الشيخ علي الكوراني العاملي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: باقري
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٧
وهو اعتراف من ابن حبان بأن جميع هذه الأقوال لا تزيد عن كونها احتمالات استنسابية غير مقنعة!
ثم نقل السيوطي تصريحا مشابها لأحد علمائهم فقال (وقال المرسي : هذه الوجوه أكثرها متداخلة ، ولا أدري مستندها ، ولا عمن نقلت ، ولا أدري لم خص كل واحد منهم هذه الأحرف السبعة بما ذكر ، مع أن كلها موجودة في القرآن فلا أدري معنى التخصيص! وفيها أشياء لا أفهم معناها على الحقيقة ، وأكثرها يعارضه حديث عمر مع هشام بن حكيم الذي في الصحيح ، فإنهما لم يختلفا في تفسيره ولا أحكامه ، إنما اختلفا في قراءة حروفه. وقد ظن كثير من العوام أن المراد بها القراءات السبع ، وهو جهل قبيح) انتهى.
هذه نماذج من أقوال هؤلاء العلماء الكبار ، وهي كافية للتدليل على أن النظرية برأيهم غير قابلة للفهم والتعقل .. فهل يجوز نسبتها والحال هذه الى الله تعالى ، وإلى رسوله صلىاللهعليهوآله؟!
سبب وضع الخليفة عمر لهذه النظرية؟
السبب ببساطة أن النبي صلىاللهعليهوآله كان في حياته يقرأ نص القرآن ويصححه لمن يقرؤه ، فكان مصدر نص القرآن واحدا مضبوطا.
أما بعد وفاته صلىاللهعليهوآله وأحداث السقيفة وبيعة أبي بكر ، فقد جاءهم علي عليهالسلام بنسخة القرآن بخط يده حسب أمر النبي صلىاللهعليهوآله ، فرفضوا اعتمادها لأنه كان فيها تفسير كل الآيات أو كثير منها لمصلحة علي برأيهم ، فأخذها علي وقال لهم إن النبي صلىاللهعليهوآله أمرني أن أعرضها عليكم فإن قبلتموها فهو ، وإلا فإني أحفظها وأقرأ النسخة التي تعتمدونها ، حتى لا يكون له في أيدي الناس نسختان للقرآن!
روى الكليني في الكافي ج ٢ ص ٦٣٣ :
(عن عبد الرحمن بن أبي هاشم ، عن سالم بن سلمة قال : قرأ رجل على أبي عبد الله عليهالسلام وأنا أستمع حروفا من القرآن ليس على ما يقرؤها الناس ، فقال
أبو عبد الله عليهالسلام : كف عن هذه القراءة اقرأ كما يقرأ الناس حتى يقوم القائم فإذا قام القائم عليهالسلام قرأ كتاب الله عزوجل على حده وأخرج المصحف الذي كتبه علي عليهالسلام وقال : أخرجه علي عليهالسلام الى الناس حين فرغ منه وكتبه فقال لهم : هذا كتاب الله عزوجل كما أنزله الله على محمد صلىاللهعليهوآله وقد جمعته من اللوحين فقالوا : هو ذا عندنا مصحف جامع فيه القرآن لا حاجة لنا فيه ، فقال أما والله ما ترونه بعد يومكم هذا أبدا ، إنما كان علي أن أخبركم حين جمعته لتقرؤوه!) وسوف نتعرض في جمع القرآن الى ما يؤيده من مصادر إخواننا.
من ذلك اليوم .. ولدت أرضية التفاوت في النص القرآني ، وأخذ الخليفة والناس يقرءون ولا مصحح لهم ، ولا مرجع يرجعون إليه في نص القرآن!!
وما لبث أن انتشر التفاوت في قراءاتهم ، ثم تحول التفاوت الى اختلاف بين القراء في هذه الكلمة وتلك ، وهذه الآية وتلك .. فهذا يقرأ في صلاته أو يعلم المسلمين على نحو ، وذاك على نحو آخر .. وهذا يؤكد صحة قراءته وخطأ القراءة المخالفة ، وذاك بعكسه .. وهذا يتعصب لهذه القراءة وقارئها ، وهذا لذاك .. الى آخر المشكلة الكبيرة التي تهم كيان الدولة الإسلامية وتمس قرآنها المنزل!!
هنا كان لا بد أن يتدخل الخليفة عمر لحل المشكلة ، وكان الأحرى به أن يختار نسخة من القرآن ويعتمدها ، وقد كانت موجودة عند عدد من الصحابة غير علي .. ومنهم من روى عمر نفسه أن النبي أمر بأخذ القرآن منهم .. أو يجمع نسخة ويعتمدها ، ويحل المشكلة من أساسها كما فعل عثمان .. ولكن عمر لم يرد اعتماد نسخة معينة ، بل اختار حل المشكلة بالتسامح في نص القرآن ، والفتوى بصحة جميع القراءات المختلف عليها ، واستند بذلك الى حديث ادعاه على النبي صلىاللهعليهوآله ولم يدعه غيره ، بأن في القرآن سعة ، وأنه نزل على سبعة أحرف!!
فالنظرية إذن ولدت على يد الخليفة عمر عند ما واجه مشكلة! وحيث لم يعالجها بنسخة علي ، أو عثمان أو زيد أو عمرو .. بل روى عن النبي حديث الأحرف السبعة لكي يثبت مشروعية التسامح في قراءة النص القرآني .. ولكنه بذلك سكن المشكلة
تسكينا آنيا .. وحير علماء الأمة أربعة عشر قرنا في تصور معنى معقول لهذا الحديث أو هذه النظرية!
إن ابن جزي الذي اعترف بتحيره وبحثه أكثر من ثلاثين سنة عن معنى مفهوم لنظرية الخليفة .. ما هو إلا نموذج لحيرة خيرة أئمتهم وعلمائهم الذين عملوا المستحيل حتى يجدوا وجها معقولا لنظرية الأحرف السبعة ، وما ازدادوا إلا حيرة وتخبطا .. فكلما خرجوا من مطب وقعوا في آخر أكبر منه .. وليس ذلك بسبب ضعفهم العلمي ، ولكن بسبب أنهم تبنوا نظرية عصمة الخليفة عمر ، فصاروا مجبورين أن يبحثوا عن وجه معقول لمقولة الأحرف السبعة التي قالها الخليفة ورواها عنه البخاري .. حتى لو كان البحث عن ذلك عقيما .. وطال الى يوم القيامة!!
