التفسير الواضح - ج ٢

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ٢

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٨٨٤

بعض مواقف المشركين يوم القيامة

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (٦٣) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (٦٦) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧))

المفردات :

(حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) ثبت ووجب يقال : حق يحق ويحق ثبت (أَغْوَيْنا) أى أضللنا يقال. غوى يغوى ضل (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ) أى : صارت كالعمى لا تهتدى إليهم وأصل التركيب فعموا عن الأنباء ثم حصل قلب ، وهذا مألوف في اللغة العربية.

المعنى :

واذكر لهؤلاء الذين اتبعوا أهواءهم ، وضلوا سبيلهم ، وأضلوا غيرهم ، اذكر لهم يوم يناديهم الحق ـ تبارك وتعالى ـ فيقول لهم سائلا سؤال تبكيت وتأنيب وتوبيخ حيث لم تنفعهم معبوداتهم في هذا الوقت العصيب ، يقول لهم أين شركائى الذين كنتم

٨٤١

تزعمون؟ أين الذين عبدتموهم من دوني ، وأثبتم لهم شركة في استحقاق العبادة؟! ولن يجيبوا عن هذا السؤال لأنه سؤال تقريع فلا جواب له.

وكأن سائلا سأل وقال : ماذا حصل منهم عند هذا السؤال؟ والجواب أنه حصل منهم التنازع والتخاصم بين الرؤساء والمتبوعين ، وبين العوام والتابعين ، وقد حصل منهم كلما اشتد بهم الأمر مثل هذا الخصام ألا ترى إلى قوله ـ تعالى ـ في سورة إبراهيم (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ ..) الآية ٢١.

وهنا قال الذين حق عليهم القول ، والمراد قال الذين ثبت عليهم مقتضاه ، وتحقق فيهم مؤداه ، وهذا القول قاله تعالى (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ). (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) [سورة السجدة آية ١٣ ، ص ٨٥].

هؤلاء الذين حق عليهم القول وثبت هم رؤساء الضلالة ، وقادة الشرك الذين اتبعهم وقلدهم الناس ، قالوا اعتذارا أو ردا لقول العوام (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) قالوا : هؤلاء ـ الإشارة إلى الأتباع والعوام ـ أتباعنا آثروا الكفر على الإيمان كما اثرنا نحن فلا فرق بيننا وبينهم ، ونحن وإن كنا دعوناهم إلى الكفر فقد كان ذلك في مقابلة دعاء الله ـ تعالى ـ لهم إلى الإيمان. بما غرس فيهم من تفكير وأوجد فيهم من قوى عاقلة ، وبما أرسل إليهم من رسل ، وأنزل عليهم من كتب مشحونة بالوعد والوعيد والوعظ والزجر ، وناهيك بذلك صارفا عن دعائنا لو كانوا ممن شرح الله صدرهم للإسلام. فهؤلاء الذين أغوينا أغويناهم فغووا كما غوينا. فالخلاصة : أننا جميعا سواء في استحقاق ما نحن فيه من عذاب ، ونحن نتبرأ إليك منهم ، ما كانوا إيانا يعبدون إنما كانوا يعبدون أهواءهم ، ويطيعون شياطينهم.

وقيل لهم أيضا : ادعوا شركاءكم ينصرونكم من دون الله ، ويمنعون عنكم من عذابه شيئا فدعوهم وألحوا في دعائهم فلم يستجيبوا لهم ، وكيف يستجيبون يوم القيامة؟ وقد كانوا في الدنيا صمّا بكما وعميا ، بل هم جماد وأحجار :

ورأى المشركون النار ، وذاقوا العذاب وأبصروه ، فيا ليتهم كانوا مهتدين في الدنيا.

واذكر يوم يناديهم تقريعا وتوبيخا لهم فيقول : ماذا أجبتم المرسلين؟

٨٤٢

روى أنه إذا مات الميت سئل عن ربه ، وعن نبيه وعن دينه ، أما المسلم فيقول : ربي الله ، ونبيي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وديني الإسلام دين الفطرة ، والتوحيد الخالص البريء ، وأما الكافر والمشرك فلا يجيب بشيء ، بل يسكت ، إذ من كان في هذا أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيل ، ولهذا قال الله : (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) بل يسكتون. وانظر إلى قوله : (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ) وما فيها من بلاغة!!.

فأما من تاب إلى الله وآمن بالله ، وصدق رسول الله ، وعمل عملا صالحا لوجه الله فعسى أن يكون من المفلحين الفائزين ، وعسى في كلام صاحب الملك والملكوت للتحقيق ..

وهكذا يضرب الله الأمثال ، ويبين للمؤمنين والكافرين الأحوال ، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. فاعتبروا بذلك يا أولى الأبصار.

