تدوين القرآن

الشيخ علي الكوراني العاملي

تدوين القرآن

المؤلف:

الشيخ علي الكوراني العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: باقري
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٧

محمد علم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليا عليه‌السلام ألف باب يفتح من كل باب ألف باب! قال قلت : هذا والله العلم. قال : فنكت ساعة في الأرض ثم قال : إنه لعلم وما هو بذاك.

قال ثم قال : يا أبا محمد وإن عندنا الجامعة وما يدريهم ما الجامعة؟ قال قلت : جعلت فداك وما الجامعة؟ قال : صحيفة طولها سبعون ذراعا بذراع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وإملائه من فلق فيه وخط علي بيمينه ، فيها كل حلال وحرام وكل شىء يحتاج الناس إليه حتى الأرش في الخدش ... إلخ).

وفي ج ١ ص ٢٤١ :

(... عن بكر بن كرب الصيرفي قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : إن عندنا ما لا نحتاج معه الى الناس ، وإن الناس ليحتاجون إلينا ، وإن عندنا كتابا إملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وخط علي عليه‌السلام ، صحيفة فيها كل حلال وحرام ... وإنكم لتأتونا بالأمر فنعرف إذا أخذتم به ونعرف إذا تركتموه!).

وفي ج ١ ص ٢٩٦ :

(... عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : كان في ذؤابة سيف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صحيفة صغيرة ، فقلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أي شىء كان في تلك الصحيفة؟ قال : هي الأحرف التي يفتح كل حرف ألف حرف. قال أبو بصير : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : فما خرج منها حرفان حتى الساعة!).

وروى البرقي في بصائر الدرجات ص ١٥٩ :

(حدثنا أحمد بن محمد عن الحسن بن علي عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال ذكروا ولد الحسن فذكروا الجفر فقال : والله إن عندي لجلدي ماعز وضأن إملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وخطه علي بيده. وإن عندي لجلدا سبعين ذراعا أملاه رسول الله وخطه علي بيده! وإن فيه لجميع ما يحتاج إليه الناس حتى أرش الخدش!).

٣٦١

وقال السيد الأرموي محقق كتاب الإيضاح لابن شاذان ص ٤٦٦ :

(فممن صرح بهذا المطلب المحقق الشريف الجرجاني فإنه قال في مبحث العلم من شرح المواقف عند ذكر الماتن أعني القاضي عضد الدين الإيجي (أنظر ص ٢٧٦ من طبعة بولاق سنة ١٣٦٦) ما نصه :

الجفر والجامعة. وهما كتابان لعلي رضي الله عنه قد ذكر فيهما على طريقة علم الحروف الحوادث التي تحدث الى انقراض العالم ، وكانت الأئمة المعروفون من أولاده يعرفونهما ويحكمون بهما. وفي كتاب قبول العهد الذي كتبه علي بن موسى رضي الله عنهما الى المأمون : إنك قد عرفت من حقوقنا ما لم يعرف آباؤك وقبلت منك عهدك ، إلا أن الجفر والجامعة يدلان على أنه لا يتم!

ولمشايخ المغاربة نصيب من علم الحروف ينتسبون فيه الى أهل البيت ورأيت أنا بالشام نظما أشير فيه بالرموز الى أحوال ملوك مصر ، وسمعت أنه مستخرج من ذينك الكتابين ...

وقال الشيخ الأجل بهاء الملة والدين محمد بن الحسين العاملي في شرح الأربعين حديثا عند شرحه الحديث الحادي والعشرين ما نصه :

وقد تظافرت الأخبار بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أملى لعلي عليه‌السلام كتابي الجفر والجامعة وأن فيهما علم ما كان وما يكون الى يوم القيامة ، ونقل الشيخ الجليل عماد الإسلام محمد بن يعقوب الكليني في كتاب الكافي عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام أحاديث كثيرة في أن ذينك الكتابين كانا عنده ، وأنهما لا يزالان عند الأئمة عليهم‌السلام يتوارثونهما واحدا بعد واحد ...

وقال الدميري في حياة الحيوان في باب الجيم تحت عنوان (الجفرة) ما نصه : فائدة : قال ابن قتيبة في كتاب أدب الكاتب : وكتاب الجفر جلد جفر كتب فيه الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهما‌السلام لآل البيت كل ما يحتاجون الى علمه وكل ما يكون الى يوم القيامة.

