تدوين القرآن

الشيخ علي الكوراني العاملي

تدوين القرآن

المؤلف:

الشيخ علي الكوراني العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: باقري
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٧

ولكن لو صح هذا الاحتمال أيضا وكان مع أسئلتهم عن الذاريات أسئلة أخرى محرجة عن انحراف الأمة .. فهي لا تستحق العقوبة التي نزلت بصبيغ!!

تحير الفقهاء في عقوبة صبيغ

وقد تحير الفقهاء في توجيه حكم الخليفة على صبيغ ، فحاولوا أن يثبتوا لسؤاله بعدا عقائديا سياسيا ، قال ابن قدامة في المغني ج ١ ص ٧٣ :

(فصل : واختلفت الرواية عن أحمد في حلق الرأس فعنه أنه مكروه لما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال في الخوارج (سيماهم التحليق) فجعله علامة لهم وقال عمر لصبيغ : لو وجدتك محلوقا لضربت الذي فيه عيناك بالسيف) انتهى.

وقال في ج ١٠ ص ٥٨ (فصل ، وإذا أظهر قوم رأي الخوارج مثل تكفير من ارتكب كبيرة وترك الجماعة واستحلال دماء المسلمين وأموالهم إلا أنهم لم يخرجوا عن قبضة الإمام ولم يسفكوا الدم الحرام ، فحكي القاضي عن أبي بكر أنه لا يحل بذلك قتلهم ولا قتالهم ، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وجمهور أهل الفقه ... وأما من رأى تكفيرهم فمقتضى قوله أنهم يستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا لكفرهم كما يقتل المرتد ، وحجتهم قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فأينما لقيتموهم فاقتلوهم) ... وقول عمر لصبيغ لو وجدتك محلوقا لضربت الذي فيه عيناك بالسيف ، يعني لقتلتك ، وإنما يقتله لكونه من الخوارج ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال سيماهم التسبيد يعني حلق رءوسهم) انتهى.

يقصد ابن قدامة أن الخليفة كان يفتي بقتل من حلق رأسه لأن ذلك شعار الخوارج! وهو توجيه غريب لحكم الخليفة على صبيغ ، فأين كان الخوارج في زمن الخليفة عمر؟ ومن روى هذا الحديث؟ ومن صححه؟ وكيف يمكن توجيه ما قاله وما فعله الخليفة عمر بحدث تاريخي بدأ بعد وفاته بربع قرن!.

وينبغي الالتفات هنا الى أن من عادة العرب عند العزم على شىء والاستماتة في سبيله أن يحلقوا رءوسهم علامة على ذلك .. وقد ورد أن جماعة من الأنصار والمهاجرين جاءوا الى علي عليه‌السلام بعد فراغه من مراسم جنازة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

٢٢١

واعترضوا بشدة على عدم دعوته الى السقيفة وبيعة أبي بكر ، وقالوا للإمام نحن معك وفي عنقنا لك بيعة أخذها النبي من الجميع يوم غدير خم ، فقال لهم الإمام : إن كنتم صادقين فاغدوا إلي محلقين .. فجاءه منهم في الغد سبعة فقط أو ثلاثة ، فأخبرهم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أوصاه أن لا يتحرك إلا إذا اجتمع له أربعون رجلا!

فالخوارج لم ينشئوا عادة حلق الرءوس من عندهم ، بل استفادوا من عرف عربي موجود استفاد منه قبلهم علي عليه‌السلام ، فقد يكون الخليفة مثلا أراد أن يعرف هل أن صبيغا عضو في حركة حلقوا رءوسهم وتعاهدوا على معارضة الخليفة ، فيكون ذلك مؤشرا احتماليا آخر على أن قضية صبيغ سياسية.

وهناك مؤشر ثالث وهو أن الشاكي صاحب التقرير على صبيغ هو عمرو بن العاص الذي كان فكره وعمله الأمور السياسية والتخطيط ضد هذا وذاك ، ولم يعهد عنه اهتمام بالأمور الفكرية والعقائدية كالسؤال عن القرآن! بل قد يكون هو الذي أرسل المصريين المعترضين الى الخليفة مع ولده عبد الله ليلاقوا جزاءهم!

هذا ، ولكنها تبقى احتمالات ، ويبقى الحكم على قضية صبيغ حسب ظاهرها وأنها قضية بحث وجدل في القرآن ، أو قضية شخصية ، أقوى من الحكم عليها بأنها سياسية ، خاصة عند ما نرى حياة صبيغ العادية غير السياسية .. فقد عاش بعد الخليفة ولم يظهر منه شىء مخالف لخط الخليفة!

وتحير الفقهاء في توبة صبيغ

عن أي شىء كانت توبة صبيغ التميمي؟ الظاهر أنها توبة عن السؤال فقط وفقط!! وقد تاب وهو تحت عراجين سعف النخل وقال للخليفة : اعفني ، سامحني ، فقد كان في رأسي أسئلة أو تساؤلات ، وذهب الذي كان في رأسي ، وإني تائب الى الله واليك .. ولكن الخليفة لم يعفه ولم يقبل توبته إلا بعد أن دمر شخصيته وجعله ميتا في الأحياء! فلما ذا اشترط الخليفة مضي سنة من إعلان توبة صبيغ حتى يثبت صدقها ، مع أن التوبة إما أن لا تقبل ، وإما تقبل رأسا؟! هذا ما حير فقهاء المذاهب الأربعة!