الله سبحانه وتعالى متصف بصفات الجلال والكمال

(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٦٩) وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ

٨٤٣

فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٧٥))

المفردات :

(الْخِيَرَةُ) أى الاختيار (تُكِنُ) تخفى (سَرْمَداً) دائما مأخوذ من السرد وهو المتابعة (تَسْكُنُونَ فِيهِ) تهدءون فيه وتستريحون (وَنَزَعْنا) أخرجنا (وَضَلَّ عَنْهُمْ) تاه.

المعنى :

وربك يا محمد صاحب الجلالة ، إليه الأمر كله ، وهو المنزه عن كل نقص ، الموصوف بكل حمد ، الرحمن الرحيم ، صاحب الفضل العميم ، يخلق ما يشاء لا معقب عليه ، ولا راد له ، ويختار ما يشاء من الأفعال والأحكام ، ومن يشاء من الخلق لما يشاء من الأمر ، وهذا متصل بذكر الشركاء لله والشفعاء له ، وقيل هو رد لكلام الوليد بن المغيرة حين قال : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) يعنى بذلك نفسه وعروة بن مسعود الثقفي شيخ الطائف.

وهذا عجب وأى عجب؟! أهم يقسمون رحمة ربك؟ أهم أوصياء على فاطر السموات والأرض ، أليس الله أعلم حيث يجعل رسالته ، وهو أعلم بخلقه وأحوالهم واستعدادهم (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) سبحان الله وتعالى عما يشركون ، وربك يعلم ما تكن صدورهم وتخفيها ، وما تبديها وتعلنها إذ هو العليم بذات

٨٤٤

الصدور ، وهو الله جل جلاله؟ لا إله إلا هو ، ولا معبود في الوجود بحق إلا هو ، له الحمد في الدنيا والآخرة ، وفي الأولى والثانية ، وله الحكم ، وإليه يرجع الأمر كله ، وإليه وحده ترجع الخلائق يوم القيامة. هذه حقائق تشهد بها آيات الله الكونية ، وآياته القرآنية.

قل لهم يا محمد أخبرونى : إن جعل الله عليكم الليل دائما بلا نهار إلى يوم القيامة! هل هناك إله غير الله يأتيكم بضياء تتمتعون به؟ أفلا تسمعون ذلك سماع تفهم وتدبر؟!!

قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار دائما إلى يوم القيامة ، هل هناك إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه وتهدءون؟ أفلا تبصرون هذه الحقائق فتعرفون لصاحبها ـ جل جلاله ـ حقه الكامل ، وتصفونه بصفات الجلال والكمال ، وتنزهونه عن صفات الحوادث والمخلوقات.

ومن رحمته بخلقه جعل لكم الليل لتسكنوا فيه ، والنهار لتبصروا فيه منافعكم وتحصلوا أمور معاشكم ، ولتشكروا فيه ربكم على ما أسدى لكم من نعمة. وما حباكم به من فضل.

وإن من يذهب إلى البلاد الشمالية الواقعة جهة القطب الشمالي مثلا ويرى انعدام الحياة فيها لأن النهار قد يمكث ستة أشهر ، والليل كذلك أو قريبا منه يدرك السر في اختلاف الليل والنهار ، وتعاقبهما ، وما في ذلك من النعم التي لا تحصى (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) [سورة الفرقان آية ٦٢].

يا عجبا! هذه آيات ناطقة بأنه القادر وحده على كل شيء ، الواحد ذاتا وصفة وفعلا وله الأمر ، ومع هذا فبعض الخلائق تدعى له شركاء لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب!!.

واذكر يوم يناديهم فيقول لهم : أين شركائى الذين كنتم تزعمون؟! ولعل النداء كرر لاختلاف الحالتين ينادون مرة ـ كما سبق ـ فيدعون الأصنام فلا يستجيبون فتظهر حيرتهم ، ثم ينادون مرة أخرى ـ كما هنا ـ فيسكتون ولا يجدون جوابا ، وهذا توبيخ لهم وتأنيب ، ويقول القرطبي رحمه‌الله. والمناداة هنا ليست من الله لأنه تعالى لا يكلم الكفار لقوله : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) لكنه تعالى يأمر من يوبخهم ويبكتهم ،

٨٤٥

ويقيم الحجة عليهم في مقام الحساب ، وقيل : يحتمل أن يكون من الله ويكون قوله : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) محمولا على بعض الأحوال حين يقال لهم : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) [سورة المؤمنون آية ١٠٨].

ونزعنا من كل أمة شهيدا يشهد عليهم بأعمالهم في الدنيا ، وهو رسولهم الذي أرسل لهم ، ثم يأتى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويشهد على الأنبياء جميعا (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [سورة النساء آية ٤١] فقلنا : هاتوا برهانكم وحجتكم ، فعلموا حينئذ أن الحق لله ، وأن ما جاءت به الأنبياء حق وصدق ، وضل عنهم ما كانوا يفترون.

