تدوين القرآن

الشيخ علي الكوراني العاملي

تدوين القرآن

المؤلف:

الشيخ علي الكوراني العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: باقري
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٧

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا عمر إن القرآن كله صواب ، ما لم يجعل عذاب مغفرة أو مغفرة عذابا!!).

وروى في ج ٥ ص ٤١ (عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : أتاني جبريل وميكائيل فقال جبريل اقرأ القرآن على حرف واحد ، فقال ميكائيل استزده ، قال اقرأه على سبعة أحرف كلها شاف كاف ، ما لم تختم آية رحمة بعذاب أو آية عذاب برحمة!!).

رواه أيضا في ج ٥ ص ٥١ وأضاف في آخره (... نحو قولك تعال وأقبل وهلم واذهب وأسرع وأعجل).

وروى في ج ٥ ص ١٢٤ (... عن أبي بن كعب قال قرأت آية وقرأ ابن مسعود خلافها فأتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : ألم تقرئني آية كذا وكذا؟ قال بلى. فقال ابن مسعود ألم تقرئنيها كذا وكذا؟ فقال بلى! كلاكما محسن مجمل! قال فقلت له .. فضرب صدري فقال : يا أبي بن كعب إني أقرئت القرآن فقيل لي على حرف أو على حرفين؟ قال فقال الملك الذي معي : على حرفين فقلت على حرفين؟! فقال على حرفين أو ثلاثة. فقال الملك الذي معي على ثلاثة؟ فقلت على ثلاثة حتى بلغ سبعة أحرف ليس منها إلا شاف كاف. إن قلت غفورا رحيما أو قلت سميعا عليما أو عليما سميعا فالله كذلك ، ما لم تختم آية عذاب برحمة أو آية رحمة بعذاب!!).

وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ج ٧ ص ١٥٠ عن رواية أحمد الأولى (رواه أحمد ورجاله ثقات. ثم قال الهيثمي (وعن أبي بكرة أن جبريل عليه والسّلام قال يا محمد اقرأ القرآن على حرف ، قال ميكائيل استزده فاستزدته قال اقرأ على حرفين ، قال ميكائيل استزده فاستزدته قال اقرأ على ثلاثة أحرف ، قال ميكائيل استزده حتى بلغ سبعة أحرف ، قال كل شاف كاف ما لم يختم آية عذاب برحمة أو رحمة بعذاب ، نحو قولك تعال وأقبل وأقبل وهلم واذهب وأسرع واعجل. رواه أحمد والطبراني بنحوه إلا أنه قال واذهب وأدبر ، وفيه علي بن زيد بن جدعان وهو سيّئ الحفظ وقد توبع ، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح) انتهى.

٢٠١

وروى البخاري في التاريخ الكبير ج ١ ص ٣٨٢ (حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا حرب بن ثابت المنقر ، قال حدثني إسحاق الأنصاري عن أبيه عن جده ، وكانت له صحبة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : القرآن كله صواب ، وقال عبد الصمد : حدثنا حرب أبو ثابت سمع إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه عن جده عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مثله)

وقال في أسد الغابة ج ٥ ص ١٥٦ (أبو جارية الأنصاري ، روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : القرآن كله صواب. روى حديثه حرب بن ثابت عن إسحاق بن جارية عن أبيه عن جده ، أخرجه ابن مندة).

وقال السيوطي في الإتقان ج ١ ص ١٦٨ (وعند أحمد من حديث أبي هريرة : أنزل القرآن على سبعة أحرف ، عليما حكيما غفورا رحيما. وعنه أيضا من حديث عمر : أن القرآن كله صواب ، ما لم تجعل مغفرة عذابا أو عذابا مغفرة) أسانيدها جياد) انتهى.

وروى في كنز العمال ج ١ ص ٥٥٠ (القرآن كله صواب ـ خ في تاريخه عن رجل له صحبة).

وفي ص ٦١٨ (أنفر الشيطان أنفر الشيطان أنفر الشيطان. يا عمر القرآن كله صواب ما لم يجعل المغفرة عذابا والعذاب مغفرة ـ البغوي عن إسحاق بن حارثة الأنصاري عن أبيه عن جده).

وفي ص ٦١٩ (يا عمر إن القرآن كله صواب ما لم يجعل عذاب مغفرة ومغفرة عذابا ـ حم وسمويه عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه عن جده)

وفي ج ٢ ص ٥٢ (يا أبي إني أقرئت القرآن على حرف أو حرفين ، فقال الملك الذي معي قل على حرفين ، قلت على حرفين ، فقيل لي على حرفين أو ثلاثة ، فقال الملك الذي معي قل على ثلاثة ، قلت على ثلاثة حتى بلغ سبعة أحرف ، ثم قال ليس منها إلا شاف كاف ، إن قلت سميعا عليما عزيزا حكيما ، ما لم تختم آية عذاب برحمة أو آية رحمة بعذاب ـ د عن أبي).

٢٠٢

وفي ج ٢ ص ٦٠٣ (قرأت آية وقرأ ابن مسعود خلافها ، فأتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : ألم تقرئني كذا وكذا؟ قال : بلى ، فقال ابن مسعود : ألم تقرئني كذا وكذا؟ قال : بلى ، كلاكما محسن مجمل ، فقلت له فضرب في صدري وقال : يا أبي بن كعب إني أقرئت القرآن فقيل لي على حرف أو حرفين ، فقال الملك الذي معي : على حرفين فقلت على حرفين ، قال حرفين أو ثلاثة ، فقال الذي معي : على ثلاثة فقلت على ثلاثة ، حتى بلغ سبعة أحرف ليس منها إلا شاف كاف ، إن قلت غفورا رحيما ، أو قلت سميعا عليما ، أو عليما سميعا فالله كذلك ، ما لم تختم آية عذاب برحمة ، أو آية رحمة بعذاب ـ حم ، وابن منيع ، ن ، ع ، ص) انتهى.