وإلى هذا الجفر أشار أبو العلاء المعري بقوله :

لقد عجبوا لأهل البيت لما

أتاهم علمهم في مسك جفر

ومرآة المنجم وهي صغرى

أرته كل عامرة وقفر

٣٦٢

ثم قال محقق الكتاب المذكور :

أقول : البيتان من لزوميات أبي العلاء وما قبلهما ثلاثة أبيات فمجموع القطعة خمسة أبيات ، فإن أردت أن تلاحظها فراجع ج ٢ من طبعة مكتبة صادر بيروت ص ٢٤٩ وأما الكتاب المنقول عنه الكلام فالصحيح أنه تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة كما صرح به ابن خلكان واشتبه الأمر على الدميري فإنا راجعنا أدب الكاتب لابن قتيبة فلم نجد هذا المطلب فيه ، وأما تأويل مختلف الحديث فالقصة مذكورة فيها (انظر ص ٨٥) وأما ما ذكره السيد الجرجاني فيما تقدم من كلامه عن الرضا عليه‌السلام (إلا أن الجفر والجامعة يدلان على أنه لا يتم) فهو مأخوذ من كتاب الفخري لابن الطقطقي ، فإن شئت فراجع) انتهى.

* * *

٣٦٣
٣٦٤

الفصل التاسع

موقف أهل السنة من السنة

٣٦٥
٣٦٦

التدوين أصل من أصول الدين الإلهي

قام الدين الإلهي أصلا على إرسال الأنبياء وتنزيل الكتب والصحف الإلهية .. فالكتاب والكتابة من أولى خصائصه وبدهياته.

وكان موقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كما روته الأحاديث الصحيحة هو الأمر بكتابة حديثه ، وهو يتفق مع العقل والمنطق وبدهيات الدين الإلهي ..

فما هو السبب الذي جعل المسلمين يبتعدون عن هذا الخط المستقيم في مسألة تدوين السنة؟ فضاع منها ما ضاع ، وكان ما وصلنا ناقصا من جهات ومتضخما من جهات .. ومتناقضا من جهات؟!!

ما هو السبب الذي جعل عدم تدوين الدين عملا دينيا ، وألبس عدم تدوين السنة ثوبا شرعيا؟!

ما هو السبب الذي جعل سد الأفواه بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعدم تحديث الناس عن النبي بشيء خدمة للدين وورعا واحتياطا من صحابة النبي .. وهم الذين حملهم الله ورسوله مسئولية تبليغ كتاب الله وسنة رسوله؟!

ما هو السبب في أن الصحابي كان يتحرك في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويدعو الناس الى الإسلام ويحدثهم بدقة وإعجاب وخشوع عن رسول رب العالمين ، وآياته ،

٣٦٧

وسلوكه ، وكلماته .. فلما توفي النبي صار تحديث الصحابي عن نبيه حراما وجريمة يعاقب عليها ويحبس عليها؟!!

ما هو السبب في أن البدهيات صارت بعد النبي نظريات .. فيها آراء واحتمالات .. وصار في تدوين حديث النبي بل في التحديث عنه وجهان وروايتان .. رواية تقول أمر به النبي ورواية تقول نهى عنه النبي .. ورواية تقول إن الاحتياط للدين بعدم التحديث والتدوين؟!!

ما هو السبب في أن مطلع تاريخنا والجيل الأول من صحابة نبينا ، حرّموا التدوين فأقفلوا أبوابا من الخير على الأجيال .. وفتحوا الباب لأعداء الإسلام لتهمة الإسلام بالتخلف عن أول شروط الوعى الثقافي والمدنية؟!

ابحث عن السبب أينما شئت .. ولكنك لن تجده إلا في شعار (حسبنا كتاب الله) الذي رفعه الصحابة قبل أن يغمض النبي عينيه صلى‌الله‌عليه‌وآله!! فهذا الشعار كان خطا يعيش في الصحابة في زمن النبي .. وهو الذي حكم بعده ..

قرارات خلفاء النبي بتغييب سنته

أحاديث النبي ممنوعة لأنها تشغل الناس عن القرآن!

روى ابن ماجة في سننه ج ١ ص ١٢ (... عن قرظة بن كعب قال : بعثنا عمر بن الخطاب الى الكوفة وشيعنا ، فمشى معنا الى موضع يقال له صرار فقال : أتدرون لم مشيت معكم؟ قال قلنا : لحق صحبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولحق الأنصار. قال لكنى مشيت معكم لحديث أردت أن أحدثكم به فأردت أن تحفظوه لممشاي معكم. إنكم تقدمون على قوم للقرآن في صدورهم هزيز كهزيز المرجل ، فإذا رأوكم مدوا إليكم أعناقهم وقالوا أصحاب محمد ، فأقلوا الرواية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم أنا شريككم. الحديث من إفراد المصنف) انتهى.

ورواه الدارمي في سننه ج ١ ص ٨٥ عن قرظة بن كعب ... وقال في آخره (قال : فما حدثت بشيء ، وقد سمعت كما سمع أصحابي!).