وفي كتب التفسير عند تفسير قوله تعالى : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ) يحسن بمن يريد أن يقدم على أمر من أمور الدنيا أن يستخير الله بأن يصلى ركعتين بنبيه صلاة الاستخارة ، يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) الآية ، وفي الركعة الثانية (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) ثم يدعو بعد السلام بهذا الدعاء ، وهو ما رواه البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله ، قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن يقول : «إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل. اللهم إنى أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم ، وأنت علام الغيوب. اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمرى أو قال في عاجل أمرى وآجله. فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه ، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ودنياى ومعاشي وعاقبة أمرى ، أو قال في عاجل أمرى وآجله ، فاصرفه عنى واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به». قال : ويسمى حاجته.

قصة المال والعلم وتأثيرهما في النفس الإنسانية

(إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ

٨٤٦

أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (٨٠) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (٨١) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (٨٢) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ

٨٤٧

(٨٣) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤))

المفردات :

(فَبَغى عَلَيْهِمْ) تكبر عليهم أو ظلمهم (الْكُنُوزِ) كنز المال : جمعه وادخره ، والكنز : المال المدفون وجمعه كنوز (لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ) لتثقل يقال ناء به الحمل ثقل عليه ، والعصبة الجماعة من الناس (وَابْتَغِ) اطلب (عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) أوتيته على معرفة عندي (وَيْلَكُمْ) الويل : الهلاك أو العذاب ، فخسفنا المراد جعلنا عاليها سافلها (وَيْكَأَنَّهُ) كلمة وى بمعنى أتعجب ، وكأن للتشبيه (وَيَقْدِرُ) أى : يضيق ويقتر (عُلُوًّا) تكبرا وغلبة.

وهذه هي قصة المال والغرور بالعلم وكيف كان مآلهما بعد قصة الملك والسلطان وكيف كانت نهايتهما.

المعنى :

ـ إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم مع أنه منهم ، وعاش معهم ولكنه لم يرع لذلك كله حرمة أو جوارا ، وبغى عليهم حتى جمع ذلك المال الوفير ، وبغى عليهم بتكبره وطغيانه وظلمه لهم.

وآتاه الله من الأموال المنقولة والثابتة ما إن علمه والإحاطة به والمحافظة عليه لتنوء به العصبة من أولى العلم والقوة ؛ وبعضهم يرى أن المعنى. وآتيناه من الكنوز والأموال ما إن مفاتيح خزائنه لتنوء بحملها العصبة من الرجال أولى القوة ، ومنشأ هذا الخلاف في الرأى أن المفاتيح قد يراد بها العلوم والمعارف نظرا إلى قوله تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) [سورة الأنعام آية ٥٩] وقد يراد بها مفاتيح الخزائن المعروفة.

كان قارون من قوم موسى ، وكان ذا مال وفير ، والمقصود المهم من القصة هو ما يأتى :

اذكر وقت أن قال له قومه على جهة الوعظ والإرشاد.

٨٤٨

لا تفرح ؛ وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ، ولا تنس نصيبك من الدنيا ، وأحسن كما أحسن الله إليك ، ولا تبغ الفساد في الأرض.

وهذه خمسة أصول مهمة ، ومن تمسك بها وعمل بمقتضاها نجا من الدنيا وما فيها.

١ ـ قالوا له : لا تفرح بدنياك فرحا مصحوبا بالبطر والأشر ، والفتنة والغرور فالدنيا عرض زائل ، وعارية مستردة يربح فيها من عرفها ، ويخسر من اغتربها (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ). (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ).

ب ـ (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ) نعم فالدنيا طريق الآخرة ، هي المزرعة للباقية من زرع فيها الخير حصد ، ومن أضاع عمره فيما لا يرضى ربه ندم ؛ والعاقل من طلب بدنياه آخرته ، ومن ابتغى فيما آتاه الله الدار الآخرة والله ـ سبحانه ـ لا يطالبك بأن تعطى مالك كله ، بل إن تنفق القليل طلبا لرضا الرب الجليل ، ترجع بالخير الكثير والجزاء الجزيل.

ج ـ (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) نعم فهذا هو الطريق الوسط والرأى الرشد ، أن تعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا ، وتعمل لآخرتك كأنك تموت غدا ، فليس من الدين الزهد في الدنيا حتى تتركها وتعيش عالة على غيرك ، بل الدين يطالبك بالعمل والجد والغنى من طريق الحلال ، فإذا جمعت المال فأعط حق الله فيه ، ولا تنس نصيبك من الدنيا ، أى : تمتع ببعضه بلا إسراف ولا تقتير ، انظر إلى هذا النظام المحكم الدقيق الذي وضعه الحكيم البصير!

د ـ (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) والإحسان هو الإتقان في العمل ، وهو يقتضى إعطاء كل ذي حق حقه.

