تدوين القرآن

الشيخ علي الكوراني العاملي

تدوين القرآن

المؤلف:

الشيخ علي الكوراني العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: باقري
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٧

يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت ، ومن أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل ، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني ، فإن الله تعالى جعلني له خازنا وقاسما). ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد ج ١ ص ١٣٥ ، والذهبي في سير أعلام النبلاء ج ١ ص ٣٩٤ وتذكرة الحفاظ ج ١ ص ٢٠.

وروى البخاري في صحيحه ج ٢ ص ٢٥٢ أن الخليفة عمر عند ما ابتدع صلاة التراويح جعل إمامتها لأبي بن كعب (... فقال عمر إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم قال عمر : نعم البدعة).

ولعل أحاديث المدح والاحترام التي رويت عن عمر في حق أبي بن كعب صدرت في تلك الفترة من العلاقة الجيدة بينهما ، فقد روى المزي في تهذيب الكمال ج ٢ ص ٢٦٩ :

(عن أبي نضرة العبدي : قال رجل منا يقال له : جابر أو جويبر طلبت حاجة الى عمر في خلافته فانتهيت الى المدينة ليلا ، فغدوت عليه وقد أعطيت فطنة ولسانا أو قال منطقا فأخذت في الدنيا فصغرتها ، فتركتها لا تسوى شيئا ، وإلى جنبه رجل أبيض الشعر أبيض الثياب ، فقال لما فرغت : كل قولك كان مقاربا إلا وقوعك في الدنيا ، وهل تدري ما الدنيا؟ إن الدنيا فيها بلاغنا ، أو قال : زادنا الى الآخرة ، وفيها أعمالنا التي نجزى بها في الآخرة ، قال : فأخذ في الدنيا رجل هو أعلم بها مني. فقلت يا أمير المؤمنين من هذا الرجل الذي الى جنبك؟ قال سيد المسلمين أبي بن كعب!!) انتهى.

ولكن على رغم هذه الشهادات الضخمة بحق أبي ، وعلاقته المميزة مع الخليفة .. فإن الخليفة لم يأخذ عنه القرآن ، ولم يعتمد مصحفه مصحفا رسميا للدولة مع شدة حاجة المسلمين الى ذلك ..

بل تروي الصحاح اختلافات كثيرة بينهما بسبب أن عمر أراد أن يفرض رأيه على أبيّ في آيات القرآن ، بينما كان أبي يرفض ذلك ويقف في وجه الخليفة ..! كما تروي الصحاح أن العلاقة بينهما قد ساءت الى حد أن عمر أهان أبيا وضربه بالسوط عند خروجه من المسجد على مرأى جماعته ومسمعهم ..!

٢٦١

الصراع بين عمر وأبي على قراءة القرآن!!

روت مصادر إخواننا نماذج متعددة من هذا الخلاف ، وقد تفاوتت مواقف الخليفة الى حد التناقض .. ففي بعضها كان يخضع لقول أبي ويعتذر إليه .. وفي بعضها كانا يفترقان بدون نتيجة عملية .. وفي بعضها كان الخليفة يصر على رأيه ويأمر المسلمين بكتابة المصحف على ما يقوله هو ومحو ما يقوله أبيّ ..! الخ. وقد عرضنا في فصل القراءات الشخصية ومحاولات التحريف ، نماذج من روايات اختلافه معه .. ونذكر هنا ما رواه الحاكم في المستدرك ج ٢ ص ٢٢٥ :

(... عن ابن عباس رضي الله عنهما قال بينما أنا أقرأ آية من كتاب الله عزوجل وأنا أمشي في طريق من طرق المدينة فإذا أنا برجل يناديني من بعدي : أتبع ابن عباس ، فإذا هو أمير المؤمنين عمر ، فقلت اتبعك علي أبي بن كعب فقال : أهو أقرأكها كما سمعتك تقرأ؟ قلت نعم ، قال فأرسل معي رسولا قال اذهب معه الى أبي بن كعب فانظر يقرأ أبي كذلك ، قال فانطلقت أنا ورسوله الى أبي بن كعب قال فقلت يا أبي قرأت آية من كتاب الله فناداني من بعدي عمر بن الخطاب اتبع ابن عباس فقلت اتبعك على أبي بن كعب فأرسل معي رسوله أفأنت أقرأتنيها كما قرأت؟ قال أبي نعم. قال فرجع الرسول إليه فانطلقت أنا الى حاجتي قال فراح عمر الى أبي فوجده قد فرغ من غسل رأسه ووليدته تدري لحيته بمدراها ، فقال أبي : مرحبا يا أمير المؤمنين أزائرا جئت أم طالب حاجة؟ فقال عمر بل طالب حاجة ، قال فجلس ومعه موليان له حتى فرغ من لحيته وأدرت جانبه الأيمن من لمته ثم ولاها جانبه الأيسر ، حتى إذا فرغ أقبل الى عمر بوجهه فقال : ما حاجة أمير المؤمنين؟ فقال عمر : يا أبي على ما تقنط الناس؟ فقال أبي : يا أمير المؤمنين إني تلقيت القرآن من تلقاء جبريل وهو رطب ، فقال عمر : تالله ما أنت بمنته وما أنا بصابر ، ثلاث مرات ، ثم قام فانطلق! هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه) انتهى.

٢٦٢

ومن ذلك : ما رواه في كنز العمال ج ١٣ ص ٢٦١ :

(عن الحسن أن عمر بن الخطاب رد على أبي بن كعب قراءة آية فقال أبي : لقد سمعتها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنت يلهيك يا عمر الصفق بالبقيع! فقال عمر : صدقت! إنما أردت أن أجربكم هل منكم من يقول الحق ، فلا خير في أمير لا يقال عنده الحق ولا يقوله! ـ ابن راهويه.

... عن أبي إدريس الخولاني أن أبي بن كعب قال لعمر : والله يا عمر! إنك لتعلم أني كنت أحضر وتغيبون وأدنى وتحجبون ويصنع بي ويصنع بي والله لئن أحببت لألزمن بيتي فلا أحدث شيئا ولا أقرأ أحدا حتى أموت ، فقال عمر بن الخطاب اللهم غفرا ، إنا لنعلم أن الله قد جعل عندك علما فعلم الناس ما علمت ـ ابن أبي داود في المصاحف ، كر) ...

