تدوين القرآن

الشيخ علي الكوراني العاملي

تدوين القرآن

المؤلف:

الشيخ علي الكوراني العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: باقري
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٧

وجاء في رسالة عثمان الى الأمصار أسماء ثلاثة كتّاب وإشارة الى آخرين .. قال في تاريخ المدينة ج ٣ ص ٩٩٧ :

(... عن أبي محمد القرشي : أن عثمان بن عفان رضي الله عنه كتب الى الأمصار :

أما بعد فإن نفرا من أهل الأمصار اجتمعوا عندي فتدارسوا القرآن ، فاختلفوا اختلافا شديدا ، فقال بعضهم قرأت على حرف أبي الدرداء ، وقال بعضهم قرأت على حرف عبد الله بن مسعود ، وقال بعضهم قرأت على حرف عبد الله بن قيس ، فلما سمعت اختلافهم في القرآن ـ والعهد برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديث ـ ورأيت أمرا منكرا ، فأشفقت على هذه الأمة من اختلافهم في القرآن ، وخشيت أن يختلفوا في دينهم بعد ذهاب من بقي من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذين قرءوا القرآن على عهده وسمعوه من فيه ، كما اختلفت النصارى في الإنجيل بعد ذهاب عيسى بن مريم ، وأحببت أن نتدارك من ذلك ، فأرسلت الى عائشة أم المؤمنين أن ترسل إليّ بالأدم الذي فيه القرآن الذي كتب عن فم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أوحاه الله الى جبريل ، وأوحاه جبريل الى محمد وأنزله عليه ، وإذا القرآن غض ، فأمرت زيد بن ثابت أن يقوم على ذلك ، ولم أفرغ لذلك من أجل أمور الناس والقضاء بين الناس ، وكان زيد بن ثابت أحفظنا للقرآن ، ثم دعوت نفرا من كتّاب أهل المدينة وذوي عقولهم ، منهم نافع بن طريف ، وعبد الله بن الوليد الخزاعي ، وعبد الرحمن بن أبي لبابة ، فأمرتهم أن ينسخوا من ذلك الأدم أربعة مصاحف وأن يتحفظوا).

وقال في كنز العمال ج ٢ ص ٥٨٧ :

(عن قتادة عن نصر بن عاصم الليثي عن عبد الله بن فطيمة عن يحيى بن يعمر قال قال عثمان : إن في القرآن لحنا وستقيمه العرب بألسنتها ـ ابن أبي داود) وقال عبد الله بن فطيمة هذا ، أحد كتاب المصاحف).

وقال ابن شبة في تاريخ المدينة ج ٣ ص ٩٩٣ :

(... قال فحدثني كثير بن أفلح أنه كان فيمن يكتب لهم ، فكانوا كلما اختلفوا في شىء أخروه) انتهى.

٣٢١

وعلى هذه الروايات لا بد من القول إن الأعضاء الاستشاريين كانوا كثيرين ، ولا بد أن يكون حذيفة منهم .. وأن الأعضاء الكتاب والنساخين كثيرون أبرزهم زيد بن ثابت .. والظاهر أن اسم أبي بن كعب جاء في هذه الرواية وغيرها بدل اسم ابنه محمد بن أبي بن كعب ، لأن أبيّا توفي في زمن عمر ، وقد ورد اسم ولده محمد بأنه سلم مصحف أبيه كعب الى الخليفة عثمان. وقد أشكل المستشرقون على ذكر أبي بن كعب في لجنة جمع القرآن وضخموا مسألته على عادتهم!

دور زيد بن ثابت في لجنة تدوين المصحف الإمام

من مجموع روايات تدوين المصحف الإمام ، نعرف أن دور زيد بن ثابت فيه كان دورا تنفيذا فقط .. فهو كاتب لا يملك القرار ، ولا حتى ترجيح كلمة واحدة ، لأن المملي الرسمي صاحب القرار هو سعيد بن العاص! وقد اختلف هو وزيد في كلمة التابوت فقال زيد : التابوة بالهاء ، ولعل ذلك من تأثره بدراسته عند اليهود ، وقال سعيد بالتاء ، فأمر الخليفة زيدا أن يكتبها كما قال سعيد .. قال ابن شبة في تاريخ المدينة ج ٣ ص ١٠٠٢ (... وقال سعيد بن العاص إنما هو التابوت. فقال عثمان رضي الله عنه : اكتبوه كما قال سعيد فكتبوا التابوت) انتهى.

وقال البخاري في صحيحه ج ٤ ص ١٥٦ (وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شىء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم ففعلوا ذلك).

وقال ابن شبة في تاريخ المدينة ج ٣ ص ٩٩٥ (قال فليكتب سعيد وليمل زيد ، قال فكانت مصاحف بعث بها الى الأمصار).

وقال في كنز العمال ج ٢ ص ٥٨٥ (قال عثمان فليمل سعيد وليكتب زيد ، فكتب زيد وكتب معه مصاحف ففرقها في الناس ، فسمعت بعض أصحاب محمد يقولون قد أحسن ـ ابن أبي داود كر).

على أن الروايات ذكرت كتّابا آخرين مع زيد ، وهم : كثير بن أفلح ، ونافع بن طريف ، وعبد الله بن الوليد الخزاعي ، وعبد الرحمن بن أبي لبابة ، وعبد الله بن فطيمة ، وقد صرحت رسالة عثمان بأن عددهم كان أكثر من هؤلاء ..

٣٢٢

مهما يكن ، فمن الطبيعي أن يكون كتاب كثيرون شاركوا في الكتابة الأولى في جلسات المذاكرات والمسودات ، ثم في نسخ النسخ الأربع أو الست .. لذلك لا يمكن القول إن نسخ المصحف الإمام كلها كانت بخط زيد بن ثابت ، نعم يمكن أن تكون إحداها بخطه!

آيات خزيمة ضاعت مرات ووجدها زيد ..!!

ذكر زيد بن ثابت لنفسه دورا بارزا في جمع المصحف الإمام .. وهو أنه وجد آية خزيمة ، أو آيات خزيمة وأبي خزيمة! فقد ضاعت هذه الآيات المسكينة في الجمع الأول قبل بضع عشرة سنة ووجدها زيد .. ثم ضاعت ثانية ووجدها زيد .. ولم تكن موجودة عند أحد من الناس إلا عند آل خزيمة .. فقبل زيد شهادة خزيمة وحده ولم يطلب شاهدين ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله سماه (ذو الشهادتين).

