تدوين القرآن

الشيخ علي الكوراني العاملي

تدوين القرآن

المؤلف:

الشيخ علي الكوراني العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: باقري
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٧

... باب كاتب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن يونس عن ابن شهاب أن ابن السباق قال أن زيد بن ثابت قال : أرسل الى أبو بكر رضي الله عنه قال إنك كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاتبع القرآن فتتبعت حتى وجدت آخر سورة التوبة آيتين مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) الى آخرها) وروى نحوه عن زيد أيضا في ج ٨ ص ١١٨

هذا ما رواه زيد عن جمعه الثاني للقرآن في زمن الخليفة أبي بكر .. ولم يقل شيئا عن نسخته التي كتبها من زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله! ولا عن دور غيره من القراء والحفاظ ، ولو بقدر رأس إبرة .. وقد قلد البخاري أكثر المؤلفين ورووا قصة جمع القرآن عن زيد .. ورووا متفرقاتها عن غيره!

قال السيوطي في الدر المنثور ج ٣ ص ٢٩٦

(وأخرج ابن سعد ، وأحمد ، والبخاري ، والترمذي ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن أبي داود في المصاحف ، وابن حبان ، وابن المنذر ، والطبراني ، والبيهقي في سننه عن زيد بن ثابت قال : أرسل الى أبو بكر مقتل أهل اليمامة وعنده عمر فقال .. الخ).

وقال في كنز العمال ج ٢ ص ٥٧١ :

جمع القرآن ـ من مسند الصديق رضي الله عنه ، عن زيد بن ثابت قال : أرسل إليّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة فإذا عنده عمر بن الخطاب فقال ... (ط ، وابن سعد ، حم ، خ ، والعدنى ت ن ، وابن جرير ، وابن أبي داود في المصاحف ، وابن المنذر ، حب طب ق) انتهى.

استعطاء آيات القرآن على باب المسجد

من أجل إثبات فضيلة لزيد ، وبيان الصعوبات التي تحملتها الدولة في جمع القرآن ، وأن المشروع كان يحتاج الى وقت طويل وكان على المسلمين أن ينتظروا ولا يستعجلوا .. ارتكب الرواة إهانة للمسلمين واتهموهم بأنهم لم يهتموا بكتاب ربهم وضيعوه ،

٣٠١

حتى اضطر نائب الخليفة عمر ورئيس اللجنة زيد بن ثابت أن يجلسا على باب المسجد ويعلنا للمصلين : رحم الله من كان من عنده آية فليقلها حتى نكتبها في المصحف!!

روى في كنز العمال ج ٢ ص ٥٧٣ :

(عن هشام بن عروة قال : لما استحر القتل بالقراء فرق أبو بكر على القرآن أن يضيع ، فقال لعمر بن الخطاب ، ولزيد بن ثابت : أقعدا على باب المسجد ، فمن جاءكما بشاهدين على شىء من كتاب الله فاكتباه ـ ابن أبي داود في المصاحف.

... عن هشام بن عروة عن أبيه قال : لما قتل أهل اليمامة أمر أبو بكر الصديق عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت فقال : أجلسا على باب المسجد فلا يأتينكما أحد بشيء من القرآن تنكرانه يشهد عليه رجلان إلا أثبتماه ، وذلك لأنه قتل باليمامة ناس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد جمعوا القرآن! ـ ابن سعدك) انتهى.

وفي عصرنا الواعي كما في عصور سابقة ، صارت هذه الرواية موثقة وصارت منقبة للدولة ولزيد في ورعه واحتياطه .. قال الدكتور صبحي الصالح في كتابه (مباحث في علوم القرآن) ص ٧٥ ـ ٧٦ :

(... ولكنه (زيد) أراد ـ ورعا منه واحتياطا ـ أن يشفع الحفظ بالكتابة ، وظل ناهجا هذا النهج في سائر القرآن الذي تتبعه فجمعه بأمر أبي بكر : فكان لا بد لقبول آية أو آيات من شاهدين هما الحفظ والكتابة ، وبهذا فسر ابن حجر المراد من الشاهدين في قول أبي بكر لعمر وزيد : أقعدا على باب المسجد ، فمن جاءكما بشاهدين على شىء من كتاب الله فاكتباه ـ الإتقان ١ ـ ١٠٠)!!

وينبغي أن نتوقف طويلا عن قول أبي بكر (فلا يأتينكما أحد بشيء من القرآن تنكرانه يشهد عليه رجلان إلا أثبتماه) ففي هذا الكلام علم كثير ، فهو يدل على أن وأن بقيته مبثوثة عند الناس ، لذلك تعلن الخلافة أن أي نص يشهد عليه رجلان أنه من القرآن فهي تلتزم به وتثبته في القرآن ، ونائب الخليفة وكاتبه مأموران أن يدخلا ذلك النص في القرآن حتى لو لم يشهدا به ، بل حتى لو استغرباه وأنكراه (تنكرانه .. إلا أثبتماه)!

٣٠٢

إن هذه الحركة منسجمة تماما مع الأحاديث الصحيحة الواردة عن الخليفة عمر بأن القرآن الذي نزل أضعاف الموجود ، بذلك فهو يحاول جمع ما ضاع منه بأقل إثبات شرعي وهو شاهدان عاديان! ولعل تأخر الخليفة عمر بنشر نسخته كان لهذا السبب .. والله يعلم ما ذا جمع في نسخته من أمثال سورتي (الخلع والحفد) والآيات التي تقدمت!!

ونلاحظ في الرواية التالية مزيدا من المبالغة في فقدان نسخ القرآن .. فقد (مات) كل حفاظه ، حتى أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وغيرهم .. وغيرهم! قال في كنز العمال ج ٢ ص ٥٨٤ :

(عن ابن شهاب قال : بلغنا أنه كان أنزل قرآن كثير فقتل علماؤه يوم اليمامة الذين كانوا قد وعوه ولم يعلم بعدهم ولم يكتب!! فلما جمع أبو بكر وعمر وعثمان القرآن ولم يوجد مع أحد بعدهم وذلك فيما بلغنا حملهم على أن تتبعوا القرآن ، فجمعوه في الصحف في خلافة أبي بكر ، خشية أن يقتل رجال من المسلمين في المواطن ، معهم كثير من القرآن فيذهبوا بما معهم من القرآن ، فلا يوجد عند أحد بعدهم ، فوفق الله عثمان فنسخ ذلك المصحف في المصاحف ، فبعث بها الى الأمصار وبثها في المسلمين ـ ابن أبي داود) انتهى.