ومن ذلك : ما رواه السيوطي في الدر المنثور ج ٢ ص ٣٤٤ :

(وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن عدي عن أبي مجلز أن أبي بن كعب قرأ (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ) قال عمر كذبت! قال أنت أكذب! فقال رجل : تكذب أمير المؤمنين؟ قال أنا أشد تعظيما لحق أمير المؤمنين منك ، ولكن كذبته في تصديق كتاب الله ولم أصدق أمير المؤمنين في تكذيب كتاب الله!! فقال عمر : صدق).

ومن ذلك : موقف غريب للخليفة رواه البخاري في صحيحه ج ٥ ص ١٤٩ :

(... عن حبيب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال عمر رضي الله عنه : أقرؤنا أبي ، وأقضانا علي ، وإنا لندع من قول أبي ، وذاك أن أبيّا يقول لا أدع شيئا سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد قال الله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسئها) انتهى.

ورواه بتفاوت يسير في ج ٦ ص ١٠٣ ، ورواه أحمد ج ٥ ص ١١٣ بثلاث روايات. ورواه في كنز العمال ج ٢ ص ٥٩٢ وقال في مصادره (خ ، ن ، وابن الأنباري في المصاحف ، قط في الإفراد ، ك ، وأبو نعيم في المعرفة ، ق ، الدلائل) ورواه الذهبي في سير أعلام النبلاء ج ١ ص ٣٩١ وص ٣٩٤ وتذكرة الحفاظ ج ١ ص ٢٠ وفي كثير من رواياته : (وإنا لندع من لحن أبيّ ، وفي بعضها : كثيرا من لحن أبيّ!!

ومعنى ذلك أن الخليفة يشهد بأن أبيا أقرأ الصحابة للقرآن ، ولكنه ليس أقرأهم!! والسبب أن أبيا يلحن ويغلط في نص القرآن ، وأنه لا يعلم المنسوخ من القراءات ، فهو

٢٦٣

يقرأ آيات نسخها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يعرف أبيّ ذلك .. بينما عمر لا يلحن ويعرف المنسوخ ، فيحق له أن يقبل قراءة أبي أو يرفضها ، ويأمر المسلمين باتباع رأيه وترك رأي أبيّ ..!!

الخليفة عمر يضع حدا لصراعه مع أبيّ بن كعب!!

ولم يقف سوء العلاقة بينهما عند هذا الحد .. بل تطور حتى وصل الى نهايته المعلومة مع الخليفة عمر ، وهي السوط على رأس ووجه أكبر شيبة في الأنصار ، وأكبر حفظة القرآن بشهادة الخليفة! وذلك عند ما خرج أبي بن كعب من مسجد النبي أو كان داخل المسجد ، على مرأى جماعته ومسمعهم ..! وبذلك نفذ خليفة النبي وصية النبي معكوسة تماما ، كما نفذ وصية النبي بآله وعترته صلى‌الله‌عليه‌وآله!!

وقد أغفلت الصحاح الستة قصة ضرب عمر لكعب ، لكن روتها مصادر أخرى موثوقة عند إخواننا السنة ، ولكنها تفاوتت في ذكر السبب .. والذي يظهر من رواية الراغب في محاضرات الأدباء ج ١ ص ١٣٣ أن السبب هو مشي عدد من التلاميذ والمحبين لأبيّ خلفه في الطريق! قال الراغب (... ونظر عمر رضي الله عنه الى أبي بن كعب وقد تبعه قوم ، فعلاه بالدرة وقال : إنها فتنة للمتبوع ومذلة للتابع).

ولكن الدارمي وعمر بن شبة صرحا بأن السبب أن أبيّا خالف أمر الخليفة بعدم تحديث الناس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله!! قال الدارمي في سننه ج ١ ص ١٣٢ :

(... عن سليمان بن حنظلة قال أتينا أبي بن كعب لنحدّث إليه فلما قام قمنا ونحن نمشي خلفه ، فرهقنا عمر فتبعه فضربه عمر بالدرة قال فاتقاه بذراعيه فقال يا أمير المؤمنين ما تصنع؟!! قال : أو ما ترى؟ فتنة للمتبوع مذلة للتابع!) انتهى.

وقال ابن شبة في تاريخ المدينة ج ٢ ص ٦٩١ :

(... حدثني أبو عمرو الجملي ، عن زاذان : أن عمر رضي الله عنه خرج من المسجد فإذا جمع على رجل فسأل : ما هذا؟ قالوا : هذا أبي بن كعب ، كان يحدث الناس في المسجد فخرج الناس يسألونه ، فأقبل عمر رضي الله عنه حردا فجعل يعلوه

٢٦٤

بالدرة خفقا ، فقال : يا أمير المؤمنين أنظر ما تصنع ، قال : فإني على عمد أصنع ، أما تعلم أن هذا الذي تصنع فتنة للمتبوع مذلة للتابع!!)

ويمكن أن نضيف الى السببين المصرح بهما سببين آخرين قد يكونا أعظم منهما في رأي عمر وهما : وقوف أبي في مواجهة عمر في جملة من مسائل القرآن ، خاصة عند ما حاول تحريف آية الأنصار .. وأن عمر ما زال يضطغن على أبي بن كعب أنه كان مع سعد عبادة وكثير من الأنصار معارضين لفرضه بيعة أبي بكر .. فقد كان أبي بن كعب مع الذين اعتصموا في بيت فاطمة وهاجمهم عمر وأشعل الحطب في باب البيت وهددهم بإحراقه على من فيه!! فبقيت في نفس عمر حتى وجد لها مناسبة!

قال ابن واضح اليعقوبي في تاريخه ج ٢ ص ١٢٤ :

(وتخلف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والأنصار ، ومالوا مع علي بن أبي طالب ، منهم : العباس بن عبد المطلب والفضل بن العباس والزبير بن العوام بن العاص ، وخالد بن سعيد ، والمقداد بن عمرو ، وسلمان الفارسي ، وأبو ذر الغفاري ، وعمار بن ياسر ، والبراء بن عازب ، وأبيّ بن كعب ، فأرسل أبو بكر الى عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح والمغيرة بن شعبة ، فقال : ما الرأي؟ قالوا : الرأي أن تلقى العباس بن عبد المطلب ، فتجعل له في هذا الأمر نصيبا يكون له ولعقبه من بعده ، فتقطعون به ناحية علي بن أبي طالب حجة لكم على علي ، إذا مال معكم ، فانطلق أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح والمغيرة حتى دخلوا على العباس ليلا ...

واجتمع جماعة الى علي بن أبي طالب يدعونه الى البيعة له ، فقال لهم : أغدوا على غدا محلقين الرءوس. فلم يغد عليه إلا ثلاثة نفر. وبلغ أبا بكر وعمر أن جماعة من المهاجرين والأنصار قد اجتمعوا مع علي بن أبي طالب في منزل فاطمة بنت رسول الله ، فأتوا في جماعة حتى هجموا الدار ...) انتهى.

