التفسير الواضح - ج ٢

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ٢

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٨٨٤

بل من جعل الأرض قرارا يستقر عليها الإنسان وغيره ، ويعيش عليها ، فقد جعل الله الأرض رغم كرويتها ودورانها السريع صالحة للاستقرار والمعيشة عليها بهذا النظام الدقيق ، وما كانت الزلازل التي تصيب الأرض في بعض الظروف إلا ليشعر العالم أجمع بما هو فيه من نعمة الاستقرار على الأرض ، وقد جعل الأنهار تجوس خلالها غادية ورائحة ليتمتع الإنسان الحي بتلك النعم ، وقد جعل لها رواسى من الجبال والهضاب لئلا تميد بنا وتضطرب مع ما في تلك الجبال من منافع ، فحقا صدق الله (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) ، وقد خلق الله على الأرض البحرين العذب الفرات ، والملح الأجاج ، وجعل بينهما حاجزا من اليابس لئلا يطغى أحدهما على الآخر إذ في كل منهما خير ومنفعة لك يا ابن آدم؟ أمن جعل لك كل هذا كمن لم يجعل لك ولا لنفسه شيئا؟!

أيليق أن يكون مع صاحب هذه النعم والقدر إله يعبد؟ بل أكثر الناس لا يعلمون الحق فيتبعونه ..

الله ـ سبحانه ـ خلق لنا السماء والأرض والبحار والأنهار ، والزروع والأشجار ، وهل تركنا بعد ذلك؟ لا. إننا محتاجون إليه ، وهو ـ سبحانه ـ يكشف عنا الضر إذا نزل.

بل أمن يجيب المضطر إذا دعاه [والمضطر من أصابه ضر من فقر أو مرض أو حاجة دعته إلى الالتجاء والاضطرار] ويكشف عنه السوء إذا التجأ إلى ربه حقا ودعاه ، وهو الذي جعلكم أيها الناس خلفاء في الأرض لغيركم ، فكل منا وارث لأبيه وسيرثه ابنه ، والدنيا كالمنزل يأوى إليه جماعة من الناس ليلا ثم يفارقونه نهارا ، ويخلفهم آخرون؟ أمن يفعل هذا كمن لا يفعل شيئا؟ أيكون مع الله إله آخر تدعونه ، وهو لا ينجيكم من البحر ، ولا ينقذكم من الضر ، ولا يدفع عنكم سوءا؟!! ما تذكرون ذلك إلا ذكرا قليلا.

الله يحرسنا بعين لا تنام ، ويحفظنا بقدرة لا ترام ، ويكلؤنا ويهدينا في ظلمات البر والبحر حتى ننجو بسلام. وسبحانه وتعالى عما يشركون.

بل من يهديكم أيها الناس في ظلمات البر والبحر؟ حيث أودع فيكم عقلا وفكرا ، وهداكم إلى العلم والمعرفة التي بها تعرفون اتجاهكم وسيركم بمقاييس مضبوطة ، نعم هو

٨٠١

الذي هداكم قديما بالنجوم والجبال والطرق والعلامات وحديثا بآيات الضبط ، ومن يرسل الرياح مبشرات تبشر بقدوم المطر والخير ، وتدفع السفن وتحمل اللقاح إلى الزرع فالرياح تبشر على العموم بالخير ... بل أمن يفعل هذا يكون كمن لا يفعل شيئا؟! أإله مع الله؟ تعالى وتبارك عما يشركون ..

بل من يبدأ الخلق ثم يعيده ، ولا يقدر على البدء والإعادة إلا هو ، ومن يرزقكم من السماء بالمطر ، ومن الأرض بالنبات وغيره؟ أمن يفعل هذا كله كمن لا يفعل شيئا أبدا؟ بل أيعقل أن يكون مع الله إله آخر يفعل هذا؟! قل لهم يا محمد : هاتوا برهانكم وحجتكم إن كانت لكم حجة ، وكنتم صادقين في دعوى أن له شريكا.

قل لهم يا محمد : لا يعلم من استقر في السموات والأرض من الملائكة والإنس والجن حتى الأنبياء والرسل لا يعلمون الغيب أى ما غاب عنهم ، ومن جملته قيام الساعة لكن الله يعلم الغيب والشهادة ، ويعلم السر وأخفى (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) ... الآية : ٣٤ من سورة لقمان ، قالت عائشة. من زعم أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) وهذا يفيد وصف الله بالعلم التام الشامل بعد وصفه بالقدرة والوحدانية ، وذلك كله يفيد انفراده بالالوهية ؛ وما يشعر الكفار في أى وقت يبعثون للحساب والجزاء ، وسآتيهم الساعة بغتة ، وهم يجحدون بل ادارك علمهم ، تلاحق أى : تكامل علمهم في الآخرة عنها لأنهم رأوا كل ما وعدوا به معاينة فتكامل علمهم به بعد إنكارهم لأحواله كلها ، بل هم في شك منها في الدنيا ، بل هم من الآخرة وأحوالها عمون بقلوبهم ، لا يؤمنون بها ولا يفكرون فيها ...

اعتقادهم في البعث

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ

٨٠٢

(٦٩) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٧٥))

المفردات :

(أَساطِيرُ) جمع أسطورة وهي ما سطره الأقدمون من خرافاتهم وأحاديثهم (ضَيْقٍ) في ضيق صدر (رَدِفَ لَكُمْ) تبعكم ولحقكم (ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ) ما تخفيه (غائِبَةٍ) التاء فيها للمبالغة كالتاء في علامة ونسابة والأصل غائب.

