بحث القنوت في فقه الشيعة والسنة .. ليتضح أمر السورتين المزعومتين.

٦٩

قصة تغييب القنوت من صلاة إخواننا السنة

لتضمنه الدعاء على المشركين والمنافقين

من المعروف في سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه كان يقنت في صلاته ، أي يرفع يديه أثناء الصلاة ويدعو الله تعالى .. وقد يدعو على أعداء الله ورسوله من المشركين والمنافقين ، وقد يلعنهم ويسميهم بأسمائهم ..!

ومن الطبيعي أن ذلك كان ثقيلا عليهم ، خاصة على رؤساء قريش ..!

وتذكر روايات السيرة أن الله تعالى استجاب دعاء رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنزل بقريش ضائقة اقتصادية ألقت بثقلها على مكة ، حتى أكلوا العلهز أو العلهس الذي كانوا يضطرون لأكله أحيانا في الجاهلية ، وهو وبر الجمال يخلطونه بالدم ويشوونه ويأكلونه!!

ولكنهم مع ذلك لم يؤمنوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .. اللهم إلا بعد أن نزل بساحتهم مباغتة في عشرة آلاف مقاتل من المسلمين ، فاضطروا الى التسليم وإلقاء السلاح ، فجمعهم النبي في المسجد الحرام وخيرهم بين الإسلام والقتل ، فأسلموا تحت السيف أو استسلموا ، فعفا عنهم وسماهم الطلقاء .. وبعد أسبوع أخذهم معه كجزء من جيشه الى حرب هوازن في حنين! ومع أنهم انهزموا في أول المعركة .. إلا أن النبي أكرمهم ماديا وأعطاهم أكثر غنائم حنين!

وهكذا انحلت بفتح مكة أزمة قريش الاقتصادية ، كما انحلت مشكلة لعن النبي إياهم بأسمائهم ، وإن بقيت ذكراها تاريخا يطاردهم وعقدة تتراءى لهم!

وعين النبي حاكما على مكة ، وأطمع شخصيات قريش بأنهم يستطيعون أن يأخذوا مواقع قيادية في دولة الإسلام ، فهاجر قليل منهم الى المدينة ، وبقي أكثرهم في مكة ، وبدءوا ينسون مرارة الهزيمة بحلاوة الطمع ، لو لا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله واصل دعاءه على المنافقين والمشركين عامة ولعنهم ، لكن بدون تسمية!!

٧٠

وطال أمر مشكلة القنوت واللعن نحو سنتين بعد فتح مكة الى وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .. كان لله تعالى ولرسوله خلالها مع المنافقين آيات وقرارات ، بلغت أوجها في سورة براءة التي سموها السورة الفاضحة ، لأنها فضحت نواياهم وأفكارهم ونفذت إلى أعماقهم ، ورسمت صورا لمجموعاتهم وأشخاصهم .. فلم يبق إلا إعلان أسمائهم!!

محاولات عمر وقريش لحل مشكلة الملعونين على لسان النبي!

بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قام محبو قريش والمنافقين بأعمال مبتكرة لمعالجة مشكلة الملعونين على لسان النبي ، تتلخص في الأعمال السبعة التالية :

العمل الأول : وضعوا أحاديث مفادها أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد اعترف بخطئه في لعن الذين لعنهم ودعا عليهم ، لأنه بشر! فدفع كفارة خطئة بأن دعا الله تعالى أن يجعل لعنته على من لعنه أو سبه أو آذاه (صلاة وقربة ، زكاة وأجرا ، زكاة ورحمة ، كفارة له يوم القيامة ، صلاة وزكاة وقربة تقربه بها يوم القيامة ، مغفرة وعافية وكذا وكذا .. بركة ورحمة ومغفرة وصلاة ، فإنهم أهلي وأنا لهم ناصح) على حد تعبير الروايات!

فقد روى البخاري في صحيحه ج ٧ ص ١٥٧ (عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : اللهم فأيما مؤمن سببته فاجعل ذلك له قربة اليك يوم القيامة). وروى مسلم في صحيحه ج ٨ ص ٢٦ عن أبي هريرة أيضا (سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : اللهم إنما محمد بشر يغضب كما يغضب البشر ، وإني قد اتخذت عندك عهدا لن تخلفنيه ، فأيما مؤمن آذيته أو سببته أو جلدته فاجعلها له كفارة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة).