نتيجة عمل لجنة أبي بكر لتدوين القرآن

استغرق عمل اللجنة التي عينها الخليفة أبو بكر برئاسة عمر بن الخطاب وعضوية زيد بن ثابت لجمع القرآن .. شطرا من عهد أبي بكر ، ثم استمر عملها طوال عهد الخليفة عمر ، ولكن نتيجتها لم تر النور ولم تصل الى أيدي المسلمين! بل كانت صحائف عند الخليفة عمر ، وبقيت بيده وعند ابنته حفصة .. حتى وفاته! قال البخاري في صحيحه ج ٥ ص ٢١١ وج ٦ ص ٩٨ ج ٨ ص ١١٩ وكل رواياته عن زيد :

(وكانت الصحف التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله ، ثم عند عمر حتى توفاه الله ، ثم عند حفصة بنت عمر) انتهى.

٣٠٣

ونستبعد أن الخليفة أبا بكر احتفظ بالصحف في بيته ، فقد كان المشروع مشروع عمر ، وكان هو المتصدي له حتى في عهد أبي بكر ، وكان زيد منفذا لأمر عمر فقط! كما أن لحفظ الصحف عند حفصة لا في بيت عمر ولا عند زيد ، معنى المحافظة التامة عليها وعدم نشرها ، فقد كانت حفصة أقرب أهل بيت عمر إليه ، ووصيه الشرعي وموضع أسراره! قال السرخسي في المبسوط ج ١٢ ص ٣٦ :

(واستدل محمد رحمه‌الله في الكتاب بحديث عمر رضي الله عنه فإنه جعل وقفه في يد ابنته حفصة رضي الله عنها وإنما فعل ذلك ليتم الوقف ، ولكن أبو يوسف رحمه‌الله يقول فعل ذلك لكثرة اشتغاله وخاف التقصير منه في أوانه ، أو ليكون في يدها بعد موته) انتهى.

لكن لما ذا لم ينشر عمر النسخة؟ ولما ذا لم تسلمها حفصة الى الخليفة عثمان؟

وأخيرا ، لما ذا أصر عثمان ثم مروان على مصادرتها من حفصة وإحراقها؟!

ويعجب الإنسان للباحثين المعاصرين ، كيف يصدرون حكمهم بأن القرآن الذي في أيدينا هو مصحف أبي بكر أو مصحف عمر؟!

قال الدكتور صبحي الصالح في كتابه (مباحث في علوم القرآن) ص ٧٧ :

(وقد تم لأبي بكر جمع القرآن كله خلال سنة واحدة تقريبا ، لأن أمره زيدا بجمعه كان بعد واقعة اليمامة ، وقد حصل الجمع بين هذه الواقعة ووفاة أبي بكر. وحين نتذكر كيف جمع هذا القرآن من الرقاع والعسب واللخاف والأقتاب والجلود في هذه المدة القصيرة ، لا يسعنا إلا أن نكبر عزيمة الصحابة الذين بذلوا أنفسهم لله ، ولا يسعنا إلا أن نقول مع علي بن أبي طالب : رحم الله أبا بكر ، هو أول من جمع كتاب الله بين اللوحين. البرهان ١ ـ ٢٣٩ ، المصاحف لابن أبي داود ص ٥ ..

أما عمر فقد سجل له التاريخ أنه صاحب الفكرة ، كما سجل لزيد أنه وضعها موضع التنفيذ. وختام النص الذي رواه البخاري عن زيد ينبئنا بأن الصحف التي جمع فيها القرآن كانت عند أبي بكر حتى توفاه الله ، ثم صارت الى عمر وظللت عنده حتى توفاه الله ، ثم صارت الى حفصة بنت عمر لا الى الخليفة الجديد عثمان. وقد

٣٠٤

أثارت (دائرة المعارف الإسلامية) شبهة حول هذا الموضوع ، فتساءلت : ألم يكن عثمان أجدر أن تودع هذه الصحف عنده؟ (أنظر ١١٣٠P ، II Islam Encyclopedia)

ونجيب : بل حفصة أولى بذلك وأجدر ، لأن عمر أوصى بأن تكون الصحف مودعة لديها ، وهي زوجة رسول الله أم المؤمنين ، فضلا على حفظها القرآن كله في صدرها وتمكنها من القراءة والكتابة ، وكان عمر قد جعل أمر الخلافة شورى من بعده ، فكيف يسلم الى عثمان هاتيك الصحف قبل أن يفكر أحد في اختياره للخلافة) انتهى.

لكن هل غاب عن الدكتور المؤلف أن من حق الباحث الغربي أن يتساءل : إن نسخة القرآن هي النص الرسمي السماوي لدستور دين المسلمين ، وقد جمعها خليفة النبي وكانت عنده ولم ينشرها .. وقد اهتم بمسألة الحكم بعد وفاته وأوصى بالشورى وألزم أعضاءها أن يصلوا الى نتيجة خلال ثلاثة أيام .. فكان من الطبيعي كما أوصى بالخلافة أن يوصي بنسخة القرآن للخليفة المنتخب؟!

ثم إذا كانت تلك النسخة لا تختلف عن النسخة الفعلية التي دونها عثمان ، فلما ذا وجد اللغط حولها فطلبتها السلطة فاستعصت بها حفصة الى آخر عمرها؟ حتى صادرتها الدولة مباشرة بعد دفن حفصة و.. أحرقتها؟!!

هذه نماذج مما رووه وقالوه عن جمع الخليفة أبي بكر وعمر للقرآن .. وقد رأيت أنه لا يمكن لباحث أن يقبل مسألة لجنة زيد ومصحف عمر على ظاهرها ، بل لا بد أن يفسرها بأنها من أعمال السلطة لتسكيت الناس عن المطالبة باعتماد نسخة رسمية .. أو هي محاولة لجمع نسخة رسمية للقرآن حسب قناعات الخليفة عمر .. وإلا فإن القرآن الكريم كان مجموعا مكتوبا في مصاحف عديدة من عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .. وكانت المصاحف تكتب في حياة النبي وبعده في عهد الخليفة أبي بكر وبعده ، في المدينة وخارجها ، بإملاء الصحابة وخطهم ، ويتلقفها المسلمون المتعطشون اليها ، بل حتى أعداء المسلمين!