٢٢٢

قال ابن قدامة في المغني ج ١٢ ص ٨٠ :

(فصل : ظاهر كلام أحمد والخرقي أنه لا يعتبر في ثبوت أحكام التوبة من قبول الشهادة وصحة ولايته في النكاح إصلاح العمل ، وهو أحد القولين للشافعي ، وفي القول الآخر يعتبر اصلاح العمل ... ولأن عمر رضي الله عنه لما ضرب صبيغا أمر بهجرانه حتى بلغته توبته ، فأمر أن لا يكلم إلا بعد سنة. ولنا : قوله عليه‌السلام التوبة تجب ما قبلها ، وقوله التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، ولأن المغفرة تحصل بمجرد التوبة فكذلك الأحكام ، ولأن التوبة من الشرك بالاسلام لا تحتاج الى اعتبار ما بعده وهو أعظم الذنوب كلها ، فما دونه أولى! فأما الآية فيحتمل أن يكون الاصلاح هو التوبة وعطفه عليها لاختلاف اللفظين ، ودليل ذلك قول عمر لأبي بكرة تب أقبل شهادتك ، ولم يعتبر أمرا آخر ، ولأن من كان غاصبا فرد ما في يديه أو مانعا الزكاة فأداها وتاب الى الله تعالى قد حصل منه الإصلاح ، وعلم نزوعه من معصيته بأداء ما عليه ، ولو لم يرد التوبة ما أدى ما في يديه. ولأن تقييده بالسنة تحكّم لم يرد الشرع به ، والتقدير إنما يثبت بالتوقيف) انتهى.

الى هنا تلاحظ أن كلام ابن قدامة كلام فقهي قوي .. ثم أخذ ينقض مبانيه التي أثبتها لتوه فقال :

(وما ورد عن عمر في حق صبيغ إنما كان لأنه تائب من بدعة وكانت توبته بسبب الضرب والهجران فيحتمل أنه أظهر التوبة تسترا بخلاف مسألتنا. وقد ذكر القاضي أن التائب من البدعة يعتبر له مضي سنة لحديث صبيغ رواه أحمد في الورع قال : ومن علامة توبته أن يجتنب من كان يواليه من أهل البدع ، ويوالي من كان يعاديه من أهل السنة. والصحيح أن التوبة من البدعة كغيرها إلا أن تكون التوبة بفعل يشبه الإكراه كتوبة صبيغ فيعتبر له مدة تظهر أن توبته عن إخلاص لا عن إكراه. وللحاكم أن يقول للمتظاهر بالمعصية تب أقبل شهادتك قال مالك لا أعرف هذا ، قال الشافعي وكيف لا يعرفه وقد أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتوبة ، وقاله عمر لأبي بكرة!!) انتهى.

٢٢٣

وهكذا طبق الفقهاء على صبيغ أنه لا بد أن تمضي عليه سنة ليعرف أنه (اجتنب من كان يواليه من أهل البدع ويوالي من كان يعاديه من أهل السنة) ولكن صبيغا لم يكن له فئة غير أهل السنة ، وإن كان له فئة فكيف يعرف أنه اجتنبهم وهو ممنوع المجالسة والمكالمة الخ ..

النتيجة

والنتيجة أن صبيغا دفع في حياته ثمن أسئلته غاليا ، ثم دفعها على يد الفقهاء من سمعته لأجل تبرير عمل الخليفة ، فصار صاحب بدعة ، وصار خارجيا مستحقا للعقوبة قبل ظهور الخوارج وتسميتهم خوارج بربع قرن أو أكثر .. كل ذلك بدون دليل عند أحد من هؤلاء الفقهاء إلا عمل الخليفة .. ويمكن أن يصير صبيغ بعد مدة رافضيا خبيثا ، مع أني لم أجد له إشارة مدح واحدة في مصادر الشيعة!

ولكن لا يختلف الحال في غرض بحثنا ، فسواء اعتبرنا قضية صبيغ قضية علمية أو عقائدية أو شخصية أو سياسية .. فإنها قضية تخدم تحريم البحث العلمي في القرآن والسؤال عن غوامضه وحتى عن معاني ألفاظه ومفرداته ، كما نرى في نهي الخليفة عن البحث في معنى : وفاكهة وأبا .. وغيرها ، وغيرها!

وإذا أردنا تطبيق أحكام الخليفة على صبيغ في عصرنا فيجب على الحاكم المسلم أن يجمع كتب التفسير ويحرقها ، ثم يقيم الحد الشرعي على المفسرين وطلبة العلوم القرآنية ، فيجلدهم حتى تسيل دماؤهم على رءوسهم وظهورهم وأعقابهم ، والأحوط أن يكون ذلك بجريد النخل الرطب ، ثم يسجنهم حتى يبرءوا ، ثم يضربهم مرة ثانية وثالثة .. ثم يلبسهم تبابين ويركبهم في شاحنات ويطوفهم في مدنهم وقراهم .. ويحذر الناس من شرهم .. الى آخر أحكام الخليفة.