على أي حال ، فإن من يقرأ ما روته الصحاح عن علم أبي بن كعب بالقرآن وحفظه له ، ثم يقرأ ما فعله الخليفة عمر معه .. يجد نفسه ملزما بالحكم على الخليفة بأنه لم ينفذ وصية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حق أبيّ ، بل عمل بعكسها تماما!!

٢٦٥

ثانيا : مع ثاني القراء عبد الله بن مسعود الهذلي

شهادة عظيمة لابن مسعود روتها مصادر السنة أيضا

روى أحمد في مسنده ج : ١ ص ٣٨ :

(... عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال مر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا معه وأبو بكر رضي الله عنه على عبد الله بن مسعود وهو يقرأ فقام فسمع قراءته ، ثم ركع عبد الله وسجد قال فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : سل تعطه ، سل تعطه. قال ثم مضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : من سره أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأه من ابن أم عبد ، قال فادلجت الى عبد الله بن مسعود لأبشره بما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال فلما ضربت الباب أو قال لما سمع صوتي قال ما جاء بك هذه الساعة؟ قلت جئت لأبشرك بما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال قد سبقك أبو بكر رضي الله عنه ، قلت إن يفعل فإنه سباق بالخيرات ، ما استبقنا خيرا قط إلا سبقنا إليها أبو بكر) انتهى. ورواه أحمد أيضا في ج ١ ص ٤٥٤ وج ٤ ص ٢٧٨ ، وابن ماجة في سننه ج ١ ص ٤٩ ، والحاكم في المستدرك ج ٢ ص ٢٢٧ وصححه على شرط الشيخين. ورواه في ج ٣ ص ٣١٧ وقال (هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه) وفي ص ٣١٨ وقال (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه). ورواه البيهقي في سننه ج ١ ص ٤٥٢ وج ٢ ص ١٥٣ والهيثمي في مجمع الزوائد ج ٩ ص ٢٨٧ وص ٢٨٨

ورواه في كنز العمال ج ٢ ص ٥١ وفي ج ١١ ص ٧١٠ وج ١٣ ص ٤٦٠ وقال في مصدره (البزار وصححه). ورواه في ج ١١ ص ٧١٠ ، وروى في ج ١٣ ص ٤٦١ أن الخليفة عمر أكد مكانة ابن مسعود عند ما جعله واليا على بيت مال الكوفة فكتب الى أهل الكوفة (يا أهل الكوفة ، أنتم رأس العرب وجمجمتها ، وسهمي الذي أرمي به إن أتاني شىء من هاهنا وهاهنا ، وإني بعثت إليكم عبد الله بن مسعود واخترته لكم وآثرتكم به على نفسي أثرة ـ ابن سعد ، ص) انتهى.

ولكن مع كل هذا التأكيد النبوي ، والاحترام العمري ، فإن الخليفة عمر لم يأخذ القرآن من عبد الله بن مسعود ولم يعتمد مصحفه مصحفا رسميا للدولة! بل عند ما سمع عنه وهو في الكوفة أنه قرأ الآية الفلانية قراءة لم تعجب الخليفة أرسل إليه رسالة الى الكوفة يتهمه فيها بأنه لا يقرأ القرآن كما أنزل ، فقد أنزل القرآن بلغة قريش بينما ابن مسعود يحرفه ويقرؤه بلغة قبيلته هذيل!!

٢٦٦

قال عمر ابن شبة في تاريخ المدينة ج ٣ ص ١٠١٠ :

(... عن عبد الرحمن بن عبد الله ـ يعني أبيّ بن كعب بن عجرة ـ عن أبيه ، عن جده قال : كنت عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقرأ رجل من سورة يوسف (عتا حين) فقال عمر رضي الله عنه : من أقرأك هكذا؟ قال : ابن مسعود ، فكتب عمر رضي الله عنه الى ابن مسعود : أما بعد ، فإن الله أنزل هذا القرآن بلسان قريش ، وجعله بلسان عربي مبين ، فأقرئ الناس بلغة قريش ، ولا تقرئهم بلغة هذيل والسّلام!).

وقال السيوطي في الدر المنثور ج ٤ ص ١٨ :

(وأخرج ابن الأنباري في كتاب الوقف والابتداء والخطيب في تاريخه عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك رضي الله عنه عن أبيه قال سمع عمر رضي الله عنه رجلا يقرأ هذا الحرف ليسجننه عتى حين فقال له عمر رضي الله عنه من أقرأك هذا الحرف؟ قال ابن مسعود رضي الله عنه ، فقال عمر رضي الله عنه ليسجننه حتى حين ، ثم كتب الى ابن مسعود رضي الله عنه سلام عليك أما بعد فإن الله أنزل القرآن فجعله قرآنا عربيا مبينا وأنزله بلغة هذا الحي من قريش ، فإذا أتاك كتابي هذا فأقرئ الناس بلغة قريش ولا تقرئهم بلغة هذيل!!). ورواه في كنز العمال ج ٢ ص ٥٩٣

وهذا الموقف غريب من الخليفة ، فهو الذي روى شهادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن ابن مسعود يقرؤه غضا طريا كما أنزله الله تعالى .. وروى أن النبي حث المسلمين على القراءة بقراءة ابن أم عبد .. وهو الذي توسع في قراءات القرآن الى سبعة أحرف وأكثر .. وهو الذي توسع في نص القرآن حتى جوز قراءته بالمعنى كما قدمنا .. ومع كل ذلك ضاق صدره عن قراءة ابن مسعود لآية واحدة!!

الواقع أن المسألة ليست قراءة آية ، خاصة أن عمر لم يذكر الآية .. بل هي أن الخليفة عمر يريد حصر مصدر القرآن وقراءاته به .. فليس من حق أحد أن يقرأ إلا كما يقرأ عمر ، حتى لو كان قارئه شهد له النبي بأن قراءته صحيحة دقيقة كما نزل بها جبرئيل عليه‌السلام!!

٢٦٧

هذا هو لب القضية .. ونظريات التوسع والتوسعة كلها للخليفة وحده ، ولمن أجاز له القراءة بها وحده!!