ه ـ (وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ) بالظلم أو العسف أو الكبر أو الإضرار بالناس فكل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها ، إن الله لا يحب المفسدين بأى شكل كان.

انظر إلى قارون وقد أبى أن يقبل هذا النصح ـ لأنه غير موفق ـ بل زاد عليه بقوله : قال : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي)!! بمعنى أنه أوتى هذا المال لفضل علمه وكمال استحقاقه له ، أو المعنى أنه أوتيه على علم عنده بوجوه الكسب وطرق

٨٤٩

الزيادة ، وإنماء المال ، كأنه قال إنما أوتيت هذا المال لفضل علمي وتمام مجهودي وتجاربي ، فليس لأحد حق له في هذا المال ، وكأنه ينكر إنعام الله عليه بتلك الأموال لاستحقاقه لها عن جدارة فهو حر التصرف.

ولقد رد الله عليه أبلغ رد حيث بين له حقيقة الأمر.

أعنده مثل هذا العلم الذي افتخر به وتعاظم ، ورأى نفسه مستوجبة لكل نعمة ، ولم يعمل به حتى يقي به نفسه مصارع السوء التي أهلك الله بها الطغاة المتجبرين الذين هم أشد منه قوة ، وأكثر مالا وعددا ، ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون ، وهكذا يجب على الإنسان ألا يغتر بماله ، وأولاده وجموعه مهما كانت ، فإن الله إذا أراد شيئا قال له : كن فيكون ، وليعلم المسلم أن الأيام دول ، وأن الدهر قلب ، وليعتبر بما حصل في الماضي ، وليحصن ماله بالإنفاق.

هذا حال قارون مع ماله ، وموقفه ممن وعظه ، وغروره بنفسه واستمع إلى الناس ، وقد انقسموا إلى فريقين : فريق ينظر نظرة سطحية ، فتعميه الدنيا وزخارفها عن الوضع السليم والطريق المستقيم وآخر قد نور الله بصيرته فهو ينظر إلى الدنيا بعين العبرة والعظة ، عين الرجل الفاهم للحقائق الذي لا تخدعه المظاهر الخلابة.

أما الفريق الأول فيقول ، وقد خرج قارون في أكمل زينته وتمام أبهته : يا ليت لنا مثل ما أوتى قارون ، وإنه لذو حظ عظيم ، نظر هؤلاء إلى من فوقهم فتمنوا أن يكونوا مثل قارون في غناه وأبهته ، ونسوا أن لله في خلقه شئونا ، وأن السعادة والخير ليس في المال الكثير ، والجاه العريض ، وإنما الخير والسعادة شيء وراء ذلك كله ، ما دام العبد موصولا بربه ، راضيا مرضيّا ، ولقد عالج القرآن هذا الداء علاجا حاسما لأن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يعلم خطره ، إذ من يمد عينيه إلى مال غيره ويتمناه ، يعود وقد امتلأ قلبه حسدا وحقدا ، وناهيك بهذه الأخطار التي ينشأ عنها معظم الجرائم : اقرأ معى قوله ـ تعالى ـ لنبيه الكريم (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى) [طه ١٣٢].

أما الفريق الثاني فيقول ناصحا لأصحابه : ويلكم [هذه كلمة زجر] ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا فالسعادة فيه ، والخير لصاحبه إذ هو دائم ، لا تعب معه

٨٥٠

ولا ضرر فيه ، وهذا المال مصدر تعب وشقاء لصاحبه في الواقع ونفس الأمر كما نشاهد ذلك عند أغلب الأغنياء.

ولا يلقّاها إلّا الصابرون ، أى : ولا يلقى هذه الحقائق ويعمل بها إلا الصابرون ، ولا شك أن هذه الحقائق هي الإيمان والعمل الصالح ، وإدراك ما يوصل إلى خيرى الدنيا والآخرة.