هذا إذا كانت أسئلتهم بمقدار أسئلة صبيغ ، أما إذا كانت أسئلتهم أكثر مثل طلبة المعاهد والجامعات الدينية في عصرنا ، فيجب أن يحكم عليهم بالإعدام حتى تخلص الأمة من شرهم!!

٢٢٤

وفاكهة وأبا؟!

روى الحاكم في المستدرك ج ٢ ص ٢٩٠ (.. عن أنس رضي الله عنه قال قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه : وفاكهة وأبا ، فقال بعضهم هكذا ، وقال بعضهم هكذا .. فقال عمر : دعونا من هذا آمنا به كل من عند ربنا. هذا حديث صحيح الاسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه).

وروى في نفس المجلد ص ٥١٤ (.. عن ابن شهاب أن أنس بن مالك رضي الله عنه أخبره أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : فأنبتنا فيها حبا ، وعنبا وقضبا ، وزيتونا ونخلا ، وحدائق غلبا ، وفاكهة وأبا ، قال : فكل هذا قد عرفناه فما الأب؟ ثم نفض عصا كانت في يده فقال : هذا لعمر الله التكلف ، اتبعوا ما تبين لكم من هذا الكتاب! هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه) انتهى.

وروى السيوطي في الدر المنثور ج ٦ ص ٣١٧ أن هذه القصة حدثت وكان الخليفة على المنبر ، وأن رجلا سأل الخليفة عن معنى الأب ، قال (وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن سعد وعبد حميد وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان والخطيب والحاكم وصححه عن أنس أن عمر قرأ على المنبر فأنبتنا فيها حبا ، وعنبا وقضبا الى قوله وأبا قال : كل هذا قد عرفناه فما الأب؟ ثم نفض عصا كانت في يده فقال : هذا لعمر الله هو التكلف فما عليك أن لا ندري ما الأب. اتبعوا ما بين لكم هداه من الكتاب فاعملوا به وما لم تعرفوه فكلوه الى ربه.

وأخرج عبد بن حميد عن عبد الرحمن بن يزيد أن رجلا سأل عمر عن قوله وأبا ، فلما رآهم يقولون أقبل عليهم بالدرة!

وأخرج عبد بن حميد وابن الأنباري في المصاحف عن أنس قال قرأ عمر وفاكهة وأبا فقال هذه الفاكهة قد عرفناها فما الاب؟ ثم قال : نهينا عن التكلف!

وأخرج ابن المنذر عن أبي وائل أن عمر سئل عن قوله وأبا ما الأب؟ ثم قال : ما كلفنا هذا أو ما أمرنا بهذا!) انتهى.

٢٢٥

وروى في كنز العمال ج ٢ ص ٣٢٨ (عن أنس قال قرأ عمر وفاكهة وأبا ، فقال : هذه الفاكهة قد عرفناها فما الاب؟ ثم قال : مه نهينا عن التكلف ، وفي لفظ : ثم قال إن هذا لهو التكلف ، يا عمر فما عليك ألا تدري ما الأب ، اتبعوا ما بين لكم من هذا الكتاب واعملوا به وما لم تعرفوه فكلوه الى عالمه ـ ص ، ش ، وأبو عبيد في فضائله ، وابن سعد وعبد بن حميد وابن المنذر ، وابن الأنباري في المصاحف ، ك ، هب ، وابن مردويه) انتهى.

قد يأخذ بعضهم على الخليفة من هذه الروايات أنه لا يعرف معنى بعض كلمات القرآن ، ولكن هذا إنما يكون إشكالا على الذين يقولون بوجوب عصمة الإمام والخليفة وأن يكون أعلم أهل زمانه ، كما نعتقد نحن الشيعة في الائمة من أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلو أن هذه الحادثة كانت مع أحد منهم لكانت دليلا على عدم سعة علمه باللغة العربية وأضرت بعصمته .. ولكن إخواننا السنة لا يشترطون في الخليفة العصمة ولا الأعلمية على أهل زمانه ، ويروون شهادات للخليفة عمر بأن عليا أقضى الصحابة أو أعلمهم.

ولكن غرضنا من هذه النصوص أن نعرف موقف الخليفة عمر من البحث في القرآن؟ فقد وردت فيه عبارات (هذا لعمر الله التكلف ، اتبعوا ما تبين لكم من هذا الكتاب .. ثم قال : نهينا عن التكلف .. أن رجلا سأل عمر عن قوله وأبا ، فلما رآهم يقولون أقبل عليهم بالدرة!) فهل السؤال عن معنى كلمة قرآنية تكلف منهي عنه في الشريعة؟ وهل يجوز للحاكم المسلم إذا رأى الصحابة أو العلماء يتناقشون في معنى كلمة أن يقبل عليهم ضربا بالسوط؟! فهذه الحادثة التي اختصرنا من مصادرها ، تدل على أن الخليفة كان يفتي بحرمة البحث العلمي في القرآن ، ويعاقب عليه!

