التفسير الواضح - ج ٢

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ٢

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٨٨٤

يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١))

المفردات :

(شِيعَتِهِ) أى : حزبه وجماعته ، وهم الإسرائيليون لأنهم تشيعوا لموسى ولمذهبه (فَاسْتَغاثَهُ) طلب منه الغوث والنصرة (فَوَكَزَهُ مُوسى) الوكز واللكز : الضرب بجمع الكف (ظَهِيراً) معينا وناصرا (يَتَرَقَّبُ) ينتظر ما ينال من جهة القتيل (يَسْتَصْرِخُهُ) يستغيث به صارخا (لَغَوِيٌ) لضال من غوى يغوى أى : ضل (يَبْطِشَ) البطش الأخذ بعنف (مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) من أبعد جهاتها (الْمَلَأَ) الأشراف الذين يملؤون العين مهابة (يَأْتَمِرُونَ بِكَ) يتشاورون فيك ، وسميت المشاورة ائتمارا لأن كل من المستشارين يأمر الآخر.

المعنى :

نشأ موسى في بيت فرعون وتربى فيه. ولكنه إسرائيلى يجمعه معهم صلة القربى واللغة والعادة والدين ، وكان الإسرائيليون مضطهدين من فرعون وآله يسومونهم سوء العذاب. لهذا وذاك كان موسى ساخطا على معاملة القبط لبنى جنسه ، وكان يدافع عنهم بشدة حتى عرف عنه ذلك ، وأصبحوا يتشيعون له.

دخل موسى يوما المدينة التي يسكنها فرعون ـ العاصمة ـ على حين غفلة من أهلها لأنهم كانوا في القيلولة ، فوجد رجلا مصريا يأخذ بتلابيب رجل إسرائيلى ، يقال لهما : هذا من شيعته ، وهذا من عدوه ، فاستغاث العبراني بموسى ليخلصه من ظلم المصرى

٨٢١

فجاءه موسى ، وهو مغضب ، ووكز القبطي وكزة كانت القاضية ، وواراه التراب ولم يعلم بذلك أحد إلا الرجل العبراني الذي نصره موسى.

ولما سكنت نفس موسى وهدأ غضبه ، ندم على ما فعل ، وقال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين ، إذ كان الأولى أن تكون النصرة بغير الضرب المفضى إلى الموت ، وقال موسى : رب إنى ظلمت نفسي بهذا العمل فإن فيه قسوة وشدة ، وإن كان عمل المصريين يخرج المرء عن صوابه ، يا رب إنى ظلمت نفسي ، فأنا أتوب إليك ، وأندم على فعلى هذا فاغفر لي مغفرة من عندك ، فتقبل الله منه توبته النصوح ، وغفر له ، إنه هو الغفور الرحيم قال : رب بما أنعمت على من فيض نعمك التي لا تحصى ، وبسبب هذا فلن أكون ظهيرا للمجرمين ، يا رب فلا تجعلني معينا وناصرا لأهل الشر أبدا.

ولما كان اليوم الثاني وموسى يخاف افتضاح فعلته التي فعلها ، وينتظر ماذا يكون من أمره؟ ، إذ بالإسرائيلى يتقاتل مع قبطى آخر ، فاستغاثه الإسرائيلى ـ وهو من شيعته ـ على الفرعوني ـ الذي هو عدوه ـ ولكن موسى ندم على فعلته السابقة وكره مثل هذا الفعل فمد يده ، وهو يريد أن يبطش بالفرعوني ، وفي الوقت ذاته قال للإسرائيلى (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) وهو مغضب ثائر ، فظن العبراني أن موسى أراده بسوء فقال : أتريد يا موسى أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس؟!.

وقيل إن الذي قال هذا هو القبطي يلوم موسى ويقول أيضا ما تريد يا موسى إلا أن تكون جبارا شديد البطش كثير الإيذاء في الأرض ، وما تريد أن تكون من المصلحين الذين يفضون النزاع بين الناس ، ولما كان أحد الخصوم ذوى قربى شاع خبر قتل موسى للمصرى أى القبطي ـ أو الفرعوني ـ تلك ألقاب ثلاثة لسكان مصر في ذلك الوقت ـ حتى بلغ فرعون وجنده فطلبوا موسى لقتله كما قتل ... في ذلك الوقت جاء رجل مؤمن من أقصى المدينة يسعى ليخبر موسى بما أراده القوم من سوء له. وقال : يا موسى : إن الملأ قد بيتوا العزم وصمموا على قتلك ، فاخرج من تلك الديار ، إنى لك من الناصحين.

فخرج موسى من مصر خائفا يترقب ، وفي وسط هذه المحنة الشديدة ، قال : رب نجنى من القوم الظالمين ، وقد نجاه الله ووصل إلى مدين (وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) [سورة طه آية ٤٠].

