التفسير الواضح - ج ٢

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ٢

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٨٨٤

ثم بعثنا من بعد نوح رسلا إلى قومهم فأرسل إلى عاد أخوهم هود وإلى ثمود أخوهم صالح ، وإلى مدين والمؤتفكات أخوهم شعيب وهكذا غيرهم مما لا يعلمهم إلا ربهم ، فجاءوا قومهم بالبينات والهدى والآيات فما كان منهم أى من أكثرهم أن يؤمنوا بما كذب به المتقدم من قبل.

وهكذا ، وعلى غرار هذه السنة التي اطردت في الأمم السابقة نطبع على قلوب المعتدين إذا كانوا مثلهم ، (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) والمراد بالطبع عدم قبولها شيئا من نور الهداية والمعرفة لأنهم اعتدوا كل حد وتجاوزوا كل وضع سليم.

قصة موسى مع فرعون

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (٧٥) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (٧٧) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (٧٨) وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢))

٨١

المفردات :

(لِتَلْفِتَنا) لتصرفنا عنه (الْكِبْرِياءُ) الرياسة الدينية والملك الدنيوي هذه هي قصة موسى وهارون مع فرعون وأشراف قومه ، وهذه الآيات الأربع في تكذيب فرعون وملئه لموسى ووصف آياتهم بالسحر وبيان السبب في التكذيب.

المعنى :

ثم بعثنا من بعد الأنبياء الذين أرسلت إلى أقوامهم وكان منهم ما كان ، بعثنا موسى وأخاه هارون إلى فرعون ملك مصر وأشراف قومه ، أما العامة فتابعون لهم في الإيمان والكفر ولذا لم يذكروا ، بعثناهما مؤيدين بالآيات التسع التي ذكرت في سورة الأعراف وغيرها.

فاستكبروا ، وأعرضوا عن الإيمان بموسى وهارون كبرا وعلوا في الأرض وفسادا (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ) [سورة الأنعام آية ١٢٣] وكان فرعون وملؤه قوما مجرمين ، تلك خلاصة مجملة لقصتهم ، وأما التفصيل.

فلما جاءهم الحق ، وهو الآيات الدالة على الألوهية ، وصدق رسله جاءتهم من عندنا على لسان موسى وهارون وعلى يديهما. قالوا : إن هذا لسحر مبين ظاهر ، قالوا مقسمين على قولهم مؤكدين له بأن ، واسم الإشارة ، واللام ، واسمية الجملة.

فماذا قال لهم موسى؟ قال : أتقولون هذا؟!! للحق الظاهر والآيات البعيدة عن السحر وكيده عجبا لكم أتقولون : أسحر هذا؟! أى : هذا الذي ترونه من آيات الله البيّنات لا يمكن أن يكون سحرا ، وكيف يكون ذلك؟ والحال المعروف أنه لا يفلح الساحر في الأمور الجدية المهمة وإنما السحر خيال ووهم في الأمور الشكلية البحتة فكيف بعظائم الأمور من دين أو قانون.

قالوا : أجئتنا يا موسى لتصرفنا عن دين ورثناه عن قومنا ، ووجدنا عليه آباءنا ولتكون لكما الرياسة الدينية ، وما يتبعها من كبرياء الملك والعظمة الدنيوية ، وما نحن لك

٨٢

ولأخيك بمؤمنين حتى لا يضيع دين الآباء ، وما يتبعه من رئاسة وملك وهكذا كان السبب في تكذيب الرسل دائما!! وقال فرعون لملئه بعد ما رأوا موسى مصرا على دعواه قال : ائتوني بكل سحار عليم ، ماهر في هذه الصنعة صناع إذ هم كانوا لغباوتهم لا يفرقون بين السحر والآية الإلهية.

فلما جاءهم السحرة وجمعوهم من كل حدب وصوب قال لهم موسى بعد أن خيروه بين أن يلقى ما عنده أولا أو يلقوا هم ما عندهم كما هو في سورة الشعراء : (أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) [الآية ٤٣] من فنون السحر وأفاعيله.