وروى مسلم سبع روايات أخرى من هذا النوع. وروت ذلك أغلب مصادر إخواننا مثل : مسند أحمد ج ٢ ص ٣٩٠ وص ٤٨٨ وص ٤٩٦ وج ٣ ص ٣٨٤ وج ٥ ص ٤٣٧ وص ٤٣٩ وج ٦ ص ٤٥ وسنن الدارمي ج ٢ ص ٣١٤ وسنن البيهقي ج ٧ ص ٦٠ وكنز العمال ج ٣ ص ٦٠٩ .. في عشرات الروايات التي تصور النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله جالسا على كرسي الاعتراف بأنه سبّاب لعّان فحّاش ،

٧١

مؤذ للناس يضربهم بالسوط ويهينهم! ولذا فهو يعلن توبته ويدعو لمن ظلمهم وأساء إليهم من الفراعنة والأبالسة ، بهذا الخير الطويل العريض!!

وقد حيّرت هذا الروايات بعض الفقهاء مثل البيهقي .. لأن لعن الذين لعنهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ما دام بأمر الله تعالى فهو طاعة وليس معصية ، لأن الطرد من رحمة الله تعالى إنما هو جزاء من الله ورسوله تابع لقوانين عادلة يتحمل مسئوليتها الملعون نفسه ، فلا يحتاج لعنه الى توبة .. كما لا يجوز الدعاء له بالخير والبركة الرحمة ..

وقد نصت بعض روايات اللعن والدعاء على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال والله ما أنا قلته ولكن الله قاله كما في مسند أحمد ج ٤ ص ٤٨ وص ٥٧ وص ٤٢٠ وص ٤٢٤ ومجمع الزوائد ج ١٠ ص ٤٦ وكنز العمال ج ١٢ ص ٦٨ ومستدرك الحاكم ج ٤ ص ٨٢.

أما إذا كان اللعن بسبب غضب وخطأ بشري كما تقول الروايات ، فهو معصية كبيرة توجب خروج صاحبها عن العدالة ، بل تجعله هو ملعونا! فقد نصت على ذلك روايات رواها إخواننا السنة أيضا .. منها أن لعن المؤمن كقتله ، ومنها إن اللعنة إذا خرجت من في صاحبها نظرت فإن وجدت مسلكا في الذي وجهت إليه ، وإلا عادت الى الذي خرجت منه. وقد عقدت بعض مصادر الحديث عندهم بابا لروايات النهي عن اللعن وتحريمه ، كما في كنز العمال ج ٣ ص ٦١٤ و ٦١٦ وغيره.

ولكن البيهقي استطاع أن يجد حلا يحفظ كرامة نبيه كما حفظت هذه الروايات كرامة الملعونين! قال في سننه ج ٧ ص ٦٠ (باب ما يستدل به على أنه جعل سبه للمسلمين رحمة وفي ذلك كالدليل على أنه له مباح) انتهى! يعني أن اعتراف النبي بأنه لعن أناسا بغير حق ، أو دعا عليهم بغير حق ، أمر ثابت ، ولا يمكن انسجامه مع عصمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلا بالقول بأن الله قد أحل لنبيه هذه المحرمات .. وأطلق لسان نبيه ويده في أعراض المسلمين!! وبقيت على أمته حراما!!

لقد قدم البيهقي حلا للجانب الفقهي من المسألة .. ولكن لم يقدم هو ولا غيره حلا لمحذورها الأخلاقي ، الذي يدعي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد ارتكب مثل هذا السلوك السيئ ، الذي لا يليق بشخص عادي من أسرة عادية مؤدبة!! بل ولم يقدم حلا للمحذور الأخلاقي بالنسبة الى الله سبحانه وتعالى الذي أحل لنبيه هذا السلوك!!

٧٢

ولكن إخواننا السنة يجدون أنفسهم مضطرين الى نسبة هذا النقص الأخلاقي الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله! لأنه الضريبة الوحيدة لتبرئة من يحبونهم من الملعونين على لسانه!

والعمل الثاني : من أعمال معالجة اللعن ، أحاديث أكثر جرأة على مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لأنها تصرح بأن النبي قد أخطأ وأساء الأدب في لعنه من لعن! فبعث الله تعالى إليه جبرئيل فوبخه وقال له : إن الله يقول لك إني لم أبعثك سبّابا! بل بعثتك رحمة للعالمين ، والقرشيون قومك وأهلك أولى بالرحمة الإلهية ، فلما ذا تسبهم وتلعنهم؟! وعلمه دعاء عاما يقوله في قنوته ليس فيه ما يمس قريش! وكان ذلك الدعاء (سورتي) الخلع والحفد العمريتين!!