وقد فصّل عمرو بن العاص شهادته على ما أراده عمر فقال ، كما في كنز العمال ج ١٢ ص ٥٩٣ :

(عن عمرو بن العاص قال : أشهد لسمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : ما أقرأكم عمر فاقرءوا ، وما أمركم به فائتمروا! ـ كر). ورووا شهادة مماثلة عن جابر بن عبد الله الأنصاري! قال ابن أبي شيبة في مصنفه ج ٧ ص ١٨٣ :

(حدثنا حسين بن علي عن زائدة عن عبد الملك بن عمير عن قبيصة عن جابر قال : ما رأيت أحدا كان أقرأ لكتاب الله ولا أفقه في دين الله ولا أعلم بالله من عمر)!

بل رووا شهادة عن لسان عبد الله بن مسعود أسقط فيها نفسه من شهادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأعطاها لعمر!!

فقد روى الحاكم في مستدركه ج ٣ ص ٨٦ :

(... عن زيد بن وهب عن ابن مسعود رضي الله عنه : كان عمر أتقانا للرب ، وأقرأنا لكتاب الله!!) انتهى ، ولكن هل يعقل في حق ابن مسعود الذي ائتمنه النبي على نص وقال للناس خذوه منه .. أن يقول لهم : بل خذوه من فلان؟! بل لو صح ذلك عنه لجرح بعدالته!

وقد حاول القسطلاني أن يبرر نهي عمر لابن مسعود ، وغاية ما وصل اليه أنه ليس نهيا حقيقيا .. فكأن الخليفة عمر كان يمزح في رسالته الصريحة من المدينة الى الكوفة!! قال محمد طاهر الكردي في تاريخ القرآن الكريم ص ٣٩ :

(وأخرج أبو داود من طريق كعب الأنصاري أن عمر كتب الى ابن مسعود أن القرآن نزل بلسان قريش فأقرئ الناس بلغة قريش لا بلغة هذيل ، قال ابن عبد البر : يحتمل أن يكون هذا من عمر على سبيل الاختيار لا أن الذي قرأ به ابن مسعود لا يجوز. قال وإذا أبيحت قراءته على سبعة أوجه أنزلت جاز الاختيار فيما أنزل. انتهى ، من فتح الباري على صحيح البخاري) انتهى.

٢٦٨

ومن جهة أخرى ، من قال إن هذيلا يقلبون الحاء عينا ويقولون بدل (حتى) (عتى) فقد كانت هذيل تعيش مع قريش وتتصف بفصاحتها ، حتى أن الخليفة عثمان تمنى أن يكون مملى القرآن من هذيل لأن لغته لغة قريش ، وأن يكون الكاتب من ثقيف لقربهم منهم وإجادتهم الكتابة .. روى في كنز العمال ج ٢ ص ٥٨٦ وص ٥٨٧ :

(عن أبي المليح قال قال عثمان بن عفان حين أراد أن يكتب المصحف تملي هذيل ... عن عكرمة قال لما أتي عثمان بالمصحف رأى فيه شيئا من لحن فقال لو كان المملي من هذيل والكاتب من ثقيف لم يوجد فيه هذا ـ ابن الأنباري وابن أبي داود).

ويبدو من النص الذي تقدم في أدلة جمع القرآن في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أن الخليفة عمر كان متسامحا مع ابن مسعود في أول الأمر ، فتركه يملي المصاحف على الناس .. ثم تغيرت سياسته معه.

والنتيجة : أن عبد الله بن مسعود كان محترما عند الخليفة عمر ، وقد تحمل الكثير وحافظ على مكانته عنده .. ولكن ذلك لم يشفع له لينفذ عمر فيه وصية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويأخذ المسلمون القرآن منه .. بل حدث عكس ذلك ووقع ابن مسعود تحت تأثير الخليفة عمر في الأحرف السبعة وغيرها ، حتى وقف في عهد عثمان ضد توحيد نسخة القرآن .. الأمر الذي يوجب برأينا إعادة النظر في أصل رواية وصية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأخذ القرآن من ابن مسعود .. لكن الرواية عند إخواننا ثابتة وصحيحة!

قارئا الخليفة المفضلان

الأول : عبد الرحمن بن أبزى

من هو عبد الرحمن بن أبزى؟

ذكر الحموي في معجم البلدان ج ١ ص ٤١١ معنى كلمة أبزى ، فقال (البزواء بالفتح والمد والبزا : خروج الصدر ودخول الظهر ، يقال : رجل أبزى وامرأة بزواء) انتهى.

٢٦٩

وعبد الرحمن بن أبزى شاب حبشي كان في زمن الخليفة عمر صغير السن لأنه توفي نحو سنة ٧٢ هجرية كما ذكر الذهبي ، وهو غلام لنافع بن عبد الحارث بن حبالة الملكاني حليف خزاعة ، ونافع هذا من أهل مكة ومسلمة الفتح .. قال ابن الأثير في أسد الغابة ج ٥ ص ٧ :

(نافع بن عبد الحارث بن حبالة بن عمير بن غبشان ، واسمه الحارث بن عبد عمرو بن لؤي ابن ملكان بن أقصى الخزاعي ، نسبه كلهم الى خزاعة وساقوا نسبه الى ملكان وهو أخو خزاعة وأخو أسلم ، ويقال لبعض ولده خزاعي لقلة بني ملكان فنسبوا الى خزاعة! ولنافع صحبة ورواية واستعمله عمر بن الخطاب رضي الله عنه على مكة والطائف وفيهما سادة قريش وثقيف. وخرج الى عمر واستخلف على مكة مولاه عبد الرحمن بن أبزى فقال له عمر استخلفت على آل الله مولاك فعزله واستعمل خالد ابن العاص بن هشام ، وكان نافع من فضلاء الصحابة وكبارهم (...) وقيل أسلم يوم الفتح وأقام بمكة ولم يهاجر! روى عنه أبو سلمة وحميد وأبو الطفيل) انتهى!

ولكن الظاهر أن الخليفة عمر لم يعزل ابن أبزى بل أعجبه وأقره نائبا لواليه على مكة والطائف ، ثم استقدمه الى المدينة فكان من خاصته وولاته ، وادعى ابن الأثير أن عليا عليه‌السلام ولاه على خراسان ، ولم يؤيده الآخرون ..

وقد ترجم البخاري لابن أبزى في تاريخه ج ٥ ص ٢٤٥ فقال :

(عبد الرحمن بن أبزى مولى خزاعة الكوفي ، له صحبة. قال عمرو بن محمد حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني سلمة بن كهيل الحضرمي : عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى من قدماء موالي أهل مكة).

وروى له البخاري في صحيحه في ج ١ ص ٨٧ و ٨٨ فتوى الخليفة عمر بعدم التيمم وعدم الصلاة لمن لم يجد ماء!!

