تدوين القرآن

الشيخ علي الكوراني العاملي

تدوين القرآن

المؤلف:

الشيخ علي الكوراني العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: باقري
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٧

ويليهم في الاعتبار بقية العلماء غير المقلدين ، فهم يعبرون عن رأي الشيعة نسبيا .. وتبقى الكلمة الفصل في تصويب آرائهم وأفكارهم لمراجع التقليد.

وقد صدرت فتاوى علماء الشيعة في عصرنا جوابا على تهمة الخصوم فأجمع مراجعهم على أن اتهام الشيعة بعدم الاعتقاد بالقرآن افتراء عليهم وبهتان عظيم ، وأن الشيعة يعتقدون بسلامة هذا القرآن وأنه القرآن المنزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دون زيادة أو نقيصة ..

وهذه نماذج من فتاوى عدد من فقهاء الشيعة الماضين والحاضرين ننقلها ملخصة من كتاب (البرهان على صيانة القرآن) للسيد مرتضى الرضوي ص ٢٣٩ فما بعدها :

رأي الشيخ الصدوق :

(اعتقادنا أن القرآن الذي أنزله الله على نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله هو ما بين الدفتين ، وهو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك ، ومبلغ سوره عند الناس مائة وأربع عشرة سورة ، وعندنا أن الضحى وأ لم نشرح سورة واحدة ، ولإيلاف وأ لم تر كيف سورة واحدة (يعني في الصلاة) ومن نسب إلينا أنا نقول أكثر من ذلك فهو كاذب).

رأي الشيخ المفيد :

(وأما الوجه المجوز فهو أن يزاد فيه الكلمة والكلمتان والحرف والحرفان ، وما أشبه ذلك مما لا يبلغ حد الإعجاز ، ويكون ملتبسا عند أكثر الفصحاء بكلم القرآن ، غير أنه لا بد متى وقع ذلك من أن يدل الله عليه ، ويوضح لعباده عن الحق فيه. ولست أقطع على كون ذلك ، بل أميل الى عدمه وسلامة القرآن عنه).

رأي الشريف المرتضى :

(المحكي أن القرآن كان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مجموعا مؤلفا على ما هو عليه الآن ، فإن القرآن كان يحفظ ويدرس جميعه في ذلك الزمان ، حتى عين على جماعة من الصحابة في حفظهم له ، وأنه كان يعرض على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويتلى عليه ، وأن جماعة من الصحابة مثل عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عدة ختمات. وكل ذلك يدل بأدنى تأمل على أنه كان مجموعا مرتبا غير منثور ، ولا مبثوث).

٤١

رأي الشيخ الطوسي :

(وأما الكلام في زيادته ونقصانه ، فمما لا يليق به أيضا ، لأن الزيادة فيه مجمع على بطلانها ، والنقصان منه فالظاهر أيضا من مذهب المسلمين خلافه ، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا وهو الذي نصره المرتضى رحمه‌الله وهو الظاهر في الروايات .. ورواياتنا متناصرة بالحث على قراءته ، والتمسك بما فيه ، ورد ما يرد من اختلاف الأخبار في الفروع إليه. وقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله رواية لا يدفعها أحد أنه قال إني مخلف فيكم الثقلين ، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض وهذا يدل على أنه موجود في كل عصر. لأنه لا يجوز أن يأمر بالتمسك بما لا نقدر على التمسك به. كما أن أهل البيت عليهم‌السلام ومن يجب اتباع قوله حاصل في كل وقت. وإذا كان الموجود بيننا مجمعا على صحته ، فينبغي أن نتشاغل بتفسيره ، وبيان معانيه ، ونترك ما سواه).

رأي الشيخ الطبرسي :

(فإن العناية اشتدت ، والدواعي توفرت على نقله وحراسته ، وبلغت الى حد لم يبلغه فيما ذكرناه ، لأن القرآن معجزة النبوة ، ومأخذ العلوم الشرعية والأحكام الدينية ، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية ، حتى عرفوا كل شىء اختلف فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته ، فكيف يجوز أن يكون مغيرا ، أو منقوصا مع العناية الصادقة ، والضبط الشديد).

رأي الفيض الكاشاني :

(قال الله عزوجل وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وقال (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) ، فكيف يتطرق إليه التحريف والتغيير؟! وأيضا قد استفاض عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة عليهم‌السلام حديث عرض الخبر المروي على كتاب الله ليعلم صحته بموافقته له ، وفساده بمخالفته ، فإذا كان القرآن الذي بأيدينا محرفا فما فائدة العرض ، مع أن خبر التحريف مخالف لكتاب الله ، مكذب له ، فيجب رده ، والحكم بفساده).

٤٢

رأي الشيخ جعفر الجناجي (بجيمين ، كاشف الغطاء):

(لا زيادة فيه من سورة ، ولا آية من بسملة وغيرها ، لا كلمة ولا حرف. وجميع ما بين الدفتين مما يتلى كلام الله تعالى بالضرورة من المذهب بل الدين ، وإجماع المسلمين ، وأخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة الطاهرين عليهم‌السلام ، وإن خالف بعض من لا يعتد به في دخول بعض ما رسم في اسم القرآن ... لا ريب في أنه محفوظ من النقصان بحفظ الملك الديان كما دل عليه صريح القرآن ، وإجماع العلماء في جميع الأزمان ، ولا عبرة بالنادر).