ما ذا تعني هذه الروايات؟

تعني أولا : الفتوى القنبلة المتقدمة وأن نص القرآن مفتوح لقراءة من يريد بالألفاظ التي يريد ، مع شرط واحد خفيف جدا .. وهو أن لا تقلب المعنى من رحمة ومغفرة الى عذاب .. أو من عذاب الى رحمة ومغفرة!!

وتعني ثانيا : أن روايات تعويم نص القرآن بمقاييس إخواننا السنة يجب أن تقبل ، لأنها على الأقل موثقة ، وقد تكون بدرجة صحة روايات البخاري ، الذي هو عندهم أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى!

وتعني ثالثا : أن الخليفة يقول : إذا رأيت أحدا يقرأ القرآن غلطا فلا تغيّر عليه ، فهل أنت أعلم بالقرآن من النبي الذي أنزل عليه؟! فلقد غيرت يوما على شخص قراءته فلم يقبل ، فاحتكمنا عند النبي فصحح قراءته فوجدت في نفسي .. أو كما رووا عن ابن كعب : ما شككت في نبوة النبي منذ الجاهلية مثل ذلك اليوم! فقال لي النبي : لا تشك فنص القرآن هكذا أنزل من عند الله تعالى مفتوحا عائما يصح أن تقرأه بأي لفظ ، بهذا الشرط البسيط!!

وتعني رابعا : أن نظرية تعويم نص القرآن تجعل الانسان يشك في أحاديث السبعة أحرف ، لأن نظرية التعويم إنما هي نتيجة طبيعية لها .. فنظرية الأحرف السبعة هي

٢٠٣

(الأميبا) أو البذور لنظرية التعويم!! ونظرية الأحرف السبعة لو طبقها المسلمون لا سمح الله لأدت الى هدم لبنات القرآن واحدة واحدة ، أما نظرية التعويم هذه فلو طبقت لا سمح الله لأدت الى هدم القرآن سورة سورة ، ثم هدم صرح القرآن كله!!

وأخيرا ، فإن الناظر في سياسة الخليفة عمر تجاه القرآن يجد فيها حقائق غريبة تبعث على الحيرة .. ويتساءل عن هدف الخليفة من ورائها فلا يجد الجواب حتى عند ابن جزي .. فما ذا كان يريد الخليفة عمر؟

فقد تعمد أولا ، تغييب النص القرآني الواحد في عهد أبي بكر وعهده!

وثانيا ، شكل لجنة لجمع القرآن جعل رئاستها لشاب صغير السن أنصاري ويقال أصله يهودي هو زيد بن ثابت ، وأبعد منها كل الذين شهد بأن النبي أمر المسلمين أن يأخذوا القرآن منهم!!

وثالثا ، أعلن أنه ضاع من القرآن أكثره ، وأن اللجنة التي كلفها بجمعه بذلت جهودا كبيرة لجمعه من الناس والمكتوبات بشرط شاهدين عاديين فقط .. الخ!.

ورابعا ، القرآن الذي جمعته اللجنة المحترمة لم يره المسلمون .. بل خبأه الخليفة عند بنته أم المؤمنين حفصة ولم يكن يطلع عليه أحدا .. وربما كان يواصل جمعه وتنقيحه باجتهاده .. ولكن كان نصيبه الإحراق بعد وفاة حفصة!!

وخامسا ، روى الخليفة نظرية الأحرف السبعة ولكن لم يسمح بها للناس ، ولا لقراء القرآن المشهود لهم من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .. ولم يستفد منها أحد إلا هو نفسه!!

وسادسا ، كان الخليفة عمر يتدخل في صغير الأمور التي تتعلق بالقرآن والسنة وكبيرها ، بل في صغير شئون الآخرين وكبيرها حتى واجهته أم سلمة كما روى البخاري ج ٦ ص ٦٩ (فقالت أم سلمة عجبا لك يا ابن الخطاب دخلت في كل شىء حتى تبتغي أن تدخل بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأزواجه!) فلم يكن غائبا عن معاناة المسلمين واختلافهم في قراءة القرآن ، ولا كان من طبيعته التوسعة على الناس وعدم التدخل ..

٢٠٤

وسابعا ، وإن عجبت فاعجب من أن الخليفة عمر أعطى لنفسه الحق في أن يرخص لكل الناس بما لم يرخصه الله تعالى لرسوله الذي هو أعظم عقلية بشرية على الاطلاق ، فقد قال تعالى (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا : ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا ، أَوْ بَدِّلْهُ. قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي ، إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ. إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) ـ يونس ـ ١٥

وثامنا ، روى الخليفة نظرية تعويم نص القرآن .. ولكن الجو العام للمسلمين لم يسمح لأحد بالاستفادة منها والحمد لله .. وذلك بسبب قوة القرآن الذاتية وفرادة نصه المعجز .. فالمسلمون يعرفون أنه كلام رب العالمين وأن النبي نفسه صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يستطيع أن يغير منه حرفا من تلقاء نفسه ، وهم يريدون هذا النص المعجز ولا يسمعون لقول قائل بأنه سبعة أشكال ، أو أنه مفتوح ليتصرف في نصه المتصرفون ويحرفوا كلام الله عن مواضعه ويلوون به ألسنتهم ويقولون هذا عند الله تعالى!