لقد حاول بعض عقلائهم أن يجد مخرجا سليما لهذه الورطة ويقنعهم بأن حديث (نزل القرآن على سبعة أحرف) يقصد معاني القرآن لا ألفاظه ، فالقرآن كون مثل هذا الكون ، ونظامه سباعي كالسماوات السبع .. ولكنهم ردوه بأن الأحاديث تصرح بأن الخليفة عمر قال إن المقصود بالأحرف السبعة الألفاظ لا المعاني .. وهكذا أقفلوا الباب على أنفسهم .. وعادوا في الورطة!!
وستعرف أن رأي أهل البيت عليهمالسلام أن القرآن نزل من عند الواحد على حرف واحد ، وأن حديث نزوله على سبعة أحرف قصد به النبي صلىاللهعليهوآله معاني القرآن .. ولكن الخليفة أصر على توظيفه لحل مشكلة الألفاظ وتفاوت القراءات!
قال السيوطي في الإتقان في علوم القرآن ج ١ ص ١٦٨ (قال الطحاوي : وإنما كان ذلك رخصة (أي القراءة بسبعة أحرف) لما كان يتعسر على كثير منهم التلاوة بلفظ واحد لعدم علمهم بالكتابة والضبط وإتقان الحفظ ، ثم نسخ بزوال العذر وتيسر الكتابة والحفظ. وكذا قال ابن عبد البر والباقلاني وآخرون. وفي فضائل أبي عبيد من طريق عون بن عبد الله أن ابن مسعود أقرأ رجلا (إن شجرة الزقوم ، طعام الأثيم) فقال الرجل : طعام اليتيم ، فردها فلم يستقم بها لسانه ، فقال أتستطيع أن تقول طعام الفاجر؟ قال نعم ، قال فافعل) انتهى.
وقد روى قصة طعام اليتيم في الدر المنثور ج ٦ ص ٣٣ عن ابن مردويه عن أبي بن كعب ، وعن أبي عبيد في فضائله وابن الأنباري وابن المنذر عن ابن مسعود. وعن سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن همام بن الحارث عن أبي الدرداء) انتهى.
لكن ما هو دليل الباقلاني وابن عبد البر والطحاوي على أن السبعة أحرف كانت فقط لظرف خاص ثم نسخت؟! فإن كانت حديثا نبويا صحيحا كما زعموا .. وتوسعة من الله ورسوله على المسلمين في النص القرآني .. فما هو الحديث الذي نسخها؟!
وإن كانت استنسابا عمريا فما هو المجوز للخليفة أن يفتي بالتوسع في نص كتاب الله تعالى بسبعة أشكال أو أكثر .. ثم يفتي هو أو غيره بالتضييق ووجوب القراءة بنص واحد؟!
ثم إن مقولة الباقلاني وجماعته بتيسر الكتابة في زمن عثمان وعدم تيسرها في عهد أبي بكر وعمر ، إلقاء للكلام على عواهنه من أجل تصحيح عمل الخليفة .. فأين مقولتهم بأن الخليفة أول من مدن الدولة ودون الدواوين ..؟ فقد كانت الكتابة ميسرة في عهد النبي صلىاللهعليهوآله بل وقبله ، خاصة في المدن .. كما سيأتي ذلك في قصة جمع القرآن.
كلا .. ليست المسألة صعوبة الكتابة في عهد الخليفة عمر .. بل المسألة أن الخليفة لا يريد أن يلتزم بنسخة محددة من القرآن ، ويريد إبقاء المجال مفتوحا في جمع القرآن وقراءته ..
لقد رخص عمر بقراءة القرآن الى سبعة أنواع وأكثر! ثم نسخ الخليفة عثمان هذه الرخصة وأوجب أن يقرأ القرآن بالحرف الذي كتب عليه مصحفه .. ونحن نقبل من الطحاوي وزملائه القول بالحرف الواحد الموحد الذي عممه الخليفة عثمان على البلاد الإسلامية ، وذلك لأن عليا عليهالسلام أقر هذا العمل ، ولأن الأدلة تشير أنه نسخ عن مصحف علي عليهالسلام. ولكن نسألهم : أين صار حديث نزول القرآن على سبعة أحرف والذي قلتم إنه كلام النبي صلىاللهعليهوآله ، وقلتم إنه صحيح ومتواتر ..؟!
صار معناه أن القرآن نزل من عند الله تعالى على سبعة أحرف ، لكن الذي يجب أن يقرأ منها في زمن النبي صلىاللهعليهوآله حرف واحد كما يقرؤه النبي فقط ، ثم يصير في زمن أبي بكر وعمر سبعة أحرف ، ثم يرجع في زمن عثمان الى حرف واحد!! فتكون فائدة هذا النص في مدة حكم أبي بكر وعمر فقط ، ويكون مفصلا لمعالجة مشكلة اضطراب القراءة في هذه الفترة كما ذكرنا!
فهل يمكن لباحث أن يغمض عينيه ويقبل حديثا نسب الى النبي صلىاللهعليهوآله وليس له دور في الحياة الى يوم القيامة إلا أداء وظيفة خاصة من وجهة نظر خليفة معين؟!
ولكن حتى هذه الوظيفة التي أرادها عمر من حديث السبعة أحرف .. لم يستطع النهوض بها! بدليل أن المشكلة بقيت وتفاقمت وصارت تنذر بالخطر في زمن عثمان فبادر الى حلها بما كان يجب أن يحلها به عمر!! بل تدل الروايات الصحيحة على أن الخليفة عمر لم يسمح لأحد أن يستفيد من الأحرف السبعة إلا هو!
أحاديث نظرية التوسع في نص القرآن
ننقل روايات السبعة أحرف من رواية النسائي أولا ، لأنه جمعها في مكان واحد ، بينما وزعها البخاري في بضعة أمكنة من أجزاء كتابه .. قال النسائي في صحيحه ج ٢ ص ١٥٠ :
(عن ابن مخرمة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان فقرأ فيها حروفا لم يكن نبى الله صلىاللهعليهوسلم أقرأنيها! قلت من أقرأك هذه السورة؟! قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم. قلت كذبت ، ما هكذا أقرأك رسول الله صلىاللهعليهوسلم! فأخذت بيده أقوده الى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وقلت : يا رسول الله إنك أقرأتني سورة الفرقان وإني سمعت هذا يقرأ فيها حروفا لم تكن أقرأتنيها! فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : اقرأ يا هشام فقرأ كما كان يقرأ ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم هكذا
أنزلت! ثم قال اقرأ يا عمر فقرأت ، فقال : هكذا أنزلت!! ثم قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : إن القرآن أنزل على سبعة أحرف!).