رأي السيد محسن الأمين العاملي :

(ونقول : لا يقول أحد من الإمامية لا قديما ولا حديثا إن القرآن مزيد فيه ، قليل أو كثير ، فضلا عن كلهم ، بل كلهم متفقون على عدم الزيادة ، ومن يعتد بقوله من محققيهم متفقون على أنه لم ينقص منه).

رأي الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء :

(وإن الكتاب الموجود في أيدي المسلمين هو الكتاب الذي أنزله الله للإعجاز والتحدي ، وتمييز الحلال من الحرام ، وأنه لا نقص فيه ولا تحريف ولا زيادة ، وعلى هذا إجماعهم).

رأي السيد شرف الدين العاملي :

(والقرآن الحكيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، إنما هو ما بين الدفتين ، وهو ما في أيدي الناس لا يزيد حرفا ولا ينقص حرفا ، ولا تبديل فيه لكلمة بكلمة ولا لحرف بحرف ، وكل حرف من حروفه متواتر في كل جيل تواترا قطيعا الى عهد الوحي والنبوة ، وكان مجموعا على ذلك العهد الأقدس مؤلفا على ما هو عليه الآن ، وكان جبرائيل عليه‌السلام يعارض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالقرآن في كل عام مرة ، وقد عارضه به عام وفاته مرتين. والصحابة كانوا يعرضونه ويتلونه على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى ختموه عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله مرارا عديدة ، وهذا كله من الأمور المعلومة الضرورية لدى المحققين من علماء الإمامية.

٤٣

... نسب الى الشيعة القول بتحريف القرآن بإسقاط كلمات وآيات إلخ. فأقول :

نعوذ بالله من هذا القول ، ونبرأ الى الله تعالى من هذا الجهل ، وكل من نسب هذا الرأي إلينا جاهل بمذهبنا ، أو مفتر علينا ، فإن القرآن العظيم والذكر الحكيم متواتر من طرقنا بجميع آياته وكلماته وسائر حروفه وحركاته وسكناته ، تواترا قطعيا عن أئمة الهدى من أهل البيت عليهم‌السلام ، لا يرتاب في ذلك إلا معتوه ، وأئمة أهل البيت كلهم أجمعون رفعوه الى جدهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الله تعالى ، وهذا أيضا مما لا ريب فيه ، وظواهر القرآن الحكيم ـ فضلا عن نصوصه ـ أبلغ حجج الله تعالى ، وأقوى أدلة أهل الحق بحكم الضرورة الأولية من مذهب الإمامية ، وصحاحهم في ذلك متواترة من طريق العترة الطاهرة ، وبذلك تراهم يضربون بظواهر الصحاح المخالفة للقرآن عرض الجدار ، ولا يأبهون بها ، عملا بأوامر أئمتهم عليهم‌السلام).

رأي السيد البروجردي الطباطبائي :

قال الشيخ لطف الله الصافي عن أستاذه آية الله السيد حسين البروجردي (فإنه أفاد في بعض أبحاثه في الأصول كما كتبنا عنه ، بطلان القول بالتحريف ، وقداسة القرآن عن وقوع الزيادة فيه ، وأن الضرورة قائمة على خلافه ، وضعف أخبار النقيصة غاية الضعف سندا ودلالة. وقال : وإن بعض هذه الروايات تشتمل على ما يخالف القطع والضرورة ، وما يخالف مصلحة النبوة. وقال في آخر كلامه الشريف : ثم العجب كل العجب من قوم يزعمون أن الأخبار محفوظة في الألسن والكتب في مدة تزيد على ألف وثلاثمائة سنة ، وأنه لو حدث فيها نقص لظهر ، ومع ذلك يحتملون تطرق النقيصة الى القرآن المجيد).

رأي السيد محسن الحكيم الطباطبائي :

(وبعد ، فإن رأي كبار المحققين ، وعقيدة علماء الفريقين ، ونوع المسلمين من صدر الإسلام الى اليوم على أن القرآن بترتيب الآيات والسور والجمع كما هو المتداول بالأيدي ، لم يقل الكبار بتحريفه من قبل ، ولا من بعد).

٤٤

رأي السيد محمد هادي الميلاني :

(الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى. أقول بضرس قاطع إن القرآن الكريم لم يقع فيه أي تحريف لا بزيادة ولا بنقصان ، ولا بتغيير بعض الألفاظ ، وإن وردت بعض الروايات في التحريف المقصود منها تغيير المعنى بآراء وتوجيهات وتأويلات باطلة ، لا تغيير الألفاظ والعبارات. وإذا اطلع أحد على رواية وظن بصدقها وقع في اشتباه وخطأ ، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا).

رأي السيد محمد رضا الكلبايكاني :

(وقال الشيخ لطف الله الصافي دام ظله : ولنعم ما أفاده العلامة الفقيه والمرجع الديني السيد محمد رضا الكلبايكاني بعد التصريح بأن ما في الدفتين هو القرآن المجيد ، ذلك الكتاب لا ريب فيه ، والمجموع المرتب في عصر الرسالة بأمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بلا تحريف ولا تغيير ولا زيادة ولا نقصان ، وإقامة البرهان عليه : أن احتمال التغيير زيادة ونقيصة في القرآن كاحتمال تغيير المرسل به ، واحتمال كون القبلة غير الكعبة في غاية السقوط لا يقبله العقل ، وهو مستقل بامتناعه عادة).