وفي ج ٣ ص ٤٤ و ٤٥ و ٤٦ في شراء السلف. وفي ج ٤ ص ٢٣٩ وج ٦ ص ١٥ في التوبة على قاتل النفس المحترمة. وروى له مسلم في ج ١ ص ١٩٣ وج ٨ ص ٢٤٢.

وروى في ج ٢ ص ٢٠١ :

(... عن عامر بن واثلة أن نافع بن عبد الحارث لقى عمر بعسفان وكان عمر يستعمله على مكة فقال من استعملت على أهل الوادي؟ فقال ابن أبزى قال ومن ابن

٢٧٠

أبزى؟ قال مولى من موالينا قال فاستخلفت عليهم مولى؟ قال إنه قارئ لكتاب الله عزوجل وإنه عالم بالفرائض ، قال عمر : أما إن نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قال إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين) وهذا يؤيد أن عمر لم يعزله ، خاصة وأنه عالم بالفرائض ، أي تقسيم الإرث وحساب الماليات ، كما سنرى في زيد بن ثابت.

وفي كنز العمال ج ١٣ ص ٥٦٠ :

(عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : خرجت مع عمر ابن الخطاب الى مكة فاستقبلنا أمير مكة نافع بن الحرث فقال : من استخلفت على أهل مكة؟ قال : عبد الرحمن بن أبزى ، قال : عمدت الى رجل من الموالي فاستخلفته على من بها من قريش وأصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم! قال : نعم وجدته أقرأهم لكتاب الله. ومكة أرض محتضرة فأحببت أن يسمعوا كتاب الله من رجل حسن القراءة. قال نعم ما رأيت إن عبد الرحمن بن أبزى ممن يرفعه الله بالقرآن ـ ع) انتهى.

وروى النسائي لابن أبزى في ج ١ ص ١٦٥ و ١٦٨ و ١٦٩ وج ٣ ص ٢٣٥ و ٢٤٤ و ٢٤٥ و ٢٤٧ و ٢٥٠ وج ٧ ص ٢٨٩ وج ٨ ص ٦٢.

وروى له في ج ٨ ص ٣٣٥ رواية تدل الى أنه كان يشرب الخمر ولا يكتفي بالنبيذ ، قال النسائي :

(عن سفيان عن سلمة بن كهيل عن ذر بن عبد الله عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه قال سألت أبي بن كعب عن النبيذ فقال : اشرب الماء ، واشرب العسل ، واشرب السويق ، واشرب اللبن الذي نجعت به ، فعاودته فقال : الخمر تريد ، الخمر تريد!!).

وفي كنز العمال ج ٥ ص ٥٢٣ :

(عن ابن أبزى عن أبيه قال : سألت أبي بن كعب عن النبيذ فقال : اشرب الماء ، واشرب السويق ، واشرب اللبن الذي نجعت به ، قلت لا توافقني هذه الأشربة ، قال : فالخمر إذا تريد! ـ عب).

وروى ولايته بالنيابة على مكة ابن ماجة ج ١ ص ٧٩ وروى له في ج ١ ص ١٨٨ و ٣٧٠ و ٣٧٤ وج ٢ ص ٧٦٦ ورواها الدارمي ج ٢ ص ٤٤٣ وروى له في ج ١ ص ١٩٠ ورواها أحمد في مسنده ج ١ ص ٣٥ وروى له في ج ١ ص ٨ و ٦٤ وج ٣ ص ٤٠٦ وج ٤ ص ٢٦٣ و ٢٦٥ و ٣١٩ و ٣٢٠ وج ٥ ص ١٢٢ وروت له بقية الصحاح وغيرها ..

ولعل أهم ما رووا له أن الخليفة عمر كان يقنت بالسورتين الخلع والحفد اللتين زعموا أنهما من القرآن ، فقد روى ذلك البيهقي في سننه ج ٢ ص ٢١١ والهندي في كنز العمال ج ٨ ص ٧٤ و ٧٥ :

٢٧١

(عن عبد الرحمن بن أبزى أن عمر قنت في صلاة الغداة قبل الركوع بالسورتين : اللهم إنا نستعينك ، واللهم إياك نعبد ـ الطحاوي).

وترجم له الذهبي في سير أعلام النبلاء ج ٣ ص ٢٠١ ، فقال :

(عبد الرحمن بن أبزى الخزاعي له صحبة ورواية وفقه وعلم. وهو مولى نافع بن عبد الحارث ، كان نافع مولاه استنابه على مكة حين تلقى عمر بن الخطاب الى عسفان ، فقال له : من استخلفت على أهل الوادي يعني مكة؟ قال : ابن أبزى ، قال ومن ابن أبزى؟ قال : إنه عالم بالفرائض ، قارئ لكتاب الله. قال : أما إن نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال إن هذا القرآن يرفع الله به أقواما ، ويضع به آخرين. وحدث عبد الرحمن أيضا عن أبي بكر ، وعمر ، وأبي بن كعب ، وعمار بن ياسر.

حدث عنه : ابناه ، عبد الله وسعيد ، والشعبي ، وعلقمة بن مرثد ، وأبو إسحاق السبيعى ، وآخرون.

سكن الكوفة ، ونقل ابن الأثير في تاريخه : أن عليا رضي الله عنه استعمل عبد الرحمن بن أبزى على خراسان.

ويروى عن عمر بن الخطاب أنه قال : ابن أبزى ممن رفعه الله بالقرآن. قلت : عاش الى سنة نيف وسبعين فيما يظهر لي).

وقال ابن الأثير في أسد الغابة ج ٣ ص ٢٧٨ :

(عبد الرحمن بن أبزى الخزاعي مولى نافع بن عبد الحارث سكن الكوفة ... وقال فيه عمر بن الخطاب عبد الرحمن بن أبزى ممن رفعه الله بالقرآن)

وقال في ج ١ ص ٤٥ :

(... عن مقاتل بن حيان عن علقمة بن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن جده قال خطب رسول الله وذكر الحديث ... ولم يصح لابن أبزى عن النبي رواية ولا رؤية ، هذا كلام أبي نعيم ، ولقد أحسن فيما قال وأصاب الصواب رحمة الله تعالى عليه ، وأما أبو عمر فلم يذكر أبزى وإنما ذكر عبد الرحمن لأنه لم تصح عنده صحبة أبزى ، والله أعلم) انتهى.