ثم رواه بروايتين أخريين وفيهما (فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : هكذا أنزلت. ثم قال لي اقرأ فقرأت فقال : هكذا أنزلت ، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه!).
ثم روى ثلاث روايات عن أبي بن كعب ، قال (... عن أبي بن كعب أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان عند أضاة بني غفار فأتاه جبريل عليهالسلام فقال : إن الله عزوجل يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف ، قال : أسأل الله معافاته ومغفرته ، وإن أمتي لا تطيق ذلك! ثم أتاه الثانية فقال إن الله عزوجل يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرفين ، قال : أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك! ثم جاءه الثالثة فقال إن الله عزوجل يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف فقال : أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتى لا تطيق ذلك! ثم جاءه الرابعة فقال إن الله عزوجل يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف ، فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا!!
... عن أبي بن كعب قال أقرأني رسول الله صلىاللهعليهوسلم سورة فبينا أنا في المسجد جالس إذ سمعت رجلا يقرؤها يخالف قراءتي فقلت له من علمك هذه السورة؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقلت لا تفارقني حتى نأتي رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأتيته فقلت يا رسول الله إن هذا خالف قراءتي في السورة التي علمتني! فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : اقرأ يا أبي فقرأتها فقال لي رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أحسنت. ثم قال للرجل : اقرأ فقرأ فخالف قراءتي فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أحسنت. ثم قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : يا أبي إنه أنزل القرآن على سبعة أحرف كلهن شاف كاف!!
... عن أبي قال ما حاك في صدري منذ أسلمت إلا أني قرأت آية وقرأها آخر غير قراءتي فقلت أقرأنيها رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وقال الآخر أقرأنيها رسول الله صلىاللهعليهوسلم! فأتيت النبي صلىاللهعليهوسلم فقلت يا نبي الله أقرأتني آية
كذا وكذا ، قال نعم. وقال الآخر ألم تقرئني آية كذا وكذا؟ قال نعم ، إن جبريل وميكائيل عليهماالسلام أتياني فقعد جبريل عن يميني وميكائيل عن يساري فقال جبريل عليهالسلام : اقرأ القرآن على حرف ، قال ميكائيل استزده استزده حتى بلغ سبعة أحرف ، فكل حرف شاف كاف!) انتهى.
وقد روى البخاري في صحيحه ج ٦ ص ١٠٠ رواية عمر مع هشام تحت عنوان (باب أنزل القرآن على سبعة أحرف) ورواها أيضا في ج ٦ ص ١١٠ وفي ج ٣ ص ٩٠ وفي ج ٨ ص ٢١٥ ورواها مسلم في ج ٢ ص ٢٠١ بروايتين وأبو داود في سننه ج ١ ص ٣٣١ والترمذي في سننه ج ٤ ص ٢٦٣ والبيهقي في سننه ج ٢ ص ٣٨٣ وأحمد في مسنده ج ١ ص ٢٤ وص ٣٩ وص ٤٥ وص ٢٦٤
وقال السيوطي في الإتقان في علوم القرآن ج ١ ص ١٦٣ (المسألة الثالثة : في الأحرف السبعة التي نزل القرآن عليها. قلت : ورد حديث (نزل القرآن على سبعة أحرف) من رواية جمع من الصحابة : أبي بن كعب ، وأنس ، وحذيفة بن اليمان ، وزيد بن أرقم. وسمرة بن جندب ، وسليمان بن صرد ، وابن عباس ، وابن مسعود ، وعبد الرحمن ابن عوف ، وعثمان بن عفان ، وعمر بن الخطاب ، وعمر بن أبي سلمة ، وعمرو بن العاص ، ومعاذ بن جبل ، وهشام بن حكيم ، وأبي بكرة ، وأبي جهم وأبي سعيد الخدري ، وأبي طلحة الأنصاري ، وأبي هريرة ، وأبي أيوب. فهؤلاء أحد وعشرون صحابيا ، وقد نص أبو عبيد على تواتره. وأخرج أبو يعلى في مسنده أن عثمان قال على المنبر : أذكر الله رجلا ، سمع النبي صلىاللهعليهوسلم قال (إن القرآن أنزل على سبعة أحرف كلها شاف كاف ، لما قام ، فقاموا حتى لم يحصوا ، فشهدوا بذلك ، فقال : وأنا أشهد معهم) انتهى.
ملاحظات على النظرية
الإشكالات على حديث الأحرف السبعة كثيرة ، نجملها فيما يلي :
أولا : الظاهر أن أصل جميع أحاديث النظرية رواية واحدة أو اثنتان رواهما الخليفة عمر ، وإن اعتبرها بعضهم أحاديث عديدة وصل فيها الى حد التواتر .. ويكفي تدليلا على ذلك أن حديث ابن كعب تكملة له أو هو نفسه .. وأن أكثر الصحابة رووه عن عمر ، ولم يرووه عن النبي مباشرة!
ثانيا : إن أسلوب النقاشات المروية فيه بين النبي صلىاللهعليهوآله وبين جبرئيل وميكائيل وبقية الملائكة ، نسخة طبق الأصل عما يرويه اليهود من نقاشات موسى مع ربه! وأكثرها (اتزانا) لا يمكن قبول مضمونه ، وهو ما رواه الترمذي في سننه ج ٤ ص ٢٦٣ تحت عنوان (باب ما جاء أن القرآن أنزل على سبعة أحرف ... عن أبي بن كعب قال : لقي رسول الله صلىاللهعليهوسلم جبرئيل فقال : يا جبرئيل إني بعثت الى أمة أميين منهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذي لم يقرأ كتابا قط. قال : يا محمد إن القرآن أنزل على سبعة أحرف!) انتهى.
ثالثا : إن التوسعة على الناس والتسامح في نص القرآن مسألة كبيرة وخطيرة ، فكيف لم تكن معروفة في زمن النبي صلىاللهعليهوآله ، ثم عرفت على يد عمر عند ما وجدت مشكلة تفاوت القراءات؟!