وقد جاءت نهاية قارون مؤيدة لما ذهب إليه أهل العلم والبصر بالدنيا والآخرة فخسف الله بقارون وبداره وبماله وبجموعه الأرض ، فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله ، ويمنعون عنه بأس الله وبطشه ، حيث لم يعمل عملا صالحا يقربه إلى ربه ، ولم يحصن ماله بالصدقة والزكاة ، ولم يتقرب إلى الله وإلى الناس بترك الكبر والغرور والغطرسة ، ولهذا كله كانت النتيجة أن ضاعت دنياه ، وخسف الله به الأرض ، والله على كل شيء قدير ، وبعباده خبير بصير ، وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون : وى [كلمة تفيد معنى التعجب] كأن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، نعم ، الله وحده هو الذي يعطى ويمنع ويبسط الرزق لمن يشاء ويقتر ، فلم يعط إنسانا لعقله وعلمه ، ولم يحرم آخر لجهله وسوء رأيه ، بل الأمر كله لله ، وإذا كان كذلك فالواجب هو امتثال أمر الله ، ومخالفة النفس الأمارة بالسوء ، وترك الغرور والكبر فإن الأمر كله بيد الله ، وهو صاحب الأمر ، لو لا أن من الله علينا لأصابنا ما أصاب قارون ، وى كأنه لم يفلح الكافرون حقيقة ، وما هم فيه في الدنيا فهو استدراج لهم ، وفتنة لغيرهم ، تلك الدار الآخرة وما فيها من نعيم مقيم دائم لا تعب ولا مشقة معه يجعلها ربك للذين لا يريدون علوّا في الأرض على غيرهم ، ولا يريدون فسادا والعاقبة للمتقين ، وانظر إلى قوله تعالى : (لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً) حيث علق الوعد بترك إرادة العلو والفساد وميل القلب إليهما ، لا بفعلهما مبالغة في تحذير المؤمنين وإبعادهم عن هذه الأمراض الخطيرة التي تبيد الأمم ، وتهلك الأفراد والجماعات.

ولا غرابة في ذلك كله فإن هناك قانونا وسنة لا تتخلف هي : من جاء بالحسنة فله خير منها ، أى : ثواب خير منها وهو عشر أمثالها. والله يضاعف لمن يشاء ، ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها فقط جزاء لعمله ، وربك ذو فضل عظيم ، إذ لا يجزى بالسيئة إلا مثلها ، ويجزى بالحسنة عشر أمثالها ، إن ربك واسع المغفرة.

٨٥١

البشرى بالعودة إلى مكة

(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨))

المفردات :

(فَرَضَ) أنزله عليك (مَعادٍ) قيل : هو المقام المحمود الذي وعد أن يبعث فيه وقيل : هو مكة إذ معاد الرجل بلده لأنه ينصرف منها ثم يعود إليها (ظَهِيراً) معينا وناصرا ؛ يقول الفخر الرازي في تفسيره : ثم إنه ـ سبحانه وتعالى ـ لما شرح لرسوله أمر يوم القيامة واستقصى في ذلك. شرح له ما يتصل بأحواله فقال : إن الذي فرض عليك القرآن ...

المعنى :

يقول الله ـ سبحانه وتعالى ـ (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) وأنزله عليك إنزالا له أثره ومغزاه (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) وهو المقام المحمود الذي وعد أن يبعث فيه بعد الموت ، وقيل المعنى : إن الذي أنزل عليك القرآن لرادك إلى مكة بلدك الحبيب الذي انصرفت منه وستعود إليه فاتحا منتصرا بعد خروجك منه مهاجرا ، وتكون الآية نزلت على النبي وهو بمكة متحملا لأذى قومه صابرا على آلامهم ، وعلى هذا فهي

٨٥٢

من باب المغيبات ، وهذا الرأى هو الأصح ، لأنه دليل على النبوة من حيث صدق خبره.

قل لهؤلاء المشركين : ربي هو العالم البصير الذي يعلم الغيب والشهادة ، وهو أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ، ومن هو في ضلال بين ظاهر ، فينصر الأول ويعصمه من الناس ويؤيده ، وأما من هو في الضلال والكفر فهو المخذول ، وستكون الدائرة عليه ، وسيعاقبه على ضلاله عقابا صارما شديدا.

وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب ، ولا تأمل إنزال هذا القرآن المحكم البين الكامل في كل شيء ، لكن رحمة من ربك وفضلا وإحسانا ألقى إليك هذا الكتاب الذي لا ريب فيه ، وهو هدى للناس وآيات للمتقين.

وإذا كان الأمر كذلك فها هي ذي تكاليف خمسة يجب عليك أن تحرص عليها إذ هي دعائم الفلاح والفوز في الدنيا والآخرة.

١ ـ فلا تكونن ظهيرا ومعينا للكفار بحال من الأحوال بل كن ظهيرا للمسلمين ومعينا لهم ، والله معك وعاصمك من النّاس جميعا وحافظك.

٢ ـ ولا يمنعك عن تبليغ آيات الله كلها بعد إذ أنزلت عليك مانع أبدا مهما كان (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [سورة المائدة آية ٦٧].

٣ ـ وادع إلى ربك وإلى دينه بكافة الطرق ، متشددا في ذلك أو متساهلا تبعا للظروف ولا يهمك أمرهم.

٤ ـ ولا تكونن من المشركين لأن من رضى عن طريقتهم أو مال إليها كان منهم.

٥ ـ ولا تدع مع الله إلها آخر في أى عمل من الأعمال ، ومعلوم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يمكن أن يفعل شيئا من ذلك حتى ينهى عنه ، والجواب أن هذا من باب [إياك أعنى واسمعي يا جارة] فالكلام مع النبي والمراد غيره ، وإنما كان ذلك كذلك تعظيما لأمر هذه الأشياء.