٣٦٨

ثم قال الدارمي :

قال أبو محمد ـ يعني نفسه ـ (معناه عندي الحديث عن أيام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس السنن والفرائض). يريد الدارمي بذلك أن يخفف من منع الخليفة وأنه كان منعا عن التحديث بالأحداث السياسية والحروب في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يشمل المنع عن بيان الفرائض وأحكام الإرث والمستحبات! ولكن الدارمي بذلك يعترف بأن السبب السياسي هو السبب الأساسي للمنع ، وأن عذر الخليفة بالانشغال بالحديث عن القرآن عذر ظاهري.

ورواه في سنن الدارمي ج ١ ص ٨٥ عن قرظة ... وقال في آخره (قال قرظة وإن كنت لأجلس في القوم فيذكرون الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإني لمن أحفظهم له فإذا ذكرت وصية عمر سكتت!).

ورواه الحاكم في مستدركه ج ١ ص ١٠٢ عن قرظة ... وقال في آخره (فلما قدم قرظة قالوا حدثنا قال : نهانا ابن الخطاب! هذا حديث صحيح الإسناد له طرق تجمع ويذاكر بها. وقرظة بن كعب الأنصاري صحابي سمع من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. ومن شرطنا في الصحابة أن لا نطويهم. وأما سائر رواته فقد احتجا به).

يلاحظ على هذه الرواية الصحيحة عند إخواننا ما يلي :

أولا : أن المطلب الذي أراده الخليفة من هذه المجموعة من الصحابة المهاجرين الى الكوفة ، مطلب مهم عنده .. ولذا خرج الى توديعهم مسافة طويلة ، ولم يكن من عادته الخروج الى توديع أحد.

ثانيا : أنه كان مطلبا صعب القبول على الصحابة لأنه يخالف المعقول الذي فهموه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعملوا به. بل يفهم من قوله (وأنا شريككم) أنهم كانوا يرون أن عدم التحديث عن النبي إثم ، لأنه ترك لتبليغ الدين وكتمان لما سمعوه من النبي ومخالفة لتأكيداته صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يبلغ الشاهد منهم الغائب! فطمأنهم الخليفة بأنه لا إثم في ذلك وإن يكن فيه إثم فهو شريكهم ، ويتحمل مسئوليته!

ثالثا : أن حديث الخليفة معهم كان أكثر من العبارة المنقولة وتأكيداته كانت أشد ، بدليل قول الراوي (فما حدثت بشيء وقد سمعت كما سمع أصحابي ... قال قرظة وإن كنت لأجلس في القوم فيذكرون الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإني لمن أحفظهم له ، فإذا ذكرت وصية عمر سكتت .. فلما قدم قرظة قالوا حدثنا قال نهانا ابن الخطاب!).

فالمسألة ليست طلبا أخويا ، بل هي نهي مشدد مؤكد ، وقد يكون معه تهديد أيضا!

٣٦٩

التحديث عن النبي حرام وعقوبته السجن!

روى الحاكم في مستدركه ج ١ ص ١١٠ :

(... عن سعد بن إبراهيم عن أبيه أن عمر بن الخطاب قال لابن مسعود ولأبي الدرداء ولأبي ذر : ما هذا الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟! وأحسبه حبسهم بالمدينة حتى أصيب.

(... عن شعبة فذكر الحديث بإسناده نحوه. هذا حديث صحيح على شرط الشيخين. وإنكار عمر أمير المؤمنين على الصحابة كثرة الرواية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيه سنة ولم يخرجاه) انتهى.

وروى في كنز العمال ج ١٠ ص ٢٨٥ :

(عن محمد بن إسحاق قال : أخبرني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه قال : والله ما مات عمر بن الخطاب حتى بعث الى أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجمعهم من الآفاق عبد الله ابن حذافة وأبا الدرداء وأبا ذر وعقبة بن عامر فقال : ما هذه الأحاديث التي قد أفشيتم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الآفاق؟ قالوا أتنهانا؟! قال لا ، أقيموا عندي ، لا والله لا تفارقوني ما عشت! فنحن أعلم نأخذ ونرد عليكم. فما فارقوه حتى مات ـ كر) انتهى.

تدوين السنة حرام! ومن السنة إحراق .. السنة!

روى الذهبي في تذكرة الحفاظ ج ١ ص ٥ والهندي في كنز العمال ج ١٠ ص ٢٨٥ :

(... قالت عائشة جمع أبي الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكانت خمسمائة حديث فبات ليلته يتقلب كثيرا قالت فغمني فقلت : أتتقلب لشكوى أو لشىء بلغك؟ فلما أصبح قال : أي بنية هلمي الأحاديث التي عندك فجئته بها فدعا بنار فحرقها ، فقلت لم أحرقتها؟ قال خشيت أن أموت وهي عندي فيكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنته ووثقت ولم يكن كما حدثني فأكون قد نقلت ذاك!) انتهى.