رابعا : روى الخليفة عمر وغيره أن النبي صلىاللهعليهوآله أمر المسلمين أن يأخذوا القرآن من أحد أربعة (أبي بن كعب ، وعبد الله بن مسعود ، ومعاذ بن جبل ، وسالم مولى حذيفة) كما سيأتي في قصة جمع القرآن .. وقراءة القرآن على حرف أو سبعة أو عشرين من صلب مسائل أخذه .. فكان الواجب على الخليفة أن يرجع الى هؤلاء الأربعة ويقبل القرآن بقراءتهم .. ولكنه رفع شعار هذا الحديث ولم يرجع اليهم لا في أصل تلقي القرآن ولا في حروفه! بل كانت معاملته شديدة لمن بقي منهم كما سنرى!
خامسا : إذا صحت نظرية عمر في الأحرف السبعة ، وأن الله تعالى قد وسع على المسلمين في قراءة نص كتابه ، فلما ذا حرم الله نبيه من هذه النعمة وألزمه بحفظ القرآن حرفيا بدقة وتشدد معه في ذلك ، وكان يرسل له كبير ملائكته كل عام مرة ليضبط عليه نص القرآن ، وفي سنة وفاته ضبطه عليه مرتين ليتأكد من دقة ضبط النبي لنص القرآن؟!!
ألا يكون ذلك شبيها بقانون يصدره رئيس ويتشدد مع وزيره في ضبط نصه وطباعته ، ولكنه بعد نشره للتطبيق يجيز للناس أن يتسامحوا في نصه وأن يقرءوه بعدة نصوص؟!!
سادسا : هشام بن حكيم بن حزام الذي يروي عمر أن القصة حدثت معه ، أحد الطلقاء الذين يسمونهم مسلمة الفتح .. مما يعني أن زمن القصة السنة هو الأخيرة من حياة النبي صلىاللهعليهوآله .. ويعني أن النبي صلىاللهعليهوآله كان كل هذه المدة يقرأ نص القرآن بصيغة واحدة ولم يقل لجبرئيل شيئا ، ولم يقل له جبريل شيئا! الى أن اكتشف النبي المشكلة في أواخر حياته فشكا ذلك الى جبرئيل فلم يراجع جبرئيل ربه ، وكان الجواب عنده حاضرا!!
سابعا : كان سلوك عمر ضد نظريته .. فكان يتدخل في القراءات ويحاسب عليها ، ويرفض منها ويقبل ، ويأمر بمحو هذا وإثبات ذاك ، كما رأيت في نماذج من قراءاته وكما ترى من سلوكه مع القراء .. وقد (هجم) بيت عبد الله بن مسعود عند ما بلغه أنه قرأ آية بلغة هذيل كما سترى! أنه قرأ آية بلغة هذيل كما سترى!
وبهذا نعرف أن مقصوده بالحروف السبعة التوسعة على نفسه فقط ، ليختار الحرف الذي يريده ويلزم به المسلمين ، ويرفض الحرف الذي لا يريده وينهى عنه المسلمين .. ويجمع ذلك في مصحفه عند حفصة حتى يستكمل اجتهاداته في كتاب الله تعالى .. فيخرجه الى المسلمين ويلزمهم به .. ولكن الأجل أدركه قبل ذلك ..!
على أي حال لم يشمل خير هذه التوسعة المزعومة إلا الخليفة عمر فقط ، وكان نصيب من يستفيد منها من المسلمين .. التعرض لسوط الخليفة!!
الفتاوى الفقهية بالتوسع في نص القرآن!
لقد حفظ الله تعالى كتابه من نظرية الخليفة في التوسع في نصه ، ولم تؤثر إلا التشويش على النص القرآني في عهده ، ولكن بقيت آثارها وأثمرت في فقه مذاهب إخواننا السنة فأفتى فقهاؤهم بجواز التغيير في نص القرآن ، وفي نص التشهد في الصلاة لأنه أخف من نص القرآن!
قال الشافعي في اختلاف الحديث ص ٤٨٩ وفي كتاب الأم ج ١ ص ١٤٢ :
(وقد اختلف بعض أصحاب النبي في بعض لفظ القرآن عند رسول الله ولم يختلفوا في معناه فأقرهم وقال : هكذا أنزل إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما
تيسر منه. فما سوى القرآن من الذكر أولى أن يتسع ، هذا فيه إذا لم يختلف المعنى! قال : وليس لأحد أن يعمد أن يكف عن قراءة حرف من القرآن إلا بنسيان ، وهذا في التشهد وفي جميع الذكر أخف!!).
وقال البيهقي في سننه ج ٢ ص ١٤٥ ، في الاستدلال على أن التشهد في الصلاة لا يجب أن يكون بصيغة واحدة :
(قال الشافعي رحمهالله فإذا كان الله برأفته بخلقه أنزل كتابه على سبعة أحرف معرفة منه بأن الحفظ قد نزر ليجعل لهم قراءته وإن اختلف لفظهم فيه ، كان ما سوى كتاب الله أولى أن يجوز فيه اختلاف اللفظ ما لم يخل معناه!)
وقال ابن قدامة في المغني ج ١ ص ٥٧٥ :
(فصل. وبأي تشهد تشهد مما صح عن النبي صلىاللهعليهوسلم جاز ، نص عليه أحمد فقال : تشهد عبد الله أعجب إلي ، وإن تشهد بغيره فهو جائز ، لأن النبي صلىاللهعليهوسلم لما علمه الصحابة مختلفا دل على جواز الجميع كالقراءات المختلفة التي اشتمل عليها المصحف ... وقال ابن حامد رأيت بعض أصحابنا يقول لو ترك واوا أو حرفا أعاد الصلاة لقول الأسود : فكنا نتحفظه عن عبد الله كما نتحفظ حروف القرآن ، والأول أصح لما ذكرنا. وقول الأسود يدل على أن الأولى والأحسن الإتيان بلفظه وحروفه ، وهو الذي ذكرنا أنه المختار ، وعلى أن عبد الله كان يرخص في إبدال لفظات من القرآن فالتشهد أولى! فقد روي عنه أن إنسانا كان يقرأ عليه إن شجرة الزقوم طعام الأثيم ، فيقول طعام اليتيم ، فقال له عبد الله : قل طعام الفاجر. فأما ما اجتمعت عليه التشهدات كلها فيتعين الإتيان به. وهذا مذهب الشافعي).