لا يجد الإنسان جوابا لأعمال الخليفة هذه .. ولكنه يجد ظروفا خطيرة حدثت على القرآن بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واستمرت بضع عشرة سنة ، وسببت اختلاف الأمة في نصوصه .. حتى نهض الغيارى على الإسلام ، وكتبوا نسخته على نسخة علي عليه‌السلام كما ستعرف. وتجلّت فاعلية قوله تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ). فالحمد لله الذي جعل الأعمال والنظريات المنافية لحفظ كتابه حبرا على ورق ، وهواء في شبك!!

* * *

٢٠٥
٢٠٦

الفصل السابع

تحريم الخليفة

البحث العلمي حول القرآن

٢٠٧
٢٠٨

تحريم الخليفة البحث العلمي في القرآن

محنة صبيغ التميمي

وثائق القضية

١ ـ روى الدارمي في سننه ج ١ ص ٥٤ (عن سليمان بن يسار أن رجلا يقال له صبيغ قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن فأرسل إليه عمر وقد أعد له عراجين النخل فقال : من أنت؟ قال أنا عبد الله صبيغ ، فأخذ عمر عرجونا من تلك العراجين فضربه وقال : أنا عبد الله عمر ، فجعل له ضربا حتى دمي رأسه ، فقال يا أمير المؤمنين حسبك قد ذهب الذي كنت أجد في رأسي!

٢ ـ ... عن نافع مولى عبد الله أن صبيغ العراقي جعل يسأل عن أشياء من القرآن في أجناد المسلمين حتى قدم مصر ، فبعث به عمرو بن العاص الى عمر بن الخطاب فلما أتاه الرسول بالكتاب فقرأه فقال : أين الرجل؟ فقال في الرحل ، قال عمر أبصر أن يكون ذهب فتصيبك مني به العقوبة الموجعة! فأتاه به فقال عمر تسأل محدثة!! فأرسل عمر الى رطائب من جريد فضربه بها حتى ترك ظهره دبرة ثم تركه حتى برأ ، ثم عاد له! ثم تركه حتى برأ ، فدعا به ليعود له!! قال فقال صبيغ : إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلا جميلا ، وإن كنت تريد أن تداويني فقد والله برئت!! فأذن له الى أرضه وكتب الى أبي موسى الأشعري أن لا يجالسه أحد من المسلمين! فاشتد ذلك على الرجل فكتب أبو موسى الى عمر أن قد حسنت توبته ، فكتب عمر أن يأذن للناس بمجالسته!!).

٢٠٩

٣ ـ ورواه في كنز العمال ج ٢ ص ٣٣١ وقال (الدارمي ، وابن عبد الحكم ، كر) ورواه بروايات أخرى مختلفة ، منها (عن السائب بن يزيد قال : أتى عمر بن الخطاب فقيل : يا أمير المؤمنين إنا لقينا رجلا يسأل عن تأويل مشكل القرآن ، فقال عمر : اللهم أمكني منه ، فبينما عمر ذات يوم جالس يغدي الناس إذ جاء وعليه ثياب وعمامة صفراء ، حتى إذا فرغ قال يا أمير المؤمنين (والذاريات ذروا فالحاملات وقرا) فقال عمر أنت هو ، فقام اليه وحسر عن ذراعيه فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته ، فقال : والذي نفس عمر بيده لو وجدتك محلوقا لضربت رأسك ، ألبسوه ثيابا واحملوه على قتب ، وأخرجوه حتى تقدموا به بلاده ، ثم ليقم خطيب ، ثم يقول : إن صبيغا ابتغى العلم فأخطأه ، فلم يزل وضيعا في قومه حتى هلك ، وكان سيد قومه ـ ابن الأنباري في المصاحف ، ونصر المقدسي في الحجة ، واللالكائي ، كر). ورواه عن سليمان بن يسار كرواية الدارمي الأولى ، وقال (الدارمي ونصر والأصبهاني معا في الحجة وابن الأنباري واللالكائي كر).

٤ ـ عن أبي العديس قال : كنا عند عمر بن الخطاب فأتاه رجل ، فقال يا أمير المؤمنين (ما الجوار الكنس) فطعن عمر بمخصرة معه في عمامة الرجل ، فألقاها عن رأسه ، فقال عمر : أحروري؟ والذي نفس عمر بن الخطاب بيده لو وجدتك محلوقا لأنحيت القمل عن رأسك ـ الحاكم في الكنى).

٥ ـ عن أبي عثمان النهدي عن صبيغ أنه سأل عمر بن الخطاب عن المرسلات والذاريات والنازعات ، فقال له عمر : ألق ما على رأسك فإذا له ضفيرتان ، فقال له : لو وجدتك محلوقا لضربت الذي فيه عيناك ، ثم كتب الى أهل البصرة أن لا تجالسوا صبيغا! قال أبو عثمان : فلو جاء ونحن مائة لتفرقنا عنه ـ نصر المقدسي في الحجة كر).

٦ ـ عن محمد بن سيرين قال : كتب عمر بن الخطاب الى أبي موسى الأشعري أن لا تجالسوا صبيغا ، وأن يحرم عطاءه ورزقه. ابن الأنباري في المصاحف كر).