فلما ألقوا ما عندهم من الحبال والعصى قال موسى : ما جئتم به هو السحر بعينه لا ما جئت به من الآيات التي سماها فرعون وملؤه سحرا ، إن الله سيبطله قطعا أمام الناس ولا غرابة أن الله لا يصلح عمل المفسدين ، وأن الله يحق الحق بكلماته التكوينية والتشريعية ولو كره المجرمون ، اقرأ يا أخى تتمة هذه القصة في سورة الأعراف (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ...) [١١٧ وما بعدها]

الذين آمنوا بموسى

(فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٨٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ

٨٣

أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧))

المفردات :

(ذُرِّيَّةٌ) الصغار من قومه (أَنْ يَفْتِنَهُمْ) الفتنة الاختبار والابتلاء بالشدائد (لَعالٍ) قوى شديد البطش والفتك.

المعنى :

ألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون ، وظهر الحق وبطل ما كانوا يعملون ، وألقى السحرة ساجدين ، وقال فرعون : آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه ، لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ، ولأصلبنكم أجمعين إزاء هذا العمل الفاجر ، والقوة الغاشمة : وبسبب هذا كله ما آمن لموسى وما استسلم له إلا ذرية من قومه بنى إسرائيل ، آمنوا على خوف من فرعون وأعوانه ، أن يبتلوهم بالشدائد ، وأن يفتنوهم عن الإيمان ، والحال أن فرعون لقوى البطش شديد الفتك قال : سنقتل أبناءهم ونستحيى نساءهم وإنا فوقهم قاهرون. وإن فرعون لمن المسرفين المتجاوزين حدود العقل والإنسانية ، وهكذا كل جبار عتيد.

وإذا كان لم يؤمن لموسى إلا الشبان المراهقون من قومه وجماعة من قوم فرعون يكتمون إيمانهم خوفا من بطش فرعون بعد ظهور هذه الآيات الكونية الظاهرة التي لا تدع شكا لناظر ، فأنت يا محمد لا تحزن ولا تغتم بسبب إعراض قومك عن الإيمان بك ، ولك في الأنبياء قبلك الأسوة الحسنة.

وقال موسى : يا قوم إن كنتم آمنتم ، فاصبروا ، وكونوا مؤمنين حقّا بالله ، وعليه وحده توكلوا ، وإليه وحده الجأوا إن كنتم مسلمين ..

فقالوا : على الله وحده توكلنا ، وبه وحده استعنا على أعدائنا وأعداء ديننا ، ودعوا الله قائلين : ربنا لا تجعلنا فتنة بأن تنصرهم علينا فيفتتن الناس ويقولون : لو كان هؤلاء

٨٤

على حق لما هزموا أمام فرعون وظلمه ، ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ، ونجنا برحمتك وعفوك من القوم الكافرين الطغاة المجرمين فإنك وعدت ، ووعدك الحق إنك تنصر عبادك المؤمنين بك المتبعين لرسلك ، (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم ٤٧].

وأوحينا لموسى وأخيه ، أن اتخذوا لقومكما بمصر بيوتا تسكنون فيها ، واجعلا بيوتكم متقابلين في جهة واحدة ، وقيل المعنى : واجعلوا بيوتكم قبلة للصلاة تصلون فيها خوفا من فرعون وملئه بدليل قوله وأقيموا الصلاة ، وبشر المؤمنين بحفظ الله ورعايته ، ونصره لهم في كل زمان وحين.

من مواقف موسى مع فرعون

(وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨٩) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (٩٢)

٨٥

وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣))

المفردات :

(زِينَةً) ما يتمتع به من الحلل والحلي والرياش والأثاث واللباس (اطْمِسْ) طمس الأثر إذا أزاله حتى لا يعرف (وَجاوَزْنا) جاز المكان وتجاوزه ، وجاوزه إذا ذهب فيه وقطعه حتى خلفه وراءه (فَأَتْبَعَهُمْ) لحقهم (نُنَجِّيكَ) نجعلك على نجوة من الأرض والنجوة المكان المرتفع الذي ينجى صاحبه من السيل.