لكن روى البيهقي في سننه ج ٤ ص ٣١٣ (عن ابن عباس قال كنت عند عمر وعنده أصحابه فسألهم فقال : أرأيتهم قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ليلة القدر التمسوها في العشر الأواخر وترا ، أي ليلة ترونها؟ فقال بعضهم ليلة إحدى ،

٢٢٦

وقال بعضهم ليلة ثلاث ، وقال بعضهم ليلة خمس ، وقال بعضهم ليلة سبع ، فقالوا وأنا ساكت ، فقال : ما لك لا تكلم؟ فقلت إنك أمرتني أن لا أتكلم حتى يتكلموا ، فقال : ما أرسلت إليك إلا لتكلم ، فقلت : إني سمعت يذكر السبع فذكر سبع سماوات ومن الأرض مثلهن وخلق الإنسان من سبع ونبت الأرض سبع. فقال عمر رضي الله عنه : هذا أخبرتني ما أعلم ، أرأيت ما لم أعلم قولك نبت الأرض سبع؟ قال قال عزوجل (ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا ، فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا ، وَعِنَباً وَقَضْباً ، وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً ، وَحَدائِقَ غُلْباً) قال فالحدائق الغلب الحيطان من النخل والشجر. وفاكهة وأبا؟ قال فالأب ما أنبتت الأرض مما تأكله الدواب والأنعام ولا يأكله الناس. قال فقال عمر رضي الله عنه لأصحابه : أعجزتم أن تقولوا كما قال هذا الغلام الذي لم تجتمع شئون رأسه؟! والله إني لأرى القول كما قلت) انتهى.

فهذا الحديث يدل على أن الفتوى بتحريم التكلف وتفسير ألفاظ القرآن مختصة بالذين يتكلمون فيه رجما بالغيب ، وأن ضربه لهم بالدرة كان بسبب ذلك ، ولكنه في نفس الوقت أرسل الى ابن عباس وأحضره وسأله عن تفسيرها وقبله منه ووبخ أصحابه الذين لم يعرف أحد منهم معنى وأبا!! فيكون المأخذ على الخليفة في أسلوبه ، وأنه كان الأولى أن يقول أنا وأنتم لا نعرف معنى وأبا ، فينبغي أن نسأل من يعرف ، ولا يحتاج الأمر الى النهي عن التكلف ولا الى .. الغضب والضرب بالدرة! على أن ابن عباس إذا صحت عنه الرواية تكلّف أيضا ، وأفتى استحسانا بدون دليل!

نهي الخليفة عن السؤال عما لم يكن!

روى الدارمي في سننه ج ١ ص ٥٠ (عن عمرو عن طاوس قال قال عمر على المنبر : أحرج بالله على رجل سأل عما لم يكن ، فإن الله قد بين ما هو كائن) انتهى ، وبمقتضى فتوى الخليفة يجب أن يصبر الحاكم والقضاة والناس حتى تقع الحوادث فيسألون أو يبحثون عن حكمها ، ولا يجوز افتراض حادثة لم تقع وبحث حكمها الشرعي!!

٢٢٧

فضربه بالدرة وقال : مالك نقبت عنها؟!

قال السيوطي في الدر المنثور ج ٢ ص ٢٢٧ (وأخرج ابن راهويه في مسنده عن محمد بن المنتشر قال قال رجل لعمر بن الخطاب إني لا عرف أشد آية في كتاب الله ، فأهوى عمر فضربه بالدرة وقال : مالك نقبت عنها؟! فانصرف حتى كان الغد قال له عمر الآية التي ذكرت بالأمس فقال من يعمل سوء يجز به فما منا أحد يعمل سوء إلا جزى به ، فقال عمر : لبثنا حين نزلت ما ينفعنا طعام ولا شراب ، حتى أنزل الله بعد ذلك ورخص وقال : من يعمل سوء أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفور رحيما) انتهى ، ولكن الخليفة لم يتراجع عن ضربه الرجل بالأمس بل أراد التأكيد على منهجه في تطمين الناس بالمغفرة والجنة مهما عملوا ، ومنع تخويفهم بالعقاب ، وقد هيأ للرجل الجواب في اليوم الثاني فجعل الآية ١١٠ من سورة المائدة ترخيصا ونسخا للآية ١٢٣ منها ، مع أن موضوعهما مختلف ، ويلزم منه جعل المتقدم ناسخا للمتأخر .. الى آخر البحث. وسيأتي في فصل الثقافة اليهودية ما ينفع في ذلك.

* * *

٢٢٨

الفصل الثامن

قصة الأحرف السبعة

وجمع القرآن

٢٢٩
٢٣٠

قصة الأحرف السبعة وجمع القرآن

هل كان يوجد شىء اسمه مشكلة جمع القرآن؟!

حاولت أكثر روايات جمع القرآن ، أن تثبت أنه لم يكن مجموعا كله في كتاب واحد (مصحف) من عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنه كان موزعا سورا وآيات مكتوبة عند هذا وذاك على (العسب والرقاق واللخاف وصدور الرجال) كما يقول زيد بن ثابت في رواية البخاري ج ٨ ص ١١٩.

غير أن المتتبع في مصادر الحديث والتاريخ يجزم بأن القرآن كان مجموعا في مصحف من عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأن نسخه كانت موجودة في بيت النبي ، وفي مسجده ، وعند كثيرين .. كما كان محفوظا في صدور العديد من الصحابة من أهل بيت النبي وغيرهم!! وأن المشكلة كانت مشكلة الدولة التي خافت من اعتماد نسخة من القرآن مكتوبة ، لتكون النسخة الرسمية لجميع المسلمين ..