ف (السورتان) عند أصحابهما نسخة إلهية بدل دعاء اللعن والسب غير المناسب الذي كان يتلوه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في قنوت صلاته .. وعند الباحث نسخة موضوعة لمصلحة زعماء قريش والمنافقين بدل الدعاء عليهم ولعنهم!

قال البيهقي في سننه ج ٢ ص ٢١٠ (.. عن خالد بن أبي عمران قال : بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو على مضر (يعني قريش) إذ جاءه جبرئيل فأومأ اليه أن اسكت فسكت ، فقال : يا محمد إن الله لم يبعثك سبّابا ولا لعّانا! وإنما بعثك رحمة ولم يبعثك عذابا ، ليس لك من الأمر شىء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون. ثم علمه هذا القنوت : اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونؤمن بك ونخضع لك ونخلع ونترك من يكفرك. اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد ونرجو رحمتك ونخشى عذابك ونخاف عذابك الجد ، إن عذابك بالكافرين ملحق) ثم قال البيهقي (هذا مرسل وقد روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه صحيحا موصولا.

... عن عبيد بن عمير أنه عمر رضي الله عنه قنت بعد الركوع فقال : اللهم اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات وألف بين قلوبهم وأصلح ذات بينهم وانصرهم على عدوك وعدوهم اللهم ألعن كفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك ويكذبون رسلك ويقاتلون أوليائك اللهم خالف بين كلمتهم وزلزل أقدامهم وأنزل بهم بأسك الذي لا ترده عن القوم المجرمين.

٧٣

بسم الله الرحمن الرحيم. اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثنى عليك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك.

بسم الله الرحمن الرحيم. اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد ولك نسعي ونحفد ونخشى عذابك الجد ونرجو رحمتك ، إن عذابك بالكافرين ملحق. رواه أبو سعيد بن عبد الرحمن ابن أبزى عن أبيه عن عمر فخالف هذا في بعضه.

... عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه قال صليت خلف عمر بن الخطاب رضي الله عنه صلاة الصبح فسمعته يقول بعد القراءة قبل الركوع اللهم اياك نعبد ولك نصلّى ونسجد وإليك نسعي ونحفد نرجو رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك بالكافرين ملحق. اللهم انا نستعينك ونستغفرك ونثنى عليك الخير ولا نكفرك ونؤمن بك ونخضع لك ونخلع من يكفرك كذا قال قبل الركوع. وهو إن كان اسنادا صحيحا فمن روى عن عمر قنوته بعد الركوع أكثر ...) انتهى!

العمل الثالث : أحاديث تفسير قوله تعالى (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) ـ آل عمران ـ ١٢٨

فإنك تجد العجب في تفسير إخواننا السنة لهذه الآية .. فالروايات فيها من كل حدب وصوب في رد أفكار النبي وآلامه من طغاة قريش وتخطئته في دعائه عليهم ولعنه إياهم! وكأن أصحاب هذه الروايات وجدوا بغيتهم من القرآن ضد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لمصلحة مشركي قريش ومنافقيها .. قال الترمذي في ج ٤ ص ٢٩٥ (... عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد : اللهم العن أبا سفيان ، اللهم العن الحارث بن هشام ، اللهم العن صفوان بن أمية ، قال فنزلت (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ، أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) فتاب عليهم فأسلموا وحسن إسلامهم!! هذا حديث حسن غريب يستغرب من حديث عمر بن حمزة عن سالم ، وكذا رواه الزهري عن سالم عن أبيه.

... عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يدعو على أربعة نفر فأنزل الله تبارك وتعالى (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ)

٧٤

فهداهم الله للإسلام! هذا حديث حسن غريب صحيح يستغرب من هذا الوجه من حديث نافع عن ابن عمر. ورواه يحيى بن أيوب عن ابن عجلان) انتهى.

أما البخاري فقد عقد للآية أربعة أبواب! روى فيها كلها أن الله تعالى رد دعاء نبيه على المشركين والمنافقين أو لعنه لهم ، ولم يسم البخاري الملعونين في أكثرها حفظا على (كرامتهم)! قال في ج ٥ ص ٣٥ :

باب (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ). قال حميد وثابت عن أنس : شجّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد فقال كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟ فنزلت : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ).