٣٧٠

ولا بد من التحفظ على الرقم الذي ذكرته الرواية ، لأن روايات أخرى ذكرت أن أبا بكر ناشد الناس أن يأتوه بكل ما كتبوه من حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يقل لهم لما ذا؟ فتصور الناس أن له بذلك غرضا كتدوين السنة مثلا .. فأتوه بما كتبوا بصدق وطيب نية ، فجمعه عنده ، ثم .. اتخذ القرار بإحراقه! فيكون غرض عائشة من روايته تبرير فعل أبيها ، وكف ألسنة الناس عنه!

الخليفة أبو بكر تقلب ليلة والخليفة عمر تقلب شهرا!

روى في كنز العمال ج ١٠ ص ٢٩١ :

(عن الزهري عن عروة أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن فاستفتى أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك فأشاروا عليه أن يكتبها فظل عمر رضي الله عنه يستخير الله فيها شهرا! ثم أصبح يوما وقد عزم الله له فقال : إني كنت أريد أن أكتب السنن ، وإني ذكرت قوما كانوا قبلكم كتبوا كتابا فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله ، وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبدا ـ ابن عبد البر في العلم.

عن الزهري قال : أراد عمر بن الخطاب أن يكتب السنن فاستخار الله شهرا ثم أصبح فقد عزم له فقال : ذكرت قوما كتبوا كتابا فأقبلوا عليه وتركوا كتاب الله ـ ابن سعد) انتهى.

ملاحظات على هذا الحديث وأمثاله :

أولا ، لم أجد تطبيق هذا الكلام في شىء من تاريخ اليهود ولا النصارى ، فالذي حدث بعد موسى على نبينا وآله وعليه‌السلام أن أكثر قومه أطاعوا وصيه يوشع مدة قليلة ثم انقلبوا على أعقابهم من بعده ولم يقبلوا الأوصياء ، وشكلوا دولة القضاة التي هي أشبه بدولة الخلفاء عندنا .. وفي هذه المدة لم يكتبوا أحاديث موسى ولا يوشع. بل بدءوا بتحريف التوراة.

أما بعد داود وسليمان فالأمر أوضح .. لأن اليهود انقلبوا على أعقابهم جهارا نهارا ولم يقبلوا آصف بن برخيا وصي سليمان ، الذي ذكره الله تعالى في القرآن بقوله (قالَ

٣٧١

الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) وبايع قسم منهم ابن سليمان الذي لم ينص عليه أبوه ، بينما استدعى القسم الآخر عدو سليمان (رحبعام) الذي كان لاجئا سياسيا عند ملك مصر (شيشق) وبايعوه واتخذ عاصمته السامرة .. فصار لهم دويلتان ضعيفتان ، ما لبثتا أن وقعتا بيد البابليين. كما ذكرته مصادرهم ومنها التوراة الموجودة. وهما (دولتا) يهودا والسامرة اللتان يتغنى بهما اليهود في عصرنا!

وعليه فقد كانت كتبهم التوراة والزبور المحرفتان .. وبعد ذلك بزمان ظهرت كتاباتهم في سيرة موسى وتشريعاته! ولكنهم لم يكبوا عليها ويتركوا التوراة كما قال الخليفة. لأن هذه الكتب جاءت شروحا للتوراة المحرفة ، ومتجانسة معها بنسبة كبيرة.

ثانيا ، أن الخليفة عمر كان شريكا لأبي بكر عند ما جمع السنة المدونة من المسلمين وأحرقها ، فكيف يقال إنه استشار الصحابة في تدوينها ، فلا بد أن تدوين السنة كان مطلبا عاما للصحابة وأشاروا عليه به جميعا بذلك وأصروا ، فطلب منهم المهلة حتى يفكر في الأمر ففكر شهرا وعمل شهرا في تهدئة الجو ، ثم صعد المنبر وأعلن للمسلمين ما عزمه الله له ، لأنه بتفكيره أو دعائه صار عزمه مظهرا لعزم الله تعالى .. وصار قراره بعدم تدوين السنة ومرسومه الخلافي الى الأمصار بمحو المكتوب منها ، مظهرا لقرار الله تعالى! ثم عزم له الله تعالى أن يحرق السنة! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وأحرق الخليفة عمر السنة المدونة ولم يتأرق أبدا

قال ابن سعد في الطبقات ج ٥ ص ١٤٠ :

(عبد الله بن العلاء قال سألت القاسم يملي عليّ أحاديث فقال : إن الأحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطاب فأنشد الناس أن يأتوه بها فلما أتوه بها أمر بتحريقها!!) انتهى.

٣٧٢

تعميم من الخليفة عمر بمحو السنة المدونة

روى في كنز العمال ج ١٠ ص ٢٩١ :

(عن ابن وهب قال : سمعت مالكا يحدث أن عمر ابن الخطاب أراد أن يكتب هذه الأحاديث أو كتبها ثم قال : لا كتاب مع كتاب الله ـ ابن عبد البر.