فالدولة ، والدولة هنا تعني الخليفة عمر ، رفضت نسخة القرآن التي جاءها بها علي بن أبي طالب عليه‌السلام .. كما نهت الأنصار أن يقدموا نسخة قرآن على أنها النسخة المعتمدة ، لأن ذلك برأيه من حق الدولة وحدها ..

ومن جهة ثانية ، لم تقم بنسخ القرآن المتداول في أيدي الناس بعدة نسخ وإرسالها الى الأمصار ، لأنها لا تريد أن تعتمد نسخة معينة ..

٢٣١

ومن جهة ثالثة ، قامت بتشكيل لجنة لجمع القرآن ، مكونة من الخليفة عمر وزيد بن ثابت .. وطال عمل هذه اللجنة ولم تقدم الى المسلمين نسخة القرآن ، بل بقيت النسخة التي جمعتها بيد الخليفة عمر ..

لذلك بقيت الدولة الإسلامية بلا نسخة رسمية للقرآن طوال عهد أبي بكر وعمر ، وكانت الدولة تجيب على اختلاف الناس في قراءة نص القرآن برواية الأحرف السبعة .. حتى تفاقمت المشكلة وكادت تنفجر .. فنهض بالأمر الخليفة عثمان وكتب نسخة القرآن الفعلية في سنة ٢٥ هجرية!!

والأدلة على أن القرآن كان مجموعا من عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كثيرة .. نذكر منها أولا الأدلة التمهيدية التي تثبت أن الكتابة كانت ميسرة في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بل وقبله ، خاصة في المدن .. وترد ادعاء الباقلاني وغيره الذين برروا عمل السلطة بأن الكتابة لم تكن متيسرة في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعهد الخليفتين أبي بكر وعمر ، ثم تيسرت في عهد الخليفة عثمان ..! فإن عشرات النصوص بل مئاتها في المصادر ، ترد هذا الادّعاء.

فمن ذلك : آية الدين أطول آية في كتاب الله تعالى ، التي أمر تعالى فيها مجتمع المدينة وعموم المسلمين بكتابة الديون حتى اليومية منها ، فقال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ، وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً ، فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ ، فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) .. الى آخر الآية الكريمة.

ومن ذلك : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أول من دوّن الدواوين ، وليس الخليفة عمر كما يذكر بعضهم ، فقد كان عند النبي ديوان فيه أسماء كل المسلمين ، وديوان فيه أسماء المجاهدين .. قال البخاري في صحيحه ج ٤ ص ٣٣ :

(... عن الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة رضي الله عنه قال قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أكتبوا لي من تلفظ بالإسلام من الناس ، فكتبنا له ألفا وخمسمائة رجل ، فقلنا نخاف ونحن ألف وخمسمائة؟! فلقد رأيتنا ابتلينا حتى أن الرجل ليصلي وحده وهو خائف!

٢٣٢

... عن الأعمش فوجدناهم خمسمائة قال أبو معاوية ما بين ستمائة الى سبعمائة.

... عن أبي معبد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال جاء رجل الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال يا رسول الله إني كتبت في غزوة كذا وكذا وامرأتي حاجة قال : ارجع فحج مع امرأتك!)

وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ج ١٠ ص ٤٨ :

(عن طارق بن شهاب قال : قدم وفد بجيلة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال رسول الله : أكتبوا البجليين وابدءوا بالأحمسيين).

ورواه أحمد في ج ٤ ص ٣١٥ ولكنه فيه (اكسوا) بدل (اكتبوا) ولا بد أن يكون أحدهما تصحيفا.

ومن ذلك : أن أشخاصا كانوا يكتبون حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، منهم عبد الله بن عمرو بن العاص .. ففي صحيح البخاري ج ١ ص ٣٦ :

(... وهب بن منبه عن أخيه قال سمعت أبا هريرة يقول : ما من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحد أكثر حديثا عنه مني إلا ما كان من عبد الله ابن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب).

وفي مسند أحمد ج ٢ ص ١٧١ :

(... عبد الرحمن الحبلي حدثه قال أخرج لنا عبد الله بن عمرو قرطاسا وقال كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلمنا يقول : اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت رب كل شىء وإله كل شىء ، أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمدا عبدك ورسولك والملائكة يشهدون ، أعوذ بك من الشيطان وشركه وأعوذ بك أن اقترف على نفسي إثما أو أجره على مسلم. قال أبو عبد الرحمن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلمه عبد الله بن عمرو أن يقول ذلك حين يريد أن ينام).

ومن ذلك : أن البدوي كان يطلب كتابة خطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيكتبونها له .. ففي صحيح البخاري ج ١ ص ٣٦ وج ٣ ص ٩٥ :

٢٣٣

(... فجاء رجل من أهل اليمن فقال أكتب لي يا رسول الله ، فقال : اكتبوا لأبي فلان).

ومن ذلك : أن تعليم الصبيان الكتابة كان متعارفا ، ففي صحيح البخاري ج ٣ ص ٢٠٩ :

(... حدثنا عبد الملك بن عمير قال سمعت عمرو بن ميمون الأودي قال كان سعد يعلم بنيه هؤلاء الكلمات كما يعلم المعلم الغلمان الكتابة).

