تدوين القرآن

الشيخ علي الكوراني العاملي

تدوين القرآن

المؤلف:

الشيخ علي الكوراني العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: باقري
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٧

أقبل فقال له الناس : أين كنت؟ فجاء الى عمر رضي الله عنه ، وفي يده ورقة يواريها الكف وتشتمل على الرجل وتواريه فقال : يا أمير المؤمنين إني وجدت في القلت سربا وأتاني آت فأخرجني الى أرض لا تشبهها أرضكم وبساتين لا تشبه بساتين أهل الدنيا فتناولت منه شيئا فقال لي ليس هذا أوان ذلك ، فأخذت هذه الورقة فإذا وهي ورقة تين ، فدعا عمر كعب الأحبار وقال : أتجد في كتبكم أن رجلا من أمتنا يدخل الجنة ثم يخرج؟ قال نعم وإن كان في القوم أنبأتك به! فقال : هو في القوم ، فتأملهم فقال : هذا هو ، فجعل شعار بني نمير خضراء الى هذا اليوم!) انتهى.

إذا صحت هذه الرواية فلا ندري من أيهما نعجب؟ من كعب أم من الخليفة عمر! وإن كانت موضوعة فهي تكشف عن أن مسألة احترام الخليفة لكعب وعلمه ، وسرعة (بديهة) كعب وتقربه الى الخليفة ، كانا أمرين معروفين عند الناس!

البخاري لا يوافق الخليفة على الرواية عن أهل الكتاب

عقد البخاري في صحيحه ج ٨ ص ١٦٠ بابا تحت عنوان (باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تسألوا أهل الكتاب عن شىء) شكك فيه بصدق كعب الأحبار فقال (وقال أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري أخبرني حميد بن عبد الرحمن سمع معاوية يحدث رهطا من قريش بالمدينة وذكر كعب الأحبار فقال : إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب!).

ثم روى أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله المسلمين بعدم الثقة بثقافة أهل الكتاب فقال (... عن أبي هريرة قال كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم. و (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى ..) الآية.

ثم روى صيحة ابن عباس في المسلمين ليكفوا عن أخذ ثقافتهم من أهل الكتاب! فقال (... عن عبيد الله بن عبد الله أن ابن عباس رضي الله عنهما قال كيف تسألون أهل الكتاب عن شىء وكتابكم الذي أنزل على رسول الله صلّى الله عليه

٤٤١

وسلم أحدث تقرءونه محضا لم يشب ، وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله وغيروه وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا إلا ينهاكم ما جاءكم من العلم!!). ونحوه في ج ٥ ص ١٥٠ ، ج ٨ ص ٢٠٨ و ٢١٣ وج ٣ ص ١٦٣

ولكن البخاري ـ الذي هو من بلاد ما وراء النهر البعيدة عن اليهود والنصارى ـ لم يلتفت الى أن صيحات ابن عباس هذه ما ارتفعت إلا بعد وفاة الخليفة عمر ، وبعد أن رأى موجة الثقافة اليهودية التي فتح بابها تضرب أطنابها في مساجد المسلمين وحديثهم وتفسيرهم وفقههم ، بفعل كعب وتلامذة كعب المحترمين! ولم يلتفت البخاري أيضا الى أن اتهامه كعبا بالكذب لا يرضي الخليفة عمر ، وأنه لو كان في زمن الخليفة فلربما أدبه بسبعين سوطا!

ابن الأثير يبرر عمل الخليفة

قال ابن الأثير في البداية والنهاية ج ١ ص ١٩ :

(... فإن كعب الأحبار لما أسلم في زمن عمر كان يتحدث بين يدي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأشياء من علوم أهل الكتاب فيستمع له عمر تأليفا له ، وتعجبا مما عنده مما يوافق كثير منه الحق الذي ورد به الشرع المطهر ، فاستجاز كثير من الناس نقل ما يورده كعب الأحبار لهذا ، ولما جاء من الإذن في التحديث عن بني إسرائيل ، لكن كثيرا ما يقع مما يرويه غلط كبير وخطأ كثير) انتهى.

وكأن ابن الأثير لم يقرأ روايات البخاري المتقدمة أو قرأها ولكن أولها بأن نهي النبي عن سؤال أهل الكتاب لا يعارض الاستفادة من ثقافتهم والتحديث عنهم ، فيكون بذلك قد أيد رأي الخليفة عمر.

والإذن الذي يقصده ابن الأثير رواية رووها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تقول (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ، أو ما شئتم) وقد فسرها الذين يوافقون الخليفة عمر في سياسة الانفتاح على ثقافة أهل الكتاب بأن معناها : يجوز لكم أن تحدثوا عنهم وترووا عنهم ما شئتم ولا حرج! ولكن إذا صحت الرواية فإن معناها : كل ما تقولون من تفصيلات عن أعمال أهل الكتاب التي نزل بها القرآن أو أخبركم بها نبيكم من

٤٤٢

تكذيبهم لأنبيائهم وانحرافهم وضلالهم .. فلا مبالغة فيه ، لأن تاريخهم ملىء وغريب .. دثوا عنهم ولا حرج! وهذا ضد ما أرادوه من رواية الحديث عنهم وأخذ ثقافتهم!! لقد لعب المفسرون بكلمة (حدثوا) ففسروها بالمعنى المصطلح عند المحدثين بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .. بينما هي في كلامه هنا بالمعنى اللغوي للتحديث لا بالمعنى الاصطلاحي!

وقد نصت على ما ذكرنا رواية في كنز العمال ج ١٠ ص ٢٣١ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال (تحدثوا عني ولا حرج ، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ، تحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ، فإنكم لا تحدثون عنهم بشيء إلا وقد كان فيهم أعجب منه ـ حم عن أبي هريرة) انتهى. ولكن هل يقنع بذلك ابن الأثير والأثيريين؟!