عن يحيى بن جعدة قال : أراد عمر رضي الله عنه أن يكتب السنة ثم بدأ له أن لا يكتبها ، ثم كتب في الأمصار : من كان عنده شىء من ذلك فليمحه ـ أبو خيثمة وابن عبد البر معا في العلم) انتهى.

الحديث ممنوع والفتوى ممنوعة!

روى في كنز العمال ج ١٠ ص ٢٩٩ :

(عن ابن سيرين أن عمر قال لأبي موسى : أما بلغني أنك تفتي الناس ولست بأمير؟ قال : بلى. قال : فول حارها من تولى قارها ـ عب ، والدينوري في المجالسة وابن عبد البر في العلم ، كر) انتهى. ويقصد الخليفة بذلك أنك لست مسئولا في الدولة ولذلك يحرم عليك الفتوى في أمور الدين ، لأن حق الفتوى فقط لمن تحمل مسئولية السلطة!

ولكن الأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام وشيعتهم تحملوا وجاهدوا لأداء مسئوليتهم في تبليغ أحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وفتاواه! فقد روى الدارمي في سننه ج ١ ص ١٣٦ (أخبرنا عبد الوهاب بن سعيد ثنا شعيب هو ابن اسحاق ثنا الأوزاعي حدثني أبو كثير حدثني أبي قال أتيت أبا ذر وهو جالس عند الجمرة الوسطى وقد اجتمع الناس عليه يستفتونه فأتاه رجل فوقف عليه ثم قال : ألم تنه عن الفتيا؟!! فرفع رأسه إليه فقال : أرقيب أنت عليّ؟! لو وضعتم الصمصامة على هذه وأشار الى قفاه ثم ظننت إني أنفذ كلمة سمعتها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن تجيزوا عليّ لأنفذتها!!) انتهى.

٣٧٣

وانظر كيف بتره البخاري في صحيحه ج ١ ص ٢٥ قال :

(وإنما العلم بالتعلم ، وقال أبو ذر : لو وضعتم الصمصامة على هذه وأشار الى قفاه ثم ظننت أني أنفذ كلمة سمعتها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن تجيزوا عليّ لأنفذتها) انتهى.

وجذور المسألة ... من زمن النبي!

روى أبو داود في سننه ج ٢ ص ١٧٦ (... عن عبد الله بن عمرو ، قال : كنت أكتب كل شىء أسمعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أريد حفظه ، فنهتني قريش ، وقالوا أتكتب كل شىء تسمعه ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا! فأمسكت عن الكتاب ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأومأ بإصبعه الى فيه فقال : أكتب ، فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق!).

ورواه أحمد في مسنده ج ٢ ص ١٩٢ ـ بتفاوت يسير.

وروى في ص ٢١٥ عن (عبد الله بن عمرو بن العاص قال قلت يا رسول الله إني أسمع منك أشياء أفأكتبها؟ قال نعم. قلت : في الغضب والرضا؟ قال نعم ، فإني لا أقول فيهما إلا حقا!).

وروى الحاكم في مستدركه ج ١ ص ١٠٥ حديث النسائي هذا وفيه (ما خرج منه إلا حق) ثم قال : فليعلم طالب هذا العلم أن أحدا لم يتكلم قط في عمرو بن شعيب وإنما تكلم مسلم في سماع شعيب من عبد الله بن عمرو فإذا جاء الحديث عن عمرو بن شعيب عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو ، فإنه صحيح) انتهى.

وقال في ص ١٠٦ (... نعم فإنه لا ينبغي لي أن أقول إلا حقا) وقال (رواة هذا الحديث قد احتجا بهم عن آخرهم غير الوليد وأظنه الوليد بن أبي الوليد الشامى فإنه الوليد بن عبد الله وقد علمت على أبيه الكتبة فإن كان كذلك فقد احتج مسلم به. وقد صحت الرواية عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أنه قال قيدوا العلم بالكتاب.

حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ ثنا إبراهيم عن عبد الله السعدي ثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن عبد الملك ابن عبد الله بن أبي سفيان أنه سمع عمر بن الخطاب يقول قيدوا العلم بالكتاب) انتهى.

وروى الحاكم أيضا في ج ٣ ص ٥٢٨ (... عن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده قال قلت يا رسول الله أتأذن لي فأكتب ما أسمع منك؟ قال نعم. قلت في الرضاء والغضب؟ قال نعم فإنه لا ينبغي لي أن أقول عند الرضاء والغضب إلا حقا!. ثم قال (صحيح الإسناد ولم يخرجاه).