٣٠٥

لما ذا نسبوا جمع القرآن الى عمر؟!

أثار توحيد نسخة القرآن الذي قام به الخليفة عثمان اعتراضات متعددة غير شرعية وغير منطقية .. وكان عثمان وأنصاره يدافعون عن عمل الخليفة بأي وجه ، ومن ذلك أنهم نسبوا هذا العمل الى الخليفة عمر ليثبتوا للمعترضين أن توحيد القرآن ليس بدعة من عثمان بل كان مشروعه من عهد عمر ، وأن عثمان إنما نفذ مشروع عمر لا أكثر ، وكان عمله فقط أنه نسخ الصحف التي جمعها عمر عند حفصة بعدة نسخ وأرسلها الى الأمصار!

قال ابن شبة في تاريخ المدينة ج ٣ ص ١١٣٦ :

(حدثنا علي بن محمد ، عن يزيد بن عياض ، عن الوليد ابن سعيد ، عن عروة بن الزبير قال : قدم المصريون فلقوا عثمان رضي الله عنه فقال : ما الذي تنقمون؟ قالوا : تمزيق المصاحف. قال : إن الناس لما اختلفوا في القراءة خشي عمر رضي الله عنه الفتنة فقال : من أعرب الناس؟ فقالوا : سعيد بن العاص. قال : فمن أخطهم؟ قالوا : زيد بن ثابت. فأمر بمصحف فكتب بإعراب سعيد وخط زيد ، فجمع الناس ثم قرأه عليهم بالموسم! فلما كان حديثا كتب إليّ حذيفة : إن الرجل يلقى الرجل فيقول قرآني أفضل من قرآنك حتى يكاد أحدهما يكفر صاحبه ، فلما رأيت ذلك أمرت الناس بقراءة المصحف الذي كتبه عمر رضي الله عنه وهو هذا المصحف ، وأمرتهم بترك ما سواه ، وما صنع الله بكم خير مما أردتم لأنفسكم) انتهى.

فقد دافع عثمان عن نفسه بأن نسب عمله الى عمر ...!

لكن سرعان ما ماتت الاعتراضات وفهم الناس أن خطوة عثمان كانت حكيمة بل ضرورية للدين ووحدة المسلمين .. فصار عمل عثمان فضيلة عظيمة يتنافس الرواة في نسبتها الى زيد وعمرو! ونسبها الرواة الى الخليفة عمر وقالوا إنه هو الذي جمع القرآن وبعث نسخه الى الأمصار!

٣٠٦

قال في كنز العمال ج ٢ ص ٥٧٤ :

(... عن الحسن أن عمر بن الخطاب سأل عن آية من كتاب الله فقيل كانت مع فلان وقتل يوم اليمامة ، فقال إنا لله ، وأمر بالقرآن فجمع ، فكان أول من جمعه في المصحف ـ ابن أبي داود في المصاحف.

... عن عبد الله بن فضالة ، قال لما أراد عمر أن يكتب الإمام أقعد له نفرا من أصحابه فقال إذا اختلفتم في اللغة فاكتبوها بلغة مضر فإن القرآن نزل على رجل من مضر ـ ابن أبي داود.

وقال في ص ٥٧٨ (... عن أبي إسحاق عن بعض أصحابه قال : لما جمع عمر بن الخطاب المصحف سأل عمر من أعرب الناس؟ قيل سعيد بن العاص ، فقال : من أكتب الناس؟ فقيل زيد بن ثابت ، قال : فليمل سعيد وليكتب زيد ، فكتبوا مصاحف أربعة ، فانفذ مصحفا منها الى الكوفة ومصحفا الى البصرة ومصحفا الى الشام ومصحفا الى الحجاز ـ ابن الأنباري في المصاحف) انتهى. وروى نحوه في تاريخ المدينة ج ٣ ص ٩٩١

وقال اليعقوبي في تاريخه ج ٢ ص ١٣٥ :

(وقال عمر بن الخطاب لأبي بكر : يا خليفة رسول الله ، إن حملة القرآن قد قتل أكثرهم يوم اليمامة ، فلو جمعت القرآن ، فإني أخاف عليه أن يذهب حملته. فقال أبو بكر : أفعل ما لم يفعله رسول الله؟ فلم يزل به عمر حتى جمعه وكتبه في صحف. وكان مفترقا في الجريد وغيرها ، وأجلس خمسة وعشرين رجلا من قريش ، وخمسين رجلا من الأنصار ، وقال : أكتبوا القرآن ، واعرضوا على سعيد بن العاص ، فإنه رجل فصيح) انتهى.

ولكن بقيت الحقيقة تشع من بين الروايات شاهدة بأن الخليفة عمر لم يجمع القرآن ، بل كان عنده مشروع خاص لجمعه ، ولم يمهله الأجل كما قدمنا .. قال في كنز العمال ج ٢ ص ٥٧٤ :

(مسند عمر رضي الله عنه. عن محمد بن سيرين قال : قتل عمر ولم يجمع القرآن ـ ابن سعد) انتهى.

٣٠٧

الأحرف السبعة تنفجر في عهد الخليفة عثمان

مشكلة الفراغ القرآني تتفاقم

لم تتحدث روايات جمع القرآن عن المشكلة العظيمة التي حدثت في الأمة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بسبب أن الخليفة عمر أبقى الدولة الإسلامية بدون قرآن رسمي طيلة عهد أبي بكر ، وعهده ، وشطرا من عهد عثمان ..! فهذه نقطة ضعف كبيرة .. والرواة يريدون تدوين فضائل الخليفة عمر ومناقبه ، وإبعاد الأنظار عن نقاط ضعفه .. فهل تريد منهم أن يرووا أن الخليفة عمر باجتهاده الخاطئ قصّر بحق أعظم وثيقتين تملكهما أمة من الأمم ، وهما القرآن والسنة ، وذلك عند ما رفض ما دونه علي عليه‌السلام بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله! ثم منع الأنصار وآخرين من تدوين القرآن والسنة ، ووعد الأمة بأنه سيقوم هو بتدوين القرآن ولم يفعل ..! وأعلن على المنبر أنه فكر في اقتراح الصحابة بتدوين السنة شهرا كاملا حتى (اختار له الله) .. عدم تدوينها!!