رأي السيد محمد حسين الطباطبائي :

(فقد تبين مما فصلناه أن القرآن الذي أنزله الله على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله ووصفه بأنه ذكر محفوظ على ما أنزل ، مصون بصيانة إلهية عن الزيادة والنقيصة والتغيير كما وعد الله نبيه فيه. وخلاصة الحجة أن القرآن أنزله الله على نبيه ووصفه في آيات كثيرة بأوصاف خاصة لو كان تغيير في شىء من هذه الأوصاف بزيادة أو نقيصة أو تغيير في لفظ أو ترتيب مؤثر ، فقد آثار تلك الصفة قطعا ، لكنا نجد القرآن الذي بأيدينا واجدا لآثار تلك الصفات المعدودة على أتم ما يمكن وأحسن ما يكون ، فلم يقع فيه تحريف يسلبه شيئا من صفاته ، فالذي بأيدينا منه هو القرآن المنزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعينه ، فلو فرض سقوط شىء منه أو إعراب أو حرف أو ترتيب ، وجب أن يكون في أمر لا يؤثر في شىء من أوصافه كالإعجاز وارتفاع الاختلاف ، والهداية ، والنورية ، والذكرية ، والهيمنة على سائر الكتب السماوية ، الى غير ذلك ، وذلك كآية مكررة ساقطة ، أو اختلاف في نقطة أو إعراب ونحوها).

٤٥

رأي السيد أبو القاسم الخوئي :

(... إن حديث تحريف القرآن حديث خرافة وخيال ، لا يقول به إلا من ضعف عقله أو من لم يتأمل في أطرافه حق التأمل ، أو من ألجأه إليه حب القول به ، والحب يعمي ويصم. وأما العقل المنصف المتدبر فلا يشك في بطلانه وخرافته).

رأي الشيخ لطف الله الصافي :

(القرآن معجزة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، قد عجز الفصحاء عن الإتيان بمثله ، وبمثل سورة أو آية منه ، وحير عقول البلغاء ، وفطاحل الأدباء ... وقد مر عليه أربعة عشر قرنا ، ولم يقدر في طول هذه القرون أحد من البلغاء أن يأتي بمثله ، ولن يقدر على ذلك أحد في القرون الآتية والأعصار المستقبلة ، ويظهر كل يوم صدق ما أخبر الله تعالى به (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) .. هذا هو القرآن ، وهو روح الأمة الإسلامية وحياتها ووجودها وقوامها ، ولو لا القرآن لما كان لنا كيان. هذا القرآن هو كل ما بين الدفتين ليس فيه شىء من كلام البشر وكل سورة من سوره وكل آية من آياته ، متواتر مقطوع به ولا ريب فيه. دلت عليه الضرورة والعقل والنقل القطعي المتواتر. هذا هو القرآن عند الشيعة الإمامية ، ليس الى القول فيه بالنقيصة فضلا عن الزيادة سبيل ، ولا يرتاب في ذلك إلا الجاهل ، أو المبتلى بالشذوذ الفكري).

التقية سند للشيعة أم عليهم؟

هيأ خصوم الشيعة من أمثال إحسان ظهير جوابا لفتاوى مراجع الشيعة ، فقالوا للسنة : لا تصدقوهم فإنهم يعتقدون بالتقية ، والتقية هي الكذب والخداع ، وعلماء الشيعة يكذبون ولا يعتقدون بالقرآن ، بل عندهم قرآن آخر!!

يعني ذلك أن شخصا يقول لك : أنت كافر!

فتقول له : كلا أنا مسلم أؤمن بالشهادتين .. أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ..

٤٦

فيقول لك : كلا إنك تكذب!

فتقول له : والله العظيم إني مسلم!

فيقول لك : كلا إنك تعتقد بأن الكذب حلال!

فتقول له : حسنا ، يا ابن الحلال ، كيف أثبت لك أني مسلم؟

فيقول لك : لا تستطيع أن تثبت ذلك ، لأنك تعتقد بأن الكذب حلال للتقية!!

أيها الأخوة الصادقون الذين تعتقدون بأن الكذب حرام : هل الإيمان بالله تعالى أكبر أم الإيمان بكتابه؟ فكيف اكتفى الله تعالى من الناس أن يتلفظوا بالشهادتين ولو تحت السيف ، وقبل منهم الإسلام وعاملهم معاملة المسلمين ، وأنتم لا تقبلون من الشيعة كلامهم ، وإعلانهم ، وأيمانهم ، وفتاوى مراجعهم وواقع ملايينهم؟!

تلك هي صورة من محنة الشيعة مع خصومهم قديما وحديثا ..

أما قصة التقية التي يقولون ، فهي قصة إرهاب الظالم ومداراة المظلوم ليحفظ دمه .. إنها قصة تقتيل الحكام وعوامهم للشيعة تقتيلا بالجملة ومجازر بلا رحمة ، لمجرد أنهم شيعة أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله! فيضطر الشيعة أن يداروهم ليحفظوا دماءهم من السفك ، وأعراضهم من الهتك ، وأموالهم من الغارة!!