٣٧٤

إن رواية الشاب عبد الله بن عمرو بن العاص المتقدمة ومثلها غيرها ، تكشف حقيقة كانت موجودة حول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهي أن القرشيين الذين دخلوا في الإسلام باختيارهم أو دخلوا فيه مجبرين بعد هزيمتهم على يد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .. كانوا يخافون أن يكرس النبي القيادة لعشيرته من بعده ، فكانوا حساسين من الأمور التي تؤدي الى ذلك ، ومنها أمر تدوين سنته وأقواله وأفعاله! لذلك كونوا حركة معادية للنبي مخالفة لتدوين كلامه الشريف ، وكانت حركة نفاق قرشية لا مدنية ، وكانت تعمل سرا داخل الصحابة ، وتتصل بالشباب الذين يدونون أحاديثه الشريفة مثل عبد الله بن عمرو بن العاص وتنهاهم عن ذلك!

وقد حاول أحد أعضائها ـ أو أكثر من واحد ـ أن يقنع هذا الشاب القرشي غير الهاشمي بترك عادة الكتابة لحديث النبي ، بحجة أن النبي بشر وقد يغضب ويتكلم على أشخاص بغير حق أو يهددهم أو يلعنهم ، فإذا كتب أحد ذلك فقد سجله التاريخ وصار جزء من السيرة والدين ، وهو أمر مضر بمصلحة هؤلاء الأشخاص!

وقد جاء موقف النبي في الرد عليهم حاسما ، فقد أمره بمواصلة الكتابة وأخبره بأن منطقه مصون بعصمة الله تعالى في الرضا والغضب وما ينطق عن الهوى.

وروى الهيثمي في مجمع الزوائد ج ١ ص ١٥١ رواية أخرى (عن عبد الله بن عمرو قال كان عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ناس من أصحابه وأنا معهم وأنا أصغر القوم فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار. فلما خرج القوم قلت كيف تحدثون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد سمعتم ما قال! وأنتم تنهمكون في الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟! فضحكوا فقالوا : يا ابن أخينا إن كل ما سمعنا منه عندنا في كتاب!) انتهى.

ويظهر أن هذه الرواية متقدمة زمنيا على رواية نهيهم إياه عن الكتابة ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حذرهم في ذلك المجلس بشدة من الكذب عليه ، فلما خرجوا من عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حاورهم هذا الشاب بصفائه وقال لهم : إنكم سمعتم لتوكم تحذير النبي لمن يكذب عليه ووعيده له بنار جهنم ، وأنا أراكم دائما تتحدثون عن لسانه بما لم يقل؟! فضحكوا منه وقالوا له : أيها الولد إننا نكتب حديثه مثلك ونتحدث مما هو مكتوب عندنا!!

٣٧٥

رواية أبي داود توضح المقصود

ورواية أبي داود التالية وأمثالها ، تعطي أضواء كافية على المسألة ، فقد روى في سننه ج ٢ ص ٤٠٤ (... عن عمرو بن أبي قرة ، قال : كان حذيفة بالمدائن ، فكان يذكر أشياء قالها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأناس من أصحابه في الغضب ، فينطلق ناس ممن سمع ذلك من حذيفة فيأتون سلمان فيذكرون له قول حذيفة ، فيقول سلمان : حذيفة أعلم بما يقول ، فيرجعون الى حذيفة فيقولون له قد ذكرنا قولك لسلمان فما صدقك ولا كذبك ، فأتى حذيفة سلمان وهو في مبقلة فقال : يا سلمان ما يمنعك أن تصدقني بما سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال سلمان : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يغضب فيقول في الغضب لناس من أصحابه ، ويرضي فيقول في الرضا لناس من أصحابه ، أما تنتهي حتى تورث رجالا حب رجال ورجالا بغض رجال ، وحتى توقع اختلافا وفرقة؟ ولقد علمت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطب فقال : أيما رجل من أمتي سببته سبة أو لعنته لعنة في غضبي فإنما أنا من ولد آدم أغضب كما يغضبون ، وإنما بعثني رحمة للعالمين فاجعلها عليهم صلاة يوم القيامة. والله لتنتهين أو لأكتبن الى عمر) انتهى.

فهذه الحادثة وقعت في المدائن في عهد الخليفة عمر بين اثنين من كبار الصحابة ، وهي تدل على أن حذيفة بن اليمان هو الذي كان يروي الأحاديث المتضمنة غضب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على بعض أصحابه ولعنه إياهم ، وحذيفة أجمع المسلمون على أنه كان (صاحب سر رسول الله) وأن النبي أخبره بأسماء المنافقين. وهذا يدل على وجود أحاديث صدر فيها كلام شديد على جماعة من الصحابة على لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنها كانت أحاديث مهمة وخطيرة ، لو عرفها المسلمون لأثرت على حبهم وبغضهم وتوليهم وتبريهم من أولئك الصحابة. وأن سياسة الخليفة عمر كانت تحريم رواية تلك الأحاديث تحريما مشددا ، الى حد أن الوالي الذي يرويها قد يتعرض لغضب الخليفة وعزله ، حتى لو كان من وزن حذيفة أمين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله!!