٧ ـ عن إسحاق بن بشر القريشي قال أخبرنا ابن إسحاق قال جاء رجل الى عمر بن الخطاب فقال يا أمير المؤمنين ما النازعات غرقا ، فقال عمر من أنت؟ قال امرؤ من أهل البصرة من بني تميم ثم أحد بني سعد ، قال من قوم جفاة ، أما إنك لتحملن الى

٢١٠

عاملك ما يسوؤك ، ولهزه حتى فرت قلنسوته ، فإذا هو وافر الشعر ، فقال أما إني لو وجدتك محلوقا ما سألت عنك ، ثم كتب الى أبي موسى ، أما بعد فإن الأصبغ بن عليم التميمي تكلف ما كفي وضيع ما ولي ، فإذا جاءك كتابي هذا فلا تبايعوه ، وإن مرض فلا تعودوه ، وإن مات فلا تشهدوه. ثم التفت الى القوم فقال : إن الله عزوجل خلقكم وهو أعلم بضعفكم فبعث إليكم رسولا من أنفسكم وأنزل عليكم كتابا ، وحد لكم فيه حدودا أمركم أن لا تعتدوها ، وفرض عليكم فرائض أمركم أن تتبعوها ، وحرم حرما نهاكم أن تنتهكوها. وترك أشياء لم يدعها نسيانا ، فلا تكلفوها وإنما تركها رحمة لكم!

قال فكان الاصبغ بن عليم يقول قدمت البصرة فأقمت بها خمسة وعشرين يوما ، وما من غائب أحب الي أن ألقاه من الموت ، ثم إن الله ألهمه التوبة وقذفها في قلبه فأتيت أبا موسى وهو على المنبر ، فسلمت عليه فأعرض عني فقلت أيها المعرض إنه قد قبل التوبة من هو خير منك ومن عمر ، إني أتوب الى الله عزوجل مما أسخط أمير المؤمنين وعامة المسلمين ، فكتب بذلك الى عمر ، فقال صدق ، اقبلوا من أخيكم!!

٨ ـ وروى في كنز العمال ج ٢ ص ٥١٠ (عن سعيد بن المسيب قال : جاء صبيغ التميمي الى عمر بن الخطاب فقال يا أمير المؤمنين : أخبرني عن الذاريات ذروا ، فقال : هي الرياح ولو لا أني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقوله ما قلته ، قال : فأخبرني عن الحاملات وقرا ، قال : هي السحاب ولو لا أني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقوله ما قلته ، قال : فأخبرني عن الجاريات يسرا قال : هي السفن ولو لا أني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقوله ما قلته ، قال فأخبرني عن المقسمات أمرا ، قال : هي الملائكة ولو لا أني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقوله ما قلته. ثم أمر به فضرب مائة وجعل في بيت فلما برأ دعاه فضربه مائة أخرى ، وحمله على قتب ، وكتب الى أبي موسى الأشعري : امنع الناس من مجالسته ، فلم يزالوا كذلك حتى أتى أبا موسى فحلف له بالأيمان المغلظة ما يجد في نفسه مما كان يجد شيئا ، فكتب في ذلك الى عمر ، فكتب عمر ما إخاله إلا قد صدق فخلّ بينه وبين مجالسة الناس ـ البزار قط في الافراد وابن مردويه ـ كر).

٢١١

٩ ـ وفي كنز العمال ج ١١ ص ٢٩٦ (مسند عمر ، عن صبيغ بن عسل قال : جئت عمر بن الخطاب زمان الهدنة وعليّ غديرتان وقلنسوة فقال عمر : إني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : يخرج من المشرق حلقوا الرءوس يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، طوبى لمن قتلوه وطوبى لمن قتلهم! ثم أمر عمر أن لا أدوي ولا أجالس ـ كر).

١٠ ـ وفي الدر المنثور ج ٢ ص ٧ (وأخرج الدارمي في مسنده ونصر المقدسي في الحجة عن سليمان بن يسار أن رجلا يقال له صبيغ قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن ، فأرسل إليه عمر وقد أعدّ له عراجين النخل ... ـ وأخرج الدارمي عن نافع أن صبيغا العراقي ... الخ.

١١ ـ وأخرج ابن عساكر في تاريخه عن أنس أن عمر بن الخطاب جلد صبيغا الكوفي في مسألة عن حرف من القرآن حتى اطردت الدماء في ظهره.

١٢ ـ وأخرج ابن الأنباري في المصاحف ونصر المقدسي في الحجة وابن عساكر ، عن السائب بن يزدان أن رجلا قال قال لعمر إني مررت برجل يسأل عن تفسير مشكل القرآن! فقال عمر : اللهم أمكني منه ، فدخل الرجل يوما على عمر فسأله ، فقام عمر فحسر عن ذراعيه وجعل يجلده ثم قال ألبسوه تبانا واحملوه على قتب وأبلغوا به حيه ، ثم ليقم خطيب فليقل إن صبيغا طلب العلم فأخطأه ، فلم يزل وضيعا في قومه بعد أن كان سيدا فيهم.

١٣ ـ وأخرج نصر المقدسي في الحجة وابن عساكر عن أبي عثمان النهدي أن عمر كتب الى أهل البصرة أن لا يجالسوا صبيغا ، قال فلو جاء ونحن مائة لتفرقنا.

١٤ ـ وأخرج ابن عساكر عن محمد بن سيرين قال : كتب عمر بن الخطاب الى أبي موسى الأشعري أن لا يجالس صبيغا ، وأن يحرمه عطاءه ورزقه.

١٥ ـ وأخرج نصر في الحجة وابن عساكر عن زرعة قال : رأيت صبيغ بن عسل بالبصرة كأنه بعير أجرب يجيء الى الحلقة ويجلس وهم لا يعرفونه ، فتناديهم الحلقة الأخرى عزمة أمير المؤمنين عمر ، فيقومون ويدعونه.