وفي رواية عن زيد أنه وجدها عند ابن خزيمة وليس عند خزيمة ، وفي رواية أنه وجدها عند أبي خزيمة لا ابنه ولا حفيده! وفي رواية أنه وجدها عند (خزيمة آخر) فأجرى عليهم جميعا حكم خزيمة ذي الشهادتين لمجرد اسم خزيمة ..! (فالتمستها فوجدتها مع خزيمة بن ثابت أو ابن خزيمة .. وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الانصاري لم أجدها مع أحد غيره ... فلم أجدهما مع أحد منهم حتى وجدتهما مع رجل آخر يدعي خزيمة أيضا)!!

وأكثرت المصادر من رواية آيات خزيمة ، وفي بعضها أن الذي وجدها هو الخليفة عمر أو عثمان ، وفي بعضها أن الذي وجدها صاحبها خزيمة!! روى البخاري في صحيحه ج ٨ ص ١٧٧ :

(... عن ابن السباق أن زيد بن ثابت حدثه قال أرسل الى أبو بكر فتتبعت القرآن حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) حتى خاتمة براءة).

٣٢٣

وقال في كنز العمال ج ٢ ص ٥٧٦ :

(عن خزيمة بن ثابت قال : جئت بهذه الآية (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) الى عمر بن الخطاب وإلى زيد بن ثابت؟ فقال زيد من يشهد معك؟ قلت لا والله ما أدري ، فقال عمر : أنا أشهد معه على ذلك ـ ابن سعد.

... عن يحيى بن جعدة قال : كان عمر لا يقبل آية من كتاب الله حتى يشهد عليها شاهدان ، فجاء رجل من الأنصار بآيتين ، فقال عمر : لا أسألك عليها شاهدا غيرك (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) .. الى آخر السورة ـ ك).

وقال في كنز العمال ج ٢ ص ٥٧٤ :

(عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال : أراد عمر بن الخطاب أن يجمع القرآن ، فقام في الناس ، فقال : من كان تلقى من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا من القرآن فليأتنا به ، وكانوا كتبوا ذلك في الصحف والألواح والعسب ، وكان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شاهدان فقتل وهو يجمع ذلك ، فقام عثمان فقال من كان عنده من كتاب الله شىء فليأتنا به ، وكان لا يقبل من ذلك شيئا حتى يشهد عليه شاهدان فجاء خزيمة بن ثابت فقال : قد رأيتكم تركتم آيتين لم تكتبوهما ، قالوا ما هما؟ قال : تلقيت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) الى آخر السورة ، فقال عثمان : وأنا أشهد أنهما من عند الله فأين ترى أن نجعلهما؟ قال : اختم بهما آخر ما نزل من القرآن فختم بهما براءة ـ ابن أبي داود كر) انتهى.

ثم رووا أن آية أخرى من سورة الأحزاب ضاعت أيضا فوجدها زيد عند الخزيميين أيضا! قال البخاري في صحيحه ج ٥ ص ٣١ :

(... أنه سمع زيد بن ثابت رضي الله عنه يقول فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف كنت أسمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرؤها فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) فألحقناها في سورتها في المصحف).

ورواه في ج ٦ ص ٢٢ وص ٩٨

٣٢٤

ورواه في ج ٣ ص ٢٠٦ وفيه (فلم أجدها إلا مع خزيمة ابن ثابت الأنصاري الذي جعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شهادته شهادة رجلين ..).

ورواه أحمد في مسنده ج ٥ ص ١٨٨ ، والترمذي في سننه ج ٤ ص ٣٤٧ ، وكنز العمال ج ٢ ص ٥٨١

وروى ابن شبة ادعاء زيد أنه كان صاحب قرار في تدوين المصحف الإمام ، وكأنه لم يكن يوجد أحد غيره .. وأنه كان يتصرف برأيه ، فقد تذكر آية وبحث عنها فلم يجدها عند أحد من المهاجرين ولا الأنصار ، بل عند رجل آخر يدعي خزيمة فأخذها ، واختار لها مكانا في آخر سورة براءة ، ولو كانت ثلاث آيات لجعلها سورة مستقلة ولصار قرآننا ١١٥ سورة!! وربما كان اسم السورة الأخيرة (سورة زيد بن ثابت)!! قال في تاريخ المدينة ج ٣ ص ١٠٠١ :

(... عن خارجة بن زيد ، عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال : عرضت المصحف فلم أجد فيه هذه الآية (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً). قال : فاستعرضت المهاجرين أسألهم عنها فلم أجدها مع أحد منهم ، ثم استعرضت الأنصار أسألهم عنها فلم أجدها مع أحد منهم ، حتى وجدتها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري فكتبتها ، ثم عرضته مرة أخرى فلم أجد فيه هاتين الآيتين (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) الى آخر السورة ، قال : فاستعرضت المهاجرين أسألهم عنها فلم أجدهما مع أحد منهم ، ثم استعرضت الأنصار أسألهم عنهما فلم أجدهما مع أحد منهم ، حتى وجدتهما مع رجل آخر يدعي خزيمة أيضا من الأنصار فأثبتهما في آخر (براءة) قال زيد : ولو تمت ثلاث آيات لجعلتها سورة واحدة ، ثم عرضته عرضة أخرى فلم أجد فيه شيئا. فأرسل عثمان رضي الله عنه الى حفصة رضي الله عنها يسألها أن تعطيه الصحيفة ، وجعل لها عهد الله ليردها إليها ، فأعطته إياها ، فعرضت الصحف عليها فلم تخالفها في شىء فرددتها إليه ، وطابت نفسه فأمر الناس أن يكتبوا المصاحف) انتهى.

وقد أطال الرواة والباحثون والفقهاء والمستشرقون في أمر آيات آل خزيمة ، لأنها تثير في الذهن عدة أسئلة .. منها ، كيف ضاعت فلم يعلمها أحد غير خزيمة! فأين حفاظ القرآن؟ وأين حفظ زيد نفسه؟! وأجاب محبو زيد بأنه كان يحفظها ولكن من تقواه أراد أن يكتب في المصحف الآيات المكتوبة فقط .. الى آخر الأسئلة وأجوبتها!