الشيخ أبو رية المصري يرى أن إسلام كعب مكيدة

قال الشيخ محمود أبو رية في كتابه أضواء على السنة المحمدية ص ١٤٥ (.. وقد كان أقوى هؤلاء الكهان دهاء وأشدهم مكرا ، كعب الأحبار ووهب بن منبه ، وعبد الله بن سلام. ولما وجدوا أن حيلهم قد راجت بما أظهروه من كاذب الورع والتقوى ، وأن المسلمين قد سكنوا اليهم ، واغتروا بهم ، جعلوا أول همهم أن يضربوا المسلمين في صميم دينهم ، وذلك بأن يدسوا الى أصوله التي قام عليه ما يريدون من أساطير وخرافات ، وأوهام وترهات ، لكي تهي هذه الأصول وتضعف.

لما عجزوا عن أن ينالوا من القرآن الكريم لأنه قد حفظ بالتدوين ، واستظهره آلاف من المسلمين ، وأنه قد أصبح بذلك في منعة من أن يزاد فيه كلمة أو يتدسس إليه حرف ـ اتجهوا الى التحديث عن النبي فافتروا ما شاءوا أن يفتروا عليه أحاديث لم تصدر عنه. وأعانهم على ذلك أن ما تحدث به النبي في حياته لم يكن محدد المعالم ، ولا محفوظ الأصول ، لأنه لم يكتب في عهده صلوات الله عليه كما كتب القرآن ، ولا كتبه صحابته من بعده ، وأن في استطاعة كل ذي هوى أو دخلة سيئة ، أن يدسس اليه بالافتراء ، ويسطو عليه بالكذب.

٤٤٣

ويسر لهم كيدهم أن وجدوا الصحابة يرجعون إليهم في معرفة ما لا يعلمون من أمور العالم الماضية. قال ابن الجوزي : لما لم يستطيع أحد أن يدخل في القرآن ما ليس منه أخذ أقوام يزيدون في الحديث ويضعون ما لم يقل (ص ١٤ ج ٢ تاريخ ابن عساكر) .... وبواسطة كعب وابن منبه وسواهما من اليهود الذين أسلموا تسربت الى الحديث طائفة من أقاصيص التلمود ـ الإسرائيليات ـ وما لبثت هذه الروايات أن أصبحت جزءا من الأخبار الدينية والتاريخية.

... وقال عنه الذهبي في تذكرة الحفاظ إنه : قدم من اليمن في دولة أمير المؤمنين عمر فأخذ عنه الصحابة وغيرهم وروى جماعة من التابعين مرسلا ، مات بحمص في سنة ٣٢ أو ٣٣ أو ٣٨ بعد ما ملأ الشام وغيرها من البلاد الإسلامية اليهودية برواياته وقصصه المستمدة من الأخبار ، كما فعل تميم الداري في الأخبار النصرانية) انتهى.

الخليفة عمر وتميم الداري

تميم الداري مسيحي لخمي ، أي من قبيلة لخم في سوريا ولبنان ، وفد هو وجماعته على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في السنة التاسعة للهجرة ، أي بعد أن شمل الإسلام كل الجزيرة العربية تقريبا. وكان ظاهر تميم الصلاح والتقوى ، على رغم أن عمله مع جماعته تجارة الخمور ، فقد ذكرت بعض الروايات أنه أراد أن يهدي الى النبي أدنانا من الخمر فرفضها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لأنها حرام ، فأصر عليه تميم أن يأخذها ويبيعها وينتفع بثمنها فقال له إن ثمنها أيضا حرام!

وكانت ثقافة تميم يهودية مع اهتمام كبير بالأمور الخارقة للعادة والأساطير .. فهو يجمع صفات (الحكواتي) النموذجي بالتعبير المصري. صار تميم الداري مقربا من الخليفة عمر بحكم احترام الخليفة للثقافة اليهودية وعلمائها ، والثقافة المسيحية فرع منها.

وطلب تميم من الخليفة أن يجيزه بأن يقص للمسلمين في مسجد النبي من قصص أهل الكتاب ، ولكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نهي المسلمين عن أخذ ثقافتهم من القصاصين ، ولذلك قال الخليفة لتميم (إني أخاف أن يجعلك الله تحت أقدامهم) يعني

٤٤٤

أخاف عليك إذا وقفت في المسجد تقص على المسلمين من قصص أهل الكتاب ، أن يدوسوك بأقدامهم. ولكن تميما استغل ليونة الخليفة واحترامه له وواصل طلبه من الخليفة .. فقال له عمر مرة (إنه الذبح) أي يذبحك المسلمون!

وقد كان هذا موقف الخليفة مع القصاصين الآخرين ، كما يذكر ابن شبة المتوفى سنة ٢٦٠ في كتابه تاريخ المدينة ج ١ ص ٩ ـ ١١ ، قال (مر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقاص ، فخفقه بالدرة وقال : ما أنت؟ قال : مذكر. قال كذبت ، قال الله جل ثناؤه (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ) ، ثم خفقه بالدرة فقال : ما أنت؟ قال : ما أدري ما أقول لك؟ قلت : قاص فرددت علي ، وقلت مذكر فرددت علي! فقال قل : أنا أحمق مراء متكلف!

حدثنا أحمد بن جنان ... مر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقاص فقال : ما أنت؟ قال : قاص ، قال : كذبت ، إنما يقص على الناس أمير أو مأمور ، فخفقه بالدرة وقال ما أنت؟ قال : مذكر ، قال : كذبت ، قال الله جل ثناؤه (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ). ثم خفقه بالدرة فقال : ما أنت؟ قال : ما أدري ما أقول لك! قلت : قاص فرددت علي وقلت : مذكر فرددت علي! فقال : قل أنا أحمق مراء متكلف. حدثنا محمد بن مصعب قال ، حدثنا الأوزاعي ، عن يحيى ، أن رجلا استأذن عمر رضي الله عنه في القصص فقال : وددت لو أنك رفعت الى الثريا ثم رمي بك الى الأرض ، فإياك وإياه ، فإنه الذبح) انتهى.

الى هنا نرى أن المسألة طبيعية منسجمة مع ما ينبغي لخليفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من رفض ثقافة القصاصين ..