وذكر سبب كفرهم وعنادهم ، وهو حب الدنيا ومتاعها الفاني ، وقال موسى : ربنا إنك أعطيت فرعون وأعوانه وجنده زينة من الحلي والحلل ، والفراش والأثاث ، وأعطيتهم المال والجاه حتى بنوا القصور ورفعوا القبور ، وأنفقوا في حظوظ الدنيا ومتاعها الشيء الكثير.

ربنا أعطيتهم هذا العطاء فكان عاقبة أمرهم خسرا ، وكانت نتيجة هذه النعم أنهم ضلوا عن سبيلك ، وأضلوا غيرهم.

ربنا اطمس على أموالهم ، وأزل آثارها ، وامحها بما تنزله من الآفات والكوارث ، واشدد على قلوبهم ، واربط عليها برباط قوى حتى لا ينفذ إليها نور الهدى والإيمان فيزدادوا قسوة وظلما ، فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم.

روى أن موسى كان يدعو وهارون يؤمن ، واستجاب الله دعاءهما ، وأمرهما أن يظلا على استقامتهما ودعوتهما فرعون وقومه إلى الحق والعدل وألا يتبعا سبيل الذين لا يعلمون.

٨٦

المعنى :

كان لا بد للمتعب أن يستريح ، وللمضطهد أن يتنفس الصعداء ، ويخرج من السجن ، نعم أراد الله لبنى إسرائيل أن يكشف عنهم ظلم فرعون ، وأن يخرجوا من مصر إلى أرض الميعاد ، وقد خرج بهم موسى وأخوه على حين غفلة من فرعون وعيونه فلما وصل خبرهم إليه ، جمع جموعه وأدركهم على شاطئ البحر (بحر السويس) فقالوا : يا موسى هذا فرعون وراءنا والبحر أمامنا وماذا نفعل؟ فأوصى الله إلى موسى : أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالجبل وسط البحر فساروا عليه وجاوزوا البحر بعناية الله ورعايته حتى كأنه معهم ، أما فرعون فلحقهم هو وجنوده حالة كونهم باغين معتدين. وخاضوا البحر كما خاض بنو إسرائيل ، ولكن اليم قد ابتلعهم إذ لم يركبوا سفن النجاة فلما أدركهم الغرق ، وأيقنوا أنهم المغرقون لا محالة قال فرعون في تلك الحال التي يؤمن فيها البر والفاجر ، والكافر والعاصي ، تلك الساعة التي لا تنفع فيه توبة ، ولا إيمان ، قال : آمنت بالله ، أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل ، وأنا من المسلمين المنقادين. تراه وقد جمع الإيمان والإسلام ، وكرر المعنى الواحد ثلاث مرات ولكن هو كما قال الشاعر :

أتت وحياض الموت بيني وبينها

وجادت بوصل حين لا ينفع الوصل

أتؤمن الآن؟! وقد عصيت الله كثيرا ، وكنت من المفسدين ، فاليوم نجعلك بنجوة من الأرض ، ونقذف ببدنك على ساحل البحر ليؤمن بموتك من شك أنك لم تمت ، وظن أنك فوق البشر ، ولتكون لمن خلفك آية على قدرة الله وحكمته.

فها هم بنو إسرائيل الضعفاء المستضعفون الذين طالما أذاقهم فرعون سوء العذاب يذبح أبناءهم ويستحى نساءهم إنه كان من المفسدين!! الله نجاهم ونصرهم على من؟ على فرعون صاحب الجند والطول ، والحول والقوة ، فرعون الذي يقول : أنا ربكم الأعلى!! أليس لي ملك مصر؟ وهذه الأنهار تجرى من تحتي.