٢١٢

١٦ ـ وأخرج نصر في الحجة عن أبي إسحاق أن عمر كتب الى أبي موسى الأشعري : أما بعد فإن الأصبغ تكلف ما خفي وضيع ما ولي ، فإذا جاءك كتابي هذا فلا تبايعوه ، وإن مرض فلا تعودوه ، وإن مات فلا تشهدوه.

١٧ ـ وأخرج الهروي في ذم الكلام عن الأم للشافعي رضي الله عنه قال : حكمي في أهل الكلام حكم عمر في صبيغ أن يضربوا بالجريد ويحملوا على الإبل ويطاف بهم في العشائر والقبائل ، وينادى عليهم : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة ، وأقبل على علم الكتّاب!!

١٨ ـ وفي الدر المنثور ج ٣ ص ١٦١ (وأخرج مالك وابن أبي شيبة وأبو عبيد وعبد بن حميد وابن جرير والنحاس وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن القاسم بن محمد قال : سمعت رجلا يسأل ابن عباس عن الأنفال فقال الفرس من النفل والسلب من النفل ، فأعاد المسألة فقال ابن عباس ذلك أيضا ، قال الرجل الأنفال التي قال الله في كتابه ما هي؟ فلم يزل يسأله حتى كاد يحرجه ، فقال ابن عباس : هذا مثل صبيغ الذي ضربه عمر ، وفي لفظ فقال : ما أحوجك الى من يضربك كما فعل عمر بصبيغ العراقي ، وكان عمر ضربه حتى سالت الدماء على عقبيه!).

١٩ ـ وفي الدر المنثور ج ٦ ص ١١١ (وأخرج البزار والدارقطني في الإفراد وابن مردويه وابن عساكر عن سعيد بن المسيب قال : جاء صبيغ التميمي الى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال أخبرني عن الذاريات ذروا ... الخ.

٢٠ ـ وأخرج الفريابي عن الحسن قال سأل صبيغ التميمي عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن الذاريات ذروا وعن المرسلات عرفا وعن النازعات غرقا؟ فقال عمر رضي الله عنها : كشف رأسك فإذا له ضفيرتان ، فقال : والله لو وجدتك محلوقا لضربت عنقك! ثم كتب الى أبي موسى الأشعري أن لا يجالسه مسلم ولا يكلمه!).

٢١ ـ وفي إكمال الكمال ج ٥ ص ٢٢١ (وأما صبيغ بالصاد المهملة وغين معجمة فهو صبيغ بن عسل الذي كان يسأل عمر عن غريب القرآن.

٢٢ ـ وفي إكمال الكمال ج ٦ ص ٢٠٦ (وعسل بن عبد الله بن عسل التميمي ، حدث عن عمه صبيغ بن عسال قال : جئت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ـ

٢١٣

وهو الذي كان يتتبع مشكل القرآن فأمر عمر رضي الله تعالى عنه أن لا يجالس ، وقال يحيى بن معين : هو صبيغ ابن شريك من بني عمرو بن يربوع ، روى خالد بن نزار عن عمر بن قيس عن عسل. وقال في هامشه : في الأصل (كتب ، وفي الإصابة) روى الخطيب من طريق عسل بن عبد الله بن عسيل (كذا) التميمي عن عطاء بن أبي رباح عن عمه صبيغ بن عسل قال جئت عمر فذكر قصة ثم قال : الضمير في قوله عن عمه يعود على عسل. وربيعة بن عسل أحد بني عمرو بن يربوع بن حنظلة ـ ذكره ابن الكلبي في جمهرة بني تميم. وأما عسل بفتح العين والسين فهو عسل بن ذكوان ، أخباري) انتهى. والأخباري في ذلك الوقت هو المؤرخ في عصرنا.

٢٣ ـ وفي معجم البلدان ج ٤ ص ١٢٤ (عسل : بكسر أوله ، وسكون ثانيه ، وآخره لام ، يقال : رجل عسل مال كقولك ذو مال ، وهذا عسل هذا وعسنه أي مثله ، وقصر عسل : بالبصرة بقرب خطة بني ضبة ، وعسل : هو رجل من بني تميم من ولده صبيغ بن عسل الذي كان يتتبع مشكلات القرآن فضربه عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، وأمر أن لا يجالس).

الصيغة القضائية لقضية صبيغ

المتهم : صبيغ التميمي رئيس عشيرة صغيرة من مراد من تميم تسكن في البصرة ، وكان يقرأ ويكتب وعنده بعض الكتب ، أي كان متعلما أو مثقفا ، وكان جده أو أبوه مؤرخا.

التهمة : ثبت عند الخليفة أن المتهم سأل عن أمور محدثة ، يعني أسئلة دينية جديدة لم يسأل أحد عنها سابقا ، كما في الوثيقة رقم ٢ ، أو عن متشابه القرآن أو مشكل القرآن أو غريب القرآن ، كما في الوثيقة رقم ١ و ٣ و ١٢ و ٢٢ و ٢٣ أو عن حرف من القرآن كما في الوثيقة رقم ١١ أو عن معنى الذاريات كما في الوثيقة رقم ٣ و ٥ و ٨ و ١٩ أو عن معنى النازعات كما في الوثيقة رقم ٥ و ٧ و ٢٠ أو عن معنى الجواري الكنس كما في الوثيقة رقم ٤ .. وقد ذكرت المصادر أنه طرح هذه الأسئلة على بعض الناس عند ما كان مجندا في مصر كما في الوثيقة رقم ٢ وأنه جاء الى عاصمة الخلافة

٢١٤

ليسأل الخليفة عن ذلك كما في الوثيقة رقم ١ و ٧ و ٨ و ٩ و ١٩ و ٢٢ ، ولم تذكر أنه طرح أي أفكار مخالفة للعقيدة أو أنه أثر على أحد من الناس.