لكن مع تعمد التعتيم على هذه الأزمة التي شملت طول البلاد الإسلامية وعرضها ، لم يمكن إخفاؤها .. وبقيت في المصادر روايات صريحة بأنه كانت توجد مشكلة عقائدية وسياسية عميقة وخطيرة ، ولدت من الفراغ القرآني طوال خمس عشرة سنة فكثر القراء والمجتهدون في قراءات القرآن ، أو في حروف القرآن كما كانوا يسمونها .. وانقسم الناس أحزابا يتعصبون للقراء والقراءات ويكفرون بعضهم بعضا بسبب ذلك .. ولم يبق إلا أن يقتتلوا بالسلاح ..!! وفيما يلي عدد من هذه النصوص :

روى أحمد في مسنده ج ١ ص ٤٤٥ :

(... عن عثمان بن حسان عن فلفلة الجعفي قال : فزعت فيمن فزع الى عبد الله في المصاحف فدخلنا عليه فقال رجل من القوم إنا لم نأتك زائرين ولكن جئناك حين راعنا هذا الخبر! فقال : إن القرآن نزل على نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم من سبعة أبواب على سبعة أحرف أو قال حروف وإن الكتاب قبله كان ينزل من باب واحد على حرف واحد) انتهى.

٣٠٨

ولعل هذه الرواية تتحدث عن فزع عقلاء المسلمين من ظاهرة تعدد القراءات في عهد الخليفة عمر واختلاف الناس بسببها ، لذا التجئوا الى ابن مسعود الوالي في الكوفة ومقرئ أهل العراق لحل المشكلة ، فأجابهم ابن مسعود بما كان يجيبهم الخليفة عمر بالأحرف السبعة ، ولكن هذا الجواب كان صالحا لتسكين المشكلة في أول الأمر بمساعدة سوط عمر ، أما بعده فانكشف أنه لم يسمن ولم يغن من جوع .. بل أعطى الشرعية لكل القراءات وأجج الاختلافات!!

وقال في كنز العمال ج ٢ ص ٥٨٢ :

(عن أبي قلابة قال : لما كان في خلافة عثمان جعل المعلم يعلم قراءة الرجل ، والمعلم يعلم قراءة الرجل ، فجعل الغلمان يتلقون فيختلفون حتى ارتفع ذلك الى المعلمين ، حتى كفر بعضهم بقراءة بعض ، فبلغ ذلك عثمان ، فقام خطيبا فقال : أنتم عندي تختلفون وتلحنون ، فمن نأى عني من الأمصار أشد اختلافا وأشد لحنا! فاجتمعوا يا أصحاب محمد فاكتبوا للناس إماما) انتهى.

وأكثر مؤرخ ومحدث تعرض لروايات المشكلة هو عمر بن شبة ، قال في تاريخ المدينة ج ٣ ص ٩٩١ :

(... عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قدم على عثمان رضي الله عنه ، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق وأفزع باختلافهم في القراءة ، فقال حذيفة لعثمان رضي الله عنه : يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في القرآن اختلاف اليهود والنصارى ، فأرسل عثمان رضي الله عنه الى حفصة أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت بها حفصة الى عثمان ، فأمر عثمان زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف. وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة : إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شىء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش ، فإنما أنزل بلسانهم ، ففعلوا ذلك ، حتى إذا نسخ المصحف رد عثمان الصحف الى حفصة ، وأرسل الى كل أفق بمصحف مما نسخوا ، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.

٣٠٩

... عن ابن شهاب قال حدثني أنس بن مالك رضي الله عنه أنه اجتمع لغزوة أرمينية وأذربيجان أهل الشام وأهل العراق ، فتذاكروا القرآن فاختلفوا فيه حتى كاد يكون بينهم فتنة ، فركب حذيفة بن اليمان الى عثمان لما رأى من اختلافهم في القرآن ، فقال : إن الناس قد اختلفوا في القرآن حتى ـ والله ـ إني لأخشى أن يصيبهم ما أصاب اليهود والنصارى من الاختلاف ، ففزع لذلك عثمان رضي الله عنه فزعا شديدا ، فأرسل الى حفصة فاستخرج المصاحف التي كان أبو بكر رضي الله عنه أمر بجمعها زيدا ، فنسخ منها مصاحف بعث بها الى الآفاق.

... عن ابن شهاب الزهري ، عن خارجة بن زيد ، عن زيد بن ثابت أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قدم من غزوة غزاها بفرج أرمينية فحضرها أهل العراق وأهل الشام ، فإذا أهل العراق يقرءون بقراءة عبد الله بن مسعود ويأتون بما لم يسمع أهل الشام ، ويقرأ أهل الشام بقراءة أبي بن كعب ويأتون بما لم يسمع أهل العراق ، فيكفرهم أهل العراق!! قال : فأمرني عثمان رضي الله عنه أن أكتب له مصحفا فكتبته ، فلما فرغت منه عرضه.

... حدثنا عبد الله بن وهب قال حدثني عمرو بن الحارث أن بكيرا حدث : أن ناسا كانوا بالعراق يسأل أحدهم عن الآية فإذا قرأها قال فإني أكفر بهذه!! ففشا ذلك في الناس واختلفوا في القراءة ، فكلم عثمان بن عفان رضي الله عنه في ذلك ، فأمر بجمع المصاحف فأحرقها ، وكتب مصاحف ثم بثها في الأجناد) انتهى.

وقال البخاري في صحيحه ج ٦ ص ٩٩ :

(... حدثنا ابن شهاب أن أنس بن مالك حدثه أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وآذربيجان مع أهل العراق ، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال حذيفة لعثمان : يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى!! فأرسل عثمان الى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك ، فأرسلت بها حفصة الى عثمان فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام فنسخوها في المصاحف. وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة : إذا اختلفتم أنتم

٣١٠

وزيد بن ثابت في شىء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم ، ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف الى حفصة ، فأرسل الى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق) انتهى.