وها أنتم أولاء يا معشر قريش لستم أشد قوة ولا أكثر جندا ، ولا أكثر مالا وعددا من فرعون. فاعتبروا يا أولى الأبصار : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ).

٨٧

ولقد بوأنا بنى إسرائيل مكانا للإقامة أمينا ، ورزقناهم من الطيبات فيه ، لقد وعد الله على لسان إبراهيم وإسحاق ويعقوب هذه الأرض وهي أرض فلسطين ، ولما كفروا بالأنبياء وخاصة عيسى ومحمدا ـ عليهما‌السلام ـ نزعها الله منهم.

وإذا كان كذلك فما اختلفوا حتى جاءهم ما كانوا به عالمين ، وذلك أنهم كانوا قبل بعثة النبي (محمد) مقرين به ، مجمعين عليه ، وكانوا يستفتحون به على الذين كفروا ، ولما بعث اختلفوا فيه فآمن بعضهم وكفر البعض الآخر حسدا وحبا للرياسة ولجمع المال ، وإن ربك يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا يختلفون ، وسيجازيهم على ذلك فلا يهمنك أمرهم في شيء.

تقرير صدق القرآن

(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٩٧))

المفردات :

(حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) أى : ثبت عليهم قضاؤه وحكمه.

المعنى :

أن الله ـ عزوجل ـ قدم ذكر بنى إسرائيل (فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ)

٨٨

وهم حملة الكتاب «التوراة والإنجيل» ووصفهم بأن العلم قد جاءهم إذ أمر رسول الله مكتوب عندهم ، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، فأراد هنا ـ جل شأنه ـ أن يؤكد علمهم بصحة القرآن وصدق نبوة محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ على سبيل المبالغة فقال : فإن وقع منك شك فرضا وتقديرا ـ كما تقول لابنك : إن كنت ابني حقا فافعل كذا ـ مما أنزلناه إليك من قصص نوح وموسى مثلا ، فسل علماء أهل الكتاب الذين يقرءون الكتاب من قبلك ، والمراد أنهم على علم تام بصحة ما أنزل إليك ، وهم يصلحون لمراجعة مثلك ومساءلتهم فضلا عن غيرك ، فالغرض وصف الأخبار بالعلم لا وصف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالشك والريب ، وعن ابن عباس ـ رضى الله عنه ـ : لا والله ما شك طرفة عين ، ولا سأل أحدا منهم ، وقيل : خوطب رسول الله (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍ) والمراد أمته أو من يقع في شك فعليه بالرجوع إلى مصادر العلم من الكتب الإلهية ، ومناقشة أهل العلم ورجاله.

تالله لقد جاءك الحق الثابت من ربك الذي لا شك فيه أبدا ولا ريب ، فلا تكونن من الممترين الشاكين. والمراد دم على ما أنت عليه. ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين في الدنيا والآخرة ، وفي هذا تعريض بالكفار المكذبين الخاسرين الضالين.

إن الذين حقت عليهم كلمة ربك وثبت فيهم حكمه وقضاؤه لا يؤمنون أبدا ، وليس المعنى أن الله يمنعهم من الإيمان ، بل هم الذين يختارونه ويكسبونه ، والمراد أن من علم الله فيهم خيرا أو شرا لا بد من حصوله لأن علم الله لا يتخلف.

إن هؤلاء الذين علم الله أنهم لا يؤمنون. هم لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية كونية أو علمية أو قرآنية ، لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم ، وحينئذ لا ينفعهم إيمان ولا توبة.

إيمان قوم يونس

(فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ

٨٩

إِلى حِينٍ (٩٨) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠))

المفردات :

(الرِّجْسَ) القذارة ، وأقبح الخبث المعنوي.

المعنى :

الإيمان الذي ينفع صاحبه هو الإيمان وقت التكاليف ، أما إذا حصل في وقت تسقط فيه التكاليف. وذلك عند حشرجه الموت ، أو عند الغرق ، كما حصل لفرعون ، أو عند نزول العذاب ، فلا ينفع نفسا ـ والحالة هذه ـ إيمانها.