وقال ابن حزم في المحلى ج ٣ ص ٢٥٣ :
(والحق من هذا أن النص قد صح بوجوب قراءة أم القرآن فرضا ، ولا يختلف اثنان من أهل الاسلام في أن هذه القراءات حق كلها مقطوع به مبلغة كلها الى رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن جبريل عليهالسلام عن الله عزوجل بنقل الملوان فقد وجب ، إذ كلها حق أن يفعل الإنسان في قراءته أي ذلك شاء!) انتهى.
وهكذا ذهب إخواننا فقهاء المذاهب الى أن القراء كلهم على حق ولا ذنب لهم ، لأن النبي صلىاللهعليهوآله أقرأهم متفاوتا أو أمضى قراءاتهم المتفاوتة ، والنبي أيضا لا ذنب له ، لأن جبرئيل أبلغه القرآن متفاوتا .. وجبرئيل أيضا لا ذنب له لأن الله تعالى أعطاه القرآن متفاوتا .. تعالى الله عن ذلك ، وتنزه رسله!!
وسترى في البحث التالي أن نظرية التسامح في نص القرآن لم تقف عند حد التفاوت في بعض الحروف والكلمات في الآيات ، بل أخذت مجراها ونموها السرطاني حتى وصلت الى نظرية تعويم نص القرآن وجواز قراءته بالمعنى بدون التقيد بألفاظه!!
ولكن مع خطورة هذه الفتاوي وهذه النظريات .. فإن ضررها والحمد لله بقي محصورا تقريبا في مصادر إخواننا السنة ، خاصة في تفاسيرهم ، ولم يؤثر تأثيرا كبيرا على القرآن في حياتهم وسلوكهم .. والسبب في ذلك هو فقط تكفل الله تعالى بحفظ كتابه : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)!!
رأي أهل البيت عليهمالسلام وعلماء الشيعة
روى الكليني في الكافي ج ٢ ص ٦٣٠ (... عن زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام قال : إن القرآن واحد نزل من عند واحد ، ولكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة.
... عن الفضيل بن يسار قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : إن الناس يقولون : إن القرآن نزل على سبعة أحرف ، فقال : كذبوا أعداء الله ولكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد!) انتهى ، ويدل قوله عليهالسلام (كذبوا أعداء الله) على أنه كان يوجد جماعة يريدون تمييع نص القرآن بهذه المقولة!
وروى المجلسي في بحار الأنوار ج ٩٠ ص ٣ حديثا مطولا جاء فيه (عن إسماعيل بن جابر قال سمعت أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليهالسلام يقول : إن الله تبارك وتعالى بعث محمدا فختم به الأنبياء فلا نبي بعده ، وأنزل عليه كتابا فختم به الكتب فلا كتاب بعده ، أحل فيه حلالا وحرم حراما ، فحلاله حلال الى يوم القيامة وحرامه حرام الى يوم القيامة ، فيه شرعكم وخبر من قبلكم وبعدكم ، وجعله النبي صلىاللهعليهوآله علما باقيا في أوصيائه. فتركهم الناس وهم الشهداء على أهل كل زمان ، فعدلوا
عنهم ثم قتلوهم واتبعوا غيرهم ... ضربوا بعض القرآن ببعض ، واحتجوا بالمنسوخ ، وهم يظنون أنه الناسخ ، واحتجوا بالمتشابه وهم يرون أنه المحكم ، واحتجوا بالخاص وهم يقدرون أنه العام ، واحتجوا بأول الآية وتركوا السبب في تأويلها ، ولم ينظروا الى ما يفتح الكلام وإلى ما يختمه ، ولم يعرفوا موارده ومصادره ، إذ لم يأخذوه عن أهله ...
ولقد سأل أمير المؤمنين صلوات الله عليه شيعته عن مثل هذا فقال : إن الله تبارك وتعالى أنزل القرآن على سبعة أقسام كل منها شاف كاف ، وهي أمر وزجر وترغيب وترهيب وجدل ومثل وقصص. وفي القرآن ناسخ ومنسوخ ، ومحكم ومتشابه ، وخاص وعام ، ومقدم ومؤخر ، وعزائم ورخص ، وحلال وحرام ، وفرائض وأحكام ، ومنقطع ومعطوف ، ومنقطع غير معطوف ، وحرف مكان حرف ، ومنه ما لفظه خاص ، ومنه ما لفظه عام محتمل العموم ، ومنه ما لفظه واحد ومعناه جمع ، ومنه ما لفظه جمع ومعناه واحد ، ومنه ما لفظه ماض ومعناه مستقبل ، ومنه ما لفظه على الخبر ومعناه حكاية عن قوم أخر ، ومنه ما هو باق محرف عن جهته ، ومنه ما هو على خلاف تنزيله ، ومنه ما تأويله في تنزيله ، ومنه ما تأويله قبل تنزيله ، ومنه ما تأويله بعد تنزيله. ومنه آيات بعضها في سورة وتمامها في سورة أخرى ، ومنه آيات نصفها منسوخ ونصفها متروك على حاله ، ومنه آيات مختلفة اللفظ متفقة المعنى ، ومنه آيات متفقة اللفظ مختلفة المعنى ، ومنه آيات فيها رخصة وإطلاق بعد العزيمة ...) انتهى.
وينبغي الالتفات الى أن الإمام علي عليهالسلام استعمل كلمة (أقسام) وترك استعمال كلمة (أحرف أو حروف) حتى لا يفسرها أحد بألفاظ القرآن كما فسروا السبعة أحرف في الحديث المروي عن النبي صلىاللهعليهوآله!!
وقال الشيخ الطوسي في تفسير التبيان ج ١ ص ٧ (.. وروى المخالفون لنا عن النبي صلىاللهعليهوآله أنه قال : نزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف ، وفي بعضها : على سبعة أبواب ، وكثرت في ذلك رواياتهم ، ولا معنى للتشاغل بإيرادها ، واختلفوا في تأويل الخبر ، فاختار قوم أن معناه على سبعة معان : أمر ، ونهى ، ووعد ، ووعيد ، وجدل ، وقصص ، وأمثال. وروى ابن مسعود عن النبي أنه قال : نزل القرآن على سبعة أحرف : زجر ، وأمر ، وحلال ، وحرام ، ومحكم ،
ومتشابه ، وأمثال ... وقال آخرون : أي سبع لغات مختلفة ، مما لا يغير حكما في تحليل وتحريم ... وكانوا مخيرين في أول الاسلام في أن يقرءوا بما شاءوا منها ، ثم أجمعوا على حدها ، فصار ما أجمعوا عليه مانعا مما أعرضوا عنه. وقال آخرون نزل على سبع لغات ... الخ) انتهى.