... عن الزهري حدثني سالم عن أبيه أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا رفع رأسه من الركوع من الركعة الأخيرة من الفجر يقول اللهم العن فلانا وفلانا وفلانا بعد ما يقول سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ، فأنزل الله عزوجل : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) الى قوله (فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ).

وقال في ص ١٧١ :

(باب (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) ... سالم عن أبيه أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الآخرة من الفجر يقول اللهم العن فلانا وفلانا بعد ما يقول سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ، فأنزل الله (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) الى قوله (فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ). رواه إسحاق بن راشد عن الزهري).

ثم أورد البخاري رواية أخرى تجعل فلانا وفلانا الملعونين أحياء من قبائل العرب وليسوا قادة من قريش!! قال :

... عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا أراد أن يدعو على أحد أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع فربما قال إذا قال سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد ، اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة ، اللهم أشدد وطأتك على مضر واجعلها سنين كسي يوسف ، يجهر بذلك. وكان يقول في بعض صلاته في صلاة الفجر اللهم العن فلانا وفلانا لأحياء من العرب حتى أنزل الله : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) ... الآية).

٧٥

وقال في ج ٨ ص ١٥٥ :

(باب قول الله تعالى (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) ... عن ابن عمر أنه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في صلاة الفجر رفع رأسه من الركوع قال اللهم ربنا ولك الحمد في الأخيرة ، ثم قال : اللهم العن فلانا وفلانا. فأنزل الله عزوجل (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) انتهى.

والمرة الوحيدة التي سمى فيها البخاري بعض الملعونين رواية رواها عن ابن أبي سفيان! ومن الطبيعي أن يحذف منها اسم أبيه!! قال في ج ٥ ص ٣٥ :

(وعن حنظلة بن أبي سفيان قال سمعت سالم بن عبد الله يقول كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو على صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحرث بن هشام فنزلت : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) الى قوله (فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ).

وأورد في ج ٧ ص ١٦٤ روايات يوهم تسلسلها أن الآية نزلت ردا على دعاء النبي على أبي جهل ، مع أن أبا جهل قتل في بدر والآية نزلت على أقل تقدير بعد بدر بسنة! قال البخاري :

(باب الدعاء على المشركين. وقال ابن مسعود قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف وقال اللهم عليك بأبي جهل. وقال ابن عمر دعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصلاة اللهم العن فلانا وفلانا حتى أنزل الله عزوجل (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ!) ..

... عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا قال سمع الله لمن حمده في الركعة الآخرة من صلاة العشاء قنت اللهم أنج عياش بن ربيعة اللهم أنج الوليد بن الوليد اللهم أنج سلمة بن هشام اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين. اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها سنين كسني يوسف) انتهى.

والنتيجة من روايات البخاري فقط أن الآية نزلت عدة مرات .. من أجل أشخاص أو فئات متعددين .. وفي أوقات متفاوتة!! أما إذا جمعنا أسباب نزولها عند البخاري وغيره ، فقد تبلغ عشرين مناسبة متناقضة في الزمان والمكان والأشخاص الملعونين!! راجع سنن النسائي ج ٢ ص ٢٠٣ ومسند أحمد ج ٢ ص ٩٣ و ١٠٤ و ١١٨ و ١٤٧ و ٢٥٥

٧٦

وسنن الدارمي ج ١ ص ٣٧٤ وسنن البيهقي ج ٢ ص ١٩٧ وكنز العمال ج ٢ ص ٣٧٩ والدر المنثور ج ٢ ص ٧٠.

ولكن مسلما كان أقل تشددا من البخاري فقد روى أن نهي الله لرسوله عن لعن قريش تأخر عدة سنوات .. وأن الآية نزلت بعد غزوة بئر معونة وشهادة قراء القرآن .. قال في ج ٢ ص ١٣٤ :

... سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف انهما سمعا أبا هريرة يقول كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول حين يفرغ من صلاة الفجر من القراءة ويكبر ويرفع رأسه سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ثم يقول وهو قائم اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين. اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم كسني يوسف. اللهم العن لحيان ورعلا وذكوان وعصية عصت الله ورسوله. ثم بلغنا انه ترك ذلك لما أنزل (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ).

ثم برأ مسلم ذمته فقال وأروي رواية أخرى ليس فيها ذكر نزول الآية .. قال :

... عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الى قوله واجعلها عليهم كسني يوسف ولم يذكر ما بعده!! ...