فإن كان في التقية عار وشنار ، فأيهما أولى بعارها وشنارها : الظالم أو المظلوم؟

ألا تعجب لمن لا يتحمل مخالفتك له في الرأي فيصادر حريتك ، ويكم فمك ، ويصوّب رصاصه الى رأسك ، ويضع شعلة ناره على باب بيتك .. ثم يقول لك : إنك كذاب جبان لأنك تداريني ، وأنا شجاع صادق لأني لا أداريك!!

إن التقية سند مظلومية الشيعة من بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الى يومنا هذا ، وهي سند يدين الذين اضطهدوا الشيعة .. ولكن هؤلاء (الباحثين) الموضوعيين يريدون أن يقلبوا الواقع ويجعلوها سندا لإدانة الشيعة!!

والتقية سيرة العقلاء في كل المجتمعات مع المتسلط والحاكم ، عند ما تصادر حرياتهم ويواجهون الخوف على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم ، فتراهم يدارون الظالم ليسلموا من شره .. فهل صارت مداراة الظالم سبة؟ وصار ظلمه مكرمة؟!

٤٧

والتقية عندنا حكم شرعي من أئمتنا عترة النبي عليهم‌السلام لشيعتهم أنهم إذا ابتلوا بإرهاب جسدي أو إرهاب فكري .. فلا يجب على أحدهم أن يقتل نفسه ، بل يجوز له أحيانا ، أو يجب عليه أحيانا ، أن يداري الإرهابي ويتعايش معه. وقد تحرم عليه التقية أحيانا ، ويجب عليه أن يجهر بعقيدته ويقاوم حتى يستشهد!

والتقية جزء من مذهبنا لا ننكرها ، لأنها جزء من الإسلام لا يمكن لأحد أن ينكرها .. فقد أجاز الله تعالى من أجلها إظهار كلمة الكفر أمام الكفار لدفع شرهم وخطرهم ، فقال تعالى (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) النحل ـ ١٠٦ وقال تعالى (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) آل عمران ـ ٢٨

ومن التقية ما يحرم عندنا مطلقا ولا يجوز بحال وهي ما يترتب عليه قتل شخص آخر ، فيجب على الشيعي أن يتحمل هو القتل ولا يسببه لغيره ، لأنه لا تقية في الدماء .. بينما يفتي كثير من فقهاء إخواننا السنة لمن يقلدهم بالتقية لنجاة نفسه حتى لو سبب ذلك قتل غيره!

فيا أيها الطاعنون على الشيعة لاعتقادهم بالتقية ، ارفعوا عنهم سيوف ظلمكم ، وأعطوهم حقهم في الأمن والتعبير عن الرأي حتى يتركوا التقية وتنتهي حاجتهم إليها .. فإذا وجد جو الأمن الإسلامي ، أو جو الحرية الإنساني ، واتسعت الصدور لسماع آراء الموافق والمخالف .. فقد ارتفعت الضرورة التي من أجلها شرع الله التقية!

والتقية في مذاهب السنة كما في مذهب الشيعة

قال البخاري في صحيحه ج ٨ ص ٥٥ (كتاب الإكراه. وقول الله تعالى (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) وقال (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) وهي تقية ، وقال (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) .. الى قوله (وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) فعذر الله المستضعفين الذين لا يمتنعون من ترك ما أمر الله به. والمكره لا يكون إلا مستضعفا غير

٤٨

ممتنع من فعل ما أمر به. وقال الحسن ـ يقصد البصري ـ : التقية الى يوم القيامة). وقال في ج ٥ ص ١٦٥ (تقاة وتقية واحدة ..) انتهى.

وروى البيهقي في سننه ج ٨ ص ٢٠٩ تفسير ابن عباس لهذه الآية وفيه (... فأما من أكره فتكلم بلسانه وخالفه قلبه بالإيمان لينجو بذلك من عدوه فلا حرج عليه ، إن الله سبحانه إنما يأخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم).

ورواه السيوطي في الدر المنثور ج ٢ ص ١٦ وذكر ما يوافق مذهبنا من عدم التقية في الدماء قال (... ولا يبسط يده فيقتل ولا الى إثم فإنه لا عذر له) ثم نقل كلام الحسن البصري وقراءة قتادة وغيره تتقوا منهم تقية بالياء.

وقال النووي في المجموع ج ١٨ ص ٨ (... إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان ، ولا تبين منه زوجته ولا يحكم عليه بحكم الكفر. هذا قول مالك والشافعي والكوفيين غير محمد بن الحسن فإنه قال : إذا أظهر الشرك كان مرتدا في الظاهر ، وفيما بينه وبين الله تعالى على الإسلام ، وتبين منه امرأته ولا يصلّى عليه إن مات ولا يرث أباه إن مات مسلما. قال القرطبي : وهذا قول يرده الكتاب والسنة قال تعالى (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) .. الآية وقال (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً). (ثم نقل كلام البخاري وقال : فلما سمح الله عزوجل بالكفر به لمن أكره وهو أصل الشريعة ولم يؤاخذ به ، حمل عليه أهل العلم) انتهى.

وروى في المدونة الكبرى ج ٣ ص ٢٩ عن عبد الله بن مسعود أنه قال (ما من كلام كان يدرأ عني سوطين من سلطان إلا كنت متكلما به).