ولكن الأمر اختلف بعد مدة وفي أواخر خلافته! وأصدر الخليفة إجازة لتميم الداري بالقص في مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله! مما يدل على أن الخليفة كان يحب ذلك فانتظر حتى يتهيأ الرأي العام لقبوله ..!

فكيف تهيأ الرأي العام وصار المسلمون يتقبلون مجلسا رسميا لقصص اليهود والنصارى في مسجد نبيهم؟!

٤٤٥

تشير الروايات الى أنه كان يوجد قصاصون متعددون صغار في مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل تميم ، بهم انفتح باب القص في المسجد! وأن الخليفة مر عليهم يوما فقال إنه يريد أن يجمعهم على قصاص واحد ، وكأنه قرر إنجاح مجلس كبير للقصاص الذي يريده وهو تميم!

وتذكر الروايات أن الخلفية لم يكتف لصاحبه تميم بإصدار المرسوم الخلافي فقط ، بل حضر شخصيا في مجلس قصصه وحكاياته ، من أجل تأييده ، ومن أجل إعلام الرأي العام أن الخليفة قد أعطى الشرعية لمجلس تميم وأفكاره! وعند ما حضر الخليفة في ذلك اليوم تحت منبر تميم أراد أن يسأله عن توضيح كلمة سمعها منه في تلك الجلسة ، ولكنه احترم تميما وكره أن يقطع كلامه!

والأعجب من ذلك أن الخليفة اختار لتميم أولا يوم الجمعة قبل خطبته هو ، ثم اختار له يوم السبت ، فصارت النتيجة مزيجا طريفا :

قسيس مسيحي سابقا ومسلم فعلا .. يقص على المسلمين قصص اليهود .. في مسجد نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وآله .. في يوم السبت!!

روى الإمام أحمد في مسنده ج ٣ ص ٤٤٩ (... عن الزهري عن السائب بن يزيد أنه لم يكن يقص على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا أبي بكر وكان أول من قص تميما الداري ، استأذن عمر بن الخطاب أن يقص على الناس قائما فأذن له عمر).

وروى ابن شبة في تاريخ المدينة ج ١ ص ١١ (... عن ابن شهاب قال : أول من قص في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تميم الداري : استأذن عمر رضي الله عنه أن يذكر الله مرة فأبى عليه ، ثم استأذن أخرى فأبى عليه ، حتى كان آخر ولايته ، فأذن له أن يذكر يوم الجمعة قبل أن يخرج عمر رضي الله عنه. فاستأذن تميم رضي الله عنه في ذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه فأذن له أن يذكر يومين من الجمعة ، فكان تميم يفعل ذلك.

... عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : خرج عمر رضي الله عنه الى المسجد ، فرأى حلقا في المسجد فقال ما هؤلاء؟ فقالوا قصاص ، فقال : وما القصاص؟

٤٤٦

سنجمعهم على قاص يقص لهم في يوم سبت مرة الى مثلها من الآخر. فأمر تميم الداري رضي الله عنه.

... عن السائب بن يزيد : أنه لم يكن قص على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر رضي الله عنه ، كان أول من قص تميم الداري رضي الله عنه. استأذن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يقص على الناس قائما ، فأذن له عمر رضي الله عنه. حدثنا أبو عاصم عن ابن أبي رواد ، عن نافع : أن تميما الداري رضي الله عنه استأذن عمر رضي الله عنه في القصص فقال : إني أخاف أن يجعلك الله تحت أقدامهم ـ وقال أبو عاصم مرة : إنه الذبح ، وأشار الى حلقه ـ فقال : إن لي فيه نية ، وأرجو أن أوجر فيه. فأذن له قال : وجلس إليه هو وابن عباس رضي الله عنهما. وقال أبو عاصم مرة : وجلس إليه في أصحابه وهو يقص ، فسمعه يقول (إياك وزلة العالم) فأراد أن يسأله عنها ، فكره أن يقطع به! قال : وتحدث هو وابن عباس رضي الله عنهما وتميم يقص ، وقاما قبل أن يفرغ.

حدثنا ابن أبي رجاء قال ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن ابن شهاب : إنه سئل عن القصص فقال : لم يكن إلا في خلافة عمر رضي الله عنه ، سأله تميم رضي الله عنه أن يرخص له في مقام واحد في الجمعة ، فرخص له (فسأله أن) يزيده فزاده مقاما آخر. ثم استخلف عثمان رضي الله عنه فاستزاده فزاده مقاما آخر ، فكان يقوم ثلاث مرات في الجمعة.

حدثنا موسى بن إسماعيل قال ، أنبأنا أبو عثمان قال : حدثنا عتبة أن تميم الداري رضي الله عنه استأذن عمر رضي الله عنه أن يقص ، فقال : لا. ثم استأذن أيضا ، فقال : أما إني آذن لك فيه ، وأعلمك أنه الذبح ، وأشار الى حلقه). وروى نحوه في كنز العمال ج ١٠ ص ٢٨٠ ، وقال في رمزه : المروزي في العالم ـ العسكري في المواعظ ـ أبو نعيم) ونحوه في مجمع الزوائد ج ١ ص ١٩٠ ، وقال (رواه أحمد والطبراني في الكبير).

إن هذا التغير في موقف الأمة من ثقافة (القصاصين) أي رواة قصص أهل الكتاب في مدة قليلة من أول خلافة عمر الى أواخرها ، يدل على وجود عمل في هذا الإتجاه ، كما يدل على أن سماع ثقافة أهل الكتاب اتسع في المسلمين حتى صار مألوفا ، بل

٤٤٧

صار هو المادة الوحيدة بعد القرآن بسبب سياسة تغييب السنة ومنع التحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله!!

أحاديث الجساسة والدجال

لا يكاد مصدر مهم من مصادر إخواننا السنة يخلو من حديث تميم الداري عن الجساسة والدجال اللذين رآهما أقارب تميم في جزيرة كأنها جزيرة قبرص ، وأحاديث أخرى مشابهة عن الدجال تؤكد حتمية خروجه ، وأنه قد ولد في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنه حي يرزق قد مد الله تعالى في عمره حتى يخرج فيضل به خلق كثير ، وأن اسمه صائد أو عبد الله بن صياد من أهل المدينة!