٨٢٢

أرض مدين ونزوله بها ومصاهرته للشيخ

(وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٢٨))

٨٢٣

المفردات :

(تِلْقاءَ) تجاه (وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ) بلغ ماء مدين ، ولفظ ورد تكون بمعنى الاطلاع عليه والبلوغ إليه فقط وإن لم يدخل كما هنا (أُمَّةً) لهذه الكلمة عدة معان منها الجمع الكثير كما هنا (تَذُودانِ) تحبسان وتطردان وتمنعان (ما خَطْبُكُما) ما شأنكما؟ (يُصْدِرَ الرِّعاءُ) حتى ينصرف الرعاة : يقال صدر عن الماء مقابل ورد. انصرف عنه ، ويقال : أصدره يصدره صرفه عنه ، والرعاء جمع راع كصحاب جمع صاحب (قَصَ) روى له القصة (تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ) جمع حجة وهي السنة (فَلا عُدْوانَ) فلا مجاوزة للحد.

المعنى :

انتهى أمر موسى ـ عليه‌السلام ـ إلى الخروج من أرض مصر فارّا بنفسه خائفا من المصريين الذين قتل منهم واحدا ، ومن المعقول أن موسى خرج بلا زاد ولا راحلة! فإلى أى الجهات يقصد؟ لقد قصد أرض مدين للنسب الذي بين الإسرائيليين وبينهم لأن مدين من ولد إبراهيم ، والإسرائيليون من أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ـ عليهم‌السلام ـ جميعا.

ولما توجه جهة مدين ، وهو على هذا الوضع الشديد قال متضرعا إلى ربه : عسى أن يهديني سواء السبيل ، ويوفقني إلى الطريق المستقيم حتى أصل إلى ما أقصد.

ولما وصل أرض مدين ـ وهي بلاد واقعة حول خليج العقبة من جهة الشمال قريبا من شمال الحجاز وجنوب فلسطين ـ رأى على الماء جماعات كثيرة من الناس يسقون ماشيتهم ، ووجد من دونهم امرأتين تذودان غنمهما عن ورود الماء. وتمنعانها عن الحوض انتظارا حتى يسقى أولو القوة من الرعاة ، ويصدرون ماشيتهم ، فإذا فرغوا من سقيهم جاءتا واستقتا لماشيتهما ، وهذا شأن الضعيف مع القوى ، يشرب القوى أولا من الماء الصافي ، ويشرب الضعيف البقية الباقية من الماء الكدر.

ونشرب إن وردنا الماء صفوا

ويشرب غيرنا كدرا وطينا

موسى رجل جد عمل ، وإباء وبطولة ، لم يعجبه أن يبتعد النسوة عن الماء

٨٢٤

لضعفهن ، ويتقدم للورود الرجال لقوتهم ، وكيف يقبل هذا؟ وهو رجل ثار على الظلم ، ولم يعجبه جبروت فرعون وطغيانه!!.

فسأل المرأتين عن شأنهما ، ولما ذا يحبسان ماشيتهما عن الورود؟ فقالتا لا نسقى حتى يسقى هؤلاء الرعاة ماشيتهم ، فهم أولو قوة ونحن ضعيفات كما ترى ، وأبونا شيخ كبير مسن ، لا يقدر على مزاولة أمر الرعي والسقي فثار موسى ، وتحركت فيه عوامل الشهامة والرجولة ، وسقى لهما ، وأدلى بدلوه بين دلاء الرجال حتى شربت ماشيتهما.

ثم تولى إلى ظل الشجرة ليستريح من وعثاء الطريق ، ومشقته ، وهو رجل دائم الصلة بربه يذكره ويتضرع إليه ، فلا ينساه أبدا ، وبخاصة في هذا الوقت الشديد ، فقال : يا رب أعطنى من فضلك ، وأسبغ على من نعمك ، فإنى لما أنزلته إلى من خير فقير ـ والخير هو المال هنا ـ وهل ينساه ربه؟ كلا! فمن يتوكل على الله فهو حسبه ، ونعم الوكيل.

عادت المرأتان إلى أبيهما الشيخ فسألهما عن السر في حضورهما بسرعة على خلاف شأنهما كل يوم ، فأخبرتاه بما كان من الرجل الذي سقى لهما ، وسهل لهما العودة مبكرتين ، فأرسل إحداهما إليه فوافته بمكان قريب من الماء يستظل تحت شجرة ، وقالت له في حياء وخفر إن أبى يدعوك ليعطيك أجر ما سقيت لنا.

رأى موسى الفرج في ذلك ، وأن الله قد استجاب دعاءه بسرعة ، وهل ينساه ربه! كلا! فإن ذلك لا يكون.