وكيف تدعو مع الله إلها آخر؟ وهو الله لا إله إلا هو ، كل شيء غيره في العالم هالك لأن وجوده ليس لذاته بل مستند إلى واجب الوجود ، فكل شيء سوى الله

٨٥٣

بهذا المعنى هالك ومعدوم بالقوة أو بالفعل إذ وجوده من غيره ، وهو موقوت بوقت مهما طال ، كل شيء هالك إلا ذاته ـ جل شأنه ـ فهو الواجب الوجود القديم الباقي الذي لا يجوز عليه العدم والفناء بحال من الأحوال.

له الحكم وإليه وحده الأمر كله ، وإليه وحده ترجعون فتحاسبون ، وتجازون على أعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر ...

سورة العنكبوت

مكية كلها في قول بعضهم ، وعن ابن عباس إنها مكية إلا عشر آيات من أولها ، والظاهر أنها نزلت بين مكة والمدينة كما قال على بن أبى طالب ... وهي تسع وستون آية. وعلى العموم فإنها تدور حول بيان حقيقة الإيمان ، وما يصادف المؤمنين من فتن تصهرهم وتقوى روحهم ومع ذلك فالنصر للإيمان ، وقد جاء القصص مؤيدا لذلك مع ضرب المثل لقوة الكفار وآلهتهم ، ونتيجة الجهاد في سبيل الله.

شحذ عزائم المسلمين وتقوية إرادتهم وتهديد أعدائهم

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧))

٨٥٤

المفردات :

(أَحَسِبَ النَّاسُ) أظنوا وتخيلوا (لا يُفْتَنُونَ) الفتنة : الابتلاء والاختبار بالشدائد التي تصادف الناس (أَنْ يَسْبِقُونا) أى : يفوتونا فلا ننتقم منهم (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) بئس حكمهم (يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ) أى : يأمل في لقائه وثوابه ، قيل : يخاف لقائه.

لقد ذكر الفخر الرازي ـ رحمه‌الله ـ في تفسيره مسائل في تفسير هذه الآية ، منها مسألة في حكمة افتتاح هذه السورة بقوله (الم) وأنا ألخصها فيما يأتى :

البليغ الحكيم إذا خاطب مشغول البال ، أو من هو في غفلة ، يقدم ما يجعل المخاطب يلتفت إليه ، ويتجه بقلبه ثم يشرع فيما يريده ، وهذا المقدم قد يكون كلاما له معنى مفهوم مثل : اسمع. التفت تنبه إلخ ، وقد يكون أداة استعملت للتنبيه كأدوات النداء والاستفتاح مثل أمحمد. يا على : ألا يا خالد ، وقد يكون المقدم صوتا غير مفهوم كالتصفير مثلا أو التصفيق باليد إلخ.

ومن المألوف في أساليب اللغة أن ألفاظ التنبيه تستعمل عند الغفلة على حسبها ، وتستعمل على شكل واسع إذا كان المقصود من الكلام مهما ، وموضعه خطيرا.

وإذا قدم المتكلم البليغ على كلامه لفظا غير مفهوم المعنى ، كان ذلك أدعى للالتفات ، وأقوى في التنبيه لما بعده مثل الحروف الهجائية التي تفتتح بها السور فإن قال قائل : ما الحكمة في اختصاص بعض السور بهذه الحروف؟ فالجواب : أن عقل البشر قاصر عن إدراك الأشياء الجزئية والحكم المقصودة من ذلك ، والله ورسوله أعلم بذلك كله.

ولكن هذا لا يمنع من ذكر ما يوفقنا الله له فنقول (أى الفخر) : كل سورة في أوائلها حروف التهجي فإن في أوائلها ذكر الكتاب أو القرآن ، واقرأ أول سورة البقرة وآل عمران. والأعراف. ويس. وق والقرآن المجيد. والحواميم إلا ثلاث سور : سورة مريم ، والعنكبوت هذه ، والروم ...

ولعل الحكمة كما قلنا سابقا أن القرآن عبء ثقيل ، وفيه أحكام وحكم ، وهو دستور

٨٥٥

الأمة ، فإذا تكلم القرآن على نفسه في أول السورة وجب أن يقدم التنبيه الذي يوقظ النفوس ، ويحرك المشاعر.

ولعل بدء السورة التي ليس في أولها ذكر للكتاب كما هنا وفي سورة الروم ، ومريم بحروف ليست لها معاني معروفة لخطر ما بدئت به وأهميته حتى احتاجت إلى هذا التنبيه ، ولا عجب ففتنة المسلم كما هنا ، وذكر زكريا ويحيى وعيسى كما في سورة مريم والإخبار بالمغيبات في سورة الروم غاية الأهمية ؛ ولقد سبق أن تكلمت في هذا الموضوع ، وهو موضوع شائك ولعل سلوى الجميع فيه وفي أمثاله قوله تعالى : (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ ، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) [سورة آل عمران آية ٧].