ولذا تجد إخواننا السنة يعتقدون بوجوده لأن رواياته عندهم صحيحة من الدرجة الأولى .. ولكن بعضهم يشنع علينا اعتقادنا بالأحاديث المتواترة الصحيحة عندنا بأن الإمام المهدي عليه‌السلام قد مد الله تعالى في عمره حتى يظهره ويظهر به الإسلام على الدين كله! وقد اخترع بعضهم قصصا وأساطير عن انتظار الشيعة للإمام المهدي عليه‌السلام وسرداب الغيبة .. الخ. فكأن تمديد الحياة لأعداء الله ممكن ، ولأوليائه مستحيل! وكأن باء الدجال تجر وباءنا المهدي لا تجر! وكأن روايات تميم وكعب وأمثالهم أوثق من روايات علي وبقية أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله!!

لا شك عندنا في أن أصل رواية الدجال رواية صحيحة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن من حق الباحث أن يتساءل عن هذا الحجم الضخم لمسألة الدجال ، أليس من الممكن أن تكون أثرت فيها رواسب الثقافة اليهودية عن طريق كعب وتميم ..؟

وأن يتساءل عن ذلك المدني عبد الله ابن صياد الذي كان مسلما عاديا وشارك في الفتوحات وتوفي .. أليس من الممكن أن يكون ضحية هذه التأثيرات؟!

ويظهر أن حديث (جساسة) تميم كان قبل حديث ابن صياد .. يقول تميم :

(صلّى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم الظهر ، ثم صعد المنبر ، فاستنكر الناس ذلك فبين قائم وجالس ، ولم يكن يصعده قبل ذلك إلا يوم الجمعة ، فأشار إليهم بيده أن اجلسوا ، ثم قال : والله ما قمت مقامي هذا لأمر (ينفعكم) لرغبة ولا لرهبة ،

٤٤٨

ولكن تميما الداري أتاني فأخبرني خبرا منعني القيلولة من الفرح وقرة العين ، ألا إن بني عم لتميم الداري أخذتهم عاصف في البحر فألجأتهم الريح إلى جزيرة لا يعرفونها ، فقعدوا في قوارب السفينة فصعدوا فإذا هم بشيء أسود أهدب كثير الشعر ، قالوا لها ما أنت؟ قالت : أنا الجساسة ، قالوا : فأخبرينا ، قالت : ما أنا بمخبرتكم ولا سائلتكم عنه ، ولكن هذا الدير قد رمقتموه فأتوه فإن فيه رجلا بالأشواق الى أن يخبركم وتخبروه ، فأتوه فدخلوا عليه فإذا هم بشيخ موثق في الحديد شديد الوثاق كثير الشعر فقال لهم : من أين؟ قالوا : من الشام قال : ما فعلت العرب؟ قالوا نحن قوم من العرب ، قال : ما فعل هذا الرجل الذي خرج فيكم؟ قالوا : خير ناواه قوم فأظهره الله عليهم فأمرهم اليوم جميع وإلههم واحد ودينهم واحد ، قال : ذلك خير لهم ، قال : ما فعلت عين زغر؟ قالوا : يسقون منها زروعهم ويشربون منها لسقيهم ، قال : ما فعل نخل بين عمان وبيسان؟ قالوا : يطعم في جناه كل عام ، قال : ما فعلت بحيرة طبرية؟ قالوا : تدفق جانباها من كثرة الماء ، فزفر ثلاث زفرات ثم قال : إني لو قد انفلت من وثاقي هذا لم أترك أرضا إلا وطأتها بقدمي هاتين إلا طيبة ليس لي عليها سلطان. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الى هذا انتهى فرحي ، هذه طيبة والذي نفس محمد بيده ما منها طريق ضيق ولا واسع إلا عليه ملك شاهر بالسيف الى يوم القيامة) انتهى.

وقد أوردنا هذا الحديث في (معجم أحاديث الإمام المهدي عليه‌السلام) تحت رقم ٤٧٠ واستوفينا ذكر مصادره وقلنا هناك :

(يختلف التصور الذي تقدمه الأحاديث الواردة في مصادرنا الشيعية عن الدجال وحركته ، عن التصور الذي تقدمه الأحاديث الواردة في المصادر السنية ببعض الأمور :

منها : خلو أحاديثنا من أكثر العناصر التصويرية المتقدمة.

ومنها : أن حركة الدجال فيها ليست حادثا ابتدائيا بل هي حركة مضادة لثورة الإمام المهدي الشاملة ، وقوام هذه الحركة المضادة اليهود ، والمنافقون من الداخل الذين يتصفون بدرجة خاصة من العداء للإمام المهدي وأهل البيت عليهم‌السلام.

ومنها : أن الذي يقتل الدجال هو الإمام المهدي وليس عيسى عليهما‌السلام) انتهى.

٤٤٩

وهناك روايات في مصادر إخواننا السنة تؤيد ما ورد في مصادرنا عن الدجال .. منها ما رواه الطبراني في معجمه الصغير ج ١ ص ١٣٩ (... عن حنش بن المعتمر ، أنه سمع أبا ذر الغفاري يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح ، من ركب فيها نجا ، ومن تخلف عنها غرق ، ومن قاتلنا في آخر الزمان فكأنما قاتل مع الدجال) انتهى ، وروى نحوه الحاكم في مستدركه ج ٣ ص ١٥٠ ـ ١٥١ ومسند الشهاب ج ٢ ص ٢٧٣ وابن المغازلي في المناقب ص ٦٨ ح ٩٩ ، وص ١٣٤ والشجري في الأمالي : ج ١ ص ١٥١ .. وغيرهم.