٣٢٥

وقد عرفت أن نسخ القرآن كانت كثيرة وميسرة ، وأن زيدا ليس بعيدا عن المبالغة في دوره في جمع القرآن ، وغير جمع القرآن! وقد فتحت مبالغات زيد وأمثاله عن القرآن والوحي والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .. بابا دخل منه المستشرقون وأعداء الإسلام ، ووجهوا إشكالاتهم وسهامهم الى الإسلام والمسلمين .. ولا يتسع المجال لسرد ذلك!

سعيد بن العاص ودوره في تدوين المصحف الإمام

سعيد بن العاص على اسم جده المعروف بأبي أحيحة وهو سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس. وأبو أحيحة من زعماء قريش وأثريائها وطغاتها ، كان شديد العداوة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .. ولكن أغلب أولاده صالحون! وأولاده خالد وأبان وعمرو ، وحفيده سعيد هذا من نجباء بني أمية ..

وكان أبو أحيحة يعذب ابنه خالدا وغيره على الإسلام ، وهو أحد المستهزئين الذين كفى الله رسوله شرهم فأهلكه قبل وقعة بدر فلم يشارك فيها ، وشارك بدله ابنه العاص وقتل كافرا وهو والد سعيد هذا ، قتله علي عليه‌السلام .. وكان سعيد ابنه صغيرا فلما كبر أسلم .. وكان في حياة عمه خالد مع علي عليه‌السلام كليا ، ثم كان مع علي نسبيا .. قال ابن الأثير في أسد الغابة ج ٢ ص ٨٢ :

(وكان أبوه (أبو أحيحة) شديدا على المسلمين وكان أعز من بمكة فمرض فقال لئن الله رفعني من مرضي هذا لا يعبد إله ابن أبي كبشة بمكة! فقال ابنه خالد عند ذلك : اللهم لا ترفعه. فتوفي في مرضه ذلك) انتهى. وقال في ج ٢ ص ٣٠٩ :

(سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص ابن أمية بن عبد شمس بن بن عبد مناف القرشي الأموي ، وجده هو المعروف بأبي أحيحة وكان أشرف قريش. وأم سعيد أم كلثوم بنت عمرو بن عبد الله بن أبي قيس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حر بن عامر بن لؤى العامرية ، ولد عام الهجرة وقيل بل ولد سنة إحدى ، وقتل أبوه العاص يوم بدر كافرا قتله علي بن أبي طالب ... وكان جده أبو أحيحة إذا اعتم بمكة لا يعتم أحد بلون عمامته إعظاما له وكان يقال له ذو التاج. وكان هذا سعيد من أشراف قريش وأجوادهم وفصحائهم وهو أحد الذين كتبوا المصحف لعثمان بن عفان. واستعمله

٣٢٦

عثمان على الكوفة بعد الوليد بن عقبة بن أبي معيط وغزا طبرستان فافتتحها ، وغزا جرجان فافتتحها سنة تسع وعشرين أو سنة ثلاثين ، وانتقضت أذربيجان فغزاها فافتتحها ... وانقطع عقب أبي أحيحة إلا من سعيد هذا ، وقد قيل إن خالد بن سعيد أعقب أيضا). وترجم له البخاري في تاريخه ج ٣ ص ٥٠٢ ، والرازي في الجرح والتعديل ج ٤ ص ٤٨. ومن الطريف أن ابنه عمرو بن سعيد هذا كان أحد المعارضين لبني أمية ، وهو عمرو بن سعيد الأشدق الذي قتله عبد الملك بن مروان!

وروى ابن الأثير أن عمه أبان كان في لجنة جمع القرآن أيضا .. قال في أسد الغابة ج ١ ص ٣٧ (وقال الزهري إن أبان بن سعيد بن العاص أملى مصحف عثمان على زيد بن ثابت بأمر عثمان) لكن روي أنه توفي قبل هذا التاريخ.

وقال في ترجمة عمه خالد في ج ٢ ص ٨٢ :

(خالد بن سعيد بن العاص ابن أمية بن عبد شمس ... قالت أم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص كان أبي خامسا في الإسلام. قلت من تقدمه؟ قالت علي بن أبي طالب وأبو بكر وزيد بن حارثة وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم. وكان سبب إسلامه أنه رأى في النوم أنه وقف على شفير النار فذكر من سعتها ما الله أعلم به ، وكان أباه يدفعه فيها ورأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آخذا بحقويه لا يقع فيها ، ففزع وقال أحلف أنها لرؤيا حق ...

وعلم أبوه إسلامه فأرسل في طلبه من بقي من ولده ولم يكونوا أسلموا فوجدوه فأتوا به أباه أبا أحيحة سعيدا فسبه وبكّته وضربه بعصا في يده حتى كسرها على رأسه وقال : اتبعت محمدا وأنت ترى خلافه قومه وما جاء به من عيب آلهتهم وعيب من مضى من آبائهم؟!! قال قد والله تبعته على ما جاء به! فغضب أبوه ونال منه وقال : اذهب يا لكع حيث شئت والله لأمنعنك القوت ، فقال خالد : إن منعتني فإن الله يرزقني ما أعيش به! فأخرجه وقال لبنيه لا يكلمه أحد منكم إلا صنعت به ما صنعت بخالد ، فانصرف خالد الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان يلزمه ويعيش معه ... وهاجر خالد الى الحبشة ومعه امرأته أميمة بنت خالد الخزاعية وولد له بها ابنه سعيد بن خالد وابنته أم خالد واسمها أمة ، وهاجر معه الى أرض الحبشة أخوه عمرو بن سعيد

٣٢٧

وقدما على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخيبر مع جعفر بن أبي طالب في السفينتين ، فكلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسلمين فأسهموا لهم.

وشهد مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم القضية ، وفتح مكة ، وحنينا ، والطائف ، وتبوك. وبعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عاملا على صدقات اليمن وقيل على صدقات مذحج وعلى صنعاء فتوفي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو عليها ، ولم يزل خالد وأخواه عمرو وأبان على أعمالهم التي استعملهم عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما توفي رجعوا عن أعمالهم فقال لهم أبو بكر : ما لكم رجعتم ما أحد أحق بالعمل من عمال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ارجعوا الى أعمالكم فقالوا : نحن بنو أبي أحيحة لا نعمل لأحد بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبدا!! وكان خالد على اليمن كما ذكرناه وأبان على البحرين وعمرو على تيماء وخيبر وقرى عربية ، وتأخر خالد وأخوه أبان عن بيعة أبي بكر رضي الله عنه فقال لبني هاشم : إنكم لطوال الشجر طيبوا الثمر ، ونحن تبع لكم. فلما بايع بنو هاشم أبا بكر بايعه خالد وأبان)!