وقال في كنز العمال ج ٢ ص ٥٨١ :

(عن الزهري عن أنس بن مالك أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وآذربيجان مع أهل العراق ، فرأى حذيفة اختلافهم في القرآن ، فقال لعثمان يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب كما اختلفت اليهود والنصارى! فأرسل الى حفصة أن أرسلي إليّ بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها عليك ، فأرسلت حفصة الى عثمان بالصحف فأرسل عثمان الى زيد بن ثابت وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام وعبد الله بن الزبير أن انسخوا الصحف في المصاحف ، وقال للرهط القرشيين الثلاثة : ما اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانها ، حتى إذا نسخوا المصحف في المصاحف بعث عثمان الى كل أفق بمصحف من تلك المصاحف التي نسخوا ، وأمر بسوى ذلك في صحيفة أو مصحف أن يحرق ـ ابن سعد ، خ ، ت ، ن ، وابن أبي داود ، وابن الأنباري معا في المصاحف ، حب ، ق) انتهى.

فقد كانت مشكلة وأزمة إذن .. شملت التلاميذ ومعلميهم في مكاتب القرآن ، والمصلين في المساجد ، وحكام الأمصار والمجاهدين في جيوش الفتح .. وسببها الوحيد فتوى الخليفة عمر بالأحرف السبعة .. وكان علاجها الوحيد تدوين القرآن على حرف واحد وجمع المسلمين عليه ، وتخليص الناس من مصيبة الأحرف السبعة!

حذيفة بن اليمان يحمل لواء توحيد القرآن

الثابت عند الجميع أن الذي قام بدور (يا للقرآن .. يا للمسلمين) هو حذيفة بن اليمان الذي كان حاكما على المدائن عاصمة كسرى ، وقائدا لجيش الفتح العراقي في

٣١١

آذربيجان وأرمينية .. وقد جاء خصيصا مع وفد من جيش الفتح مستغيثا شاكيا الى الخليفة عثمان .. فاستجاب الخليفة بعد أن كانت المسألة نصف ناضجة في ذهنه ، ولأن مطلب حذيفة حل مشكلة خطيرة داخل جيوش الفتح .. وأصدر الخليفة مرسومة التاريخي بتوحيد نسخة القرآن .. وبقي حذيفة في المدينة يواكب تدوين القرآن ، ثم قام بتنفيذ المرسوم عمليا بأمر الخليفة ونفوذ حذيفة الأدبي باعتباره شيخا كبير السن من خاصة أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يشهد له ويحترمه الجميع ..

روى البخاري أن حذيفة بن اليمان موضع سر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال في ج ٤ ص ٢١٥ وج ٧ ص ١٣٩ :

(... عن إبراهيم قال ذهب علقمة الى الشام فلما دخل المسجد قال : اللهم يسر لي جليسا صالحا فجلس الى أبي الدرداء ، فقال أبو الدرداء : ممن أنت؟ قال من أهل الكوفة ، قال : أليس فيكم أو منكم صاحب السر الذي لا يعلمه غيره؟ يعني حذيفة ، قال قلت : بلى ، قال : أليس فيكم أو منكم الذي أجاره الله على لسان نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعني من الشيطان يعني عمارا؟ قلت : بلى ...).

وروى عنه وصف نفوذ المنافقين بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال في ج ٨ ص ١٠٠ :

(... عن أبي وائل عن حذيفة بن اليمان قال : إن المنافقين اليوم شر منهم على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا يومئذ يسرون واليوم يجهرون.

... عن أبي الشعثاء عن حذيفة قال إنما كان النفاق على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الإيمان!!) انتهى.

وأكثر ما تجد أحاديث الفتن التي حذر منها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مروية عن حذيفة حتى ليمكن أن نسميه (الصحابي المتخصص بأخبار المنافقين والفتن) وكان بعض المنافقين المخفيين يخافون منه ويظهرون له الاحترام ، لأنه خبير بهم ، ومنهم الذين حاولوا اغتيال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ليلا في رجوعه من حجة الوداع أو تبوك ، فصعدوا الجبل ليلا في الظلام ، وعند ما صعد النبي العقبة ألقوا عليه الصخور ليقتلوه فجاء جبرئيل وسماهم له .. إلخ.

٣١٢

قال أحمد في مسنده ج ٥ ص ٣٩٠ :

(... ثنا أبو الطفيل قال كان بين حذيفة وبين رجل من أهل العقبة ما يكون بين الناس فقال : أنشدك الله كم كان أصحاب العقبة؟ فقال له القوم : أخبره إذ سألك ، قال :

إن كنا نخبر أنهم أربعة عشر. وقال أبو نعيم فقال الرجل كنا نخبر أنهم أربعة عشر قال فإن كنت منهم ـ وقال أبو نعيم فيهم ـ فقد كان القوم خمسة عشر. وأشهد بالله أن اثني عشر منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد!) انتهى.

وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء ج ٢ ص ٣٦١ :

(حذيفة بن اليمان. من نجباء أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو صاحب السر ... حليف الأنصار ، من أعيان المهاجرين ... عن ابن سيرين أن عمر كتب في عهد حذيفة على المدائن اسمعوا له وأطيعوا ، وأعطوه ما سألكم ... ولي حذيفة إمرة المدائن لعمر ، فبقي عليها الى بعد مقتل عثمان ، وتوفي بعد عثمان بأربعين ليلة ... وحذيفة هو الذي ندبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الأحزاب ليجس له خبر العدو. وعلى يده فتح الدينور عنوة. ومناقبه تطول ، رضي الله عنه.

... خالد عن أبي قلابة عن حذيفة قال : إني لاشتري ديني بعضه ببعض مخافة أن يذهب كله ... أبو نعيم : حدثنا سعد بن أوس ، عن بلال بن يحيى قال : بلغني أن حذيفة كان يقول : ما أدرك هذا الأمر أحد من الصحابة إلا قد اشترى بعض دينه ببعض. قالوا : وأنت؟ قال : وأنا والله!) انتهى.

وكما كان حذيفة من حواريي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وموضع سره ، صار بعده من خاصة شيعة علي وموضع سره ، وكان لا يقوم بعمل مهم إلا بأمر علي عليه‌السلام .. وهذا مما يقوي الظن بأن عليا كان وراء حركة توحيد نسخة القرآن ..!