تبع موسى المرأة إلى منزل أبيها ، وطلب منها أن تكون خلفه حتى لا يراها ، وأن توجهه إلى الطريق وهي خلفه ، لا غرابة في هذا ، فهذا أدب النبوة العالي.

جاء موسى إلى ذلك الشيخ ـ وهو شعيب على القول الصحيح ـ فرحب به وأكرم وفادته ، وأحله أهلا بمكان سهل ، وقص موسى على شعيب قصته كلها من ولادته إلى ذلك الوقت. وأخبره بأخبار بنى إسرائيل في مصر فطمأنه شعيب ، وقال له : لا تخف ولا تحزن لقد نجاك الله من القوم الظالمين الطغاة المتجبرين.

مصاهرة موسى لشعيب : لما جاء موسى إليه وكلمه ، وطمأنه ، وأزال عنه الخوف ، قالت إحدى بناته : يا أبت استأجره يرعى غنمنا فهو الرجل القوى الأمين ، وهما

٨٢٥

الصفتان الممدوحتان في العامل ، ولقد رأت قوته في سقيه لهما ، وأمانته في طلبه لها أن تسير خلفه ، وتنعت له الطريق ، قبل شعيب رأى ابنته ، واقتنع بأن موسى نعم الرجل القوى الأمين ، وطلب إلى موسى أن يخدمه برعي غنمه ثماني سنين فإن أتمها عشرا فمن عنده ولا حرج عليه ، وهذا في نظير أن يزوجه إحدى بناته وأشار شعيب لها. قبل موسى ذلك على أنه بالخيار في أى الأجلين ، وتمت الصفقة بينهما على ذلك.

قضى موسى الأجل ، وسار بالوادي المقدس

(فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً

٨٢٦

فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (٣٥))

المفردات :

(الْأَجَلَ) الميعاد المحدد (آنَسْتُ) أبصرت (الطُّورِ) اسم للجبل الذي في سيناء (جَذْوَةٍ) الجذوة الجمرة الملتهبة ، وقيل هي القطعة الغليظة من الخشب سواء كان في طرفها نار أو لم يكن (تَصْطَلُونَ) تستدفئون (شاطِئِ الْوادِ) جانبه (جَانٌ) أى حية صغيرة سريعة الحركة (مُدْبِراً) هاربا (يُعَقِّبْ) يرجع من عقب الفارس أى كر (اسْلُكْ) أدخل (جَيْبِكَ) جيب القميص طوقه (جَناحَكَ) قيل المراد بالجناح اليد لأنها تشبهه (الرَّهْبِ) الخوف (رِدْءاً) معينا (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ) نقويك (سُلْطاناً) حجة قوية متسلّطة.

المعنى :

وأخيرا كان ما كان ، وقضى موسى أتم الأجلين وأوفاهما وأكملهما ، وسار إلى ما يريد مع أهله أى : زوجته ومن معهما ، فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله ، آنس من جانب الطور نارا موقدة ، فلما أبصرها ، وكان في ليلة شاتية باردة ، قد حاول أن يوقد نارا بزنده فلم يفلح ، فلما أبصر تلك النار قال لأهله امكثوا هنا ولا تبرحوا ذلك المكان ، فإنى سآتيكم من عندها بخبر يهدينا إلى الطريق ، أو جذوة من النار لعلكم تستدفئون.

فلما أتاها نودي من الشاطئ الأيمن للوادي من الشجرة ، نودي : يا موسى : إنى أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى ، يا موسى إنى أنا الله رب العالمين ، وأن ألق عصاك ، فألقاها فصارت ثعبانا فاهتزت فلما رآها كأنها جان في سرعة حركتها ، وكثرة تقلبها ولى مدبرا وصار خائفا مضطربا ، ولم يعقب ، قيل له إزاء هذا :

٨٢٧

(يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ) إنه لا يخاف لدى المرسلون (إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) يا موسى اسلك يدك في جيب قميصك ، أى أدخلها فيه تخرج منه بيضاء ناصعة من غير سوء ولا برص ، (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ) أى يدك المبسوطة كالجناح لتتقى بها الحية ، كأنك خائف فزع منها ، أى اضمم إليك يدك وأدخلها تحت عضدك بدل أن تتقى بها الحية ، ثم أخرجها بيضاء لئلا يرى أحد أنك خائف ، ولتظهر معجزة أخرى هي إخراج اليد بيضاء ، وقد كان موسى رجلا طوالا آدم ـ أسم ـ

وعلى هذا فيكون المعنى قد عبر عنه بعبارات (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) : (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ). (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ). (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ) [سورة القصص آية ٣٢ ، النمل ١٢ ، طه ٢٢].

ويجوز أن يراد بقوله تعالى «واضمم إليك جناحك». التجلد وضبط النفس والثبات عند انقلاب العصاحية ، مستعار من فعل الطائر لأنه إن خاف نشر جناحيه وأرخاهما ، وعند الأمان يضم جناحيه.