وروى الطوسي في الأمالي ج ١ ص ٥٩ وفيه (... وقاتل أهل بيتي في الثانية حشره الله تعالى في الثالثة مع الدجال. إنما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق ، ومثل باب حطة من دخله نجا ومن لم يدخله هلك) انتهى ، ونحوه في ج ٢ ص ٧٤ ورواه في الإيقاظ من الهجعة ص ٢٤٥ و ٢٤٦ ، ومجمع الرجال ج ٢ ص ٥٦ ، وبحار الأنوار ج ٢ ص ٤٠٨ وج ٢٣ ص ١١٩ ، والدرجات الرفيعة ص ٢٣٩ ، وتنقيح المقال ج ١ ص ٢٣٥ ، ومعجم رجال الحديث ج ٤ ص ١٦٧ .. وتفصيل ذلك خارج عن بحثنا ..

نتيجة احترام الخليفة لتميم الداري!

إن تأثير كعب وتميم وتلامذة مدرستهما على ثقافتنا الإسلامية ، ليس من نوع واحد ، فمنه الواضح البين .. ومنه الخفي البين الذي يمكنك أن تلحظه إذا تأملت أكثر ودققت .. ومنه الخفي الخفي ، الذي يحتاج الى اطلاع واسع على الإسلام واليهودية والنصرانية لتمييز مفردات عقائدها وأحكامها وإرجاع المورد الى أصله!

ثم منه ما يسهل إقناع إخواننا السنة به ، ومنه ما يصعب إقناعهم به أو يستحيل ، لأن فلانا روى فيه رواية أسندها الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو لأن فلانا من الصحابة تبناه!

على أي حال صار تميم وكعب وجماعتهما عند إخواننا السنة بسبب احترام الخليفة عمر ، من أولياء الله الصالحين .. وصار ما يروى عنهم مقبولا عند إخواننا حتى لو شموا منه رائحة يهودية قوية.

والظاهر أن مجلس القص الذي استمر عليه تميم نحو عشر سنين في مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أعطاه مكانة عند عوام المسلمين فوق مكانة كعب .. ونكتفي هنا بذكر نماذج مما رووه من كراماته :

٤٥٠

قال الذهبي في سير أعلام النبلاء ج ٢ ص ٤٤٥ (... عن المنكدر بن محمد ، عن أبيه : أن تميما الداري نام ليلة لم يقم يتهجد ، فقام سنة لم ينم فيها ، عقوبة للذي صنع! ... وروى حماد ، عن ثابت : أن تميما أخذ حلة بألف ، يلبسها في الليلة التي ترجى فيها ليلة القدر) انتهى ، ولعل الألف درهم في عصره كانت تشتري مائتي شاة!

وقال البيهقي في دلائل النبوة ج ٦ ص ٨٠ (باب ما جاء في الكرامة التي ظهرت على تميم الداري رضي الله عنه شرفا للمصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتنويها باسم من آمن به. أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ... عن أبي العلاء ، عن معاوية بن حرمل ، قال : قدمت المدينة فلبثت في المسجد ثلاثا لا أطعم ، قال : فأتيت عمر ، فقلت : يا أمير المؤمنين تائب من قبل أن يقدر عليه ، قال : من أنت؟ قلت : أنا معاوية بن حرمل ، قال : اذهب الى خير المؤمنين فأنزل عليه ، قال : وكان تميم الدارمي إذا صلّى ضرب بيده عن يمينه وعن شماله فأخذ رجلين فذهب بهما ، فصليت الى جنبه فضرب يده فأخذ بيدي فذهب بي فأتينا بطعام ، فأكلت أكلا شديدا وما شبعت من شدة الجوع ، قال : فبينا نحن ذات يوم إذ خرجت نار بالحرة فجاءه عمر الى تميم فقال : قم الى هذه النار ، فقال يا أمير المؤمنين! ومن أنا وما أنا ، قال : فلم يزل به حتى قام معه ، قال وتبعتهما فانطلقا الى النار ، فجعل تميم يحوشها بيده حتى دخلت الشعب ، ودخل تميم خلفها!! قال : فجعل عمر يقول : ليس من رأى كمن لم ير. قالها ثلاثا. لفظ حديث الصنعاني) انتهى.

ورواه الذهبي في سير أعلام النبلاء ج ٢ ص ٤٤٧ وقال (سمعها عفان من حماد ، وابن حرمل لا يعرف) وقال في هامشه (هذا ما قاله المؤلف هنا وفي تاريخه ٢ ـ ١٨٩ ، أما الحافظ ابن حجر فقد ذكره في الإصابة ١٠ ـ ٣٥ في القسم الثالث فقال : معاوية بن حرمل الحنفي صهر مسيلمة الكذاب ، له إدراك. وكان مع مسيلمة في الردة ، ثم قدم على عمر تائبا ، ثم أورد هذا الخبر من طريق البغوي ، عن الجريري) انتهى.

وما ندري لما ذا اكتفى الذهبي بقوله عن ابن حرمل : لا يعرف .. ولما ذا لم يوجد أحد من المسلمين يروي هذا الحديث والحدث الكبير الذي وقع في المدينة في عهد الخليفة

٤٥١

عمر ، إلا صهر مسيلمة الكذاب ، الجائع ، الذي بقي فارا بعد قتل مسيلمة ولم يتب إلا في زمن الخليفة عمر؟!

هل أجلى الخليفة عمر يهود خيبر؟

تضمنت روايات رزية الخميس في مصادر إخواننا السنة وصية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بإجلاء المشركين من جزيرة العرب ، أو اليهود والنصارى كما في عدد منها .. وقالت مصادر حديثهم وفقههم إن الخليفة عمر عمل بهذه الوصية وأجلاهم .. واستشهدوا لذلك بإجلائه يهود خيبر الى أريحا بفلسطين عند ما اعتدوا على ولده عبد الله .. قال البخاري في صحيحه ج ٥ ص ١٣٧ :

(... عن سعيد بن جبير قال قال ابن عباس : يوم الخميس وما يوم الخميس؟ اشتد برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجعه فقال : ائتوني أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا ، فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع ، فقالوا ما شأنه أهجر؟! استفهموه!! فذهبوا يردون عليه!! فقال دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه!! وأوصاهم بثلاث قال : أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم. وسكت عن الثالثة ، أو قال فنسيتها!!).