٢٧٢

هذا الغلام المحظوظ بصوته الحسن ـ وقد يكون مغنيا ـ وقدرته على الجمع والضرب ، صار محظوظا برضا الخليفة عمر عنه وتقريبه إياه ، ومن شخصيات التاريخ الإسلامي وصار هو وأبوه وأولاده من العلماء والرواة. وقد توقف بعض الفقهاء في قبول روايته ورواية أبيه أبزى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنهما ليسا من الصحابة كما تقدم ، وقال في الجوهر النقي ج ٢ ص ٣٤٧ تعليقا على رواية ابن أبزى التي ادعى فيها أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله سهى في صلاته! (قلت : في هذا الحديث علتان ، إحداهما أن عبد الرحمن بن أبزى مختلف في صحبته. والثانية أن عبد الحق ذكر هذا الحديث في أحكامه ثم قال الحسن بن عمران شيخ ليس بالقوي) انتهى.

ولكن يبقى الأساس عند إخواننا أن البخاري وثقه وقال إنه له صحبة ما .. لذلك قال في كنز العمال ج ٩ ص ٥٨ :

(قال ابن السكن : ماله غيره وإسناده صالح لكن رواه محمد بن إسحاق بن راهويه عن أبيه فقال : في إسناده عن علقمة بن سعيد بن أبزى عن أبيه عن جده رواه طب في ترجمة عبد الرحمن ، ورجح أبو نعيم هذه الرواية وقال لا يصح لأبزى رواية ولا رؤية ، وكذا قال ابن منده. وقال ابن حجر في الإصابة : كلام ابن السكن يرد عليهما ، والعمدة في ذلك على البخاري فإليه المنتهى في ذلك)! والى الله المشتكى في ذلك!

الثاني : زيد بن ثابت بن ...؟

مسئول جمع القرآن شاب صغير السن ، وأصله ...؟

لم يكن زيد بن ثابت (الأنصاري) من الصحابة المعروفين ، ولعل أول ما ورد اسمه في التاريخ في مسألة جمع القرآن .. فقد أمره الخليفة أبو بكر وعمر بجمع القرآن ..

ثم كان أحد الذين أمرهم الخليفة عثمان بجمع القرآن ، فشارك في كتابة المصحف الأم أو المصحف الإمام .. والذي هو المصحف الوحيد للمسلمين من ذلك التاريخ والحمد لله.

فمن هو زيد بن ثابت؟ ولما ذا اعتمد عليه الخليفة أبو بكر وعمر وعثمان؟

٢٧٣

ثم ما ذا كان عمل زيد بالضبط ، وهل جمع القرآن في مصحف في عهد أبي بكر وعمر ، أم كتبه مسودة في صحف ، وكان الخليفة يجري عليها (تنقيحات) حتى تكتمل فتكون مصحفا كاملا ..؟ وهل يحتاج جمع نسخة القرآن الى هذه المدة الطويلة؟!

روى النسائي في سننه ج ٨ ص ١٣٤ :

(عن أبي وائل قال خطبنا ابن مسعود فقال : كيف تأمروني أقرأ على قراءة زيد بن ثابت بعد ما قرأت من في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بضعا وسبعين سورة وإن زيدا مع الغلمان له ذؤابتان؟!).

وروى أحمد في مسنده ج ١ ص ٣٨٩ وص ٤٠٥ وص ٤٤٢ :

(عن حمير بن مالك قال قال عبد الله قرأت من في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبعين سورة وزيد بن ثابت له ذؤابة في الكتاب).

ورواه في ج ١ ص ٤٠٥ وص ٤٤٢ ، وروى في ج ١ ص ٤١١ رواية النسائي وفيها (غلام له ذؤابتان يلعب مع الغلمان).

وروى ابن شبة في تاريخ المدينة ج ٣ ص ١٠٠٦ :

(... عن حمير بن مالك قال : لما أمر بالمصاحف أن تغير ساء ذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال : من استطاع منكم أن يغل مصحفا فليفعل ، فإن من غل شيئا جاء بما غل يوم القيامة ، ثم قال : لقد قرأت القرآن من في رسول الله سبعين سورة ، وزيد صبي ، أفأترك ما أخذت من في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟!

... عن حمزة بن عبد الله قال : بلغني أنه قيل لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه : مالك لا تقرأ على قراءة فلان؟ فقال : لقد قرأت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبعين سورة فقال لي لقد أحسنت ، وإن الذي يسألون أن أقرأ على قراءته في صلب رجل كافر!

... عن ابن إسحاق ، عن أبي الأسود ـ أو غيره ـ قال : قيل لعبد الله ألا تقرأ على قراءة زيد؟ قال : ما لي ولزيد ولقراءة زيد ، لقد أخذت من في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبعين سورة ، وإن زيد بن ثابت ليهودي له ذؤابتان.

حدثنا الحماني قال حدثنا شريك ، عن ابن إسحاق ، عن أبي الأسود ـ أو غيره ـ قال : قيل لعبد الله ألا تقرأ على قراءة زيد؟ قال ما لي ولزيد ولقراءة زيد ، لقد أخذت

٢٧٤

من في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبعين سورة ، وإن زيد بن ثابت ليهودي له ذؤابتان!!) انتهى.

وروى الحاكم في المستدرك ج ٢ ص ٢٢٨ :

(... حدثني إسماعيل بن سالم بن أبي سعيد الأسدي قال سمعت عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول أقرأني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سبعين سورة أحكمتها قبل أن يسلم زيد بن ثابت!!) انتهى.

وروى المزي في تهذيب الكمال ج ٣٣ ص ٣٥١ :

(عن أبي سعيد الأزدي ، عن عبد الله ابن مسعود : أقرأني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبعين سورة أحكمتها قبل أن يسلم زيد بن ثابت. فلا أدري هو هذا أو غيره) انتهى.

ولكن البخاري وآخرين خففوا قول ابن مسعود في زيد ، وغيروا كلمة غلام في رواية جمع القرآن الى (رجل) .. قال البخاري في تاريخه ج ٣ ص ٢٢٧ :

(... عن حمير ابن مالك عن ابن مسعود يقول : أخذت من في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبعين سورة وإن زيد بن ثابت صبي من الصبيان!)

وقال أحمد في مسنده ج ٥ ص ١٨٨ :

(... عن زيد بن ثابت قال أرسل إليّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة فإذا عمر عنده جالس وقال أبو بكر يا زيد بن ثابت إنك غلام شاب عاقل لانتهمك ، قد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتتبع القرآن فاجمعه).