روى في كنز العمال ج ١٣ ص ٥٣٢ :

(عن حذيفة أنه قيل له : إن عثمان قد قتل فما تأمرنا؟ قال الزموا عمارا ، قيل : إن عمارا لا يفارق عليا! قال إن الحسد أهلك الجسد ، وإنما ينفركم من عمار قربه من علي! فو الله لعلي أفضل من عمار أبعد ما بين التراب والسحاب ، وإن عمارا من الأخيار ـ كر) انتهى.

٣١٣

وأرانا هنا بحاجة الى دراسة فقرات من النص التالي عن عبد الله بن الزبير لأنه يعطي ضوءا هاما على الشخص المحرك لحذيفة ، ويبين سعي علي عليه‌السلام لتوحيد نسخة القرآن من زمن الخليفة عمر .. قال عمر بن شبة في تاريخ المدينة ج ٣ ص ٩٩٠ :

(حدثنا الحسن بن عثمان قال ، حدثنا الربيع بن بدر ، عن سوار بن شبيب قال : دخلت على ابن الزبير رضي الله عنه في نفر فسألته عن عثمان ، لم شقق المصاحف ، ولم حمى الحمى؟ فقال قوموا فإنكم حرورية ، قلنا : لا والله ما نحن حرورية. قال : قام الى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه رجل فيه كذب وولع ، فقال : يا أمير المؤمنين إن الناس قد اختلفوا في القراءة ، فكان عمر رضي الله عنه قد هم أن يجمع المصاحف فيجعلها على قراءة واحدة ، فطعن طعنته التي مات فيها ، فلما كان في خلافة عثمان رضي الله عنه قام ذلك الرجل فذكر له ، فجمع عثمان رضي الله عنه المصاحف ، ثم بعثني الى عائشة رضي الله عنها فجئت بالصحف التي كتب فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن ، فعرضناها عليها حتى قومناها ، ثم أمر بسائرها فشققت) انتهى.

فقد اعترض سوار بن شبيب ورفقاؤه على عثمان : لما ذا اعتمد نسخة واحدة من القرآن ومزق الباقي؟! وذلك لأن الناس تعودوا على الاختلاف ، وتعلموا من روايات الخليفة عمر أن القرآن أنزل على سبعة أحرف ، وأنها جميعا نسخ وقراءات صحيحة منزلة من عند الله تعالى! ولذلك كان عثمان بتوحيده نسخة القرآن مخالفا للخليفة عمر ومنحرفا عن الإسلام!!

وعند ما سمع عبد الله بن الزبير اعتراضهم أحس بهدفهم السياسي ضد عثمان ، وعرف أنهم فقدوا بتوحيد نسخة القرآن موقعهم كقراء خبراء في القرآن لهم أتباع من العوام .. فقال لهم : قوموا عني فأنتم خوارج (حرورية) أي تقولون بكفر عثمان!! فأكدوا له : لا والله ما نحن حرورية .. فحكى لهم قصة توحيد عثمان لنسخة القرآن ، وقال لهم ما معناه :

إن المسألة فيها فتوى من الخليفة عمر فلا تعترضوا على عثمان ، لقد نوى عمر أخيرا أن يوحد نسخة القرآن ، ويترك مسألة الأحرف السبعة ، ولكنه قتل قبل أن ينفذ ذلك. ثم قال ابن الزبير : أنا لا أعترض على عمل عثمان لأن فيه فتوى من عمر ، وإن كنت

٣١٤

أتحفظ على هذا العمل لأن الذي جعل الخليفة عمر يتخذ هذا القرار هو شخص سيّئ ، بالغ له في ضرر اختلاف الناس في القراءات (قام الى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه رجل فيه كذب وولع ، فقال : يا أمير المؤمنين إن الناس قد اختلفوا في القراءة ، فكان عمر رضي الله عنه قد هم أن يجمع المصاحف فيجعلها على قراءة واحدة ، فطعن طعنته التي مات فيها. فلما كان في خلافة عثمان رضي الله عنه قام ذلك الرجل فذكر له ، فجمع عثمان رضي الله عنه المصاحف ...)

هذا النص يدل على أن ذلك الشخص الذي يكرهه عبد الله بن الزبير ويصفه بأنه (فيه ولع وكذب) كان يسعى الى توحيد المصاحف وكان من زمن عمر يشكو لعمر ظاهرة اختلاف المسلمين في قراءة قرآنهم بسبب عدم وجود نسخة رسمية للدولة ، وأن اللازم على الدولة أن تقوم بهذه المهمة وتسد هذا الفراغ ، وقد وافق عمر مبدئيا على رأي هذا الرجل السيئ ولكنه قتل قبل أن ينفذه ..!

ثم يتابع عبد الله بن الزبير : ولكن هذا الشخص السيئ نفسه واصل مسعاه مع الخليفة عثمان ونجح في هدفه ..!

فمن هو هذا الشخص الحكيم الحريص على قرآن المسلمين ، الذي حاول مع الخليفة عمر حتى أقنعه بخطورة ظاهرة الاختلاف في القراءات وأن تبرير ذلك بنظرية الأحرف السبعة لم يحل المشكلة ولم يمنع نموها؟! ثم واصل مسعاه مع الخليفة عثمان محذرا من تفاقم مشكلة اختلاف الناس في نصوص القرآن ، وأن حلها فقط بتدوين القرآن على حرف واحد؟!

الذي يعرف عبد الله بن الزبير يقول إنه يقصد عليا عليه‌السلام ، لأن ابن الزبير كان يكره عليا وشيعته حتى العظم ، بل روي عنه أنه ترك الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى لا يشمخ عليّ وآل محمد بأنوفهم على حد تعبير ابن الزبير!!

فالشخص الذي كان وراء توحيد نسخة القرآن إذن هو علي بن أبي طالب عليه‌السلام .. ومجىء حذيفة وأصحابه من قادة الفتح من أرمينية الى المدينة كان أوج هذه الحركة لقطف ثمرتها المباركة!

٣١٥

أما قول ابن الزبير عن المصحف الذي كتبوا عنه نسخة المصحف الإمام بأنه كانت مصحف خالته عائشة .. فسيأتي الكلام فيه إن شاء الله.