فذانك أى العصا التي قلبت حية ، واليد التي خرجت بيضاء من غير سوء ، برهانان من ربك ، وحجتان قويتان إليك وإلى فرعون وملئه. إنهم كانوا قوما فاسقين وخارجين عن حدود الشرع والعقل.

فهم موسى أنه مكلف بالرسالة إلى فرعون وملئه ليخرج بنى إسرائيل من عذابهم وأحس بثقل التبعة الملقاة على عاتقه فقال. رب إنى قتلت منهم نفسا ، فأخاف أن يقتلون ، وأخى هارون هو أفصح منى لسانا وأقوى بيانا ، وأدرى منى بلهجة المصريين لأنه لم يترك بلادهم ، فأرسله معى معينا ، واجعله وزيرا ألتجئ إليه ، ويحمل معى عبء هذه الرسالة إنى أخاف أن يكذبوني.

قال الله له : (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ) ، ونقويك به ، ونجعل لكما سلطانا وحجة قوية تدل على صدقكما ، وأنكما رسولا رب العالمين (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي) والله معكما ناصركما ، وعاصمكما من الناس فلا يصلون إليكما بسوء أبدا ، بل أنتما ومن اتبعكما الغالبون ، لأنكم حزب الله ، ألا إن حزب الله هم المفلحون.

٨٢٨

هذا الموضوع كرر في سورة طه. والنمل. والقصص كما ذكرنا في الجزء (التاسع عشر) ويلاحظ أن موسى نودي ، وهو في الشاطئ الأيمن من الشجرة : (أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) كما نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين. فترى أن العبارة مختلفة ، والمعنى يكاد يكون واحدا فهو بدء الإيحاء والرسالة بعبارة تدل عليه ، والله ـ سبحانه ـ ذكر الكل ، وقد حكى في كل سورة بعض ما اشتمل عليه ذلك النداء.

وشبيه بهذا ما مضى في قوله. (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) ، (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ). (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ) في أنه معنى واحد صيغ في عبارات متعددة ، ثم هنا سؤال قد جعل الجناح وهو اليد تارة مضموما ، وتارة مضموما إليه اليد ، والجواب أن المراد بالجناح المضموم هو اليد اليمنى وبالمضموم إليه هو اليد اليسرى ، وكل واحد من اليدين جناح. وسؤال آخر ما الفائدة في قلب العصا حية وإدخال اليد وإخراجها بيضاء عند نداء الله لموسى؟ والجواب أن ذلك لتمرين موسى على إبراز المعجزات ، وليقوى على ملاقاتها حتى لا يخاف عند مشاهدتها كما حصل في أول مرة.

محاجته لهم. وعناد فرعون وآله وعاقبتهم

(فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ

٨٢٩

هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣))

المفردات :

(مُفْتَرىً) مختلق (هامانُ) وزيره (فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ) فاصنع لي آجرا أى : طوبا (صَرْحاً) قصرا (أَطَّلِعُ) أصعد (فَنَبَذْناهُمْ) طرحناهم (الْمَقْبُوحِينَ) المطرودين المبعدين.

المعنى :

أمر موسى بأن يذهب هو أخوه إلى فرعون وملئه ، وبأن يقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ، وأخذا يجادلانه في الله الذي يجب أن يعبد ، وهو رب السموات والأرض وما بينهما ، الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ، والذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء ، وأنزل منها ماء فأخرج به أزواجا من نبات شتى ، كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولى النهى.

٨٣٠

ولقد جاءهم موسى بالآيات الشاهدة على صدقه ، الدالة على أنه رسول رب العالمين ولكنهم قالوا له : ما هذا الذي جئتنا به إلا سحر قد افتريته من عندك ونسبته لربك وما سمعنا بهذا الذي تدعونا إليه ، في آبائنا الأولين ، حاجهم موسى بالعقل والمنطق ، وساق لهم الآيات الشاهدة مصدقة ، فكان الجواب والرد الذي يدل على الحماقة ما هذا إلا سحر ، وما سمعنا به قديما ، وما سمعنا عن دعوتك في آبائنا الأولين.

وقال موسى ردا عليهم : ربي الذي خلق كل شيء ، ويعلم الغيب في السموات والأرض أعلم منكم بمن جاء بالهدى والنور من عنده ، وهو أعلم بمن تكون له العاقبة الحسنى ، والجزاء الأوفى يوم القيامة ، ولا يفلح عنده الظالمون أبدا في الدنيا والآخرة.

ولو كنت كما تزعمون كاذبا ساحرا مفتريا على الله لما أعطانى الآيات ، ولما هداني إلى الحق والخير الذي أدعو إليه لأنه غنى حكيم ، لا يرسل الكاذبين ، ولا الساحرين ولا يفلح عنده الظالمون ، وهو القاهر فوق عباده ، الخبير بخلقه ، لا تخفى عليه خافية وهذا تهديد لهم ، وتثبيت لغيرهم.