وروى عبد الرزاق في المصنف ج ٤ ص ٤٧ عن عبد الله بن عمر أنه كان يستعمل التقية مع خلفاء بني أمية ..! قال (عن ميمون بن مهران قال دخلت على ابن عمر أنا وشيخ أكبر مني ، قال حسبت أنه قال ابن المسيب ، فسألته عن الصدقة أدفعها الى الأمراء؟ فقال نعم ، قلت وإن اشتروا به الفهود والبيزان (الصقور)؟! قال نعم.

... وعن محمد بن راشد قال أخبرني أبان قال : دخلت على الحسن وهو متوار زمان الحجاج في بيت أبي خليفة فقال له رجل : سألت ابن عمر هل أدفع الزكاة الى الأمراء؟ فقال ابن عمر : ضعها في الفقراء والمساكين. قال فقال لي الحسن : ألم أقل لك إن ابن عمر كان إذا أمن الرجل قال : ضعها في الفقراء والمساكين) انتهى.

٤٩

وقال السرخسي في المبسوط ج ٢٤ ص ٤٥ (... وعن الحسن البصري رحمه‌الله : التقية جائزة للمؤمن الى يوم القيامة ، إلا أنه كان لا يجعل في القتل تقية ، وبه نأخذ. والتقية أن يقي نفسه من العقوبة بما يظهره وإن كان يضمر خلافه. وقد كان بعض الناس يأبى ذلك ويقول إنه من النفاق ، والصحيح أن ذلك جائز لقوله تعالى (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) وإجراء كلمة الشرك على اللسان مكرها مع طمأنينة القلب بالإيمان من باب التقية ، وقد بينا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رخص فيه لعمار بن ياسر رضي الله عنه). وقال في ص ١٥٤ (.. وذلك على المكره دون المكره عند التهديد بالقتل (يقصد أن كفارة القتل تكون على من أجبره على القتل لا على المنفذ) وإن توعده بالحبس كانت الكفارة على القاتل خاصة ، بمنزلة ضمان المال وبمنزلة الكفارة في قتل الآدمي خطأ.

... ولو أن رجلا وجب عليه أمر بمعروف أو نهي عن منكر فخاف إن فعل أن يقتل ، وسعه أن لا يفعل. وإن فعل فقتل كان مأجورا ، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض مطلقا. قال الله تعالى (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) الآية .. والترك عند خوف الهلاك رخصة ، قال الله تعالى (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) فإن ترخص بالرخصة كان في سعة وإن تمسك بالعزيمة كان مأجورا) انتهى.

فما هو الفرق بين التقية التي يفتي بها الشيعة ، وهذه التي يفتي بها السنة؟

لا فرق ، إلا أن الشيعة يحتاجون إليها أكثر بسبب الظلم والاضطهاد الذي كان وما زال ينصب عليهم!!

ولا فرق ، إلا أن خصوم الشيعة يبحثون عن أي شىء لينبزوا به الشيعة وقد وجدوا التقية ، ولم يعرفوا أنها أمر مشترك ، أو عرفوا وحرفوا!

جرى نقاش عن التقية بيني وبين بعض علماء الوهابية وكان على مذهب إحسان ظهير في تكفير الشيعة وكرههم الى آخر نفس ، فوجدت أنه لا يدرك أنه يستعمل التقية مع دولته ومن يخاف منهم ، ولا يريد أن يدرك! فقد كان يصر على أنها جائزة فقط مع الكفار وليس مع المسلمين. ولم يقتنع بكلامي بأن ملاك التقية الخطر وخوف

٥٠

الضرر ، سواء توجه إليك من كافر أو مسلم .. فأردت أن يلمس أنه يستعمل التقية مثلي وأكثر ، فجررت الحديث الى حكومته ورأيه فيها وفي رئيسها ، وواصلت أسئلتي له ، وواصل استعمال التقية في الجواب حتى أحس بالحرج فودعني ، فشكرته على أنه استعمل التقية من دولته وصار على مذهب الشيعة في هذه المسألة الفقهية!

إن التقية موجودة في حياتنا جميعا أيها الإخوة ، ولكنها أمر نسبي حسب أجواء الأمن والحرية التي توجد لإنسان ولا توجد لآخر ، وتوجد في بلد ولا توجد في آخر ، وتوجد لطائفة ولا توجد لأخرى .. فهل تتركون نبز الشيعة بها؟!

وروايات النقص والزيادة في القرآن في مصادر إخواننا أكثر منها في مصادرنا

هؤلاء الكتاب والخطباء الذين يتهمون إخوانهم الشيعة بعدم الإيمان بالقرآن ، بسبب روايات رأوها في مصادرهم أو سمعوا عنها .. هل رأوا الروايات في هذا الموضوع في مصادر السنة؟

وهؤلاء الذين يقولون للشيعة : لا نصدقكم بأنكم تعتقدون بالقرآن حتى لو أفتى بذلك علماؤكم ، وملأت نسخ القرآن مساجدكم وبيوتكم ، وحتى لو درستموه وحفظتموه وقرأتموه في مجالسكم ومدارسكم أحسن منا .. حتى تتبرءوا من مصادركم التي فيها هذه الروايات ، وتسقطوها عن الاعتبار ، ولا تأخذوا منها عقائدكم وأحكامكم ..