الحكم : حيث أن المتهم سأل عن أمور محدثة سكت عنها القرآن ، كما في الوثيقة رقم ٢ ، وقد ثبت ذلك عليه جهارا نهارا في محضر الخليفة وتحت سمعه وبصره! وحيث أنه بذلك اعتدى على الخليفة وعلى حدود الله تعالى ، وتكلف البحث فيما تركه الله وما خفي من أمور الدين!

وحيث أنه بذلك ضيع ما ولي وما وجب عليه من أداء واجباته الدينية كما في الوثيقة رقم ٣ و ٧ و ١٢ و ١٦!

لذلك حكم عليه الخليفة بما هو آت :

أولا : القبض على المتهم صبيغ التميمي بكل وسيلة وإحضاره الى العاصمة ، وإن هرب من يد الرسول الذي أحضره فعليه العقوبة لتقصيره في تسليمه ، كما في الوثيقة رقم ٢.

ثانيا : تعد له حزمة من عراجين النخل الرطبة قبل حضوره كما في الوثيقة رقم ١ و ٢ و ١٠ و ١٢ ، فيضرب بها على رأسه المكشوف وبدنه حتى يسيل الدم على رأسه كما في الوثيقة رقم ١ وحتى يجري دمه على ظهره كما في الوثيقة رقم ٢ و ١١ ويسيل على عقبيه كما في الوثيقة رقم ١٨ وحتى يصير ظهره مثخنا بجراح العراجين كما في الوثيقة رقم ٢ ، ثم يرسل الى السجن حتى تبرأ جراحه ، ثم يعاد ضربه بنفس الطريقة مرة ثانية ، ثم يرسل الى السجن حتى تبرأ جراحه ، ثم يعاد ضربه بنفس الطريقة مرة ثالثة كما في الوثيقة رقم ٢ و ٨ ..

ثالثا : وحيث أن المتهم قد يسبب بعمله أن يفتح في الإسلام باب الأسئلة المحرمة ، ولكي تكون العقوبة رادعة لأمثاله من المجرمين .. فقد أصدر الخليفة عليه حكمه بأن يلبس تبانا (لباس مثل الكيس) ويحمل على جمل الى عشيرته ويطاف به فيها وفي القبائل الأخرى ويشهر به وينادى عليه كما في الوثيقة رقم ٣ و ١٢ ثم يقوم خطيب ويقول إن صبيغا ابتغى العلم فأخطأه كما في الوثيقة رقم ٣ و ١٢ وتكلف ما كفي وما خفي رقم ٧ و ١٦ وأن يحرم رزقه وعطاءه من بيت المال كما في الوثيقة رقم ٦ و ١٤

٢١٥

وأن لا يجالسه أحد ، كما في أكثر الوثائق ، وأن لا يبايعه ، أحد وإن مرض فلا يعوده أحد وإن مات فلا يشهد أحد جنازته ، كما في الوثيقة رقم ١٦ وغيرها.

رابعا : أما إذا تاب صبيغ وأناب ، فينتظر به سنة كما ذكر الفقهاء المدافعون عن الخليفة ، حتى يطمأن بأن توبته صادقة وأنه ترك الأسئلة المحرمة ، فإن ثبت للخليفة حسن توبته ، يطلب من المسلمين الذين أساء اليهم المجرم صبيغ بأسئلته ، أن يعفوا عنه ويقبلوا من أخيهم توبته كما في الوثيقة رقم ٧!!

تحليل قضية صبيغ

إن قصة صبيغ التميمي تثير التعجب والتساؤل عن ذنب الرجل؟ وهل السؤال عن معنى آيات القرآن حرام؟ وإذا كان حراما ، فهل جزاؤه الشرعي هذا الجزاء القاسي؟! أم أن في الأمر شيئا آخر؟

حاولت أن أجد في حيثيات الحكم الذي أصدره الخليفة ما يبرره .. فلم أجد! وبحثت عن وجود تهمة غير السؤال على صبيغ ، فقد يكون زنديقا ، أو جاسوسا ، أو مبتدعا في الدين له شخص واحد يتبعه .. فما وجدت إلا أنه كان يتساءل عن مشكلات القرآن ، حتى أتى الى الخليفة يسأله!!

ظاهر المسألة أنها دينية صرفة وأن صبيغا من أهل البحث والجدل ، فأراد الخليفة أن يسد باب البحث والجدل ويحذر المسلمين من ذلك ، فقد كان يتبنى خط تحريم البحث في معاني القرآن وموضوعاته ، وحتى في تفسير ألفاظه ومفرداته ، كما نرى في روايات أخرى!

وحسب الأصول القضائية والشرعية لا بد أن نبقى متمسكين بدلالة ظاهر النص حتى نجد قرائن توجب الاطمئنان بخلافه. وقد فهم الإمام الشافعي قضية صبيغ على ظاهرها هذا كما رأيت في الوثيقة رقم ١٧ ، وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء ج ١٠ ص ٢٩ :

(الزعفراني وغيره : سمعنا الشافعي يقول : حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد ، ويحملوا على الابل ، ويطاف بهم في العشائر ، ينادى عليهم : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة ، وأقبل على الكلام.