وقال الشهيد الثاني في مسالك الأفهام ج ١ ص ٤٢٩ (ووجه تسمية القراءة بالحرف ما روي أن النبي صلىاللهعليهوآله قال نزل القرآن على سبعة أحرف ، وفسرها بعضهم بالقراءات وليس بجيد ، لأن القراءة المتواترة لا تنحصر في السبعة بل ولا في العشرة كما حقق في موضعه ، وإنما اقتصروا على السبعة تبعا لابن مجاهد حيث اقتصر عليها تبركا بالحديث. وفي أخبارنا أن السبعة أحرف ليست هي القراءة بل هي أنواع التركيب من الأمر والنهي والقصص وغيرها) انتهى.
وقال المحقق البحراني في الحدائق الناضرة ج ٨ ص ٩٩ (ثم اعلم أن العامة قد رووا في أخبارهم أن القرآن قد نزل على سبعة أحرف كلها شاف واف ، وادعوا تواتر ذلك عنه صلىاللهعليهوآله ، واختلفوا في معناه الى ما يبلغ أربعين قولا ، أشهرها الحمل على القراءات السبع. وقد روى الصدوق قدسسره في كتاب الخصال بإسناده اليهم عليهمالسلام ، قال قال رسول الله صلىاللهعليهوآله أتاني آت من الله عزوجل يقول إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد ، فقلت يا رب وسع على أمتي فقال إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف. وفي هذا الحديث ما يوافق أخبار العامة المذكورة ، مع أنه عليهالسلام قد نفى ذلك في الأحاديث المتقدمة وكذبهم في ما زعموه من التعدد ، فهذا الخبر بظاهره مناف لما دلت عليه تلك الأخبار والحمل على التقية أقرب فيه) انتهى.
وروى المجلسي في بحار الأنوار ج ٨٢ ص ٦٥ عن النبي صلىاللهعليهوآله أنه قال (أتاني آت من الله ، فقال إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد ، فقلت : يا رب وسع على أمتي ، فقال إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف) ثم قال : بيان ، الخبر ضعيف ومخالف للأخبار الكثيرة كما سيأتي ، وحملوه على القراءات السبعة ، ولا يخفى بعده لحدوثها بعده صلىاللهعليهوآله ، وسنشبع القول في ذلك في
كتاب القرآن إن شاء الله. ولا ريب في أنه يجوز لنا الآن أن نقرأ موافقا لقراءاتهم المشهورة) انتهى.
وقال المحقق الهمداني في مصباح الفقيه ج ٢ ص ٢٧٤ (والحق أنه لم يتحقق أن النبي صلىاللهعليهوآله قرأ شيئا من القرآن بكيفيات مختلفة ، بل ثبت خلافه فيما كان الاختلاف في المادة أو الصورة النوعية التي يؤثر تغييرها في انقلاب ماهية الكلام عرفا ، كما في ضم التاء من أنعمت ، ضرورة أن القرآن واحد نزل من عند الواحد كما نطقت به الأخبار المعتبرة المروية عن أهل بيت الوحي والتنزيل ، مثل ما رواه ثقة الإسلام الكليني بإسناده عن أبي جعفر عليهالسلام قال : إن القرآن واحد من عند الواحد ولكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة! وعن الفضيل بن يسار في الصحيح قال قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : إن الناس يقولون نزل القرآن على سبعة أحرف ، فقال كذبوا أعداء الله ، ولكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد. ولعل المراد بتكذيبهم تكذيبهم بالنظر الى ما أرادوه من هذا القول مما يوجب تعدد القرآن ، وإلا فالظاهر كون هذه العبارة صادرة عن النبي صلىاللهعليهوآله بل قد يدعى تواتره ، ولكنهم حرفوها عن موضعها وفسروها بآرائهم ، مع أن في بعض رواياتهم إشارة الى أن المراد بالأحرف أقسامه ومقاصده ، فإنهم على ما حكي عنهم رووا عنه صلىاللهعليهوآله أنه قال نزل القرآن على سبعة أحرف : أمر وزجر وترغيب وترهيب وجدل وقصص ومثل. ويؤيده ما روى من طرقنا عن أمير المؤمنين عليهالسلام أنه قال : إن الله تبارك وتعالى أنزل القرآن على سبعة أقسام كل قسم منها كاف شاف ، وهي أمر وزجر وترغيب وترهيب وجدل ومثل وقصص.
... فظهر مما ذكرنا أن الاستشهاد بالخبر المزبور لصحة القراءات السبع وتواترها عن النبي صلىاللهعليهوآله في غير محله. وكفاك شاهدا لذلك ما قيل من أنه نقل اختلافهم في معناه الى ما يقرب من أربعين قولا!. والحاصل : أن دعوى تواتر جميع القراءات السبعة أو العشرة بجميع خصوصياتها عن النبي صلىاللهعليهوآله تتضمن مفاسد ومناقضات لا يمكن توجيهها ، وقد تصدى جملة من القدماء والمتأخرين لإيضاح ما فيها من المفاسد بما لا يهمنا الإطالة في إيراده) انتهى.
وقال السيد الخوئي في مستند العروة ج ١٤ ص ٤٧٤ (... هذا وحيث قد جرت القراءة الخارجية على طبق هذه القراءات السبع لكونها معروفة مشهورة ظن بعض الجهلاء أنها المعني بقوله صلىاللهعليهوآله على ما روي عنه ، إن القرآن نزل على سبعة أحرف ، وهذا كما ترى غلط فاحش ، فإن أصل الرواية لم تثبت ، وإنما رويت من طريق العامة ، بل هي منحولة مجعولة كما نص الصادق عليهالسلام على تكذيبها بقوله : كذبوا أعداء الله نزل على حرف واحد ...) انتهى.
وقال السيد الخوئي في البيان في تفسير القرآن ص ١٨٠ بعد إيراد روايات السبعة أحرف (وعلى هذا فلا بد من طرح الروايات ، لأن الالتزام بمفادها غير ممكن. والدليل على ذلك :
أولا : أن هذا إنما يتم في بعض معاني القرآن ، التي يمكن أن يعبر عنها بألفاظ سبعة متقاربة ...