وقال في ج ٣ ص ٢٢٢ :

(وكان عمر بن الخطاب أول من بايعه ، وكانت بيعته في السقيفة يوم وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم كانت بيعة العامة من الغد ، وتخلف عن بيعته علي وبنو هاشم والزبير ابن العوام وخالد بن سعيد بن العاص وسعد بن عبادة الأنصاري. ثم إن الجميع بايعوا بعد موت فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إلا سعد بن عبادة فإنه لم يبايع أحدا الى أن مات ، وكانت بيعتهم بعد ستة أشهر على القول الصحيح ، وقيل غير ذلك).

وقال اليعقوبي في تاريخه ج ٢ ص ١٢٤ :

(وتخلف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والأنصار ، ومالوا مع علي بن أبي طالب ، منهم : العباس بن عبد المطلب والفضل بن العباس والزبير بن العوام بن العاص ، وخالد بن سعيد والمقداد بن عمرو وسلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري ، وعمار بن ياسر والبراء بن عازب وأبيّ بن كعب ، فأرسل أبو بكر الى عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن

٣٢٨

الجراح والمغيرة بن شعبة ، فقال : ما الرأي؟ قالوا : الرأي أن تلقى العباس بن عبد المطلب فتجعل له في هذا الأمر نصيبا يكون له ولعقبه من بعده ، فتقطعون به ناحية علي بن أبي طالب حجة لكم على علي ، إذا مال معكم ...). وذكره ابن هشام في السيرة ج ٣ ص ٢٤٠ ، وترجم له الذهبي في سير أعلام النبلاء ج ١ ص ٢٥٩ ، انتهى.

وغرضنا من التعرف على شخصية سعيد بن العاص وأسرته أن نسجل أن مملي القرآن الذي بأيدينا كان من نجباء بني أمية .. ومما يدل على عقله وتدينه أن عليا عليه‌السلام قتل أباه العاص يوم بدر ، ولكنه لم يكن في نفسه ضغينة على علي ، مع أن بعضهم حاول تحريكه على قاتل أبيه .. بل نراه وقف مع أعمامه بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الى جانب علي ولم يبايعوا حتى بايع .. جاء في سيرة ابن هشام ج ٢ ص ٢٠٠ وص ٢٦٤ :

(قال ابن هشام : وحدثني أبو عبيدة وغيره من أهل العلم بالمغازي ، أن عمر بن الخطاب قال لسعيد بن العاص ومر به : إني أراك كأن في نفسك شيئا؟! أراك تظن أني قتلت أباك؟! إني لو قتلته لم أعتذر إليك من قتله ، ولكني قتلت خالي العاص بن هشام بن المغيرة ، فأما أبوك فإني مررت به وهو يبحث بحث الثور بروقه فحدت عنه ، وقصد له ابن عمه علي فقتله). وكان العاص بن هشام أسيرا يوم بدر فقتله عمر!

وذكر ابن الأثير جواب سعيد لعمر ، قال في أسد الغابة ج ٢ ص ٣٠٩ (فقال له سعيد بن العاص : ولو قتلته لكنت على الحق وكان على الباطل! فتعجب عمر من قوله!) انتهى.

بقي أن نشير الى رواية ذكرت ممليا آخر مع سعيد هو مالك بن أنس جد مالك بن أنس .. قال في كنز العمال ج ٢ ص ٥٨٢ :

(فقال أبو قلابة : فحدثني مالك بن أنس قال أبو بكر بن داود هذا مالك بن أنس جد مالك بن أنس ، قال : كنت فيمن أملى عليهم فربما اختلفوا في الآية ، فيذكرون الرجل قد تلقاها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولعله أن يكون غائبا أو في بعض البوادي ، فيكتبون ما قبلها وما بعدها ويدعون موضعها حتى يجيء أو يرسل إليه ، فلما فرغ من المصحف ، كتب الى أهل الأمصار : إني قد صنعت كذا وصنعت كذا ،

٣٢٩

ومحوت ما عندي فامحوا ما عندكم ـ ابن أبي داود وابن الأنباري ، ورواه خط في المتفق عن أبي قلابة عن رجل من بني عامر يقال له أنس بن مالك القشيري بدل مالك بن أنس) انتهى.

فإن صحت هذه الرواية يكون أنس هذا شاهدا على آية أو سورة يحفظها ، فطلبوا منه إملاءها عليهم في مسودات اللجنة وتجميعها الأولي مثلا .. أما المملي الرسمي لصيغة القرآن التي بأيدينا ، فهو سعيد بن العاص ، وربما كان معه عمه أبان!

النسخ الأم التي دونوا عنها المصحف الإمام

توجد أربعة احتمالات للنسخة الأم التي أملى منها سعيد بن العاص المصحف على زيد بن ثابت وغيره من الكتّاب :

الاحتمال الأول : أن تكون صحف حفصة أي نسخة الخليفة عمر التي جمعها هو وزيد في عهد أبي بكر ثم في عهده .. كما ذكرت أكثر الروايات.

الاحتمال الثاني : أن تكون نسخة عائشة ، كما ذكرت بعض الروايات.

الاحتمال الثالث : أن تكون نسخة علي ، كما يفهم من صفات النسخة.

الاحتمال الرابع : أن يكون سعيد أو هو وبقية أعضاء اللجنة رأوا عدة نسخ وقايسوا بينها وناقشوا فروقاتها واستمعوا الى شهودها ، ثم راجعوا الخليفة عثمان وعليا وغيرهما من الصحابة الخبيرين بالقرآن ، واختاروا الكلمة أو الصيغة الأكثر وثوقا عندهم. كما يفهم من بعض الروايات .. وفيما يلي نفحص ما يملكه كل واحد من هذه الاحتمالات.

لم يكتبوا المصحف الإمام عن صحف حفصة أو نسخة عمر

ينبغي الالتفات الى أن توحيد الخليفة عثمان لنسخة القرآن كان عملية جراحية لمرض في الأمة هو اختلاف المسلمين في قراءات القرآن ، وانقسامهم الى أحزاب دينية متعارضة!!