ومن ذلك : أن الكتابة وطلب التعلم كان في الأنصار قبل الإسلام .. فقد روى مسلم في صحيحه ج ٨ ص ٢٣١ :

(... عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحي من الأنصار قبل أن يهلكوا ، فكان أول من لقينا أبا اليسر صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعه غلام له معه ضمامة من صحف ...).

ورواه الحاكم في مستدركه ج ٢ ص ٢٨ فقال :

(عن عبادة بن الصامت قال خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحي من الأنصار قبل أن يهلكوا ، فكان أول من لقينا أبو اليسر صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومعه غلام له وعليه برد معافري وعلى غلامه برد معافري ومعه ضبارة صحف ..).

ومن ذلك : أنهم كانوا يشبهون الوجه الحسن الحيوي بورقة المصحف .. قال البخاري في صحيحه ج ١ ص ١٦٥ :

(حتى إذا كان يوم الاثنين وهم صفوف في الصلاة فكشف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ستر الحجرة ينظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف ، ثم تبسم يضحك فهممنا أن نفتتن من الفرح برؤية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم).

ورواه مسلم في صحيحه ج ٢ ص ٢٤ وأحمد في مسنده ج ٣ ص ١١٠ وص ١٩٦ .. وغيره ..

وجاء في مستدرك الحاكم ج ٣ ص ٦٤٠ قول صهر معاوية الذي طلق ابنته (... فنظرت فإذا أنا شيخ وهي شابة لا أزيدها مالا الى مالها ولا شرفا الى شرفها ، فرأيت أن أردها إليك لتزوجها فتى من فتيانك كأن وجهه ورقة مصحف).

٢٣٤

ومن ذلك : أن دباغة الجلد للكتابة عليه كانت أمرا معروفا عاديا ، فقد اشترى عمر جلدا وكتب عليه التوراة .. قال السيوطي في الدر المنثور ج ٥ ص ١٤٨ :

(وأخرج عبد الرزاق والبيهقي عن أبي قلابة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر برجل يقرأ كتابا فاستمعه ساعة فاستحسنه ، فقال للرجل أكتب لي من هذا الكتاب. قال نعم ، فاشترى أديما فهيأه ثم جاء به إليه فنسخ له في ظهره وبطنه ، ثم أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجعل يقرؤه عليه وجعل وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتلون ، فضرب رجل من الأنصار بيده الكتاب وقال : ثكلتك أمك يا ابن الخطاب! أما ترى وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منذ اليوم ، وأنت تقرأ عليه هذا الكتاب؟! فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ذلك إنما بعثت فاتحا وخاتما وأعطيت جوامع الكلم وفواتحه واختصر لي الحديث اختصارا ، فلا يهلكنكم المتهوكون).

ومن ذلك : أن عادة وضع القلم وراء الأذن كانت من ذلك الزمان .. قال أحمد في مسنده ج ٥ ص ١٩٣ :

(... عن زيد بن خالد الجهني قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو لا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ، قال فكان زيد يروح الى المسجد وسواكه على أذنه بموضع قلم الكاتب ، ما تقام صلاة إلا استاك قبل أن يصلي).

وروى الهيثمي في مجمع الزوائد ج ٩ ص ٣٥٦ رواية لا يصححها علماء الشيعة ولا السنة ، ولكنها تدل على المقصود ، قال :

(عن عائشة قالت لما كان يوم أم حبيبة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دق الباب داق فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنظروا من هذا قالوا معاوية قال ائذنوا ودخل وعلى أذنه قلم يخط به ، فقال ما هذا القلم على أذنك يا معاوية ، قال قلم أعددته لله ولرسوله فقال جزاك الله عنا خيرا ...).

ومن ذلك : أن بعضهم كان يكتب أسئلته ويرسلها يستفتي بها .. فقد روى البيهقي في سننه ج ٩ ص ٢٤١ :

(... عبد الله بن أبي الهذيل قال أمرني ناس من أهلي أن أسأل لهم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن أشياء فكتبتها في صحيفة فأتيته لأسأله فإذا عنده ناس يسألونه

٢٣٥

فسألوه حتى سألوه عن جميع ما في صحيفتي وما سألته عن شىء ، فسأله رجل أعرابي فقال إني مملوك أكون في إبل أهلي فيأتيني الرجل يستسقيني فأسقيه ..؟)

ومن ذلك : أن نظام الكمبيالات أول ما ظهر في العالم في المدينة المنورة في زمن عثمان .. فقد روى مالك في الموطأ ج ٢ ص ٦٤١ :

(وحدثني عن مالك ، أنه بلغه أن صكوكا خرجت للناس في زمان مروان بن الحكم من طعام الجار فتبايع الناس تلك الصكوك بينهم ، قبل أن يستوفوها فدخل زيد بن ثابت ورجل من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، على مروان بن الحكم فقالا : أتحل بيع الربا يا مروان؟ فقال أعوذ بالله وما ذاك؟ فقالا هذه الصكوك تبايعها الناس ثم باعوها قبل أن يستوفوها. فبعث مروان الحرس يتبعونها ينزعونها من أيدى الناس ويردونها الى أهلها).