فهلا كانت قرية من القرى التي أرسل فيها الأنبياء السابقون آمنت في وقت ينفعها الإيمان أى : وقت العمل لا وقت نزول العذاب واستحالة العمل والمعنى : ما كانت قرية آمنت إلا قوم يونس آمنوا لما ذهب مغاضبا ، وحذرهم العذاب الشديد ، ورأوا تباشيره ، فلما آمنوا كشفنا عنهم العذاب ، ومنعنا عنهم الخزي والهلاك في الدنيا ، ومتعناهم لما آمنوا إلى انقضاء آجالهم المقدرة لهم.

ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا. بأن يخلقهم وفيهم الاستعداد للإيمان فقط كالملائكة ، ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ، ولكن شاءت مشيئته العالية لحكم هو يعلمها أن يخلق الإنسان وفيه استعداد للخير والشر ، وللإيمان وللكفر وتركه بلا إلجاء وقسر بل جعل له الحرية الكاملة لاختيار إحدى الطريقتين بعد أن هداه النجدين وأبان له الأمرين.

أفأنت تكره الناس على الإيمان؟!! لا ، لا إكراه في الدين لمخلوق أبدا وإنما الذي يقدر على الإكراه هو الله ـ سبحانه وتعالى ـ القادر على كل شيء.

٩٠

وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله وإرادته ، ويجعل الرجس والهلاك على الذين لا يعقلون ، ولا يختارون الخير ولا يسلكون سبل الرشاد والسداد فاعتبروا يا أولى الأبصار لعلكم تذكرون ..

زإنذار وبشارة ، وحث على العلم

(قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣))

المفردات :

(أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا) المراد : وقائع الذين مضوا وحوادثهم.

المعنى :

يأمرنا الله ـ سبحانه وتعالى ـ بالنظر والتفكير بعين البصيرة والاعتبار انظروا ماذا في السموات والأرض من آيات الله البينات؟ انظروا ما فيها من نظام رتيب ، وترتيب عجيب (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ* وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ* لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (١) انظروا إليها بعين البصر والبصيرة ، تجد خالق هذا الكون على هذا النظام لا يمكن أن يتركه هملا ، ولم يخلقه عبثا ، وهذا يدعو إلى التصديق بالرسل والإيمان بالوحي والقرآن.

__________________

(١) سورة يس الآيات ٣٨ ـ ٤٠.

٩١

ولكن ما تغنى الآيات القرآنية والآيات الكونية عن قوم لا يؤمنون بالله ورسله ، ولم يستخدموا عقولهم فيما خلقت من أجله ، وليس المراد بقوله ـ تعالى ـ فيما مضى (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) المجانين بل الذين لم يستخدموا العقول فيما خلقت له من المعرفة الصادقة والإيمان الكامل فهل ينتظر الذين لم يؤمنوا ، ولم يستفيدوا من الآيات إلا وقائع وحوادث كالتي نزلت بمن مضى من الأقوام السابقين ، وقد مر بك جزء منها في هذه السورة. قل لهم : إذا كان الأمر كذلك فانتظروا إنى معكم من المنتظرين. وفي النهاية قد حكم الله حكما لا راد له أنه سينجى رسله والمؤمنين ، حكم بذلك وقدر ، وقال في كتابه : (كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ)(وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) (١) (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ) (٢).

وفي هذه الآية إشارة إلى وجوب النظر في الكون ، والبحث عما فيه للاعتبار ، وتربية الخشية من الله والإيمان به ، وحث على العلم والبحث في الكون ولا غرابة فأنت إذا قلت أن أول ما نزل على نبيك محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله تعالى : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) (٣) أدركت أن الإسلام دين علم وعمل ، وأن نبيك الأمى هو المعلم الأول.

المبادئ العامة للدعوة الإسلامية

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ

__________________

(١) سورة النساء آية ١٠٣.

(٢) سورة التوبة آية ١١١.

(٣) سورة العلق آية ١.