٢١٦

وقال أبو عبد الرحمن الأشعري صاحب الشافعي : قال الشافعي : مذهبي في أهل الكلام تقنيع رءوسهم بالسياط ، وتشريدهم في البلاد. قلت : لعل هذا متواتر عن الإمام) انتهى.

ولكن كيف يحكم الشافعي على صبيغ بأنه ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام؟! فأسئلته لا تدل على ذلك؟ وحيثيات حكم الخليفة لا تتضمن شيئا من ذلك؟! على أن الشافعي دافع عن ضرب الخليفة لصبيغ فقط ، لكن تبقى فتوى الخليفة بقتله لو كان حلق رأسه ، وفتواه بعدم قبول توبته إلا بعد سنة .. وستعرف أن الشافعي خالف فيهما الخليفة ، فلا يجوز قتال الخوارج عنده ما لم يشهروا السلاح ضد الدولة ، كما أن التوبة تقبل عنده رأسا!

محاولة جعل صبيغ من الخوارج

حاول محبو الخليفة في بعض مصادر الفقه والتراجم أن يتهموا صبيغا بأنه كان خارجيا ، ولكن الخوارج بدأ وجودهم في زمن الإمام علي عليه‌السلام بعد زمان الخليفة عمر وعثمان ، فكيف يكون صبيغ خارجيا قبل الخوارج؟! وحتى لو كان للخوارج وجود فكري في ذلك الوقت فهو بدايات أفكار ومفاهيم تكونت لديهم بحكم أنهم قراء للقرآن لم تزد عن كونها أسئلة ، ولنفرض أن أسئلة صبيغ منها ، وأن أسئلة الوفد المصري منها .. فهل يستحقون هذه العقوبة .. وهل معالجة ظاهرتهم تكون بما فعله الخليفة؟!

قال ابن حجر في لسان الميزان ج ٣ ص ٤٣٩ (قال أبو سعيد بن يونس في تاريخ مصر : عبد الرحمن بن ملجم المرادي أحد بني مدرك ، أي حي من مراد ، شهد فتح مصر واختط بها ـ بني بها دارا ـ يقال إن عمرو بن العاص أمره بالنزول بالقرب منه لأنه كان من قراء القرآن وكان فارس قومه المعدود فيهم بمصر ، وكان قرأ على معاذ بن جبل وكان من العبّاد. ويقال إنه كان أرسل صبيغ بن عسل الى عمر يسأل عن مشكل القرآن. وقيل إن عمر كتب الى عمرو أن قرب دار عبد الرحمن بن ملجم من

٢١٧

المسجد ليعلم الناس القرآن والفقه ، فوسع له فكان داره الى جنب دار ابن عديس. وهو الذي قتل علي بن ابي طالب رضي الله عنه).

وقال السمعاني في الأنساب ج ١ ص ٤٥١ (التدؤلي : بفتح التاء المنقوطة باثنتين من فوقها وسكون الدال المهملة وهمزة الواو المضمومة في آخرها اللام ، هذه النسبة الى تدؤل وهو بطن من مراد من جملتهم عبد الرحمن بن ملجم المرادي التدؤلي أحد بني تدؤل شهد فتح مصر واختط بها وخطته بالراية مع الأشراف ، وله خطة أيضا مع قومه بمراد ، وله مسجد هنالك معروف ، يقال إن عمرو بن العاص أمره بالنزول بالقرب منه لأنه كان من قراء القرآن وأهل الفقه ، وكان فارس تدؤل المعدود فيهم بمصر وكان قرأ القرآن على معاذ بن جبل ، وكان من العباد ، ويقال هو الذي كان أرسل صبيغ بن عسل التميمي الى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فسأله عما سأله من معجم القرآن ، وقيل إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب الى عمرو بن العاص أن قرب دار عبد الرحمن بن ملجم من المسجد ليعلم الناس القرآن والفقه فوسع له مكان داره التي في الراية في الزيارتين الى جانب دار ابن عديس البلوي قاتل عثمان رضي الله عنه ، وعبد الرحمن بن ملجم هو الذي قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وقتل ابن ملجم لعنه الله بالكوفة سنة أربعين وكان من شيعة علي رضي الله عنه ، وخرج إليه الى الكوفة ليبايعه ويكون معه وشهد صفين معه ، وروي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه دعا الناس الى البيعة فجاء ابن ملجم فرده ، ثم جاء فرده ، ثم جاء فبايعه ، ثم قال علي رضي الله عنه : ما يحبس أشقاها؟ ما يحبس أشقاها؟ أما والذي نفسي بيده لتخضبن هذه وأخذ بلحيته من هذا وأخذ برأسه ثم تمثل :

أشدد حيازيمك للموت فإن الموت آتيكا

ولا تجزع من الموت إذا حل بواديكا) انتهى.

وهذان الخبران لا يفيدان تهمة لصبيغ ولا يثبتان غرضا سياسيا لأسئلته حتى لو كان قاصدا من مصر لطرحها على الخليفة. بل لو كان أرسله عبد الرحمن بن ملجم لكان احترمه الخليفة وما هجم عليه هذه الهجمة المنكرة ، لأن ابن ملجم يومذاك كان مقربا عند الخليفة وقد أمر عمرو بن العاص أن يجعله معلما ومفقها للمسلمين في مصر ..

٢١٨

ولعل هذا السبب في أن السمعاني روى دعوى إرسال ابن ملجم لصبيغ بلفظ (قيل) وكذلك ابن حجر.

ثم لو كان صبيغ خارجيا لانضم إليهم عند ما ظهروا ، ولما روى عن الخليفة ذم الخوارج ووجوب قتلهم كما في الوثيقة رقم ١٠.