ثم أطالت المصادر في رواية اعتداء يهود خيبر على عبد الله بن عمر ، ومصادرة عمر لأرضهم وإجلائهم الى تيماء التي تبعد ٣٠٠ كيلومترا عن خيبر ، والى أريحا بفلسطين. قال البخاري في صحيحه ج ٣ ص ١٧ :

(... عن نافع عن ابن عمر قال لما فدع أهل خيبر عبد الله بن عمر قام عمر خطيبا فقال إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان عامل يهود خيبر على أموالهم وقال نقركم ما أقركم الله ، وأن عبد الله بن عمر خرج إلى ماله هناك فعدي عليه من الليل ففدعت يداه ورجلاه ، وليس لنا هناك عدو غيرهم ، هم عدونا وتهمتنا ... فأجلاهم عمر وأعطاهم قيمة ما كان لهم من الثمر مالا وإبلا وعروضا من أقتاب وحبال وغير ذلك) انتهى.

ورواه مسلم ج ٥ ص ٢٧ ، وأبو داود ج ٢ ص ٣٥ وأحمد ج ١ ص ١٤ ، والبيهقي في سننه ج ٦ ص ١١٥ و ١٣٥ وج ٩ ص ٥٦ و ١٣٧ و ٢٠٧ و ٢٠٨ و ٢٢٤ ، وابن شبة في تاريخ المدينة ج ١ ص ١٧٦ ـ ١٩٤ والسيوطي في الدر المنثور ج ٣ ص ٢٢٨ ، والهندي في كنز العمال ج ٤ ص ٥٠٣

وقال البخاري في صحيحه ج ٣ ص ٧١ وج ٤ ص ٦١ (... حتى أجلاهم عمر في إمارته إلى تيماء وأريحا).

٤٥٢

وفي سيرة ابن هشام ج ٣ ص ٣٨٩ ـ تحقيق السقا :

(قال ابن اسحاق : وحدثني نافع ، مولى عبد الله بن عمر ، عن عبد الله بن عمر ، قال : خرجت أنا والزبير والمقداد بن الأسود إلى أموالنا بخيبر نتعاهدها ، فلما قدمنا تفرقنا في أموالنا ، قال : فعدي عليّ تحت الليل ، وأنا نائم على فراشي ، ففدعت يداي من مرفقي ، فلما أصبحت استصرخ عليّ صاحباي فأتياني فسألاني من صنع هذا بك؟ قلت : لا أدري ، قال : فأصلحا من يدي ، ثم قدما بي على عمر رضي الله عنه ، فقال : هذا عمل يهود ، ثم قام في الناس خطيبا فقال : أيها الناس إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان عامل يهود خيبر على أنا نخرجهم إذا شئنا ، وقد عدوا على عبد الله بن عمر ، ففدعوا يديه كما قد بلغكم ، مع عدوهم على الأنصاري قبله ، لا نشك أنهم أصحابه ، ليس لنا هناك عدو غيرهم ، فمن كان له مال بخيبر فليلحق به ، فإني مخرج يهود ، فأخرجهم).

وفي كنز العمال ج ٤ ص ٥٠٩ :

(عن يحيى بن سهل بن أبي حثمة قال : أقبل مظهر بن رافع الحارثي إلى أبي بأعلاج من الشام عشرة ليعملوا في أرضه فلما نزل خيبر أقام بها ثلاثا فدخلت يهود للأعلاج وحرضوهم على قتل مظهر ودسوا لهم سكينين أو ثلاثا فلما خرجوا من خيبر ، وكانوا بثبار وثبوا عليه فبعجوا بطنه فقتلوه ثم انصرفوا إلى خيبر فزودتهم يهود وقوتهم حتى لحقوا بالشام ، وجاء عمر بن الخطاب الخبر بذلك فقال : إني خارج إلى خيبر فقاسم ما كان بها من الأموال ، وحاد حدودها ومورف أرفها ومجل يهود عنها ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لهم أقركم ما أقركم الله ، وقد أذن الله في إجلائهم ففعل ذلك بهم ـ ابن سعد).

وقال ابن كثير في السيرة النبوية ج ٣ ص ٣٧٨ :

(... فلما كان في زمان عمر غشوا المسلمين وألقوا ابن عمر من فوق بيت ففدعوا يديه ، فقال عمر : من كان له سهم بخيبر فليحضر حتى نقسمها ، فقسمها بينهم فقال رئيسهم : لا تخرجنا دعنا نكون فيها كما أقرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر. فقال عمر : أتراني سقط عليّ قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كيف بك

٤٥٣

إذا وقصت بك راحلتك نحو الشام يوما ثم يوما ثم يوما. وقسمها عمر بين من كان شهد خيبر من أهل الحديبية. وقد رواه أبو داود مختصرا من حديث حماد بن سلمة. قال البيهقي : وعلقه البخاري في كتابه فقال : ورواه حماد بن سلمة. قلت : ولم أره في الاطراف فالله أعلم) انتهى.

نفهم من هذه الروايات أن الخليفة عمر أبقى اليهود في خيبر وفي جزيرة العرب الى أن وقعت حادثة الاعتداء على ابنه .. وعند ذلك عاقبهم أو أجلاهم! وانحصرت القصة فقط بيهود خيبر ، لأن سياسة الخليفة مع اليهود كانت بعمومها إيجابية ، وكانوا أحرارا في التنقل والسكن والتجارة في الجزيرة وغيرها .. وكان علماؤهم محترمين مقدرين أكثر من غيرهم ..

هذا إذا صحت تسمية إجلائهم الى منطقة أريحا في فلسطين طردا .. فهي هدفهم الذي يشكرون الخليفة عليه ، خاصة إذا أعطاهم فيها أراضي خيرا من أراضي خيبر ونجران!!

بل تدل الرواية التالية على أن إجلاءهم من الجزيرة كان مطلبا للمسلمين وأن الخليفة عمر كان يفكر فيه ويعد به عند ما يأتي وقته!