٩٢

يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧))

المفردات :

(يَتَوَفَّاكُمْ) يقبض أرواحكم (حَنِيفاً) مائلا عن الشرك وما يتبعه (بِضُرٍّ) من مرض أو ألم.

المعنى :

قل يا محمد للناس جميعا قولا مجملا مختصرا تبين فيه الخطوط الرئيسية لرسالتك العامة الشاملة ، إن كنتم في شك قليل من ديني ورسالتي فاعلموا أنى لا أعبد الذين تعبدونهم من دون الله أبدا ، كالأحجار ، والأصنام ، والأوثان ، والبشر هؤلاء جميعا لا ينفعون ولا يضرون أنفسهم فكيف يتصور منهم نفع أو ضر لغيرهم؟ ولكني أعبد الله وحده لا أشرك به شيئا ـ سبحانه وتعالى ـ الذي يتوفاكم إليه ، وإليه مرجعكم وجزاؤكم ، وعنده حسابكم الدقيق الذي أحصى كل شيء عددا ، وأمرت أن أكون من المؤمنين الناجين من عذاب يوم القيامة ، وهذا الوصف بالإيمان يجمع جميع شعبه ونواحيه ، وأمرت بأن أقيم وجهى خالصا لله ولدينه مائلا عن الشرك بكل صوره وأشكاله البسيطة والكبيرة ، ونهيت عن أن أكون من المشركين ، ولا تدع يا محمد متجاوزا الله ـ سبحانه ـ ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين لنفسك.

واعلم أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ إن يمسسك في جسمك أو في مالك بأى شكل كان فلا كاشف لهذا الألم والضر إلا هو ..

وإن يرد بك خيرا في دينك أو دنياك فلا راد لقضائه ، ولا معقب لحكمه ، ولا مانع لفضله ـ سبحانه وتعالى ـ عما يصفون.

بل فضله يصيب به من يشاء من خلقه حسب حكمته وعلمه وهو الحكيم في أمره العليم بخلقه وهو الغفور الرحيم.

٩٣

خلاصة ما مضى

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (١٠٩))

هذه خاتمة المطاف في تلك السورة العظيمة التي شرحت الأسس العامة للذين ، وبينت عقائد الإسلام التي ينكرها مشركوا العرب من توحيد الله. والوحى والرسالة والبعث والجزاء ، وما ينكرونه من صفات الله ـ سبحانه وتعالى ـ وتكلمت على القرآن الكريم وهدايته وما فيه من خير للبشرية جميعا ، وكيف كانت الأمم السابقة وما حصل لها ، نتيجة كفر من كفر وإيمان من آمن.

هذا النداء المأمور به الرسول الأعظم هو للناس جميعا على اختلاف أشكالهم وألوانهم من سمع منهم بالقرآن ومن سيسمع في المستقبل وهو إجمال عام لما في السورة.

قل يا أيها الرسول للناس جميعا قد جاءكم الحق من ربكم على لسان رجل منكم أوحى إليه ، هذا الحق الثابت الذي لا شك فيه كتاب أحكمت آياته ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، فمن اهتدى به فإنما يهتدى لنفسه ومن كفر فإنما يضل على نفسه ، وما أنا عليكم بوكيل ، إن أنا إلا نذير وبشير.

واتبع يا محمد ما يوحى إليك من ربك في القرآن علما وعملا وتعليما وحكما وهداية وإرشادا ، واصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ، ولا تستعجل لهم حتى يحكم الله بينك وبينهم وهو خير الحاكمين.

يا أيها الناس ....

إن الله الذي وضع نظاما دقيقا محكما لهذا الكون وما فيه ، لم يختل ولن يختل لا

٩٤

يعقل أن يترك الإنسان المكرم عنده ، المشرف من خلقه بلا نظام ولا قانون يحكمه ويهديه.