ومع ذلك فهناك مؤشرات تفتح باب الاحتمال لأن تكون قضية صبيغ شخصية أو سياسية. فبعض روايات الحادثة تذكر أن الخليفة عرف صبيغا من سؤاله عن الذاريات كما في الوثيقة رقم ٣ (حتى إذا فرغ قال يا أمير المؤمنين والذاريات ذروا فالحاملات وقرا فقال عمر أنت هو ، فقام إليه وحسر عن ذراعيه فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته ، فقال : والذي نفس عمر بيده لو وجدتك محلوقا لضربت رأسك ، ألبسوه ثيابا (تبانا) واحملوه على قتب ...) وأنه كان أعد له العراجين أي عروق سعف النخل مسبقا كما في الوثيقة ١ و ١١ ، فقد يكون صبيغ جاء الى المدينة سابقا وسأل الخليفة عن الذاريات فلم يعرف الخليفة جوابها ، فذهب الى مصر يشهر بالخليفة بأنه لا يفهم القرآن ، فكتب له ابن العاص بالخبر وأن جماعة من قراء القرآن في مصر يغتابون الخليفة ويتهمونه بأنه لا يعرف تفسير القرآن ، ولا يطبق كثيرا من آياته! فأمر ابن العاص أن يحضره وعرفه من سؤاله ..

ويؤيد هذا الاحتمال ما رواه السيوطي في الدر المنثور ج ٢ ص ١٤٥ والهندي في كنز العمال ج ٢ ص ٣٣٠ (عن الحسن أن ناسا لقوا عبد الله بن عمرو بمصر ، فقالوا نرى أشياء من كتاب الله أمر أن يعمل بها لا يعمل بها ، فأردنا أن نلقى أمير المؤمنين في ذلك فقدم وقدموا معه فلقي عمر ، فقال : يا أمير المؤمنين أن ناسا لقوني بمصر ، فقالوا إنا نرى أشياء من كتاب الله أمر أن يعمل بها لا يعمل بها ، فأحبوا أن يلقوك في ذلك ، فقال أجمعهم لي فجمعهم له ، فأخذ أدناهم رجلا فقال : أنشدك بالله وبحق الإسلام عليك أقرأت القرآن كله؟ فقال : نعم : قال فهل أحصيته في نفسك؟ قال لا ، قال فهل أحصيته في بصرك؟ قال لا ، قال فهل أحصيته في لفظك؟ هل أحصيته في أثرك؟ ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم ، قال : ثكلت عمر أمه ، أتكلفونه أن يقيم الناس على كتاب الله؟ قد علم ربنا أنه سيكون لنا سيئات وتلا إن تجتنبوا كبائر ما تنهون

٢١٩

عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما) هل علم أهل المدينة فيم قدمتم؟ قالوا لا. قال لو علموا لوعظت بكم!! ـ ابن جرير).

وقال في هامشه : لوعظت بكم أي خفقهم بالدرة أو غيرها حيث أن سؤالهم يترتب عليه بعض الشبهات في العقيدة الايمانية) انتهى.

فهذه القصة تشبه قصة صبيغ في أن هؤلاء المصريين جاءوا من مصر ليسألوا الخليفة عن آيات من القرآن فيها أوامر إلهية لا يرون تطبيقها في دولة الخليفة .. فكانت أسئلتهم إدارية سياسية ، وقد أجابهم الخليفة بأن القرآن بحر لا يمكن إحصاؤه كله في الحفظ أو الفهم أو النظر الى صفحات كتابه في آن واحد! فكيف يمكن لخليفة مثلي تطبيقه كله! فارضوا بما ترون من تطبيقي وتطبيق عمالي منه ولا تثيروا علينا المشاكل ، ولا تذكروا إشكالاتكم هذه أمام أحد ، وإلا فالدرة وعراجين النخل حاضرة!

فقد أمر الخليفة بإغلاق باب البحث والسؤال عن تطبيق الدولة للقرآن تحت تهديد العقوبة .. وقول المعلق على كتاب كنز العمال إن أسئلة المصريين تستحق الضرب لأنها يترتب عليها بعض الشبهات في العقيدة الايمانية ، قول لا دليل عليه إلا التبرع بالدفاع عن عمر!

على أي حال ، من المحتمل أن يكون صبيغا التميمي من نوع هؤلاء المصريين ، ولكن لو صح هذا الاحتمال فهل يستحق تلك العقوبة؟ ألم يكن تهديد الخليفة كافيا له كزملائه؟! أم أن ذنب صبيغ أنه ليس مصريا ، ولو كان مصريا لنجا بجلده؟!

ومن المحتمل أيضا أن السؤال عن الذاريات كانت له قصة في ذلك الوقت وكان مرتبطا بأسئلة أخرى ، قال الصديق المغربي في كتابه فتح الملك العلي ص ٧٥ (قال الحاكم في المستدرك ... ثنا أبو الطفيل قال : رأيت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قام على المنبر فقال : سلوني قبل أن تفقدوني ولن تسألوا بعدي مثلي ، قال فقام ابن الكواء فقال : يا أمير المؤمنين ما الذاريات ذروا؟ قال : الرياح ، قال : فما الحاملات؟ وقرا ، قال : السحاب ، قال : فما الجاريات يسرا؟ قال : السفن ، قال : فما المقسمات أمرا؟ قال : الملائكة ، قال : فمن الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم؟ قال : منافقوا قريش ، صححه الحاكم) انتهى.

٢٢٠