٣٧٦

أما الحديث التي نسبته الرواية الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن لسان سلمان رضي الله عنه فهو حديث موضوع ، كما بينا في بحث سورتي الخلع والحفد والمعوذتين ونضيف هنا : أن الملعونين على لسان الأنبياء من الأمم السابقة هم الذين حكم الله تعالى بطردهم الأبدي من رحمته بسبب عصيانهم وطغيانهم ، لأن لعنة الأنبياء لا تصدر إلا بإلهام إلهي. بل يفهم من بعض الآيات والروايات أن لعنة الأنبياء تجري في ذرية الملعون الى يوم القيامة .. ومعنى ذلك أن الله تعالى يخبر نبيه بأن هذا الشخص بلغ من الشر حدا نضب معه من الخير ، ونضب صلبه عن أن يولد منه ولد فيه خير ، وأن أولاده بمجرد أن يكبروا سوف يختارون طريق الشر!

وهذا المعنى الخطير للعن كان معروفا عند الصحابة وعند عامة العرب ، بل كانوا يتشاءمون من الملعون على لسان غير الأنبياء ، حتى أن الخليفة عمر تشاءم من ناقة لعنها بدوي! فكيف بمن لعنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟! فقد روى في كنز العمال ج ٣ ص ٨٧٧ (... عن أبي عثمان قال : بينما عمر يسير ورجل على بعير له فلعنه ، فقال من هذا اللاعن؟ قالوا : فلان قال : تخلف عنا أنت وبعيرك ، لا تصحبنا راحلة ملعونة ـ ش) انتهى.

هذه الحقيقة الكبيرة والخطيرة تحاول رواية أبي داود وأمثالها أن تميعها بأسلوب ذكي هدفه تبرئة الذين غضب عليهم رسول الله ولعنهم ، بل تحاول أن تقلب المسألة لصالحهم فتعطيهم امتيازات بحيث يتمنى كل مسلم لو أن النبي لعنه! ثم يطلب من الله تعالى أن يحول لعنته له الى .. بركة ورحمة عليه وصلوات!

الأحاديث المغيبة : أمر النبي بكتابة الحديث

روى البخاري في صحيحه ج ١ ص ٣٦ (... فجاء رجل من أهل اليمن فقال : أكتب لي يا رسول الله ، فقال : أكتبوا لأبي فلان). وفي ج ٣ ص ٩٥ (... فقام أبو شاه رجل من أهل اليمن فقال أكتبوا لي يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أكتبوا لأبي شاه. قلت للأوزاعي ما قوله أكتبوا لي يا رسول الله؟ قال هذه الخطبة التي سمعها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم) انتهى. ورواه في ج ٨ ص ٣٨

٣٧٧

ورواه أحمد في مسنده ج ٢ ص ٢٣٨ ، ورواه مسلم ج ٤ ص ١١٠ و ١١١ ، ورواه أبو داود في ج ١ ص ٤٤٨ وفي ج ٤ ص ٣٤ ، ورواه في ص ١٧٧ و ٣٦٨.

وجاء في هامش ص ١٧٦ (الذين كتبوا عبد الله بن عمرو ، وكان عنده صحيفة يسميها الصادقة). ورواه الترمذي في ج ٤ ص ١٤٦ ، وقال (هذا حديث حسن صحيح. وقد روى شيبان عن يحيى بن أبي كثير مثل هذا).

ورواه البيهقي في سننه ج ٨ ص ٥٢ ، ورواه السيوطي في الدر المنثور ج ١ ص ١٢٢

وقد تقدم في أدلة جمع القرآن من عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن الكتابة كانت أمرا مألوفا ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان صاحب ابتكارات في ذلك!

وقد عقد في مجمع الزوائد ج ١ ص ١٥٠ بابا باسم (باب كتابة العلم) وروى فيه روايات متناقضة في تحريم التدوين وفي الحث على التدوين .. منها :

(... عن أبي هريرة قال ما كان أحد أعلم بحديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب بيده ويعيه بقلبه ، وكنت أعيه بقلبي ولا أكتب بيدي ، واستأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الكتابة عنه فأذن له. وعن رافع بن خديج قال خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : تحدثوا ، وليتبوأ من كذب على مقعده من جهنم. قالوا يا رسول الله إنا نسمع منك أشياء فنكتبها قال : أكتبوا ولا حرج).

وعن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قيد العلم قلت وما تقييده؟ قال : الكتابة.

وعن ثمامة قال قال لنا أنس : قيدوا العلم بالكتابة. رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح.