ثانيا : إن كان المراد من هذا الوجه أن النبي صلىاللهعليهوآله قد جوز تبديل كلمات القرآن الموجودة بكلمات أخرى تقاربها في المعنى ، ويشهد لهذا بعض الروايات المتقدمة ، فهذا الاحتمال يوجب هدم أساس القرآن ، المعجزة الأبدية ، والحجة على جميع البشر ... وقد قال الله تعالى : (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ). وإذا لم يكن للنبي أن يبدل القرآن من تلقاء نفسه ، فكيف يجوز ذلك لغيره؟ وإن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم علم البراء بن عازب دعاء كان فيه ونبيك الذي أرسلت فقرأ براء : ورسولك الذي أرسلت ، فأمره صلىاللهعليهوآله أن لا يضع الرسول موضع النبي. فإذا كان هذا في الدعاء ، فما ذا يكون الشأن في القرآن؟ ...
ثالثا : أنه صرحت الروايات المتقدمة بأن الحكمة في نزول القرآن على سبعة أحرف هي التوسعة على الأمة ، لأنهم لا يستطيعون القراءة على حرف واحد ، وأن هذا هو الذي دعا النبي الى الاستزادة الى سبعة أحرف. وقد رأينا أن اختلاف القراءات أوجب أن يكفر بعض المسلمين بعضا حتى حصر عثمان القراءة بحرف واحد وأمر بإحراق بقية المصاحف. ويستنتج من ذلك ... أن الاختلاف في القراءة كان نقمة على الأمة وقد ظهر ذلك في عصر عثمان ، فكيف يصح أن يطلب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم من
الله ما فيه فساد الأمة. وكيف يصح على الله أن يجيبه الى ذلك؟ وقد ورد في كثير من الروايات النهي عن الاختلاف ، وأن فيه هلاك الأمة ، وفي بعضها أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم تغير وجهه واحمر حين ذكر له الاختلاف في القراءة ...
وحاصل ما قدمناه : أن نزول القرآن على سبعة أحرف لا يرجع الى معنى صحيح ، فلا بد من طرح الروايات الدالة عليه ، ولا سيما بعد أن دلت أحاديث الصادقين عليهمالسلام على تكذيبها وأن القرآن إنما نزل على حرف واحد ، وأن الاختلاف قد جاء من قبل الرواة) انتهى.
وقال في ص ١٦٠ عن القراءات السبع (... والأولى أن نذكر كلام الجزائري في هذا الموضع. قال : لم تكن القراءات السبع متميزة عن غيرها حتى قام الإمام أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد ـ وكان على رأس الثلاثمائة ببغداد ـ فجمع قراءات سبعة من مشهوري أئمة الحرمين والعراقين والشام ، وهم : نافع ، وعبد الله ابن كثير ، وأبو عمرو بن العلاء ، وعبد الله بن عامر ، وعاصم وحمزة ، وعلي الكسائي. وقد توهم بعض الناس أن القراءات السبعة هي الأحرف السبعة ، وليس الأمر كذلك ... وقد لام كثير من العلماء ابن مجاهد على اختياره عدد السبعة ، لما فيه من الايهام ... قال أحمد ابن عمار المهدوي : لقد فعل مسبّع هذه السبعة ما لا ينبغي له ، وأشكل الأمر على العامة بإيهامه كل من قل نظره أن هذه القراءات هي المذكورة في الخبر ، وليته إذ اقتصر نقص عن السبعة أو زاد ليزيل الشبهة ... قال أبو شامة : ظن قوم أن القراءات السبع الموجودة الآن هي التي أريدت في الحديث ، وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة ، وإنما يظن ذلك بعض أهل الجهل ...) انتهى.
وقال في ص ١٦٧ (ذهب الجمهور من علماء الفريقين الى جواز القراءة بكل واحدة من القراءات السبع في الصلاة ، بل ادعي على ذلك الإجماع في كلمات غير واحد منهم وجوز بعضهم القراءة بكل واحدة من العشر ، وقال بعضهم بجواز القراءة بكل قراءة وافقت العربية ولو بوجه ، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا وصح سندها ، ولم يحصرها في عدد معين. والحق أن الذي تقتضيه القاعدة الأولية ، هو عدم جواز القراءة في الصلاة بكل قراءة لم تثبت القراءة بها من النبي الأكرم صلّى الله
عليه وآله أو من أحد أوصيائه المعصومين عليهمالسلام ، لأن الواجب في الصلاة هو قراءة القرآن فلا يكفي قراءة شىء لم يحرز كونه قرآنا ، وقد استقل العقل بوجوب إحراز الفراغ اليقيني بعد العلم باشتغال الذمة ... وأما بالنظر الى ما ثبت قطعيا من تقرير المعصومين عليهمالسلام شيعتهم على القراءة ، بأية واحدة من القراءات المعروفة في زمانهم ، فلا شك في كفاية كل واحدة منها ، فقد كانت هذه القراءات معروفة في زمانهم ، ولم يرد عنهم أنهم ردعوا عن بعضها ، ولو ثبت الردع لوصل إلينا بالتواتر ، ولا أقل من نقله بالآحاد ، بل ورد عنهم عليهمالسلام إمضاء هذه القراءات بقولهم : اقرءوا كما يقرأ الناس. اقرءوا كما علمتم. وعلى ذلك فلا معنى لتخصيص الجواز بالقراءات السبع أو العشر ، نعم يعتبر في الجواز أن لا تكون القراءة شاذة ... وصفوة القول : أنه تجوز القراءة في الصلاة بكل قراءة كانت متعارفة في زمان أهل البيت عليهمالسلام) انتهى ، ونلفت هنا الى نكتة نحوية في الرواية عن الإمام الصادق عليهالسلام (كذبوا أعداء الله) فقد ورد في كثير من الأحاديث والنصوص الفصيحة الجمع بين فاعلين مضمر وظاهر ، مما يجعلنا نطمئن الى أنه أسلوب عربي في التأكيد على الفاعل لغرض من الأغراض. وكذلك تمييز أحد المعطوفات بإعراب آخر لتأكيده كما ورد في القرآن ، وأن هذه القواعد قد فات النحاة استقراءها من لغة العرب ، كما فاتهم إضافة (بقي) الى أخوات كان مع أنه لا فرق بينها وبينها.