٣٣٠

وقد كان عدد كبير من الأشخاص يعيشون على هذه الاختلافات والتعصبات ، فلما قام عثمان بجمع القرآن سحب البساط من تحت أقدامهم بضربة فنية ، فأسقط في أيديهم ، وفقدوا مكانتهم وجمهورهم!

لقد صارت قراءتهم مثل غيرها وصاروا هم مثل غيرهم .. وانتهى عهد الأحرف السبعة الذي بدأه الخليفة عمر ، وصار على الجميع أن يقرءوا بحرف واحد هو حرف الخليفة عثمان في المصحف الإمام!!

لهذا ارتفعت اعتراضات زعماء الأحرف السبعة أو الأحرف العشرين وجمهورهم ، وكان سلاحهم ضد الخليفة عثمان وضد حذيفة ، هو الأحرف السبعة التي سلحهم بها عمر!!

وكان الجواب المنطقي للدولة أن تقول لهم : إن الخليفة عمر أخطأ في طرح الأحرف السبعة ، فهذا الواقع الخطير الذي نعانيه إنما هو ثمرتها ، ولو تركناه بلا معالجة جذرية لاختلفت الأمة في كتابها الى فرق ومذاهب متناحرة الى يوم القيامة! ولكن تعلق الناس بسياسة الخليفة عمر ، ونقاط الضعف في سياسة الخليفة عثمان .. لم تسمح له بتخطئة عمر ، بل كانت تجعله محتاجا لإثبات (الشرعية) لأعماله بالاحتجاج بأعمال عمر وأقواله!!

لهذا نرى الخليفة عثمان يحتج على المعترضين ، أولا : بأن عمر كان ينوي توحيد القرآن. وثانيا ، بأنه كتب مصحفه الإمام عن نسخة الخليفة عمر أو الصحف التي عند بنته حفصة!

وعلى هذا الأساس يجب أن ننظر الى جميع الروايات التي تقول إنهم نسخوا المصحف الإمام عن صحف حفصة بأنها كلام سياسي للدفاع عن الخليفة عثمان ، وليس بالضرورة أن يكون هو الذي حصل! وكذلك كثير من دفاعات الخليفة عثمان عن نفسه فيما خالف فيه عمر ، كما يظهر للمتتبع!

قال ابن شبة في تاريخ المدينة ج ٣ ص ١١٣٦ :

(حدثنا علي بن محمد ، عن يزيد بن عياض ، عن الوليد ابن سعيد ، عن عروة بن الزبير قال : قدم المصريون فلقوا عثمان رضي الله عنه فقال : ما الذي تنقمون؟ قالوا :

٣٣١

تمزيق المصاحف. قال : إن الناس لما اختلفوا في القراءة خشي عمر رضي الله عنه الفتنة فقال : من أعرب الناس؟ فقالوا : سعيد بن العاص. قال : فمن أخطهم؟ قالوا : زيد بن ثابت. فأمر بمصحف فكتب بإعراب سعيد وخط زيد ، فجمع الناس ثم قرأه عليهم بالموسم فلما كان حديثا كتب إليّ حذيفة : إن الرجل يلقى الرجل فيقول قرآني أفضل من قرآنك حتى يكاد أحدهما يكفر صاحبه ، فلما رأيت ذلك أمرت الناس بقراءة المصحف الذي كتبه عمر رضي الله عنه وهو هذا المصحف ، وأمرتهم بترك ما سواه ، وما صنع الله بكم خير مما أردتم لأنفسكم) انتهى.

والجميع يعرفون أن الخليفة عمر لم يقم بهذا العمل ، ولم يقرأ على المسلمين قرآنا في موسم الحج!! وقال ابن شبة في ج ٣ ص ١٠٠٥ :

(... عن توبة بن أبي فاختة ، عن أبيه قال بعث عثمان رضي الله عنه الى عبد الله أن يدفع المصحف إليه ، قال ولم؟ قال لأنه كتب القرآن على حرف زيد. قال : أما أن أعطيه المصحف فلن أعطيكموه ومن استطاع أن يغل شيئا فليفعل ، والله لقد قرأت من في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبعين سورة ، وإن زيدا لذو ذؤابتين يلعب بالمدينة!) انتهى. ولم يدّع أحد غير زيد وخصمه ابن مسعود بأن قرآن عثمان كتب على حرف زيد ، ولكن غرض ابن مسعود من ادعاء ذلك أن يبرر تمسكه بقراءته ، وغرض عثمان من ذلك أن يسكت المعترضين لعمر ، لأنهم يعرفون ثقة عمر بزيد!!

وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء ج ٢ ص ٤٢٦ :

(الواقدي : حدثنا الضحاك بن عثمان ، عن الزهري ، قال : قال ثعلبة ابن أبي مالك : سمعت عثمان يقول : من يعذرني من ابن مسعود؟ غضب إذ لم أوله نسخ المصاحف! هلا غضب على أبي بكر وعمر إذ عزلاه عن ذلك ووليا زيدا ، فاتبعت فعلهما!) انتهى.

والجميع يعرف أن أبا بكر وعمر لم يوليا ابن مسعود على نسخ المصاحف حتى يعزلاه ، ولا وليا زيدا إلا جمع القرآن مع الخليفة عمر وبرأيه ، ولكن الخليفة عثمان يريد الدفاع عن نفسه وإثبات أن سياسته نفس سياسة الشيخين التي يريدها الناس!

٣٣٢

هذا هو الدليل الأول ... والدليل الثاني ، أن قراءات عمر التي كانت في نسخته التي عند حفصة لا توجد في المصحف الإمام .. ويكفي أن ترجع الى ما قدمنا من قراءاته المروية عنه بأحاديث صحيحة ، والتي كان يأمر بإثباتها في المصاحف ومحو ما عداها ، مثل قراءة (وامضوا الى ذكر الله) وغيرها وغيرها .. فإنك لا تجد لها أثرا في قرآننا الفعلي الذي هو المصحف الإمام ، والحمد لله.

والدليل الثالث : إصرار الدولة على مصادرة مصحف حفصة وإحراقه ، ولا يمكن أن يكون سبب ذلك إلا أن حفصة أو غيرها أشاعوا أن مصحف عثمان فيه نقص أو خلل .. الأمر الذي جعل الدولة تلح على أخذ النسخة ، ولكن حفصة وقفت في وجه الدولة وقاومت الى أن توفيت .. ولكن الدولة ما أن فرغت من تشييع جنازة حفصة حتى وضعت يدها على النسخة و.. أحرقتها!! فلو كان المصحف الإمام نسخة عن مصحف عمر ، لما استطاعت حفصة أو غيرها أن تتكلم بكلمة ، ولما كان معنى لإصرار الدولة وافتعالها أزمة طالت نحو عشرين سنة مع أم المؤمنين وبنت عمر!!