كل ذلك يدل على أن الكتابة في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت أمرا شائعا ، وكان الناس عامة مدركين لفائدتها وضرورتها خاصة في الأمور المهمة ، فكيف جوّز هؤلاء الرواة والباحثون على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، مع إيمانهم ببعد نظره وعمق تفكيره وتسديده بوحي الله تعالى ، أن لا يهتم بكتابة القرآن ونشر نسخه في مصاحف ، والقرآن هو كتاب الدعوة الإلهية ومعجزتها ، والذي بواسطته كان النبي والمسلمون يدعون الناس الى الإسلام ..؟!!

بلى .. إن الأحاديث الكثيرة تشهد بأن نسخ القرآن كانت موجودة من عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله ومنتشرة في أيدي الرجال والنساء ، في المدينة وفي بقية بلاد الجزيرة .. وأنهم كانوا يضيفون الى نسخهم السور والآيات الجديدة عند ما تنزل .. ولا مجال لادعاء الزركشي وغيره بأن النبي والمسلمين لم يكتبوا القرآن في عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله بحجة أنهم كانوا ينتظرون اكتمال نزوله!!

قال في البرهان ج ١ ص ٢٦٢ (وإنما لم يكتب في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مصحف لئلا يفضي الى تغييره في كل وقت ، فلهذا تأخرت كتابته الى أن كمل نزول القرآن بموته صلى‌الله‌عليه‌وسلم) فهذا المؤلف يتكلم عن التغيير في القرآن كأنه كتاب

٢٣٦

تحت التأليف لأمثاله ، ينتظر الناشرون اكتماله لينشروا نسخته! ولكن السورة الواحدة من القرآن كانت حدثا عقائديا وفكريا وسياسيا ، وكان المسلمون يستقبلون نزولها بأرواحهم قبل ألسنتهم ، ويكتبونها لأنفسهم ولدعوة الناس بها الى الإسلام! ثم إذا نزلت آية أو سورة جديدة كتبوها أيضا!

ومما يدل على ذلك : ما رواه الترمذي في سننه ج ٤ ص ١٤٠ :

(... عن أبي الدرداء قال كنا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فشخص ببصره الى السماء ، ثم قال : هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شىء. فقال زياد بن لبيد الأنصارى : كيف يختلس منا ، وقد قرأنا القرآن فو الله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا! قال : ثكلتك أمك يا زياد إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة! هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى ، فما ذا تغني عنهم؟!).

ورواه أحمد في مسنده ج ٥ ص ٢٦٦ وفيه تصريح أوضح بوجود المصاحف ، قال :

(... عن أبي إمامة الباهلي قال لما كان في حجة الوداع قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يومئذ مردف الفضل بن عباس على جمل آدم فقال : يا أيها الناس خذوا من العلم قبل أن يقبض العلم وقبل أن يرفع العلم وقد كان أنزل الله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ ، عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ). قال فكنا نذكرها كثيرا من مسألته واتقينا ذلك حين أنزل الله على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال فأتينا اعرابيا فرشوناه برداء قال فاعتم به حتى رأيت حاشية البرد خارجة من حاجبه الأيمن ، قال ثم قلنا له سل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال فقال له : يا نبي الله كيف يرفع العلم منا وبين أظهرنا المصاحف ، وقد تعلمنا ما فيها وعلمناها نساءنا وذرارينا وخدمنا؟! قال فرفع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأسه وقد علت وجهه حمرة من الغضب قال فقال : أي ثكلتك أمك ، وهذه اليهود والنصارى بين أظهرهم المصاحف لم يصبحوا يتعلقوا بحرف مما جاءتهم به أنبياؤهم! ألا وإن من ذهاب العلم أن يذهب حملته ، ثلاث مرار!).

ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد ج ١ ص ١٩٩ ، وروى عدة روايات بمعناه.

٢٣٧

ويدل عليه أيضا :

أن الرجل المسلم كان يأتي بالورق الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيأمر النبي الصحابة فينسخوا له القرآن .. فقد روى البيهقي في سننه ج ٦ ص ١٦ :

(... ثنا جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن علي بن الحسين عن ابن عباس قال كانت المصاحف لاتباع ، كان الرجل يأتي بورقه عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقوم الرجل فيحتسب فيكتب ، ثم يقوم آخر فيكتب ، حتى يفرغ من المصحف!).

فقد كان الورق موجودا إذن .. فأين ما تصوره الروايات من انعدام الورق ، وأن وسائل الكتابة كانت على الأحجار الرقاق والعظام والخشب ..

ويدل عليه أيضا :

ما روته مصادرنا عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام وأيدته مصادر إخواننا .. فقد روى الكليني في الكافي ج ٥ ص ١٢١ :

(... عن غالب بن عثمان ، عن روح بن عبد الرحيم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن شراء المصاحف وبيعها فقال : إنما كان يوضع الورق عند المنبر وكان ما بين المنبر والحائط قدر ما تمر الشاة أو رجل منحرف قال : فكان الرجل يأتي ويكتب من ذلك. ثم إنهم اشتروا بعد ذلك. قلت : فما ترى في ذلك؟ قال لي : أشتري أحب إلي من أن أبيعه ، قلت : فما ترى أن أعطي على كتابته أجرا؟ قال : لا بأس ولكن هكذا كانوا يصنعون).