هل يقبلون أن يعاملوا مصادرهم بالمثل إذا وجدوا فيها روايات تدعي التحريف كالتي في مصادر الشيعة ، أو أشد؟!

إن الناظر بإنصاف في روايات مصادر الطرفين في هذه المسألة ، يحكم بأن اعتقاد الشيعة بالقرآن الكريم الموجود ، أقوى وأعلى من اعتقاد السنة! فمصادر الشيعة تقبل القرآن الموجود ولا تدعي فيه أي زيادة. وروايات التحريف التي فيها محصورة في أمر واحد هو أن السلطة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أسقطت آيات من القرآن ورفضت نسخة القرآن التي كتبها علي عليه‌السلام بإملاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والتي

٥١

ذكرت بعض الروايات أن فيها زيادات في مدح أهل البيت عليهم‌السلام ، قد تكون تفسيرا ، وقد تكون آيات منزلة .. وقد بحث علماء الشيعة هذه الروايات وفق مقاييس البحث والاجتهاد التي يتبناها مذهبهم ..

أما مصادر إخواننا السنة ففيها الغرائب والعجائب .. التي لو نظر إليها هؤلاء الكتاب الذين يتهمون الشيعة لتغيرت حالتهم ، وأصيبوا بالدوّار!

* * *

٥٢

الفصل الثالث

موقف الخليفة عمر

من القرآن والسنة

٥٣
٥٤

موقف الخليفة عمر من القرآن والسنة

من الأصول الثابتة عند المسلم السني والشيعي في عصرنا ، أن كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، هما المصدران الوحيدان للإسلام ..

ويتصور المسلم السني المعاصر أن الخليفة عمر بن الخطاب كان يعتقد بهذين الأصلين مثل اعتقاده هو اليوم .. بل يتصور أن الخليفة عمر ومن سار على خطه من الخلفاء قد خاضوا معركة فكرية شعارها القرآن والسنة مع الذين رفعوا شعار القرآن والإمامة أو الوصية وأهل بيت النبي ... إلخ.

ولهذا يعتبر إخواننا السنة أنه لا معنى للسؤال عن موقف الخليفة عمر من القرآن والسنة ، لأنه حامل رايتهما ، بل هو إمام المسلمين الذين اتبعوه وتسموا من بعده باسم (أهل السنة والجماعة) في مقابل (أهل البدعة والفرقة)!

لكن تصوراتنا لا يجب أن تكون دائما مطابقة للواقع .. فربما كان مفيدا أن نفحص ، ونتعرف على حقيقة موقف الخليفة عمر من القرآن والسنة ، كما تشهد المصادر المحبة له .. المعتبرة عند محبيه ..

القرآن شعار الخليفة في وجه النبي!

ننقل نصوص الموقف وأجواءه من كتاب عدالة الصحابة للمحامي الأردني أحمد حسين يعقوب ص ١٨٢ ـ ١٨٥ :

المواجهة الصاخبة :

النبي على فراش الموت ، وجبريل الأمين لا ينقطع عن زيارته ، وأكثر ما كان يأتيه جبريل في مرضه.

٥٥

النبي على علم بمستقبل هذه الأمة ، وقد أدى النبي دوره كاملا وبلغ رسالات ربه ، وبين لهم كل شىء على الإطلاق ، وهو على علم تام بما يجري حوله ومدرك أنه السكون الذي يسبق الانفجار فينسف الشرعية السياسية والمرجعية ، وبنسف الشرعية السياسية والمرجعية يتجرد الإسلام من سلاحه الجبار ويتعطل المولد الأساسي للدعوة والدولة. ولكن مثل النبي لا ينحني أمام العاصفة ، ولا يقعده شىء عن متابعة إحساسه العميق بالرأفة والرحمة لهذه الأمة ، وبالرغم من كمال الدين وتمام النعمة الإلهية والبيان الإلهي الشامل لكل شىء تحتاجه الأمة بما فيه كيف يتبول وكيف يتغوط أفرادها ، إلا أنه أراد أن يلخص الموقف لأمته حتى تهتدي وحتى لا تضل ، وحتى تخرج بسلام من المفاجآت التي تتربص بها وتنتظر موت النبي لتفتح أشداقها فتعكر صفو الإسلام وتعيق حركته وتغير مساره.

النبي على فراش المرض ، وبيته المبارك يغص بأكابر الصحابة ، وقد أصر النبي على تلخيص الموقف والتذكير بالخط المستقبلي لمسيرة الإسلام فقال النبي : قربوا أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا.

ما هو الخطأ بهذا العرض النبوي؟

من يرفض التأمين ضد الضلالة؟

ولما ذا؟ ولمصلحة من؟

ثم إن من حق أي مسلم أن يوصي ، ومن حق أي مسلم أن يقول ما يشاء قبل موته ، والذين يسمعون قوله أحرار فيما بعد بإعمال هذا القول أو إبطاله ، هذا إذا افترضنا أن محمدا مجرد مسلم عادي وليس نبيا وقائدا للأمة.

فتصدى الفاروق عمر بن الخطاب ووجه كلامه للحضور وقال : إن النبي قد غلب عليه الوجع ، وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله!

فاختلف أهل البيت فاختصموا ، منهم من يقول قربوا يكتب لكم رسول الله كتابا لا تضلوا بعده أبدا ، ومنهم من يقول : القول ما قاله عمر. فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي قال لهم رسول الله : قوموا عني (١).