ولما ألح موسى على فرعون بالدعوة إلى الإيمان بالله ، وهو في ملأ من قومه ، وهذا يحط من شأنه ، ويضيع من هيبته ، وهو حريص على ذلك جدا ، أخذ يقول تارة : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) (١) ، ويقول مرة أخرى : إنه سيتخذ الوسيلة للصعود إلى إله موسى ليصفى الحساب معه ، ولعله فهم من قول موسى. رب السماء والأرض أنه يجلس في السماء لا في الأرض.

انظر إليه يخاطب القوم ، ويقول : يا أيها الملأ ـ الأشراف ووجوه القوم ما علمت لكم من إله غيرى ، يقصد بذلك نفى وجود إليه غيره.

وإذا كان يعتقد أنه هو الإله ، ولا إله غيره أبدا فكيف يقول : يا هامان ابن لي صرحا لعلى أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى ، وإنى لأظنه من الكاذبين؟! ولعله يقول ذلك من باب التسليم للخصم.

ومن الناس من يدعى رأيا ويقول به ، وهو عالم أنه مخطئ فيه ، ولكن لأن رأيه على غير أساس ، لا يلبث أن يشك فيه ويرجع عنه طمعا ، في أنه ربما يصادف شيئا.

__________________

(١) سورة الشعراء الآية ٢٧.

٨٣١

هذا فرعون يدعى أنه إله ، وأن موسى كاذب في أن للكون إلها ، ثم بعد لحظة يأمر وزيره أن يوقد النار ، ويخرج الآجر ليبنى له صرحا ، وبناء فخما يصعد به إلى السماء لعله يصعد إلى إله موسى ليصفى حسابه معه ، ثم يختم آثامه وأقواله التي تدل على الارتباك والتخبط بأنه يشك في صدق موسى ، ولكن احتياطا فعل هذا (وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ). [غافر ٣٧]

كل هذا يحصل ، ولم يجد فرعون من قومه وملئه من يقول الحق ، أو يهدى إلى الخير أو يمنع الظلم بل كانوا يؤمنون على قوله ، وينفذون رغبته ، وكان عاقبة أمره وأمرهم خسرا.

استكبر فرعون في الأرض ، وطغى وتجبر ، وعلا علوّا كبيرا هو وجنوده ، كان من أثره ركوب ذلك الشطط ، وفعل تلك الخبائث ، وكان مبعث ذلك كله أنهم ظنوا بل تيقنوا أنهم إلى الله لا يرجعون.

وانظر إلى الحق ـ جل جلاله ـ ، وهو يسجل عليهم نهايتهم بعبارة فخمة ضخمة (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ) (١) نعم كانوا في قبضة الله الذي يقول للشيء كن فيكون كحصيات يجمعها الشخص في الطريق ثم يلقيها في البحر ، فانظر أيها الناظر إلى الدنيا بعقلك ، المتفكر فيها بقلبك كيف كان عاقبة الظالمين؟!!

وصيرناهم أئمة ورؤساء يدعون إلى النار ، فيطاعون ، وكأنهم بإصرارهم على الكفر وتماديهم في الباطل يدعون أتباعهم إلى النار لأنهم يأتمرون بهم ويقتدون ، ويوم القيامة لا ينصرون (أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ) (٢) وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة وطردا ، وبعدا عن رحمة الله ، ويوم القيامة هم من المقبوحين المطرودين الممقوتين (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) [سورة هود آية ٩٩].

ولقد آتينا موسى التوراة التي هي نور البصائر ، وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون ، روى أبو سعيد الخدري قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما أهلك الله قوما ولا قرنا ولا أمّة ولا أهل قرية بعذاب من السّماء ولا من الأرض منذ أنزل الله التّوراة على موسى غير القرية الّتى مسخت قردة» ألم تر إلى قوله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) (٣) ولعل إيتاء التوراة بعد إهلاك الأمم الماضية للإشعار بمسيس الحاجة الداعية إليها ، فإن إهلاك القرون الأولى دليل على اندراس معالم شرائعها ،

__________________

(١) سورة القصص الآية ٤٠.

(٢) سورة محمد الآية ١٣.

(٣) سورة القصص الآية ٤٣.

٨٣٢

وحاجة الناس إلى ما ينقذهم من تشريع جديد ، ورسالة سماوية تلتقي مع حاجتهم وأحوالهم.