متابعة حذيفة لتوحيد نسخة القرآن

مما يدل على وعي حذيفة بن اليمان تلميذ علي عليه‌السلام .. أنه تابع اقتراحه على الخليفة عثمان ، حتى نجح وأصدر الخليفة أمرا بكتابة المصحف الموحد أو المصحف الإمام .. وساعد حذيفة في تنفيذ أمر الخليفة في المدينة حتى اكتمل نسخ المصاحف .. ثم ساعد في إصدار الخليفة قرارا بتوحيد جميع نسخ القرآن على المصحف الإمام ، وأن على كل من عنده نسخة مصحف أو صحف فيها قرآن أن يسلمها الى الخليفة أو الى عماله .. وإن لم يفعل يجري عليه حكم الغلول الذي يخفي شيئا من غنائم الحرب ويثبت عليه إثمه وعقوبته.

على أن أهم النسخ التي تختلف عن المصحف الإمام كانت أربعا :

١ ـ نسخة حفصة التي هي نسخة الخليفة عمر .. ولا بد أن الفروق المروية عن الخليفة عمر في آيات القرآن وسوره وربما غيرها ، كانت مدونة فيها.

٢ ـ نسخة أبي بن كعب ، وكانت عند ورثته في المدينة ، وقد نسخت عنها نسخ بلاد الشام وفلسطين ومصر.

٣ ـ نسخة عبد الله بن مسعود وقد نسخت عنها نسخ أهل الكوفة وقسم كبير من بلاد إيران والبلاد الشرقية التي كانت تدار من الكوفة.

٤ ـ نسخة أبي موسى الأشعري الذي كان حاكم البصرة من عهد عمر ، وقد نسخ عنه أهل اليمن والبصرة وبلاد فارس وخراسان التي كانت تدار من البصرة .. ويحكى عن هذه النسخة أن فيها زيادات كثيرة عن القرآن المتداول بسبب اجتهادات أبي موسى.

فكان لا بد لحذيفة من تكميل العمل وإلزام أصحاب هذه النسخ بأن يسلموها إليه أو يصححوها على نسخة المصحف الإمام ، فتابع ذلك ..

٣١٦

ويظهر أنهم أخذوا نسخة أبي بن كعب من ورثته بدون مشكلة. فقد روى في كنز العمال ج ٢ ص ٥٨٥ :

(عن محمد بن أبيّ بن كعب أن ناسا من أهل العراق قدموا عليه فقالوا ، إنا تحملنا إليك من العراق ، فأخرج لنا مصحف أبيّ ، فقال محمد قد قبضه عثمان قالوا : سبحان الله أخرجه ، قال : قد قبضه عثمان ـ أبو عبيد في الفضائل وابن أبي داود).

وتدل الروايات أن حذيفة أخذ من الخليفة عثمان أمرا بمعالجة أمر نسخة أبي موسى الأشعري ونسخة ابن مسعود .. قال ابن شبة في تاريخ المدينة ج ٣ ص ٩٩٨ :

(... حدثنا عمرو بن مرة الجملي قال : استأذن رجل على ابن مسعود رضي الله عنه فقال الآذن : إن القوم والأشعري ، وإذا حذيفة يقول لهم : أما إنكما إن شئتما أقمتما هذا الكتاب على حرف واحد ، فإني قد خشيت أن يتهون الناس فيه تهون أهل الكتاب ، أما أنت يا أبو موسى فيطيعك أهل اليمن ، وأما أنت يا ابن مسعود فيطيعك الناس. قال ابن مسعود : لو أني أعلم أن أحدا من الناس أحفظ مني لشددت رحلي براحلتي حتى أنيخ عليه ، قال : فكان الناس يرون أن حذيفة رضي الله عنه ممن عمل فيه حتى أتى على حرف واحد!

... حدثنا عبد الأعلى بن الحكم الكلابي قال : أتيت دار أبي موسى الأشعري فإذا حذيفة بن اليمان وعبد الله بن مسعود وأبو موسى الأشعري ، فوق إجّار فقلت : هؤلاء والله الذين أريد ، فأخذت أرتقي لهم فإذا غلام على الدرجة فمنعني أن أرتقي إليهم فنازعته حتى التفت إليّ بعضهم فأتيتهم حتى جلست إليهم ، فإذا عندهم مصحف أرسل به عثمان رضي الله عنه فأمرهم أن يقيموا مصاحفهم عليه ، فقال أبو موسى : ما وجدتم في مصحفي هذا من زيادة فلا تنقصوها ، وما وجدتم من نقصان فاكتبوه فيه! فقال حذيفة رضي الله عنه : فكيف بما صنعنا ، والله ما أحد من أهل هذا البلد يرغب عن قراءة هذا الشيخ يعني ابن مسعود ، ولا أحد من أهل اليمن يرغب عن قراءة هذا الآخر يعني أبا موسى. وكان حذيفة هو الذي أشار على عثمان رضي الله عنه أن يجمع المصاحف على مصحف واحد!) انتهى.

٣١٧

والظاهر أن محل هذه الحادثة البصرة مركز ولاية أبي موسى الأشعري وأن عبد الله ابن مسعود كان زائرا ، لقول حذيفة في الرواية (من أهل هذا البلد) وهو يدل على أن أهل البصرة غير اليمانيين كانوا يقرءون بقراءة ابن مسعود ، واليمانيين بقراءة أبي موسى! ولو كانت الحادثة في المدينة لما صح ذلك لأن أهلها كانوا يقرءون بقراءة أبي!

مهما يكن ، فقد كان حذيفة رسولا من الخليفة مع نسخة من المصحف الإمام ليصحح النسخ عليه .. وقد امتنع ابن مسعود من تسليم نسخته بحجة أنه أعلم من زيد الذي كتب نسخة المصحف الإمام .. وأوصى ابن مسعود الذين نسخوا عنه أن لا يسلموا نسخهم الى حذيفة ويغلوها ، إذا استطاعوا مقاومة أمر الخليفة!! قال ابن شبة في تاريخ المدينة ج ٣ ص ١٠٠٥ :

(... عن توبة بن أبي فاختة ، عن أبيه قال بعث عثمان رضي الله عنه الى عبد الله أن يدفع المصحف إليه قال : ولم؟ قال : لأنه كتب القرآن على حرف زيد! قال : أما أن أعطيكم لمصحف فلن أعطيكموه ، ومن استطاع أن يغل شيئا فليفعل ، والله لقد قرأت من في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبعين سورة ، وإن زيدا لذو ذؤابتين يلعب بالمدينة!).