الروايات السنية الموافقة لرأي أهل البيت
لا أدري لما ذا أعرض علماء إخواننا السنة عن هذه الأحاديث مع أن فيها الصحيح ، وأقل ما يقال فيها أنها تصلح لمعارضة الأحاديث التي تفسر السبعة أحرف بالألفاظ ، وقواعدهم عند تعارض الأحاديث الصحيحة مثل قواعدنا .. فعند ما يتعارض الحديثان أو المجموعتان من الأحاديث ولا يمكن الجمع بينها ، فإذا وجد مرجح لبعضها رجحناه ، وإلا فإنها جميعا تتساقط ونتوقف عن الأخذ بأي منها .. وبما أن الجمع بين هاتين المجموعتين غير ممكن ، فكيف صح لهم أن يرجحوا الأحاديث التي تفسر الأحرف السبعة بالألفاظ على الأحاديث التي تفسرها بالمعاني؟! مع أن أكبر مرجح للأحاديث التي
تفسرها بالمعاني أنها تسد ذريعة التوسع في نص القرآن ، وأنها مضافا الى صحة أسنادها ذات معنى مفهوم معقول .. بعكس الأخرى ..
روى الحاكم في مستدركه ج ١ ص ٥٥٣ وفي ج ٢ ص ٢٨٩ (... عن ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال نزل الكتاب الأول من باب واحد على حرف واحد ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف : زاجرا وآمرا وحلالا وحراما ومحكما ومتشابها وأمثالا ، فأحلوا حلاله وحرموا حرامه وافعلوا ما أمرتم به وانتهوا عما نهيتم عنه واعتبروا بأمثاله واعملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه ، وقولوا آمنا به كل من عند ربنا. هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه) ورواه السيوطي في الدر المنثور ج ٢ ص ٦ عن ابن جرير والحاكم وصححه وأبو نصر السجزي في الابانة عن ابن مسعود عن النبي صلىاللهعليهوسلم ... وعن الطبراني عن عمر بن أبي سلمة أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال لعبد الله بن مسعود ... إلخ. وعن ابن الضريس وابن جرير وابن المنذر عن ابن مسعود ... إلخ. وعن البيهقي في شعب الايمان عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أعربوا القرآن واتبعوا غرائبه وغرائبه فرائضه وحدوده ، فإن القرآن نزل على خمسة أوجه حلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال ، فاعملوا بالحلال واجتنبوا الحرام واتبعوا المحكم وآمنوا بالمتشابه واعتبروا بالأمثال) انتهى.
وقال في الإتقان ص ١٧٠ وهو يعدد الأربعين وجها التي توصل اليها علماء السنة في تفسير الأحرف السبعة :
(الحادي عشر : أن المراد سبعة أصناف ، والأحاديث السابقة ترده ، والقائلون به اختلفوا في تعيين السبعة فقيل : أمر ونهي وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال ، واحتجوا بما أخرجه الحاكم والبيهقي عن ابن مسعود عن النبي صلىاللهعليهوسلم ، قال (كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد ، ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف : زاجر وآمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه ، وأمثال ...) انتهى. وقصده بالأحاديث السابقة التي ترد هذا الوجه : أحاديث الخليفة
عمر التي تنص على أن السبعة أحرف تقصد ألفاظ القرآن لا معانيه! وبهذا يكون السيوطي وقف الى صف الذين أقفلوا باب الحل المعقول لورطة الأحرف السبعة!
وقال في ص ١٧٢ (السادس عشر : إن المراد بها سبعة علوم : علم الإنشاد والإيجاد ، وعلم التوحيد والتنزيه ، وعلم صفات الذات ، وعلم صفات الفعل ، وعلم العفو والعذاب ، وعلم الحشر والحساب ، وعلم النبوات) انتهى. ولا بد أنه يرد هذا الوجه أيضا ، لأن حديث الخليفة ينص على أن المقصود بالسبعة الألفاظ لا المعاني!
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ج ٧ ص ١٥٢ (وعن عبد الله يعني ابن مسعود أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال أنزل القرآن على سبعة أحرف لكل آية منها ظهر وبطن ... الخ. رواه البزار وأبو يعلى في الكبير وفي رواية عنده لكل حرف منها بطن وظهر ، والطبراني في الأوسط باختصار آخره ورجال أحدهما ثقات. ورواية البزار عنه محمد بن عجلان عن أبي إسحاق قال في آخرها لم يرو محمد بن عجلان عن إبراهيم الهجرى غير هذا الحديث ، قلت ومحمد بن عجلان إنما روى عن أبي إسحاق السبيعي فإن كان هو أبو إسحاق السبيعي فرجال البزار أيضا ثقات) انتهى.
* * *
٢ ـ أخطر فتاوى الخليفة عمر : فتواه بتعويم نص القرآن!
ما ذا يقول علماء إخواننا السنة في الفتوى التالية :
(لا يجب على المسلمين أن يتقيدوا في قراءة القرآن بنصه! لا في صلاتهم ولا في غيرها ، بل يجوز أن يقرءوه بالمعنى ، أو بما يقرب من المعنى ، بأي ألفاظ شاءوا! والشرط الوحيد أن لا يبدلوا المعنى بحيث ينقلب رأسا على عقب وتصير آية الرحمة آية عذاب وآية العذاب آية رحمة! فإذا قرءوا بهذا الشرط فقراءتهم صحيحة شرعا! وقراءتهم شرعا قرآن أنزله الله تعالى! لأن الله رخص أن يقرأ الناس كتابه بأي لفظ بهذا الشرط!!).
لا بد أن هذه الفتوى ستغيضهم وتثير غيرتهم على القرآن ، ويصبون بحر غضبهم على صاحبها أيا كان .. وقد يقولون إنه رافضي كافر!!
لكن إذا كان صاحبها الخليفة عمر فسوف يختلف الحال ، وسوف يتحمس علماؤهم الغيارى لتفسير نظرية الخليفة ، ويكثرون من ذكر الأقوال والوجوه والاحتمالات فيها ، ويفكر بعضهم نيفا وثلاثين سنة حتى يفتح الله عليه بالعثور على وجه جديد معقول! بينما يسكت بعضهم .. طالبا من الله الستر والسلامة له وللخليفة!!
روى أحمد في مسنده ج ٤ ص ٣٠ عن (إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه عن جده قال قرأ رجل عند عمر فغيّر عليه فقال : قرأت على رسول الله صلىاللهعليهوسلم فلم يغير علي! قال فاجتمعنا عند النبي صلىاللهعليهوسلم قال فقرأ الرجل على النبي صلىاللهعليهوسلم فقال له : قد أحسنت! قال فكأن عمر وجد من ذلك فقال