٥٦

وفي رواية ثانية أن الرسول عند ما قال : ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا تنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع ، فقالوا هجر رسول الله. قال النبي : دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه!! (٢)

وفي رواية ثالثة قال النبي : ائتوني بالكتف والدواة أو اللوح والدواة أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا ، فقالوا : إن رسول الله يهجر (٣).

وفي رواية رابعة للبخاري : أن النبي قال : ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده. قال عمر بن الخطاب : إن النبي غلبة الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا!! فاختلفوا وأكثروا اللغط. قال النبي : قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع. (٤)

رواية بلفظ خامس للبخاري : قال النبي : ائتوني أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع ، فقالوا : ما شأنه أهجر؟ استفهموه .. فذهبوا يرددون عليه ، فقال : دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه (٥).

رواية بلفظ سادس للبخاري : قال النبي : ائتوني بكتف أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا ، فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع فقالوا : ما له أهجر ، استفهموه ، فقال النبي ذروني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه. (٦)

رواية بلفظ سابع للبخاري : قال النبي : هلم أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده. قال عمر : إن النبي غلبه الوجع وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله. واختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول : قربوا يكتب لكم رسول الله كتابا لن تضلوا بعده ، ومنهم من يقول ما قال عمر ، فلما أكثروا اللغط والاختلاف عند النبي قال : قوموا عني. (٧)

وفي رواية أن عمر بن الخطاب قال : إن النبي يهجر ... (٨) وقد اعترف الفاروق أنه صد النبي عن كتابة الكتاب حتى لا يجعل الأمر لعلي. (٩)

تحليل المواجهة :

أطراف المواجهة : الطرف الأول ، هو محمد رسول الله وخاتم النبيين وإمام الدولة الإسلامية (رئيسها).

الطرف الثاني ، هو عمر بن الخطاب أحد كبار الصحابة ووزير من أبرز وزراء دولة النبي ، والخليفة الثاني من خلفاء النبي فيما بعد.

٥٧

مكان المواجهة : بيت النبي.

شهود المواجهة : كبار الصحابة رضوان الله عليهم.

النتائج الأولية للمواجهة :

١ ـ الانقسام. إن الحاضرين قد انقسموا الى قسمين :

القسم الأول : يؤيد الفاروق فيما ذهب إليه من الحيلولة بين الرسول وبين كتابة ما يريد. وحجة هذا الفريق أن الفاروق من كبار الصحابة وأحد وزراء النبي ومشفق على الإسلام ، وأن النبي مريض وبالتالي فلا داعي لإزعاجه بكتابة هذا الكتاب. ثم إن القرآن وحده يكفي ، فهو التأمين ضد الضلالة ، ولا داعي لأي كتاب آخر يكتبه النبي.

القسم الثاني : يرفض المواجهة أصلا بين التابع والمتبوع ، وبين نبي ومصدق به ، وبين رسول يتلقى تعليماته من الله ، وبين مجتهد يعمل بما يوحيه له اجتهاده ، وبين رئيس دولة ونبي بنفس الوقت وبين واحد من وزرائه. ويرى هذا القسم أن تتاح الفرصة للنبي ليقول ما يريد ، ولكتابة ما يريد لأنه نبي وما زال نبيا حتى يتوفاه الله ، ولأنه رئيس الدولة وما زال رئيسا للدولة حتى يتوفاه الله ويحل رئيس آخر محله. ثم على الأقل لأنه مسلم يتمتع بالحرية كما يتمتع بها غيره ، ومن حقه أن يقول ما يشاء وأن يكتب ما يشاء. ثم إن الأحداث والمواجهة تجري في بيته ، فهو صاحب البيت ، ومن حق أي إنسان أن يقول ما يشاء في بيته.

٢ ـ بروز قوة هائلة جديدة : برز الفاروق كقوة جديدة هائلة استطاعت أن تحول بين النبي وبين كتابة ما يريد ، واستطاعت أن تستقطب لرأيها عددا كبيرا من المؤيدين بمواجهة مع النبي نفسه وبحضور النبي نفسه!) انتهى.

__________________

(١) صحيح بخاري ـ كتاب المرضى باب قول المريض : قوموا عني ج ٧ ص ٩ وراجع صحيح مسلم في آخر كتاب الوصية ج ٥ ص ٧٥ وصحيح مسلم بشرح النووي ج ١١ ص ٩٥ ومسند الإمام أحمد ج ٤ ص ٣٥٦ ح ٢٩٩٢ وشرح النهج لابن أبي الحديد ج ٦ ص ٥١.

(٢) راجع صحيح بخاري ج ٤ ص ٣١ وصحيح مسلم ج ٣ ص ١٦ ومسند الإمام أحمد ج ١ ص ٢٢٢ وج ٣ ص ٢٨٦.

٥٨

(٣) راجع صحيح مسلم ج ٢ ص ١٦ وج ١١ ص ٩٤ ـ ٩٥ بشرح النووي ومسند الإمام أحمد ج ١ ص ٣٥٥ وتاريخ الطبري ج ٢ ص ١٩٣ والكامل لابن الاثير ص ٣٢٠.

(٤) راجع صحيح بخاري ج ١ ص ٣٧.