وعن أنس قال شكا رجل الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سوء الحفظ فقال : استعن بيمينك.

وعن أبي هريرة أن رجلا شكا الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سوء الحفظ فقال : استعن بيمينك على حفظك).

وهذه الأحاديث كما ترى منسجمة مع حكم العقل ، ومع أسلوب الدين الإلهي في الكتاب والكتابة .. وسيرة الأنبياء ، وسيرة العقلاء في كل العصور والشعوب .. فهل

٣٧٨

يقبل منصف الالتفات عليها وحصرها في حادثة واحدة أو اثنتين؟! أم يرضى بتكذيبها أو ردها ، لأن عمل الخليفة يخالفها؟!

متى تم الإفراج عن تدوين السنة وكيف؟

كما أن قرار الفراغ القرآني وعدم اعتماد الدولة لنسخة رسمية موحدة للقرآن .. لم يفقد الأمة قرآنها والحمد لله ، وإن سبّب خلأ وأزمة واختلافات سيئة فيها .. فإن قرار تغييب السنة لم يفقد الأمة سنة نبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله .. ولكنه سبب ضررا فادحا على السنة حيث ضاع منها الكثير ، وتشوه الكثير ، وصارت أحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله غابة كبيرة من (الأحاديث) مليئة بالجواهر والحقائق وبالضد والنقيض اللامعقول ..

والضرر الأعظم أن السلطة عند ما قررت أن تدون السنة بعد تسعين سنة من وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .. لم تقتصر عليها وحدها بل خلطتها في مرسوم التكليف بسنة الخليفة عمر وأمرت أن يدونا معا!! قال الدارمي في سننه ج ١ ص ١٢٦ :

(أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم أبو معمر عن أبي ضمرة عن يحيى بن سعيد عن عبد الله بن دينار قال كتب عمر بن عبد العزيز الى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن أكتب الى بما ثبت عندك من الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبحديث عمر فإني قد خشيت درس العلم وذهابه!) انتهى.

وقد وافق البخاري على هذا المرسوم وطبقه في صحيحه حرفيا ، فأبرز الخليفة عمر دائما الى جنب النبي!! ولكنه كان يرى أن من المصلحة فعل ذلك وعدم قوله .. لهذا طور نص المرسوم (بعد صدوره) ليكون في الظاهر محصورا بسنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله! قال في صحيحه ج ١ ص ٣٣ :

(باب كيف يقبض العلم .. وكتب عمر بن عبد العزيز الى أبي بكر بن حزم انظر ما كان من حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء. ولا يقبل إلا حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (...) وليفشوا العلم وليجلسوا حتى يعلم من لا يعلم ، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرا!) انتهى.

٣٧٩

محاولات الدفاع عن قرار تغييب السنة

يرجع ما ذكره المدافعون عن قرارات منع السنة الى ثلاثة أمور :

الأول : أن هدف الخلفاء التثبت في الحديث من الخطأ ، ومنع حدوث الكذب في التحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. وقد جاء هذا التوجيه على لسان أبي بكر فقط ثم ذكروه في الاعتذار عن الخليفة عمر ، ولم يرد في كلامه إلا مجملا.

الثاني : خوف انشغال الناس بالحديث عن القرآن ، وقد ذكره الخليفة عمر ، ويظهر أن اعتذاره به كان في أوائل خلافته.

الثالث : الخوف من اختلاط الحديث النبوي بالقرآن. وقد اعتذر به الخليفة عمر ، ولعل تاريخه في أواخر خلافته ، حيث كثر انتقاد الصحابة لسياسة المنع ، وانتشرت مخالفاتهم لقرارات الخليفة ، وصارت المسألة حادة!.

دفاع ابن حبان

ومن أقدم المدافعين عن قرارات الخلفاء بتغييب السنة محمد بن حبان المتوفى سنة ٣٠٠ ، قال في كتاب المجروحين ج ١ ص ٣٣ :

(أخبرنا عبد الملك بن محمد قال : سمعت عباس بن محمد يقول : سمعت يحيى بن معين يقول : لو لم نكتب الحديث من ثلاثين وجها ما عقلناه.

قال أبو حاتم : فهذا عناية هذه الطائفة (يعني الذين يسمون أهل السنة) بحفظ السنن على المسلمين ، وذب الكذب عن رسول رب العالمين ، ولولاهم لتغيرت الأحكام عن سننها حتى لم يكن يعرف أحد صحيحها من سقيمها ، والملزق بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والموضوع عليه مما روى عنه الثقات والأئمة في الدين.

فإن قال قائل : فكيف جرحت من بعد الصحابة؟ وأبيت ذلك في الصحابة ، والسهو والخطأ موجود في أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما وجد فيمن بعدهم من المحدثين؟

٣٨٠