قال أحمد في مسنده ج ١ ص ٣٢ :

(... عن أبي الزبير عن جابر عن عمر رضي الله عنه قال لئن عشت إن شاء الله لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب!).

ولا بد أن يهود نجران قاموا بتصرف عدواني كيهود خيبر فعاقبهم الخليفة! والظاهر أنه لم يجلهم من نجران كما تدل الرواية التالية التي رواها أحمد في مسنده ج ١ ص ٨٧ :

(... عن عدي بن ثابت عن أبي ظبيان عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا على إن أنت وليت الأمر بعدي فأخرج أهل نجران من جزيرة العرب) انتهى.

فهذه الرواية إن كانت صادرة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فهي تدل على أنهم سيبقون في نجران الى خلافة علي عليه‌السلام ، وإن كانت موضوعة فهي تدل على أن إجلاءهم قام به علي عليه‌السلام!

٤٥٤

مذهب أهل البيت أبعد المذاهب عن الثقافة اليهودية

إذا كان عند الباحث معرفة بالثقافة اليهودية وحساسية منها ، ومشى بهذا النور في مصادر الإسلام متتبعا احتمالات التسرب والتأثير .. فلن يجد معينا صافيا لا شائبة فيه إلا الثروة المروية عن أهل البيت عليهم‌السلام.

ولا يهمنا أن يستكثر الآخرون هذه الدعوى .. ولكن يهمنا أن يبحثوا في مفردات ما أنزل الله تعالى على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله برواية أهل بيته .. ثم يقارنوا بينها وبين مثيلاتها من رواية غير أهل البيت ، من زاوية القرب والبعد عن الثقافة اليهودية ، ومن زاوية احتمال التسرب والتأثر ، ومن زاوية التعبير عن استقلال الشخصية الفكرية للوحي المنزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .. ثم يحكموا!

ونكتفي هنا بذكر نماذج تدل على اعتداد النبي وآله صلى‌الله‌عليه‌وآله بثقافة الإسلام الربانية ، وحرصهم على الابتعاد عن ثقافة أهل الكتاب والتميز عليها :

قال الشيخ الصدوق في الهداية ص ٧٠ (وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لفاطمة عليها‌السلام : انقبي على أذني ابني الحسن والحسين خلافا على اليهود) انتهى.

وجاء في قاموس الكتاب المقدس ص ٣١٦ (وكانت عادة قومية عند الاسماعيليين أن يلبس الرجال أقراطا ـ قضاة ٨ : ٢٥ و ٢٦) انتهى.

* * *

وقال الصدوق في كتاب من لا يحضره الفقيه ج ١ ص ٣٩٠ (وإذا فرغ الإمام من قراءة الفاتحة فليقل الذي خلفه (الحمد لله رب العالمين) ولا يجوز أن يقال بعد قراءة فاتحة الكتاب (آمين) لأن ذلك كانت تقوله النصارى) انتهى.

وروى في تهذيب الأحكام ج ٢ ص ٧٥ (... عن معاوية بن وهب قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام (الإمام الصادق) : أقول آمين إذا قال الإمام غير المغضوب عليهم ولا الضالين؟ قال : هم اليهود والنصارى! ولم يجب في هذا) انتهى.

وروى في الاستبصار ج ١ ص ٣١٨ عن الإمام الصادق عليه‌السلام أيضا أنه قال (إذا كنت خلف إمام فقرأ الحمد وفرغ من قراءتها فقل أنت الحمد لله رب العالمين ولا تقل آمين) انتهى.

٤٥٥

وقال الراغب الأصفهاني في المفردات ص ٢٦ (آمين : يقال بالمد والمقصر ، وهو اسم للفعل نحو صه ومه. قال الحسن : معناه استجب. وأمن فلان إذا قال آمين. وقيل : آمين اسم من أسماء الله تعالى) انتهى ، ويفهم من كلام هذا اللغوي أنه غير متأكد من معنى آمين ، ولذا جعله على ذمة الحسن البصري. ولكن أخذ على ذمته فعل (أمّن) المشتق منها فيما بعد!

وفي هامش الإنجيل طبعة دار الكتاب المقدس صفحة ٥٤٨ (آمين (حقا) كلمة من الكلمات الآرامية الأربع التي حفظت في النص اليوناني في صيغ العهد الجديد الطقسية. إنها تؤكد على أمانة الرب وإيمان الإنسان خلافا لما كان يفعل الربانيون ، كان يسوع يستهل أقواله بقوله (آمين أقول لكم) في الأناجيل الأزائية أكثر من خمسين مثلا على ذلك. أما الإنجيل الرابع ، فانه يكرر كلمة آمين مرتين للتأكيد على القول والتفخيم : آمين ، آمين ، أقول لكم ، يو ١ / ٥١ ، لكن لفظ آمين يكون في أغلب الأحيان خاتمة لليترجية ، وفي ليترجية الافخارستيا مثل بليغ (راجع روم ١٦ / ٢٧ و ١ قور ١٤ / ١٦ ورؤ ٥ / ١٤ ويستعمل سفر الرؤيا مفردات بولس فيسمي يسوع (آمين) (رؤ ٣ / ١٤) انتهى.

نعم ورد في روايات أهل البيت عليهم‌السلام استحسان كلمة آمين في غير الصلاة ، ومن المحتمل أن تكون دخلت الى اللغة العربية من يهود المدينة أو من نصارى الشام ونجران ثم صار معناها : استجب .. لكن مع ذلك نهى أهل البيت عنها في الصلاة واستنكروا أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قالها في صلاته.

* * *

وقال الشيخ المفيد في المقنعة ص ٣١٦ (والسحور في شهر رمضان من السنة ، وفيه فضل كبير لمعونته على الصيام ، والخلاف فيه على اليهود ، والاقتداء بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله) انتهى.

* * *

وقال السيد المرتضى في الانتصار ص ١٩٣ (مسألة : ومما انفردت به الإمامية أن كل طعام عالجه الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم ممن يثبت كفرهم بدليل قاطع فهو حرام لا يجوز أكله ولا الانتفاع به ، وقد خالف باقي الفقهاء في ذلك ، وقد دللنا على هذه المسألة في كتاب الطهارة ، حيث دللنا أن سؤر الكفار نجس) انتهى.