ورواه الشيخ الطوسي في تهذيب الأحكام ج ٦ ص ٣٦٦ :

(... عن عاصم بن حميد عن أبي بصير قال سألت أبا عبد الله عن بيع المصاحف وشرائها فقال : إنما كان يوضع عند القامة والمنبر قال : وكان بين الحائط والمنبر قيد ممر شاة ورجل وهو منحرف ، فكان الرجل يأتي فيكتب البقرة ويجيء آخر فيكتب السورة وكذلك كانوا ، ثم إنهم اشتروا بعد ذلك. فقلت فما ترى في ذلك؟ فقال : أشتريه أحب الى من أن أبيعه).

وروى مسلم في صحيحه أنه كان يوجد مكان في مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يسمى (مكان المصحف) وهو مؤيد لما تقدم عن الإمام الصادق عليه‌السلام .. قال مسلم في ج ٢ ص ٥٩ :

٢٣٨

(... عن يزيد يعني ابن أبي عبيد عن سلمة وهو ابن الأكوع أنه كان يتحرى موضع مكان المصحف يسبح فيه ، وذكر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يتحرى ذلك المكان ، وكان بين المنبر والقبلة قدر ممر الشاة).

ورواه البخاري ، ولكن جعله الأسطوانة ولم يذكر مكان المصحف ، قال في صحيحه ج ١ ص ١٢٧ :

(حدثنا يزيد بن أبي عبيد قال كنت آتي مع سلمة بن الأكوع فيصلي عند الأسطوانة التي عند المصحف ، فقلت يا أبا مسلم أراك تتحرى الصلاة عند هذه الأسطوانة؟ قال فإني رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتحرى الصلاة عندها).

ورواه ابن ماجة في ج ١ ص ٤٥٩ وفيه (أنه كان يأتي الى سبحة الضحى فيعمد الى الأسطوانة دون المصحف ، فيصلي قريبا منها).

وروى أحمد في مسنده في ج ٤ ص ٤٩ رواية البخاري. وروى في ج ٤ ص ٥٤ رواية مسلم. وروى البيهقي في سننه ج ٢ ص ٢٧١ وج ٥ ص ٢٤٧ رواية البخاري.

ويدل عليه أيضا :

ما روي من أن الكتّاب كانوا يرتبون الآيات والسور في مصاحفهم بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .. فقد روى أحمد في مسنده ج ٥ ص ١٨٥

(... عبد الرحمن بن شماسة أخبره أن زيد بن ثابت قال : بينا نحن عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نؤلف القرآن من الرقاع إذ قال طوبى للشام ، قيل ولم ذلك يا رسول الله؟ قال إن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليه).

ورواه الحاكم في المستدرك ج ٢ ص ٢٢٩ ، فقال :

(... عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال كنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نؤلف القرآن من الرقاع إذ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله طوبى للشام ، فقلنا لأي شىء ذاك؟ فقال لأن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليهم. هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، وفيه البيان الواضح أن جمع القرآن لم يكن مرة واحدة ، فقد جمع بعضه بحضرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم جمع بعضه بحضرة أبي بكر الصديق ، والجمع الثالث هو في ترتيب السور كان في خلافه أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنهم أجمعين).

٢٣٩

ورواه في ج ٢ ص ٦١١ بدون الإضافة عن الشام ، قال :

(... عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال كنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نؤلف القرآن من الرقاع. هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، وفيه الدليل الواضح أن القرآن إنما جمع في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم).

ويدل عليه أيضا :

أن الإعجاب بالقرآن كان يجعل الشبان يقبلون على قراءته والتأمل فيه ، وكانت نسخه عندهم .. فقد روى أحمد في مسنده ج ٢ ص ١٧٣ :

(... عن عبد الله بن عمرو أن رجلا أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بابن له فقال : يا رسول الله أن ابني هذا يقرأ المصحف بالنهار ويبيت بالليل! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما تنقم أن ابنك ، يظل ذاكرا ، ويبيت سالما) ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد ج ٢ ص ٢٧٠

ويدل عليه أيضا :

ما ورد من استحباب كتابة المصحف وتوريثه لتكون نسخته صدقة جارية ... قال الهيثمي في مجمع الزوائد ج ١ ص ٦٧ :

(عن أنس قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبعة يجري للعبد أجرهن من بعد موته وهو في قبره : من علم علما أو كرى نهرا أو حفر بئرا أو غرس نخلا أو بني مسجدا أو ورث مصحفا أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته).

ويدل عليه أيضا :

أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى أن يسافر بالقرآن الى أرض العدو ، لأنهم قد يهينونه .. ففي سنن أبي داود ج ١ ص ٥٨٧ :

(باب في المصحف يسافر به الى أرض العدو ... عن نافع ، أن عبد الله بن عمر قال : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يسافر بالقرآن الى أرض العدو ، قال مالك : أراه مخافة أن يناله العدو).

ويدل عليه أيضا :

الحكم الشرعي بعدم جواز مس المصحف لغير المتوضئ ، وقد روته مصادر الشيعة والسنة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كالذي رواه البيهقي في سننه ج ١ ص ٣٠٩ :

٢٤٠