والله قد أنزل القرآن وفيه حكم الله وآياته وقوانينه الصالحة النافعة ، قوانين إلهية ودساتير ربانية صنعها صانع السماء والأرض ، وأوجدها موجد هذا الكون. أفبعد هذا تتركونها إلى غيرها (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ). [سورة المائدة آية ٥٠].

أسأل الكريم في ختام هذا الجزء أن يوفق قادة الأمة وحكامها إلى الخير والسداد في اختيار دستور البلاد (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) [سورة المائدة آية ٤٩].

٩٥
٩٦

سورة هود

مكية على القول الصحيح ، وعدد آياتها ثلاث وعشرون ومائة.

وقد نزلت بعد سورة يونس؟ هي في معناها وموضوعها ، وفصل فيها ما أجمل في سابقتها ، وكلاهما يتناول أصول العقائد ، وإعجاز القرآن والكلام على البعث والجزاء والثواب والعقاب ، مع ذكر قصص بعض الأنبياء بالتفصيل ألا ترى أن المناسبة بينهما ظاهرة؟!

وروى الترمذي عن ابن عباس قال : قال أبو بكر ـ رضى الله عنه ـ : يا رسول الله : قد شبت! قال : «شيّبتنى هود ، والواقعة ، والمرسلات ، وعمّ يتساءلون ، وإذا الشّمس كوّرت» ، ولا غرابة ففي تلاوة هذه السورة ما يكشف سلطان الله وبطشه مما تذهل منه النفوس ، وتضطرب له القلوب وتشيب منه الرءوس.

وذلك حينما نقف على أخبار الأمم الماضية ، وما حل بها من عاجل بأس الله ، وقيل : إن الذي شيبه من سورة هود قوله تعالى : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ).

في الأصول العامة للدين

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤))

٩٧

المفردات :

(الر) تقرأ ألف. لام. را ، وفيها ما ذكرناه في أول سورة البقرة من اختلاف العلماء وانتهينا إلى أنها سر من أسراره تعالى ، هو أعلم به ، وفي القرآن الكريم محكم ظاهر المعنى ومتشابه الله أعلم به ، والرأى الثاني : أنها للتحدى والإلزام ، أو هي أداة استفتاح وتنبيه لما سيلقى بعدها. والملاحظ أن هذه السور المفتتحة بتلك الحروف مكية إلا سورتي البقرة وآل عمران ، وأنها تعالج إثبات التوحيد والبعث والكلام على القرآن الكريم وإعجازه إلخ. ما كان يخاطب به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مشركي مكة ، ويلاحظ أن فيها غالبا قصص الأنبياء الذين كانوا يسمعون عنهم ، ولا يعرفون من أخبارهم شيئا ، وهذه الحروف تارة تكون آية مستقلة ، أو تكون جزء آية وصدق الله (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) [سورة الإسراء آية ٨٥].

المعنى :

هذا كتاب عظيم الشأن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد ، كتاب أحكمت آياته بوضوح المعنى ، وبلاغة الدلالة وقوة التأثير ، فهي كالبناء المحكم والحصن المنيع لا ريب فيها ولا شك. ثم فصلت ، ورتبت ، ونظمت ، وسويت ، في سور مترابطة ، وآيات متناسبة فكل سورة منه آية بديعة ، وقطعة فنية عالية في سماء البيان والبلاغة ، فصلت كما تفصل القلائد بالفوائد ، ففي السورة عقائد وأحكام ، وقصص ومواعظ وأدب واجتماع ، وعلوم ومعارف ، وغير ذلك.

أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم كامل الحكمة ، وخبير عليم ، هو الذي فصلها ، وفي ذكر (ثم) إشارة إلى أن مرتبة التفصيل أعلى وأسمى من مرتبة الأحكام فقد جمع القرآن بين أطراف الكمال والجلال.

فصل هذا الإحكام ، والتفصيل للقرآن وآياته لئلا تعبدوا إلا الله وحده ولا تشركوا به شيئا ، وهذا هو الأساس الأول ، والمقصود المهم لكل نبي ورسول كما ستراه في القصص الآتية.