وقال ابن الأثير في أسد الغابة ج ١ ص ٨٠ مؤكدا حداثة من زيد :

(... قلت هذا إسماعيل بن زيد بن ثابت يروى عن أبيه وهو تابعي ولا اعتبار بإرساله هذا الحديث ، فإن التابعين لم يزالوا يروون المراسيل. ومما يقوى أنه لم تكن له صحبة أن أباه زيد بن ثابت استصغر يوم أحد وكانت سنة ثلاث من الهجرة فمن يكون عمره كذا كيف يقول ولده خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟! وهذا إنما يقوله رجل ، وقد صح عن ابن مسعود أنه قال لما كتب زيد المصحف لقد أسلمت وإنه في صلب رجل كافر ، وهذا أيضا يدل على حداثة سنه عند وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. أخرجه أبو موسى!).

* * *

٢٧٥

ولكن المشكلة في شخصية زيد ليست صغر سنه ، بل اتهامه بأن أصله يهودي .. وعلى لسان صحابي كبير من وزن عبد الله بن مسعود!

والمؤكد أن زيدا كان ضمن صبيان اليهود ، وأنه كان يعرف العبرية .. فقد قال الفضل بن شاذان في الإيضاح ص ٥١٩ :

(فأما سب بعضهم بعضا وقدح بعضهم في بعض في المسائل الفقهية ، فأكثر من أن يحصى مثل قول ابن عباس وهو يرد على زيد مذهبه العول في الفرائض : إن شاء ، أو قال من شاء ، باهلته ، إن الذي أحصى رمل عالج عددا أعدل من أن يجعل في مال نصفا ونصفا وثلثا ، هذان النصفان قد ذهبا بالمال فأين موضع الثلث؟! ومثل قول أبيّ بن كعب في القرآن : لقد قرأت القرآن وزيد هذا غلام ذو ذؤابتين يلعب بين صبيان اليهود في المكتب) انتهى. ورواه في الدرجات الرفيعة ص ٢٢

وحسب هذه الشهادة وحدها يمكن تبرئة زيد من تهمة اليهودية ، والقول بأنه كان أنصاريا قتل أبوه في حرب بعاث ، وأدخلته أمه النوار بنت مالك الخزرجية في (بيت المدراس) عند اليهود ليتعلم القراءة والكتابة ، كما يضع بعض الناس أبناءهم في عصرنا في مدارس مسيحية أو يهودية .. لكن تبقى مسألة أن اليهود كانوا مجتمعا مغلقا لا يقبلون في مدرستهم أبناء العرب ، ولم أجد رواية عن أبي عربى أنه تعلم القراءة والكتابة مع أبناء اليهود.

وتبقى أيضا شهادة ابن مسعود الصريحة التي تقول (قيل لعبد الله ألا تقرأ على قراءة زيد؟ قال ما لي ولزيد ولقراءة زيد! لقد أخذت من في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبعين سورة ، وإن زيد بن ثابت ليهودي له ذؤابتان!!)

وإذا أخذنا بإجماع أئمة الجرح والتعديل من إخواننا على توثيق ابن مسعود وتقواه .. فلا بد أن نقول إن والد زيد يهودي ، وأمه أنصارية ، وقد نسب الى الأنصار من جهة أمه وأخواله!! وهذا يفتح باب الشك في ادعاء زيد أن أباه قتل يوم بعاث لأن اليهود لم يشاركوا فيه!

وعند ما نرجع الى ترجمة زيد في كتب الرجال نجد المترجمين يذكرون أن أمه هي النوار بنت مالك ولا يذكرون فيها خلافا .. قال ابن الأثير في أسد الغابة ج ٥ ص ٥٥٧ :

٢٧٦

(النوار بنت مالك بن صرمة من بني عدي بن النجار وهي أم زيد بن ثابت الأنصاري الفقيه الفرضي كاتب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، روت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، روت عنها أم سعد بنت أسعد بن زرارة. أخرجها الثلاثة) انتهى.

ولكن مصادر السيرة والتاريخ والرجال المعروفة خالية عن اسم أبيها مالك بن صرمة ، كما لا توجد روايات عن حياتها ، وهل أنها تزوجت بعد ثابت أم لا؟

لكن المشكلة الصعبة في ترجمة زيد معرفة الإسم الحقيقي لأبيه وجده وأعمامه ونسبه! فقد ذكرت المصادر لجده عدة أسماء ، منها الضحاك بن خليفة ، وله ابن اسمه ثابت ، ومنها الضحاك بن أمية بن ثعلبة بن جشم وله ابن اسمه ثابت ، ومنها الضحاك بن الصامت ، ومنها الضحاك بن زيد بن لوذان بن عمرو بن عبد عوف .. لكن يصعب أن تنطبق ترجمة أي واحد منهم على زيد ..!! وهكذا إذا صعدت مع نسبه جدا فجدا ، مضافا الى أن بعض هؤلاء الأجداد المفترضين لزيد من الأوس ، وبعضهم من الخزرج!!

ثابت بن الضحاك بن خليفة الأشهلي

قال السمعاني في الأنساب ج ١ ص ١٧٢ :

(... وأبو عبد الرحمن محمد بن عبد الرحمن بن عثمان بن عبد الرحمن بن زيد بن ثابت بن الضحاك بن خليفة الأشهلي المديني ، وخليفة صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم) انتهى ، ووصف السمعاني له بالأشهلي يعني أنه من الأوس ، قال ابن حجر في تهذيب التهذيب ج ٢ ص ٨ (ثابت بن الضحاك بن خليفة الأشهلي الأوسي أبو زيد المدني. وقال في هامشه : الأشهلي بمفتوحة وإعجام شين وفتح هاء منسوب الى عبد الأشهل بن جشم كذا في المغني اه) انتهى.

ومن البعيد جدا أن يكون مقصوده بهذا النسب زيد بن ثابت وأن جد جده كان من صحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله!!

٢٧٧

وقد ترجم ابن هشام للضحاك بن خليفة بأنه كان منافقا ومثبطا للمسلمين في غزوة تبوك .. قال في السيرة ج ٤ ص ٩٦ :

(قال ابن هشام : وحدثني الثقة عمن حدثه ، عن محمد بن طلحة بن عبد الرحمن ، عن إسحاق بن إبراهيم بن عبد الله بن حارثة ، عن أبيه ، عن جده ، قال : بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أن ناسا من المنافقين يجتمعون في بيت سويلم اليهودي ، وكان بيته عند جاسوم ، يثبطون الناس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك ، فبعث إليهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلحة بن عبيد الله في نفر من أصحابه ، وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم ، ففعل طلحة ، فاقتحم الضحاك بن خليفة من ظهر البيت ، فانكسرت رجله ، واقتحم أصحابه فأفلتوا ، فقال الضحاك في ذلك :

كادت وبيت الله نار محمد

يشيط بها الضحاك وابن أبيرق

وظلت وقد طبقت كبس سويلم

أنوء على رجلي كسيرا ومرفقي

سلام عليكم لا أعود لمثلها

أخاف ومن تشمل به النار يحرق

قال ابن إسحاق : ثم إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جد في سفره ، وأمر الناس بالجهاز والانكماش ، وحض أهل الغنى على النفقة والحملان في سبيل الله ...) انتهى.