قال في كنز العمال ج ٢ ص ٥٧٣ :

(عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله وخارجة أن أبا بكر الصديق كان جمع القرآن في قراطيس ، وكان قد سأل زيد بن ثابت النظر في ذلك ، فأبى حتى استعان عليه بعمر ففعل ، فكانت الكتب عند أبي بكر حتى توفي ، ثم عند عمر حتى توفي ، ثم كانت عند حفصة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأرسل إليها عثمان فأبت أن تدفعها ، حتى عاهدها ليردنها إليها فبعثت بها إليه ، فنسخها عثمان هذه المصاحف ، ثم ردها إليها فلم تزل عندها ، قال الزهري : أخبرني سالم بن عبد الله أن مروان كان يرسل الى حفصة يسألها الصحف التي كتب فيها القرآن ، فتأبى حفصة أن تعطيه إياها ، فلما توفيت حفصة ورجعنا من دفنها أرسل مروان بالعزيمة الى عبد الله بن عمر ليرسل اليه بتلك الصحف ، فأرسل بها إليه عبد الله بن عمر ، فأمر بها مروان فشققت ، وقال مروان إنما فعلت هذا لأن ما فيها قد كتب وحفظ بالصحف ، فخشيت إن طال بالناس زمان أن يرتاب في شأن هذا المصحف مرتاب ، أو يقول إنه قد كان فيها شىء لم يكتب ـ ابن أبي داود) انتهى. والمتأمل في هذه الرواية يطمئن بأن مصحف عمر كان فيه زيادة عن مصحفنا ، كما صرح أبو موسى الأشعري عن مصحفه!

٣٣٣

وقال عمر بن شبة في تاريخ المدينة ج ٣ ص ١٠٠٣ :

(... عن ابن شهاب قال ، حدثني أنس رضي الله عنه قال ، لما كان مروان أمير المدينة أرسل الى حفصة يسألها عن المصاحف ليمزقها وخشي أن يخالف الكتاب بعضه بعضا ـ فمنعتها إياه.

... عن ابن شهاب ، عن خارجة بن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال : لما ماتت حفصة أرسل مروان الى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بعزيمة ، فأعطاه إياها ، فغسلها غسلا.

قال الزهري : فحدثني سالم قال ، لما توفيت حفصة أرسل مروان الى ابن عمر رضي الله عنهما بعزيمة ليرسلن بها ، فساعة رجعوا من جنازة حفصة أرسل بها ابن عمر رضي الله عنهما ، فشققها ومزقها مخافة أن يكون في شىء من ذلك خلاف لما نسخ عثمان رضي الله عنه!!).

وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ج ٧ ص ١٥٦ :

(باب ما جاء في المصحف) عن سالم بن مروان كان يرسل الى حفصة يسألها عن المصحف الذي نسخ منه القرآن فتأبى حفصة أن تعطيه إياه ، فلما دفنا حفصة أرسل مروان الى ابن عمر أرسل إليّ بذلك المصحف فأرسله إليه! رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح) انتهى.

بل إن أزمة الدولة مع حفصة وإصرار حفصة الشديد تجعلنا نشك في أنها أعطتهم النسخة أول الأمر ، وإن كانت أعطتهم فلا بد أنهم رفضوا الكتابة منها لاختلافها عن القرآن المتداول! ولذلك شاع في المدينة أن مصحف عثمان لم يكتبوه عن مصحف عمر!

الدليل الرابع : ما تقدم في أدلة جمع القرآن من عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، من أن حفصة نفسها لم تكن تقرأ بمصحف أبيها الذي هو عندها أو عنده لا فرق ، بل استكتبت لنفسها مصحفا متداولا! فقد روى مسلم في صحيحه ج ٢ ص ١١٢ :

(... عن أبي يونس مولى عائشة أنه قال أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا وقالت إذا بلغت هذه الآية فآذني حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى فلما بلغتها آذنتها

٣٣٤

فأملت على حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين) انتهى.

إن كل المؤشرات بل والأدلة تدلنا على أن مصحف عمر كان مشروع مصحف يحمل اجتهادات الخليفة عمر المتجددة ، وكان ينتظر أن يكتمل عمله فينشره .. ولكن الأجل عاجله ، ثم عاجل مروان نسخته فأحرقها!

ولم يكتبوا المصحف الإمام عن مصحف عائشة

تفاجؤنا في روايات جمع القرآن وثيقة تاريخية مهمة وسارة ، يقول فيها الخليفة عثمان إن لجنة جمع القرآن كتبت المصحف الإمام عن مصحف كتبه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله!! وقد أعلن الخليفة عثمان ذلك في رسالته الى الأمصار التي أرسلها مع المصاحف ، وأكد على ذلك عبد الله بن الزبير الذي كان عضوا في لجنة جمع القرآن!

قال عمر بن شبة في تاريخ المدينة ج ٣ ص ٩٩٧ :

(... عن أبي محمد القرشي : أن عثمان بن عفان رضي الله عنه كتب الى الأمصار : أما بعد فإن نفرا من أهل الأمصار اجتمعوا عندي فتدارسوا القرآن ، فاختلفوا اختلافا شديدا ، فقال بعضهم قرأت على أبي الدرداء ، وقال بعضهم قرأت على حرف عبد الله بن مسعود ، وقال بعضهم قرأت على حرف عبد الله بن قيس ، فلما سمعت اختلافهم في القرآن ـ والعهد برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديث ـ ورأيت أمرا منكرا ، فأشفقت على هذه الأمة من اختلافهم في القرآن ، وخشيت أن يختلفوا في دينهم بعد ذهاب من بقي من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذين قرءوا القرآن على عهده وسمعوه من فيه ، كما اختلفت النصارى في الإنجيل بعد ذهاب عيسى بن مريم ، وأحببت أن نتدارك من ذلك ، فأرسلت الى عائشة أم المؤمنين أن ترسل الى بالأدم الذي فيه القرآن الذي كتب عن فم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أوحاه الله الى جبريل ، وأوحاه جبريل الى محمد وأنزله عليه ، وإذا القرآن غض ، فأمرت زيد بن ثابت أن يقوم على ذلك ، ولم أفرغ لذلك من أجل أمور الناس والقضاء بين الناس ، وكان زيد بن ثابت أحفظنا للقرآن ، ثم دعوت نفرا من كتاب أهل المدينة وذوي عقولهم ،

٣٣٥

منهم نافع بن طريف ، وعبد الله بن الوليد الخزاعي ، وعبد الرحمن بن أبي لبابة ، فأمرتهم أن ينسخوا من ذلك الأدم أربعة مصاحف وأن يتحفظوا).