الحاجة إلى إرسال الرسل مع سوق بعض الأدلة على صدقهم

(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦) وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ

٨٣٣

أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١))

المفردات :

(الشَّاهِدِينَ) الحاضرين (قُرُوناً) أمما (فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) أى طال عمرهم (ثاوِياً) مقيما يقال ثوى بالمكان يثوى به أقام (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ) المراد فإن لم يفعلوا (تَظاهَرا) تعاونا (وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ) أتبعنا بعضه بعضا في الإنزال ليتصل التذكير.

وهذا لون من العبرة بقصة موسى ، ونتيجة عامة لسوقها ، إذ هي من الأدلة على صدق الرسول حيث قص أخبارا صادقة عن قوم لم يشهدهم ولم يكن معهم ، ولم ترو له أخبارهم ، فلم يبق إلا الوحى مصدرا لهذا كله ، وفي ذلك عبرة وعظة ، ودليل على صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وهذا أيضا شروع في بيان أن إنزال القرآن الكريم جاء في زمن ، الحاجة فيه ماسة وداعية إليه.

المعنى :

وما كنت يا محمد بجانب المكان أو الجبل الغربي وقت أن قضينا إلى موسى الأمر ، وألزمناه العهد ، وأنزلنا عليه الحكم ، وما كنت من الحاضرين لذلك فتعلمه وتخبر به ، ولكنا أوحيناه إليك وأعلمناك بخبره ليكون معجزة لك ، وشاهد صدق على نبوتك ، وكانت الحاجة القصوى داعية إلى ذلك حيث طال العهد فقست قلوب الناس ، وانتشر الفساد والظلم حتى عم العالم أجمع ، وأصبح في ضلالة وجاهلية يتردى فيها ، نعم تطاول على الناس العمر حتى نسوا ذكر الله ، وقست قلوبهم فأرسل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مجددا العهد الإلهى ، وداعيا إلى الله بإذنه ، وسراجا منيرا (قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى

٨٣٤

فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [سورة المائدة آية ٢٢].

وما كنت مقيما في أهل مدين مع شعيب تتلو عليهم آياتنا حتى تقص خبرهم أحسن القصص على أهل مكة ، ولكنا (أى : الله جل جلاله) كنا مرسلين لك ، وموحين إليك بأخبارهم حجة قوية على صدقك.

وما كنت بجانب الطور إذ نادينا موسى وقلنا له : خذ الكتاب أى : التوراة بقوة وما كنت معه حتى تشاهد ما حصل له ثم تخبر الناس به ، ولكن أرسلناك رحمة من ربك للعالمين ، ولتنذر قوما هم العرب ، ما أتاهم من نذير قبلك ، رجاء أن يتذكروا ويؤمنوا بالله العزيز الحميد ، والعرب على الصحيح لم يأت لهم نذير بعد إسماعيل ـ عليه‌السلام ـ بناء على أن موسى وعيسى كانت رسالتهما لبنى إسرائيل فقط ، ومن هنا ندرك الحاجة القصوى لإرساله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للعرب ؛ ولو لا أن الناس وبخاصة العرب يقولون : هلا أرسلت إلينا يا رب رسولا من عندك يبشرنا وينذرنا ، ويهدينا بالكتاب الذي معه إلى الصراط المستقيم ، فنتبع آياتك ونؤمن برسلك ، ونكون من عبادك المؤمنين الصادقين غير المغضوب عليهم ولا الضالين .. لو لا قولهم هذا عند إصابة العقوبة لهم بسبب ما جنته أيديهم ما أرسلناك للناس رسولا ، ولكن لما كان قولهم هذا محققا لا محيد عنه أرسلناك قطعا لأعذارهم بالكلية (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [سورة النساء آية ١٦٥]. (أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ* أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ ..) [سورة الأنعام الآيتان ١٥٦ ، ١٥٧].

وهذا من أسباب إرسال الرسل ، وبيان للحاجة الداعية إليهم.

فلما جاء أهل مكة الحق من عندنا ، والنور الذي أنزل على رسولنا ، قالوا : لو لا أوتى مثل ما أوتى موسى من قبل كالعصا واليد وغير ذلك من الآيات التي أنزلت معجزة لموسى ... عجبا لهؤلاء المشركين! أو لم يكفروا بما أوتى موسى من قبل ولم يؤمنوا به ، وقيل المعنى : فلما جاء أهل الكتاب الحق والقول الصدق على يد محمد ، وكانوا يستفتحون به على الذين كفروا ، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ، وقالوا لو لا أوتى

٨٣٥

مثل ما أوتى موسى ، عجبا لهم! أو لم يكفروا بموسى ومن معه ، ويقولون ساحران أى : موسى وهارون تظاهرا وتعاونا ، وإنا بكل كافرون. وإن أرجعنا القول إلى الكفار من العرب والآية تحتمل هذا وذاك ـ كان المراد بقوله : ساحران أى : موسى ومحمد ونحن بكل منهما كافرون.