(٥) راجع صحيح بخاري ج ٥ ص ١٣٧ وتاريخ الطبري ج ٣ ص ١٩٢ ـ ١٩٣.

(٦) صحيح بخاري ج ٢ ص ١٣٢ وج ٤ ص ٦٥ ـ ٦٦.

(٧) صحيح بخاري ج ٨ ص ١٦١.

(٨) راجع تذكرة الخواص للسبط الجوزي الحنفي ص ٦٢ وسر العالمين وكشف ما في الدارين لأبي حامد الغزالي ص ٢١.

(٩) راجع شرح نهج البلاغة لعلامة المعتزلة ابن أبي الحديد ج ٣ ص ١١٤ طبعة أولى مصر وأوفست بيروت وج ١٢ ص ٧٩ سطر ٣ بتحقيق محمد أبو الفضل وج ٣ ص ٨٠٣ دار مكتبة الحياة وج ٣ ص ١٦٧ دار الفكر) انتهى.

نتائج المواجهة على القرآن

الذي يخص بحثنا من هذه المواجهة الصاخبة ـ على حد تعبير الباحث الأردني ـ أن الخليفة عمر نجح بمساعدة أكثر الصحابة الحاضرين أن يحقق هدفين ضخمين حول القرآن والسنة :

الأول : أن القرآن هو المصدر الرسمي للإسلام فقط ، والسنة ليست مصدرا الى جنب القرآن وفي مستواه ، بل هي مصدر انتقائي يختار منه عمر ورؤساء قريش ما يناسب ، ويتركون ما لا يناسب ، أو يمنعون صدوره!

الثاني : أن عمر الزعيم المقبول من كافة قبائل قريش ـ ما عدا بني هاشم ـ هو المفسر الرسمي للقرآن ، وله الحق أن يمنع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من كتابة وصيته التي قد تلزم المسلمين بمفسر رسمي من بني هاشم!

وقد اضطر الخليفة عمر من أجل تحقيق هذين الهدفين الضخمين ، وفي تلك اللحظات الحاسمة من حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .. أن يستعمل الغلظة والشدة ، ويجابه نبيه بقرار أكثرية الصحابة ويقول له بصراحة : أيها الرسول ، لا حاجة بنا الى وصيتك ، فالقرآن كاف شاف ، ولا نحتاج أن تنصب له مفسرا من بني هاشم لأن تفسيره من حقنا نحن! لقد قبلنا نبوتك والقرآن الذي أنزله الله عليك ، ولكن قريشا تشاورت فيما بينها وقررت أن لا يستأثر بنو هاشم بالنبوة والخلافة فلا يبقى لقبائل قريش شىء! وبما أن الوصية التي تريد أن تكتبها لا تنسجم مع هذا القرار ، فليس فيها إلا الضرر

٥٩

علينا من بعدك ، فنشكرك أيها الرسول ، فإنا لا نخاف على أنفسنا الضلال من بعدك حتى تؤمننا منه!!

وقد قلت للحاضرين بلسان قريش : لا تقربوا له شيئا ، لا دواة وقرطاسا ، فخير لك أن تصرف النظر عن كتابة الوصية ، وإلا فإني سأشهد الحاضرين عليك بأنك تهجر وأن كلامك لم يعد وحيا ، بل هذيان!!

تطبيق الخليفة عمر للهدفين اللذين واجه بهما النبي!

والمتأمل في سيرة الخليفة عمر يجد أن عمله طوال خلافة أبي بكر وخلافته كان على أساس نظرية أن (القرآن هو المصدر الوحيد ، والخليفة هو المفسر الوحيد)!

ولئن اضطر الى أن يجرح شعور النبي في بيته وهو يودع أمته ، ويعلن ذلك بصراحة ، فهو ليس مضطرا الى ذلك بعد وفاة النبي ، بل يمكنه أن يحفظ حرمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويطبق هدفيه الكبيرين بأسلوبه الخاص الذي يسميه معاريض الكلام فيقول عنه (لا يسرني أن لي بما أعلم من معاريض القول مثل أهلي ومالي) كنز العمال ج ٣ ص ٨٧٥ ، وسنن البيهقي ج ١٠ ـ ١٩٩.

ثم بإمكانه بعد أن صار خليفة أن يجسد ذلك في مواقف وقرارات جريئة مبررة ، لضبط مسألة القرآن والسنة ..! وتتلخص مواقف الخليفة عمر وقراراته بشأن القرآن مباشرة ، باثني عشر موقفا وقرارا :

١ ـ رفض نسخة القرآن التي عند علي عليه‌السلام.

٢ ـ إخضاع علي وفاطمة وأنصارهما للسلطة ولو بالقوة ، ومنعهما من أي تأثير على الناس حتى في تعليم القرآن ورواية السنة.

٣ ـ تكذيب أن عليا أو أحدا من الصحابة عنده القرآن كله أو تفسيره من النبي ، بل القرآن موزع عند الصحابة ، وجمعه والمصادقة على نسخته من حق الخليفة فقط!

٤ ـ النسخة التي جمعها عثمان ـ النسخة التي بأيدينا اليوم ـ هي برأي عمر جزء قليل من القرآن ، لا يبلغ ثلث القرآن الذي أنزله الله تعالى! فقد ضاع أكثر من ثلثيه

٦٠