وقال عبد الله بن الزبير كما في ج ٣ ص ٩٩١ وقد تقدم في الحديث عن دور حذيفة وعلي عليه‌السلام (... فجمع عثمان رضي الله عنه المصاحف ، ثم بعثني الى عائشة رضي الله عنها فجئت بالصحف التي كتب فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن فعرضناها عليها حتى قومناها ، ثم أمر بسائرها فشققت) انتهى.

فما عدا مما بدا حتى صار القرآن مدونا في مصحف كامل من عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله؟! وأين وسائل الكتابة البدائية من (العسب والرقاق واللخاف وصدور الرجال) التي يرويها البخاري .. وأين الجلوس على باب المسجد لتجميع الآيات والسور من المسلمين .. وأين قصة جمع القرآن على يد الخليفة أبي بكر وعمر؟! وأين عشرات الروايات وعشرات النظريات والتاريخ الذي بنوه عليها .. الى آخر الأسئلة الكبيرة؟!

على أي حال إن ما يهمنا من الأمر الآن هو نتيجته التي تقول :

إذا صح أن المصحف الإمام كتب عن نسخة مكتوبة في عهد النبي وتحت نظره صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنها نعمة عظيمة يجب أن نشكر الله تعالى عليها .. ولتسقط كل الروايات المخالفة لها ، وليكن ما يكون!

والحمد لله أن كل المؤشرات تدل على صحة ذلك .. من أولها أن أوصاف المصاحف التي كانت موجودة عند تدوين المصحف الإمام لا تنطبق عليه ، لا مصحف عبد الله بن مسعود ، ولا مصحف أبي بن كعب ، ولا مصحف أبي موسى الأشعري ، ولا مصحف عمر ، ولا مصحف زيد بن ثابت ، بل يكفي أن نرجع الى عدد السور والقراءات التي ذكرت في مصاحفهم لنرى أنها تختلف عن عدد سور مصحفنا الفعلي ... إلا مصحف علي عليه‌السلام! وحتى قراءة عثمان لا تنطبق عليها النسخة الفعلية إذا صح أن عثمان كان له اعتراض على عدد من جمل أو كلمات المصحف الذي كتبته اللجنة .. فقد قال في كنز العمال ج ٢ ص ٥٨٦ :

٣٣٦

(عن عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر القرشي قال : لما فرغ من المصحف أتي به عثمان فنظر فيه فقال : قد أحسنتم وأجملتم أرى شيئا من لحن ستقيمه العرب بألسنتها ـ ابن أبي داود وابن الأنباري.

(عن قتادة أن عثمان لما رفع إليه المصحف قال : إن فيه لحنا وستقيمه العرب بألسنتها ـ ابن أبي داود وابن الأنبازي.

عن قتادة عن نصر بن عاصم الليثي عن عبد الله بن فطيمة عن يحيى بن يعمر قال قال عثمان : إن في القرآن لحنا وستقيمه العرب بألسنتها ـ ابن أبي داود.

عن عكرمة قال : لما أتي عثمان بالمصحف رأى فيه شيئا من لحن فقال : لو كان المملي من هذيل والكاتب من ثقيف لم يوجد فيه هذا ـ ابن الأنباري وابن أبي داود) انتهى.

والحمد لله أنه لم يكن في المصحف الإمام لحن ولا خطأ .. وما أقامت العرب (لحنه) بألسنتها بل قوم هو ألسنة العرب وأقام لحنها ، لأنه كما وصف الخليفة عثمان نسخته (القرآن الذي كتب عن فم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أوحاه الله الى جبريل ، وأوحاه جبريل الى محمد وأنزله عليه ، وإذ القرآن غض ...) انتهى ، وانتهى الأمر!

يبقى هنا سؤال هام ، وهو أنه لم يعرف عن أم المؤمنين عائشة أنها كانت تملك هذه الثروة العظيمة .. ولو كانت عندها لحدثت عنها عشرات الأحاديث ، قبل كتابة المصحف الإمام عنها وبعده ، وهي التي تحدثت عن كل ما يرتبط بها من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى في الأمور الشخصية ، وافتخرت بكل ما يمكن أن يكون حظوة لها عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو أثرا منه عندها؟!

والجواب : نعم هذا صحيح ، وأحاديث عائشة تنفي أن تكون عندها مثل هذه النسخة .. فلو كانت عندها لاحتجت بها على نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عند ما خالفنها في مسألة رضاع الكبير ، وفي كفاية خمس رضعات .. فقد قالت كما في صحيح مسلم ج ٤ ص ١٦٧ (... عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة أنها قالت كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرّمن ، ثم نسخن بخمس

٣٣٧

معلومات فتوفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن!) ورواه الدارمي في سننه ج ٢ ص ١٥٧ ، ورواه ابن ماجة في سننه ج ١ ص ٦٢٥ وروى بعده (... عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة قالت : لقد نزلت آية الرجم ، ورضاعة الكبير عشرا. ولقد كان في صحيفة تحت سريري ، فلما مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتشاغلنا بموته ، دخل داجن فأكلها).

وروى النسائي في سننه ج ٦ ص ١٠٠ (... عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة قالت كان فيما أنزل الله عزوجل وقال الحرث فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي مما يقرأ من القرآن!) انتهى.

قال أحمد في مسنده ج ٦ ص ٢٧١ (... كانت عائشة تأمر أخواتها وبنات أخواتها أن يرضعن من أحبت عائشة أن يراها ويدخل عليها وإن كان كبيرا خمس رضعات ثم يدخل عليها!! وأبت أم سلمة وسائر أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يدخلن عليهن بتلك الرضاعة أحدا من الناس حتى يرضع في المهد ..).