قل لهم يا محمد : إذا كان الأمر كذلك فأتوا بكتاب من عند الله هو أكثر هداية ، وأقوى تأثيرا ، وأحكم آيات إن كنتم صادقين ، وهذا الأمر أى «فأتوا» يشبه قولك «اصعد إلى السماء» حيث يكون الصعود محالا فهو من باب التعجيز والسخرية فإن لم يفعلوا ذلك ، ولن يفعلوه أبدا ، فاعلم أنهم يتبعون في عقائدهم الباطلة أهواءهم ، وليس هناك أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدى القوم الظالمين.

ولقد وصلنا لهم القول وفصلناه وبيناه ، وأتبعنا بعضه بعضا ، وبعثنا رسولا بعد رسول كل يلائم وقته وعصره ، وكان هذا القول هو مسك الختام لأن صاحبه خير الرسل وخاتمهم وإمامهم ، وشرعه صالح لكل زمان ومكان ، وها هي الآيات تترا مؤيدة ذلك ، لعل الناس يتذكرون ويتعظون.

المؤمنون من أهل الكتاب

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥))

٨٣٦

المفردات :

(وَيَدْرَؤُنَ) يدفعون ، يقال درأ عنه كذا أى : دفع (اللَّغْوَ) هو ما لا يعتد به من القول أو ما كان فيه أذى من شتم أو سب (لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) لا نطلب صحبتهم.

المعنى :

وهذا هو الصنف الذي في قلبه ميل إلى الخير ، وفي نفسه استعداد لقبول الطيب من الدعوات ، وهم جماعة من أهل الكتاب الذين آمنوا بنبيهم ، ولم يحرفوا الكلم وبشارة كتبهم بالنبي العربي فهم قد آمنوا به أولا بظهر الغيب ثم آمنوا به ثانيا إيمان مشاهدة وإقرار بما سبق ، وإذا يتلى على هؤلاء القرآن قالوا : آمنا به وصدقناه وصدقنا من جاء على لسانه ، وكأن سائلا سأل وقال لهم هذا؟ فأجابوا إنه الحق من ربنا ، نعم إنه كلامه الحق الذي لا شك فيه ، ونحن أدرى به من غيرنا ، إنا كنا من قبل نزوله مسلمين ومنقادين.

أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا مرة لإيمانهم بكتابهم ونبيهم ، ومرة لإيمانهم بالقرآن والنبي ، وصبرهم على ذلك كله ، وهم يدرءون بالحسنة السيئة ، ويدفعون الشر بالخير ، وينفقون مما رزقناهم في سبيل الله.

وإذا سمعوا لغوا من قول المشركين أو أصابهم أذى منهم ، أعرضوا عنهم ، وقالوا لنا أعمالنا ، ولكم أعمالكم ، سلام عليكم ، سلام ترك موادعة ، ونحن لا نبتغى الجاهلين ، ولا نطلب مصاحبتهم.

رد على بعض مزاعم المشركين

(إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ

٨٣٧

حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١))

المفردات :

(نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) ننتزع منها بسرعة (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً) نجعل مكانهم حرما ذا أمن (بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) البطر الأشر وقلة احتمال النعمة والطغيان بها ، وكراهة الشيء من غير أن يستحق الكراهة والمراد طغت وتمردت في زمن معيشتها (أُمِّها) عاصمتها.

المعنى :

ما مضى كان في بيان فريقين من الناس ، فريق طغى وبغى وكفر بالله ورسله ، وفريق آمن واهتدى واستجاب لداعي الحق ، واتبع رسول الله ، ومن هؤلاء وأولئك خلق كثير ؛ فقيل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

٨٣٨

إنك لا تهدى من أحببت من الناس ، ولا تدخلهم في حظيرة الإيمان ، إنما عليك فقط البلاغ والدعوة إلى الله وبيان الشريعة الغراء ، ولكن الله ـ سبحانه ـ يهدى من يشاء ويوفقه ويشرح صدره للإسلام (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ). (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) نعم الله يهدى من يشاء ، وله الحكمة البالغة ، والعلم الكامل بخفيات القلوب ؛ وبذات الصدور ، وهو أعلم بمن عنده الاستعداد للهداية والخير ، فيهديه ويوفقه ، وقد ثبت في الصحيحين أنها نزلت في أبى طالب عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكل يعلم أنه كان يحوط النبي ويرعاه ، ويحبه حبا شديدا ويتولاه ، فلما حضرته الوفاة وحان أجله دعاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الإيمان والدخول في الإسلام ؛ فسبق القدر فيه ، ولم يرد الله به خيرا ، فاستمر على ما كان عليه من الكفر ، ولله الحكمة البالغة.