وروى الطبري عن الضحاك هذا في تاريخه ج ٢ ص ٤٥٩ رواية قد تدل على أنه حضر السقيفة! قال الطبري :

(حدثنا عبيد الله بن سعيد قال حدثنا عمي قال أخبرنا سيف بن عمر عن سهل وأبي عثمان عن الضحاك بن خليفة قال : لما قام الحباب بن المنذر انتضى سيفه وقال أنا جذيلها المحكك وغذيقها المرجب أنا أبو شبل في عرينة الأسد يعزى إليّ الأسد ، فحامله عمر فضرب يده فندر السيف ، فأخذه ثم وثب على سعد ، ووثبوا على سعد وتتابع القوم على البيعة وبايع سعد ، وكانت فلتة كفلتات الجاهلية قام أبو بكر دونها! وقال قائل حين أوطئ سعد : قتلتم سعدا! فقال عمر قتله الله إنه منافق! واعترض عمر بالسيف صخرة فقطعه) انتهى.

٢٧٨

وللضحاك هذا ولد اسمه ثابت بن الضحاك بن خليفة ، ترجم له البخاري في تاريخه ج ٢ ص ١٦٥ فقال : (ثابت بن الضحاك الأنصاري ، وقال بعضهم الكلابي ، له صحبة وأخوه أبو جبيرة بن الضحاك) انتهى.

ولكن الرازي نفى في الجرح والتعديل ج ٢ ص ٤٥٣ أن يكون ثابت هذا والد زيد بن ثابت .. قال :

(ثابت بن الضحاك بن خليفة الأنصاري له صحبة روى عنه عبد الله بن معقل وأبو قلابة سمعت أبي يقول ذلك. سمعت أبي يقول : بلغني عن ابن نمير أنه قال : هو والد زيد بن ثابت. فإن كان قاله فقد غلط وذلك أن أبا قلابة لم يدرك زيد بن ثابت فكيف يدرك أباه؟ وهو يقول حدثني ثابت بن الضحاك الأنصاري!) انتهى.

وترجم ابن الأثير لثابت هذا فقال في أسد الغابة ج ١ ص ٢٢٦ :

(ثابت بن الضحاك بن خليفة بن ثعلبة بن عدي بن كعب بن عبد الأشهل كذا نسبه أبو عمر. وأما ابن منده وأبو نعيم فلم يجاوزا في نسبه خليفة وقالا إنه أخو أبي جبيرة بن الضحاك شهد الحديبية ، وقال ابن منده قال البخاري أنه شهد بدرا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال أبو نعيم هذا وهم وإنما ذكر البخاري في الجامع أنه من أهل الحديبية واستشهد بحديث أبي قلابة عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذى أخبرنا به أبو الفرج يحيى بن محمود ... أن أبا قلابة حدثه أن ثابت بن الضحاك حدثه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذبا فهو كما قال ، وليس على رجل نذر في ما لا يملك ...

وقال ابن منده توفي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو ابن ثماني سنين وقيل توفي سنة خمس وأربعين ، وقيل توفي في فتنة ابن الزبير أخرجه الثلاثة. وأخرجه أبو موسى مستدركا على ابن مندة فقال : ثابت بن الضحاك بن ثعلبة الأنصاري أبو جبيرة هكذا أورده أبو عثمان ، وقال بعضهم هو أخو ثابت بن الضحاك بن خليفة وقال حماد بن سلمة هو الضحاك بن أبي جبيرة أورده في غير باب الثاء انتهى كلام أبي موسى. فأما قوله في نسبه الضحاك بن ثعلبة فهو وهم أسقط منه خليفة وما لاخراجه عليه وجه ، فإن بعض الرواة قد أسقط الجد الذي هو خليفة. وقد أخرجه ابن منده على الصواب) انتهى.

٢٧٩

وللضحاك هذا أولاد آخرون معروفون مثل أبي جبيرة واسمه قيس وقد ترجم له البخاري في تاريخه ج ٩ ص ٢٠ برقم ١٥٧ وابن الأثير في أسد الغابة ج ٤ ص ٢١٨ وج ٥ ص ١٥٦. وله بنت اسمها ثبيتة أو نبيتة ترجم لها في أسد الغابة ج ٥ ص ٤١٣ وإكمال الكمال ج ١ ص ١٨٥ وقال عن ثابت (وهو أخو جبيرة بن الضحاك ، وثبيتة بنت الضحاك ، التي كان محمد بن مسلمة يطاردها ببصره ليتزوجها) .. الخ.

ولو كان هؤلاء أعمام زيد وأقاربه لعرفوا ، أو ذكر ذلك أحد في ترجمته أو ترجماتهم .. مضافا الى أن زيدا كان يقول إن والده توفي وعمره ست سنوات كما روت عنه المصادر مثل سير أعلام النبلاء وأسد الغابة وتهذيب الكمال .. وغيرها.

ثابت بن الضحاك بن زيد

نسب ابن الأثير وأكثر كتب الرجال زيدا الى الخزرج فقال في أسد الغابة ج ٢ ص ٢٢١ :

(زيد بن ثابت بن الضحاك بن زيد بن لوذان بن عمرو بن عبد بن عوف بن غنم بن مالك بن النجار الأنصاري الخزرجي ثم النجاري ، أمه النوار بنت مالك بن معاوية بن عدي بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار ...) انتهى.

ومن المشكل قبول ذلك ، لأن زيد بن لوذان المذكور هو جد بني حزم المعروفين من الأنصار ، ولو كان زيد منهم لظهر ذلك في ترجماته أو ترجماتهم ، فمنهم النقيب المعروف عمارة ، وإخوته عمرو ومعمر وأولادهم .. قال ابن هشام في السيرة ج ٢ ص ٥٢٠ في تعديد النقباء (قال ابن إسحاق : ومن بني عمرو بن عبد عوف بن غنم. عمارة بن حزم بن زيد بن لوذان بن عمرو).

وقال في ج ٢ ص ٣١٣ :

(قال ابن هشام : وعمارة بن حزم بن زيد بن لوذان بن عمرو بن عبد عوف ابن غنم بن مالك بن النجار. شهد بدرا وأحدا والخندق ، والمشاهد كلها ، قتل يوم اليمامة).

٢٨٠