المعنى :

ألم. أظن الناس أن يتركوا لأنهم قالوا آمنا في حال أنهم لا يفتنون ، ولا يبتلون بأنواع المحن والفتن؟ التي تمحص المتقين المخلصين من المنافقين الكاذبين (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) [آل عمران ١٥٤].

نزلت هذه الآيات في قوم من المؤمنين كانوا بمكة ، وكان الكفار من قريش يؤذونهم ويعذبونهم على الإسلام كسلمة بن هشام. وعياش بن أبى ربيعة. والوليد بن الوليد. وعمار بن ياسر. وياسر أبوه وسمية أمه ، فكانت صدورهم تضيق بذلك وربما استنكر بعض الناس أن يمكن الله الكفار من المؤمنين!.

فنزلت هذه الآية مسلية ومعلنة أن هذه هي سيرة الله في عباده اختبار للمؤمنين وفتنة لهم (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ) [سورة آل عمران آية ١٤١].

قال بعض العلماء : وهذه الآية وإن كانت نزلت بهذا السبب أو ما في معناه فهي باقية في أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم موجود حكمها ما دام هناك إسلام وحق يدافع عنه بعض الناس ، فلا بد من وجود إيذاء وشدائد لهم.

ولقد فتنا الذين من قبلهم ، وابتليناهم قديما كما ابتلينا إبراهيم بإلقائه في النار ، وكما

٨٥٦

حصل لقوم نشروا بالمناشير في دين الله فلم يرجعوا عنه أبدا وروى البخاري عن خباب ابن الأرت : قال شكونا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا له : ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟.

فقال : «قد كان من قبلكم يؤخذ الرّجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ، ويمشط بأمشاط الحديد لحمه وعظمه فما يصرفه ذلك عن دين الله. والله ليتمّنّ هذا الأمر حتّى يسير الرّاكب من صنعاء إلى حضر موت ، لا يخاف إلّا الله والذّئب على غنمه ولكنّكم تستعجلون».

فليعلن الله الذين صدقوا أى : فليظهرن الله الذين صدقوا ، وليظهرن الكاذبين ، إذ علمه بهم حاصل قبل الاختبار وبعده.

بل أحسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا فلا ندركهم؟ أظنوا أنهم يفوتوننا فلا ننتقم منهم. لا. بل إن ربك لبالمرصاد ، وسيجازيهم على أعمالهم جزاء وفاقا. ألا ساء حكمهم وتقديرهم إن فهموا أنهم يسبقوننا.

من كان يرجو لقاء الله ويؤمل ثوابه ، ويخاف عقابه فليستعد لذلك اليوم استعدادا كاملا ، وليعمل عملا صالحا ، ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ، فإن أجل الله لآت له ، وإن وقته المضروب للقائه آت بلا شك ، فمن الخير له الاستعداد لذلك اللقاء بالعمل الصالح ، والله هو السميع لكل قول ، العليم بكل فعل.

وقد مضت حقائق ثلاثة : هي اختبار المؤمن بالفتن ، وعقاب العاصي على العمل ، وجزاء المحسن الذي يرجو لقاء ربه آت بلا شك ولا جدل ، وربك الغنى عن عباده الطائعين ، ولا يضره عصيان العاصين ، ومن جاهد نفسه وهواه ، واتبع طريق الحق والعدل والكرامة فإنما يجاهد لنفسه لا لغيره (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) (١) (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) (٢).

والذين آمنوا وعملوا الصالحات من الأعمال لنكفرن عنهم سيئاتهم التي قد يلمون بها. فالإنسان لا بد أن يرتكب بعض السوء وإن لم يشعر به (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) (٣).

__________________

(١) سورة فصلت الآية ٤٦.

(٢) سورة الإسراء الآية ٧.

(٣) سورة التوبة الآية ١٠٢.

٨٥٧

ولنجزينهم بأحسن أعمالهم فنقدرها على أحسن وجه وأكمله فنجازيهم عليها ، وليس المعنى أن الله يختار أحسن الأعمال ويترك الباقي.

أرأيت إلى هذه الآيات الكريمة التي تشحذ العزائم وتربط على القلوب ببيان أن المؤمن صاحب العقيدة لا بد من ابتلائه ، وأن هذه سنة الله قديما وحديثا ، مع بيان أن المسيء الذي يسيء المؤمن سيجازى على عمله حتما ، وقد بين الله أنه لا بد من يوم يجازى فيه المحسن والمسيء وهو قريب الحصول ، وهذا العمل الصالح من العبد يكون خيرا له لا لغيره ، والله يكفر عنه سيئاته ويجازيه على أعماله أحسن الجزاء ـ اللهم وفقنا واهدنا إلى سوء السبيل.