وقال بعض المشركين معتذرا بأعذار واهية : إننا إن اتبعنا الهدى الذي جئتنا به ، والنور الذي أنزل معك نخشى إن فعلنا ذلك أن يقصدنا المشركون وأحياء العرب من كل جانب بالأذى والحرب ويأخذونا بسرعة وشدة لا قبل لنا بها ، ألم تر إليهم وقد خافوا المخلوق الضعيف وأمنوا مكر الخالق الكبير ذي البطش الشديد الفعال لما يريد؟! عجبا لهؤلاء ؛ أنسوا ولم يعلموا أن الله مكن لهم في الأرض ، وأنزلهم بلادا جعلها حرما آمنا ، يقدسه العرب جميعا ، وتحج إليه ، وتحترم سكانه وأهله وتدين لهم بالإمارة والسيادة عليهم ، فيه أسواقهم واجتماعاتهم ، وفي بلادهم يأمن الخائف ، ويطمئن القاتل وتسكن نفس المعتدى ، فالعرب كانت تحرم الاعتداء في الحرم ، وفي الأشهر الحرم ، وكل هذا بتوفيق الله ، وهو الذي جعل في قلوب الناس شوقا إليه وحنينا لزيارته وحجه (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ) فكانت فيه الثمرات من كل جهة رخيصة كثيرة ، جعلها الله من لدنه رزقا لأهله ، أظن هذا العذر الواهي لا يكون مقبولا بعد هذا كله ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون وهذا رد آخر لقولهم : (إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) إذ هم قد اعتقدوا خطأ أنهم ماداموا على شركهم فإنهم في أمن ودعة ، وإن اتبعوا الرسول نزل بهم البلاء ، فبين الله لهم أن الأمر بالعكس ، وأنهم إن تركوا الشرك وأسلموا لله رب العالمين أمنوا من عذاب الدنيا والآخرة ، وكانوا عند الله من المقربين ، وإن ظلوا على دينهم وتمسكوا بباطلهم

٨٣٩

حق بهم العذاب من كل جانب ، واستحقوا عذاب الدراين بدليل أن الله ـ سبحانه ـ أهلك كثيرا من أهل القرى بأنواع العذاب الشديد المبيد المهلك لكفرهم ، وقد كانوا يمرحون في النعيم ، ويعيشون في بلهنية من رغد العيش فمن الخير لكم يا كفار مكة أن تخشوا بأس الله ، ولا تغتروا بالأمن الذي أنتم فيه ، فكثير من أهل القرى كانت مثلكم فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف جزاء لما كانوا يعملون ، وها هي ذي مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا ، وكان ربك خير الوارثين ، تلك سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا ، وليعلم الكل أنه هو الحكم العدل ، صاحب الموازين القسط ، فلا تظلم نفس شيئا ، وما كان ربك مهلك القرى والجماعات حتى يبعث رسولا يدعوهم إلى الهدى ، ويرشدهم إلى الصراط المستقيم ، فإن اتبعوه وآمنوا به نجوا جميعا ، وإن خالفوه وكفروا به ضلوا وحاق بهم سوء العذاب فما ثبت في حكمه الماضي وقضائه السابق أن يهلك القرى حتى يبعث في عاصمتها رسولا يتلو عليهم الآيات (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) وكان هلاكه للظالمين فقط ، الكافرين بالله ورسوله ، وها أنتم أولاء جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص على إيمانكم ، بالمؤمنين رءوف رحيم ، فاحذروا العذاب إن بطش ربك لشديد ...

وهذا رد آخر على من يشترى الضلالة بالهدى. ويبيع الباقية بالفانية والآخرة بالدنيا ، وما أوتيتم من شيء من الدنيا ونعيمها فهو متاع الحياة فقط وزينتها ، والآخرة خير وأبقى ، وما عند الله من ثواب وجزاء خير من الدنيا وما فيها ، إذ متاع الحياة الدنيا متاع زائل ينقصه ذكر الموت ، وفناء الخلق ، أفلا تعقلون؟ وتتعظون وتؤثرون الدين على الهوى والغرض!!.

أفمن وعدناه وعدا حسنا على العمل الصالح فهو لاقيه حتما ؛ ومصيبه في الجنة بلا شك ، أفمن وعدناه هذا كمن متعناه المتاع الفاني ، والغرض الزائل ، ثم هو يوم القيامة من المحضرين؟!! الأول هو المؤمن والثاني هو الكافر ، ولا يعقل التساوي بينهما! فمن العقل والحكمة أن نكون من الصنف الأول الذي يجمع بين الوعد الحسن في الآخرة ، والعمل الصالح في الدنيا ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم ..

وفي هذه الآيات رد على مزاعم المشركين ، وشحذ لعزائم المسلمين في وقت هم في أشد الحاجة إلى ذلك ، ثم بعد ذلك تعرض القرآن لحال الكفار يوم القيامة.

٨٤٠