عن أبي سلمة أن أبا هريرة حدثهم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قنت بعد الركعة في الصلاة شهرا إذا قال سمع الله لمن حمده يقول في قنوته اللهم أنج الوليد بن الوليد اللهم نج سلمة ابن هشام اللهم نج عياش بن أبي ربيعة اللهم نج المستضعفين من المؤمنين ، اللهم اشدد وطأتك على مضر ، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف. قال أبو هريرة ثم رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ترك الدعاء بعد ، فقلت أرى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد ترك الدعاء لهم؟ قال فقيل وما تراهم قد قدموا؟!

ثم برأ مسلم ذمته مرة أخرى فقال : ... عن أبي سلمة أن أبا هريرة أخبره أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينما هو يصلي العشاء إذ قال سمع الله لمن حمده ثم قال قبل أن يسجد : اللهم نج عياش بن أبي ربيعة ، ثم ذكر بمثل حديث الأوزاعي الى قوله كسني يوسف ولم يذكر ما بعده!!

٧٧

ثم روى مسلم رواية تنفى أن النبي ترك لعن الكفار من صلاته الى آخر حياته! فقال :

(... حدثنا أبو سلمة بن عبد الرحمن أنه سمع أبا هريرة يقول والله لأقربن بكم صلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكان أبو هريرة يقنت في الظهر والعشاء الآخرة وصلاة الصبح ويدعو للمؤمنين ويلعن الكفار) انتهى.

العمل الرابع : الفتوى بالجنة للمنافقين!

عند ما تقرأ القرآن تجد فراعنة قريش والمنافقين وجودا بارزا خطيرا بشخصياتهم ومواقفهم وخططهم ضد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ودعوته ودولته وأمته ..

لكن عند ما تقرأ السيرة والحديث في مصادر إخواننا السنة تجد الصورة تخف .. وتصغر .. وتخفى ملامحها .. وأحيانا تغيب كليا .. فتحتاج الى بحث وتنقيب لتعرف من هذا الشخص أو الجماعة الذين نزلت فيهم هذه الآية أو الآيات الكاسحة ..! ومن هؤلاء الجهنميون الخبثاء الذين حذر الله تعالى منهم واعتبرهم مجرمين على مستوى الأمم والشعوب ..؟! لقد اختفوا وغابوا ، كما غاب قنوت النبي بالدعاء عليهم ولعنهم!

قد يقال إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يعرفهم أو يعرف أكثرهم بما علمه الله تعالى ، فكانوا في عصره معروفين مميزين .. أما بعد وفاته وانقطاع الوحي فقد صار أمرهم الى الله تعالى ..

ولكن لو سلمنا ذلك ، فإنا نسأل عن أولئك الذين كانوا مكشوفين في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أين صاروا ، ولما ذا اختفوا ..؟! وأين غاب أبطال الكفر والنفاق في تاريخ البعثة والمرحلة المكية والمدنية وأحداث نزول القرآن ..؟! ونسأل عن أسماء الذين كان يدعو عليهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في صلاته طوال نبوته تقريبا ، وعن الذين ضاق بهم صدره الرحب ، ولم يسعهم حلم الله العظيم ، فكشفهم النبي وسماهم في المسجد واحدا واحدا وطرد بعضهم من مسجده .. وقال لآخرين منهم في أنفسهم قولا بليغا؟ لقد اختفى أكثر تاريخ مشركي قريش ومنافقيها من المصادر .. ولعله لو لا آيات القرآن القارعة الهادرة لكان اختفى كل تاريخهم ..!

٧٨

إنها ظاهرة ذات دلالة على وجود موقف مقصود مدروس في التغطية على تاريخ القرشيين أعداء الله ورسوله بالأمس ، والمنافقين اليوم .. لأنهم جميعا صاروا من شخصيات مجتمع المدينة ، عاصمة الدولة الإسلامية الكبرى!!

فقد صدر قرار قبول المنافقين واعتبارهم مسلمين من أهل الجنة ، وكتبوا تحته توقيع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فظهرت الروايات التي تشهد بذلك!

ومن أجل عيون مشركي قريش ومنافقيها صدرت الفتاوي باستحقاق منافقي المدينة من غير قريش لدخول الجنة!!