مدى فتنة الكفار للمؤمنين ، وتهديد الله للكفار وللمنافقين

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا

٨٥٨

وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣))

المفردات :

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ) أى : أمرناه ، فكلمة وصى في اللغة كأمر في معناها وتصرفها (حُسْناً) أى : بأن يفعل معهم حسنا ، أى : فعلا ذا حسن ، أو هو نفس الحسن مبالغة (فِتْنَةَ النَّاسِ) أى أذاهم واستعمال القوة والعنف في الرد عن الإسلام (أَثْقالَهُمْ) أوزارهم.

لا يزال الكلام في فتنة المسلمين وردهم بالقوة عن الإسلام ، والذين فتنوهم المستضعفون ، ومن فتنهم هم الكفار الأقوياء أصحاب الجاه والسلطان ، ومن كان يملك رقابهم ، وهناك صنف آخر من المعذبين الذين فتنوا هم الأبناء والأقارب والذين فتنهم آباؤهم وأقاربهم مستخدمين سلاح العطف وصلة الرحم ، ولذا نبه الله هنا على ذلك ، ونزلت تلك الآية وآية لقمان وآية الأحقاف في سعد بن أبى وقاص.

وروى عن سعد قال : كنت بارا بأمى فأسلمت فقالت : لتدعن دينك أولا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعير بي ويقال لك : يا قاتل أمك ، وبقيت يوما ويوما فقلت يا أماه! لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني هذا ، فإن شئت فكلي ، وإن شئت فلا تأكلى ، فلما رأت ذلك أكلت ، ونزلت الآية.

المعنى :

ووصينا الإنسان بوالديه أن يفعل معهما فعلا حسنا ، وقلنا له : إن جاهداك لتشرك بالله ما ليس لك به علم ، أى : ما لا علم لك بألوهيته كالأصنام ، والمراد بنفي العلم المعلوم كأنه قال : وإن جاهداك وحملاك بالفتنة والإغراء على أن تشرك بالله شيئا لا

٨٥٩

يصح أن يكون إلها ، ولا يستقيم بحال ، فلا تطعهما في ذلك أبدا مع الإحسان إليهما ومداراتهما وترضيهما كما أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سعدا أن يفعل مع أمه «وقد ثبت ذلك في بعض الروايات».

وصى الله الإنسان بوالديه وأمره بالإحسان إليهما ، ثم نبهه إلى عدم طاعتهما ، إذا أراداه على الشرك ، إذ كل حق وإن عظم ساقط إذا جاء حق الله ، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

ثم قال : إلىّ مرجعكم ، نعم إلى الله وحده ترجع الأمور وسيجازى كلا على ما عمل فلا يحدثن أحد من الناس نفسه بجفوة والديه إذا أشركا ، ولا يحرمهما من بره وعطفه في الدنيا إذا عصيا ، وإياه ومتابعتهما على الشرك ؛ بل اثبت في دينك ، واستقم كما أمرت فالله معك ، وسيجازيك على هذا كله ، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وصبروا على المكروه والأذى في سبيل الله فأولئك يدخلون الجنة مع الصالحين والأنبياء والمرسلين والشهداء وحسن أولئك رفيقا.

يا أخى لا تظن أن مرتبة الصلاح هينة فلله در الإمام الشافعى حيث يقول : «أحبّ الصّالحين ولست منهم». وهذا النبي سليمان بن داود يدعو ربه أن يدخله مع الصالحين (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) (١). وفي إبراهيم يقول الله (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (٢).

هذا هو حال المؤمنين الذين فتنوا واختبروا في دينهم كبلال وصهيب وآل ياسر كلهم : وهذا سعد بن أبى وقاص يبتلى بأمه وكانت أحب الناس إليه ، وهذا حال من فتن من صناديد قريش وزعماء الكفار.

ولكن أليس في المجتمع المسلم منافقون ضعاف الإيمان إذا فتنوا رجعوا عن دين الله؟. نعم فيه ذلك ، إذ لا يخلو منهم زمان ولا مكان ، والمحن هي محك الاختبار ، وفيها الامتحان ليميز الله الخبيث من الطيب.

وها هم أولاء يقولون آمنا بالله فإذا أوذوا في سبيل الله ، وافتتنوا في دينهم ، ومحصوا بالابتلاء الواقع ، وانكشفت الستائر ، وجعلوا فتنة الناس تمنع من الثبات في دينه كما يمنع عذاب الله من الكفار ، وإذا نصر الله المسلمين ليقولن : إنا كنا معكم ، وكنا ثابتين على دينكم فأعطونا من الغنائم! أو ليس الله بأعلم بما في الصدور؟! وهو يعلم السر

__________________

(١) سورة النمل الآية ١٩.

(٢) سورة البقرة الآية ١٣٠.

٨٦٠