وقيل أمر رسول الله أن يقول للناس : أمركم ربكم ألا تعبدوا إلا الله ، إننى لكم

٩٨

منه ـ سبحانه وتعالى ـ نذير لمن أصر على الكفر والشرك والمعصية ، نذير لهؤلاء بالعذاب الأليم ، وبشير لمن آمن واهتدى بالسعادة والنعيم المقيم.

وأن استغفروا ربكم ، واسألوه المغفرة من الشرك والكفر والذنب ثم توبوا إليه نادمين على الفعل ، عازمين على عدم العودة ، مصلحين ما أفسدتم ، عاملين الصالح من الأعمال (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً) [سورة الفرقان آية ٧٠].

وانظر يا أخى في الجمع بين الاستغفار والتوبة والعطف بثم!! وهذا كله يفيد أن القول غير العمل ، وأن مرتبة العمل (التوبة) مرتبة عالية سامية فوق مرتبة الاستغفار.

ما جزاء هذا؟!! جزاء من تاب وعمل صالحا بعد الاستغفار جزاؤكم أن الله يمتعكم متاعا حسنا من رزق حلال ، وسعادة في الدنيا ، وعيشة رغدة ، ونعمة متتابعة كل هذا إلى أجل مسمى ، ونهاية محدودة بالموت والفناء ، وانقضاء الأجل. المحدد عنده ـ تعالى ـ ، هذا هو الجزاء في الدنيا ، أما في الآخرة فسيؤتى كل ذي فضل من علم وعمل نافع جزاء فضله مطردا كاملا غير منقوص.

انظر يا أخى ـ وفقك الله ـ إلى قوله ـ تعالى ـ : (يُمَتِّعْكُمْ). (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) حيث جمع في جزاء الدنيا ، وجعله موقوتا محدودا ، وفي جزاء الآخرة إفراد ولم يقيد بشيء ، وفي هذا إشارة إلى أن ثواب الدنيا لمجموع الناس لا لكل فرد ، وأما في الآخرة فسيكون لكل فرد على حدة وعلى ذلك فالمعنى :

أيها المخاطبون من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنكم إن تجتنبوا الشرك والإثم ، وتعبدوا ربكم وحده وتستغفروه من كل ذنب ، وتتوبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا تكونون به في الدنيا غير الأمم نعمة وقوة وعزة ودولة ، ويعط كل ذي فضل وعمل جزاء فضله في الآخرة كاملا غير منقوص (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) وأن تتولوا وتعرضوا فإنى أخاف عليكم عذاب يوم كبير هوله ، عظيم خطره ، يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت ، وتضع كل ذات حمل حملها ، وترى الناس سكارى ، وما هم بسكارى ، ولكن عذاب الله شديد ، وقيل : المراد بهذا اليوم أن يصيبنا في الدنيا ما أصاب غيرنا من أقوام الرسل ، وأما يوم الآخرة فأشار إليه بقوله : (إِلَى اللهِ) وحده (مَرْجِعُكُمْ) جميعا ، وجزاؤكم على أعمالكم كلها (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

٩٩

من أعمال الكفار مع كمال علم الله وقدرته

(أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧))

المفردات :

(يَثْنُونَ) يقال : ثنى الثوب إذا عطف بعضه على بعض فطواه ، وثناه عنه لواه وحوله وطواه ليخفيه ، وثنى عطفه أعرض بجانبه تكبرا والمراد : أعرضوا وطووا صدورهم على ما فيها من مكنون الحقد والحسد (لِيَسْتَخْفُوا) أى : فلا يراهم أحد (يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ) يغطون بها جميع أبدانهم.

(دَابَّةٍ) الدابة اسم عام يشمل كل ما يدب على الأرض زحفا على بطنه أو مشيا على قوائمه سواء كانت ثنتين أو أكثر ، وإطلاق الدابة على ما يركب من خيل أو حمير أو بغال إطلاق عرفي (رِزْقُها) غذاؤها.

١٠٠