روى أحمد في مسنده ج ٣ ص ١٣٥ قصة مالك بن الدخشم الذي كان رأس المنافقين بعد ابن أبي سلول فقال (فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي وأصحابه يتحدثون بينهم ، فجعلوا يذكرون ما يلقون من المنافقين فأسندوا أعظم ذلك الى مالك بن دخشم ، فانصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ فقال قائل بلى وما هو من قلبه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من شهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، فلن تطعمه النار أو قال لن يدخل النار) ونحوه في ج ٥ ص ٤٤٩!!

أما في ج ٤ ص ٤٤ فاكتف الرواية بشهادة التوحيد فقط دون النبوة! قال (ذكروا المنافقين وما يلقون من أذاهم وشرهم حتى صيروا أمرهم الى رجل منهم يقال له مالك بن الدخشم وقالوا : من حاله ومن حاله ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ساكت ، فلما أكثروا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟ فلما كان في الثالثة قالوا إنه ليقوله ، قال : والذي بعثني بالحق لئن قالها صادقا من قلبه لا تأكله النار أبدا! قالوا فما فرحوا بشيء قط كفرحهم بما قال!) انتهى!

إذن يكفي لضمان الجنة أن يشهد الشخص بالتوحيد ، ولا يضره أن يكون كافرا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو منافقا يكيد للإسلام ورسوله وأمته!

وقد احتاط البخاري وغيره قليلا في ضمان الجنة للمنافق ، فاشترطوا أن يشهد شهادة التوحيد يريد بها وجه الله تعالى! ثم لا مانع بعد ذلك أن يكفر برسول الله ويقصد بأعماله وجه الشيطان! فقد روى في صحيحه رواية ابن الدخشم وغيره في ج ٢

٧٩

ص ٥٦ وج ٦ ص ٢٠٢ وفيهما أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال (فإن الله قد حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله) وروى أحمد نحوه في مسنده ج ٤ ص ٤٤! أما مسلم فلم يستعمل الاحتياط هنا بل روى في صحيحه ج ١ ص ١٢٢ كيفية نجاة المنافقين يوم القيامة ودخولهم الجنة ، يوم (يتجسد!) الله سبحانه وتعالى و (يضحك!) للمؤمنين والمنافقين ويمشي أمامهم .. الخ! قال مسلم (أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل عن الورود فقال ... فتدعى الأمم بأوثانها وما كانت تعبد الأول فالأول ، ثم يأتينا ربنا بعد ذلك فيقول من تنظرون؟ فيقولون : ننظر ربنا. فيقول أنا ربكم ، فيقولون حتى ننظر إليك ، فيتجلى لهم يضحك! قال فينطلق بهم ويتبعونه ويعطي كل إنسان منهم منافق أو مؤمن نورا ، ثم يتبعونه وعلى جسر جهنم كلاليب وحسك تأخذ من شاء الله ، ثم يطفأ نور المنافقين ، ثم ينجو المؤمنون فتنجو أول زمرة وجوههم كالقمر ليلة البدر سبعون ألفا لا يحاسبون ، ثم الذين يلونهم كأضوأ نجم في السماء ، ثم كذلك. ثم تحل الشفاعة ويشفعون حتى يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة ، فيجعلون بفناء الجنة ويجعل أهل الجنة يرشون عليهم الماء حتى ينبتوا نبات الشيء في السيل ويذهب حراقه ، ثم يسأل حتى تجعل له الدنيا وعشرة أمثالها معها) انتهى.

ومع أن خير هذه الأحاديث شمل المنافقين من أهل المدينة ، لكن المقصود بها بالأساس مشركوا قريش ومنافقوها .. فقد أكد الخليفة عمر أن الظالم من قريش مغفور له ويدخل الجنة! روى الذهبي في ميزان الاعتدال ج ٣ ص ٣٥٥ (عن أبي عثمان النهدي ، سمعت عمر ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : سابقنا سابق ، ومقتصدنا ناج ، وظالمنا مغفور له!) وهو يقصد بذلك قريشا.

وقال السيوطي في الدر المنثور ج ٥ ص ٢٥١ (وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر والبيهقي في البعث عن عمر بن الخطاب انه كان إذا نزع بهذه الآية (ثم أورثنا الكتاب ...) قال : ألا أن سابقنا سابق ، ومقتصدنا ناج ، وظالمنا مغفور له!!

وأخرج العقيلي وابن لال وابن مردويه والبيهقي من وجه آخر عن عمر بن الخطاب سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : سابقنا سابق ، ومقتصدنا ناج ، وظالمنا مغفور له ، وقرأ عمر فمنهم ظالم لنفسه ... الآية) انتهى.

٨٠