فقد كان مهما عند عائشة أن تحتج لمسألة الرضاعة بالقرآن لأن نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله خالفنها وانتقدنها ، بل كانت متحمسة لإثبات صحة عملها!

ثم لو كانت نسخة القرآن عند عائشة لما استكتبت نسخة من القرآن المتداول كما في رواية مسلم ج ٢ ص ١١٢ (... عن أبي يونس مولى عائشة أنه قال أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا وقالت إذا بلغت هذه الآية فآذني حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ، فلما بلغتها آذنتها فأملت عليّ حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر ، وقوموا لله قانتين) انتهى ، وقد تقدمت رواياته في أول هذا الفصل!

قرآننا الفعلي هو نسخة علي بن أبي طالب

ما الحل إذن؟ هل نستطيع القول إن عثمان يكذب في ادعائه أن اللجنة كتبت المصحف الإمام عن مصحف غض كتب بإملاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله؟!

كلا .. فليس للخليفة مصلحة في إخبار أهل الأمصار بذلك إلا أنه يريد أن يطمئنهم ويفتخر لهم بثقته بالنسخة التي كتب عنها القرآن .. وقرائن وصفه للنسخة وثقته بها تأبى أن يكون قوله افتراء!

كل ما في الأمر أنها نسخة علي عليه‌السلام وقد أراد عثمان أن يبتعد عن حساسيتهم من علي فنسبها الى عائشة ، ولعله أشرك عبد الله بن الزبير بن

٣٣٨

أخت عائشة في اللجنة وأرسله اليها وأحضر نسخة مصحفها العادية ، لكي ينسب التدوين اليها!!

أرانا ملزمين بهذه الفرضية ، لأنها تملك مؤيدات كثيرة ، ولأن كل فرضية أخرى للنسخة الأم تواجهها مضعّفات كثيرة!!

ولا بد أن نستذكر هنا أن وجود سعيد بن العاص في مشروع تدوين المصحف الإمام بصفته معربا وممليا للمصحف ، وبصفته أمويا من أقارب الخليفة ، ومن أسرة موالية لعلي بن أبي طالب عليه‌السلام .. ووجود حذيفة الذي له مكانة مميزة بين الصحابة بصفته رائد مشروع توحيد القرآن ، ومن خاصة أصحاب علي عليه‌السلام .. يجعل لمصحف علي في اللجنة أسهما وافرة في أن تكون نسخته هي النسخة الأم التي كتب عنها المصحف الإمام.

وقد روى الشيعة والسنة أن عليا عليه‌السلام كتب نسخة القرآن على أثر وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .. روى ابن أبي شيبة في مصنفه ج ٧ ص ١٩٧ :

(حدثنا يزيد بن هارون قال أخبرنا ابن عون عن محمد قال : لما استخلف أبو بكر قعد علي في بيته فقيل لأبي بكر فأرسل إليه : أكرهت خلافتي؟ قال لا لم أكره خلافتك ، ولكن كان القرآن يزاد فيه ، فلما قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جعلت عليّ أن لا أرتدي إلا الى الصلاة حتى أجمعه للناس ، فقال أبو بكر : نعم ما رأيت).

وروى في كنز العمال ج ١٣ ص ١٢٧ (عن محمد بن سيرين قال لما توفي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقسم عليّ أن لا يرتدي برداء إلا الجمعة حتى يجمع القرآن في مصحف ، ففعل ، وأرسل إليه أبو بكر بعد أيام : أكرهت إمارتي يا أبا الحسن؟ قال لا والله إلا أني أقسمت أن لا أرتدي برداء إلا الجمعة! فبايعه ثم رجع ـ ابن أبي داود في المصاحف).

وقال ابن أبي شيبة في مصنفه ج ٧ ص ٢٠٤ (... عن ابن جريج وعن ابن سيرين عن عبيدة قال : القراءة التي عرضت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العام الذي قبض فيه هي القراءة التي يقرأها الناس اليوم فيه) انتهى.

٣٣٩

ومن الذي عرض على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نسخته قبيل وفاته غير علي عليه‌السلام؟! بل لم يدع ذلك أحد من المسلمين غيره! وكفى بذلك دليلا شرعيا!

وقد تقدم في تعداد أعضاء لجنة التدوين قول ابن سيرين (كانوا إذا اختلفوا في الشيء أخروه حتى ينظروا آخرهم عهدا بالعرضة الأخيرة فكتبوه على قوله) فهذا الكلام ولو كان ظنا من ابن سيرين ، لكنه يدل على أن المسلمين بمن فيهم اللجنة كانوا يعرفون قيمة النص ممن سمع العرضة الأخيرة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .. ومن يكون ذلك غير علي عليه‌السلام!

ثم إن من المعروف أن مصحفنا الفعلي الذي جمعه الخليفة عثمان ، بقراءة عاصم ، التي هي قراءة علي عليه‌السلام! قال الذهبي في سير أعلام النبلاء ج ٢ ص ٤٢٦ :

(... حفص ، عن عاصم ، عن أبي عبد الرحمن قال : لم أخالف عليا في شىء من قراءته ، وكنت أجمع حروف عليّ ، فألقى بها زيدا في المواسم بالمدينة فما اختلفنا إلا في التابوت كان زيد يقرأ بالهاء وعليّ بالتاء) انتهى ، وهذه الرواية تكشف أن الذي صحح التابوت وجعله بالتاء هو علي عليه‌السلام! وأن زيدا بقي يقرؤها بالهاء الى آخر عمره!

* * *

يبقى الاحتمال الرابع ، وهو أن يكون سعيد بن العاص أملى النص الذي وثق به أكثر من بين مجموع ما جمعوه ، وهو احتمال وجيه لكن لعمل اللجنة في المرحلة الأولى للجمع والتدوين حيث جمعوا من الناس مصاحف متعددة ، وصحفا فيها أجزاء من القرآن أو سور ، وتناقشوا في بعضها .. ولكن سعيد بن العاص عند ما يرى نسخة غضة كتبت بإملاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كما وصفها الخليفة عثمان بأنها (القرآن الذي كتب عن فم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أوحاه الله الى جبريل ، وأوحاه جبريل الى محمد وأنزله عليه ، فإذا القرآن غض) فهل يعقل أن يفضل سعيد عليها أيّ نسخة أو رواية أخرى؟!!

* * *

٣٤٠