وقال في ج ٣ ص ١٠٠٦ :

(... عن حمير بن مالك قال : لما أمر بالمصاحف أن تغير ساء ذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال : من استطاع منكم أن يغل مصحفا فليفعل ، فإن من غل شيئا جاء بما غل يوم القيامة ، ثم قال : لقد قرأت القرآن من في رسول الله سبعين سورة ، وزيد صبي ، أفأترك ما أخذت من في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟!). وقال الترمذي في سننه ج ٤ ص ٣٤٨ :

(قال الزهري : فأخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن عبد الله ابن مسعود كره لزيد بن ثابت نسخ المصاحف ، وقال : يا معشر المسلمين أعزل عن نسخ كتابة المصاحف ويتولاها رجل ، والله لقد أسلمت وإنه لفي صلب رجل كافر! يريد زيد بن ثابت ، ولذلك قال عبد الله بن مسعود : يا أهل العراق اكتموا المصاحف التي عندكم وغلوها ، فإن الله يقول (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) فالقوا الله بالمصاحف. قال

٣١٨

الزهري فبلغني أنه كره ذلك من مقالة ابن مسعود رجال من أفاضل أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. هذا حديث حسن صحيح ، وهو حديث الزهري ، ولا نعرفه إلا من حديثه) انتهى.

والظاهر أنهم تركوا مصحف ابن مسعود له ، مراعاة لمكانته وكبر سنه ، بعد أن منعوه من إملائه على أحد ، وصححوا تفاوت نسخ أهل الكوفة وغيرهم من أتباع قراءته على نسخة المصحف الإمام. قال الذهبي في سير أعلام النبلاء ج ٢ ص ٤٢٦ :

(الواقدي : حدثنا الضحاك بن عثمان ، عن الزهري ، قال : قال ثعلبة ابن أبي مالك : سمعت عثمان يقول : من يعذرني من ابن مسعود؟ غضب إذ لم أوّله نسخ المصاحف! هلا غضب على أبي بكر وعمر إذ عزلاه عن ذلك ، ووليا زيدا ، فاتبعت فعلهما!) انتهى.

وأما أبو موسى الأشعري فسلم مصحفه الى حذيفة ومن معه من مبعوثي الخليفة ليصححوه ، لكنه كان يترجاهم أن يبقوا فيه إضافاته العزيزة على قلبه! ويكتبوا فيه فقط ما ربما كان محذوفا!! ولكنهم لا بد أنهم نفذوا القرار كاملا فصححوه على المصحف الإمام وحذفوا منه زيادات أبي موسى! وكملوا نواقصه .. أو أنهم أخذوه وأتلفوا نسخته ، جزاهم الله خيرا.

كما يظهر من رواية ابن شبة الثانية أن الراوي كان مخالفا لتوحيد نسخة القرآن ، وأنه يريد أن يسجل على حذيفة تحيره بما صنع من جمع القرآن ، لأن كل منطقة من المسلمين يريدون القراءة على حرف قارئهم ، ويثقل عليهم القراءة بحرف المصحف الإمام! لكن ما لبث المسلمون على رغم هذا الراوي أن وعوا أهمية مصحف الخليفة وعمل عليّ وحذيفة وقداسته!

أعضاء لجنة تدوين المصحف الإمام

ذكرت أكثر الروايات أن أعضاء لجنة التدوين الذين عينهم الخليفة عثمان أربعة :

١ ـ زيد بن ثابت ، كاتب.

٢ ـ سعيد ابن العاص ، مملي.

٣ ـ عبد الله بن الزبير ، عضو.

٤ ـ عبد الرحمن بن الحرث بن هشام ، عضو.

٣١٩

قال البخاري في صحيحه ج ٤ ص ١٥٦ :

(باب نزل القرآن بلسان قريش ... عن ابن شهاب عن أنس أن عثمان دعا زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحرث ابن هشام فنسخوها في المصاحف وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شىء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم ففعلوا ذلك).

وقال في ج ٦ ص ٩٧ :

(باب نزل القرآن بلسان قريش والعرب ، قرآنا عربيا ، بلسان عربي مبين ... أنس بن مالك قال فأمر عثمان زيد بن ثابت وسعيد ابن العاص وعبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام أن ينسخوها في المصاحف وقال لهم إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في عربية من عربية القرآن فاكتبوها بلسان قريش فإن القرآن أنزل بلسانهم ففعلوا) انتهى.

وذكرت بعض الروايات أعضاء آخرين .. فقال ابن شبة في تاريخ المدينة ج ٣ ص ٩٩٣ : (... حدثنا هشام ، عن محمد قال : كان الرجل يقرأ فيقول له صاحبه : كفرت بما تقول ، فرفع ذلك الى ابن عفان فتعاظم في نفسه ، فجمع اثني عشر رجلا من قريش والأنصار ، منهم : أبيّ بن كعب ، وزيد بن ثابت ، وأرسل الى الرقعة التي كانت في بيت عمر رضي الله عنه فيها القرآن. قال وكان يتعاهدهم. قال فحدثني كثير بن أفلح أنه كان فيمن يكتب لهم ، فكانوا كلما اختلفوا في شىء أخروه. قلت لم أخروه؟ قال لا أدري. قال محمد : فظننت أنا فيه ظنا ولا تجعلوه أنتم يقينا ، ظننت أنهم كانوا إذا اختلفوا في الشيء أخروه حتى ينظروا آخرهم عهدا بالعرضة الأخيرة فكتبوه على قوله. حدثنا وهب بن جرير قال حدثنا هشام بنحوه ، وزاد : قال محمد فأرجو أن تكون قراءتنا هذه آخرتها عهدا بالعرضة الأخيرة).

وقال المزي في تهذيب الكمال ج ٢ ص ٢٧٢ :

(قال محمد بن سعد : وأخبرنا عارم بن الفضل ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، هشام ، عن محمد بن سيرين : أن عثمان بن عفان جمع اثني عشر رجلا من قريش والأنصار ، فيهم أبي بن كعب ، وزيد بن ثابت في جمع القرآن).

٣٢٠