* * *

٤٥٦

وقال الشيخ الطوسي في الخلاف ج ١ ص ٢٥٥ (دليلنا إجماع الفرقة وروى ابن عباس ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : خمروا وجوه موتاكم ، ولا تشبهوا باليهود) انتهى.

* * *

وقال في ص ٢٦٤ (وأيضا روى عبادة بن صامت قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا كان في جنازة لم يجلس حتى يوضع في اللحد ، فاعترض بعض اليهود وقال : إنا لنفعل ذلك فجلس وقال : خالفوهم) انتهى.

* * *

وقال في ص ٤٥٢ (مسألة ٣٥٠ ـ لا يجوز أن يتولى ذبح الهدي والأضحية أحد من الكفار ، ولا اليهود ولا المجوس ولا النصارى. ووافقنا الشافعي في المجوس ، وكره في اليهودي والنصراني ، وأجازه).

وقال في الخلاف ج ٣ ص ٢٤٩ (لا تجوز ذبائح أهل الكتاب اليهود والنصارى عند المحصلين من أصحابنا وقال شذاذ منهم إنه يجوز أكله ، وخالف جميع الفقهاء في ذلك. دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم ، وإنما يخالف فيها من لا يعتد بقوله من الطائفة وأيضا قوله تعالى (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) انتهى.

* * *

وقال المحقق الحلي في المعتبر ج ٢ ص ٤٥٢ (ويكره أن تكون محاريبها داخلة في الحائط ، لما روى طلحة بن زيد عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن أبيه عن علي عليهما‌السلام أنه كان يكسر المحاريب اذا رآها في المسجد ويقول انها مذابح اليهود) انتهى.

* * *

وقال في كشف الرموز ج ١ ص ٣٨١ (... عن يزيد بن خليفة ، قال : رآني أبو عبد الله عليه‌السلام أطوف حول الكعبة وعليّ برطلة ، فقال لي بعد ذلك : قد رأيتك تطوف حول الكعبة وعليك برطلة! لا تلبسها حول الكعبة فإنها من زي اليهود) انتهى.

٤٥٧

شىء من الانصاف للشيعة!

لو كان عند الشيعة نصف كعب الأحبار .. أو نصف وهب بن منبه .. أو نصف أبي شعيون .. أو نصف تميم الداري .. أو أي شخص من أولئك المستشرقين القدامى .. لقامت القيامة على رءوسهم من إخوانهم السنة!

ومع كل الذي رأينا نماذجه .. فالقيامة قائمة على رءوسنا! وما زال بعض الكتاب (الأكاديميين) والعلماء (الباحثين) يلصقون الإسرائيليات بالشيعة.

حدثني الأستاذ الشيخ مصطفى الزرقا ، وهو من كبار فقهاء السنة في عصرنا ، ومن أبرز عقولهم العلمية المحترمة ، عن جلسة من جلسات مؤتمر البحوث الإسلامية في القاهرة في أواخر الستينات فقال : تحدث أحد المحاضرين عن مشكلة الإسرائيليات في مصادر المسلمين فحمل على الشيعة الذين جلبوا على المسلمين هذا البلاء ، وأطال في ذلك. فطلبت الكلام بعده وقلت : لا يصح أن نظلم الشيعة ، لأنهم طائفة إسلامية لها عراقتها وأصالتها العلمية ، وقد اطلعت على مصادر من فقههم فرأيته فقها قوي المنطق والحجة مستندا الى القرآن والسنة .. والإسرائيليات بلاء عام ابتليت به مصادرنا كما ابتليت به مصادر الشيعة ، فلا يصح أن نقول إنه جاءنا منهم ..

إن هذا الموقف شبه المنصف لهذا الفقيه يدل على اطلاعه على مصادر السنة وشىء من مصادر الشيعة .. ولكني مطمئن بأنه لو اطلع أكثر لقال : إن بلاء الإسرائيليات في مصادر المسلمين وإن كان مشتركا بين السنة والشيعة ، إلا أن منبعه عند السنة وبعض ترشحاته عند الشيعة .. والسبب في ذلك أن السلطة كانت بيد خلفاء السنة وأئمتهم ، وكان علماء اليهود وحملة ثقافتهم يتقربون إليهم فقربوهم وأجازوا لهم بث ثقافتهم في المسلمين .. أما الشيعة فكانوا أقلية محكومين ، وكان اليهود يبتعدون عنهم خوفا من غضب السلطة.

ولو اطلع أكثر لقال : أما علي والأئمة من أهل بيت النبي فلم يكونوا بحاجة لأن تكون لهم علاقات ثقافية مع اليهود والنصارى ، بل كانوا يأنفون من الاستماع الى

٤٥٨

علومهم المحرفة .. ولم يعهد عنهم أنهم مدحوا شخصيات أهل الكتاب أو ثقافتهم بكلمة واحدة ، بل كانوا أقوى المناظرين لهم ، وكان المسلمون إذا أحرجوا في مسألة من أهل الكتاب هرعوا الى أهل بيت نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وآله ليأخذوا جوابها ..

ومن المعروف عن علي عليه‌السلام أن حاخاما يهوديا قال له : سرعان ما اختلفتم في نبيكم. يقصد في أمر الخلافة. فأجابه عليه‌السلام : نحن لم نختلف في نبينا بل اختلفنا عنه ، وأما أنتم فما جفت أقدامكم من البحر حتى قلتم : يا موسى اجعل لنا إلها كما لهؤلاء!!

إننا على يقين بأن الباحثين المنصفين في سلوك أهل البيت عليهم ، وفقههم والعلوم التي أثرت عنهم ، سوف يصلون الى نتيجة تقول : إن أصفى المذاهب وأبعدها عن التأثر بثقافة أهل الكتاب : هو مذهب أهل البيت عليهم‌السلام.

* * *

٤٥٩
٤٦٠