بعد ما ثبت بالدليل القاطع أن الله هو المستحق وحده للعبودية إذ هو صاحب القدرة الكاملة ، والعلم التام ، والوحدانية في الذات والصفات والأفعال ، ومن كان كذلك كان قادرا على البعث ، ومع هذا كله فلم يؤمنوا به.

المعنى :

وقال الذين كفروا بالله وبرسله أإذا كنا ترابا بعد موتنا نحن وآباؤنا؟ أإنا لمخرجون ـ من قبورنا بعد أن صرنا ترابا ـ للبعث والجزاء!؟ إن هذا شيء لا يمكن أن نصدقه ، ولا أن نؤمن به ، لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل كثيرا ، ولم نسمع أن قام أحد بعد موته وصيرورته ترابا ، ما هذا الذي تدعونا إليه ، وتخبرنا به أيها الرسول إلا أساطير الأولين وأكاذيبهم التي دونوها.

رأى الله ـ سبحانه وتعالى ـ فيهم هذا الإنكار للبعث ، وهو يعلم أن سبب ذلك حبهم الدنيا ، وافتتانهم بها وحبهم للرياسة الكاذبة ، والزخرف الزائل ، فعالج لهذا الداء

٨٠٣

من أساسه وأمر رسوله أن ينبههم إلى السير في أرض الحجاز والشام واليمن لينظروا بأعينهم كيف كانت عاقبة الكفار المجرمين؟ هؤلاء هم الذين اغتروا بدنياهم ، وافتتنوا بزخرفها وما هي إلا ساعة حتى فارقوها وتركوا ديارهم تنعاهم لمن بعدهم فيا أيها الناس آمنوا وصدقوا ولا تغتروا بالدنيا فهي متاع زائل ، وعرض حائل ، والآخرة خير وأبقى.

وأنت يا محمد لا تحزن عليهم ، ولا تك في ضيق وكرب مما يمكرون ، فإن الله معك وناصرك ، وعاصمك من الناس ومؤيدك.

وانظر إليهم وهم يقولون : متى هذا الوعد؟ إن كنتم أيها القائلون به صادقون وهذا سؤال المراد منه الإنكار واستبعاد تحقق الوعد ، فيرد الله عليهم : قل لهم يا محمد عسى أن يكون ردفكم ولحقكم ، واقترب منكم بعض الذي تستعجلون من العذاب ، وعسى في كلام الله للتحقق ، وقد تحقق هذا في غزوة بدر ويتحقق في عذاب القبر قريبا.

وإن ربك لذو فضل على الناس جميعا مؤمنهم وكافرهم حيث يمن على الجميع بنعمة في الدنيا ، وعلى المؤمن خاصة بنعمة الهداية ، وعلى الكافر بتأخير العذاب لعله يثوب إلى رشده ، وإن ربك ليعلم السر وأخفى ، ويعلم الغيب والشهادة ، وهو العليم بذات الصدور ، وما من شيء يغيب عنه ويخفى خفاء شديدا أينما كان في السماء أو الأرض إلا كان في كتاب مسطور ، كتاب مبين (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) [سورة لقمان آية ١٦].

القرآن الكريم والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ

٨٠٤

إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١))

المعنى :

لقد كان الكتاب الذي سطر فيه ما مضى من أدلة تثبت لله صفات الكمال وتؤيد البعث للثواب والعقاب ـ وهذان أصلان مهمان للدين الإسلامى ـ هو القرآن الكريم ، فمن الخير التعرض له ببيان أنه من عند الله ، وأنه معجزة دالة على صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يدعيه.

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) فإنه الكتاب الذي أنزل مصدقا لما بين يديه من الكتاب ، ومهيمنا عليه ، وقد بقي عند اليهود والنصارى من كتبهم الشيء القليل على أصله أى : بدون تحريف والأكثر حرف وبدل فهم مختلفون ، دليل ذلك قوله ـ تعالى ـ فيهم (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) [النساء : ٤٤] (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ .. مِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) أقرأ الآيتين ١٣ ، ١٤ من سورة المائدة.

فضياع جزء من التوراة نسيانا. وتحريف جزء آخر منها عمدا ـ ومثل هذا حصل في الإنجيل ـ وليس هذا تجنّيا بل ثبت بنص القرآن كما مر .. هذا جعلهم يختلفون في كثير من المسائل بينهم وبين بعض ، بل بين أتباع الدين الواحد وقع اختلاف كثير ؛ وقد جاء القرآن بالقصص المحكم ، والقضاء العادل ، مخاطبا لهم جميعا بقوله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) [سورة النساء آية ١٧١].

اختلف بنو إسرائيل في عيسى ابن مريم اختلافا كثيرا فاليهود كذبوا ورموا أمه بالزنا ، وحاولوا قتله وصلبه ، والنصارى صدقوه ثم عظموه وألهوه حتى قالوا : إنه إله أو ابن الإله أو ثالث ثلاثة : تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، وقد جاء القرآن يقص عليهم

٨٠٥

أن عيسى رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا به وصدقوه ، ولا تعظموه بل هو كبقية الأنبياء والمرسلين ومواضع الخلاف كثيرة ، ولكن هذه أهمها. وإن القرآن شفاء ، ورحمة ، وهدى وضياء ، ومصدر الخير والبركات والعلوم والمعارف في الواقع للناس جميعا ، ولكن المنتفعين بذلك أكثرهم المؤمنون ، وإن ربك يقضى بين الناس بحكمه العدل ، وهو العزيز الذي لا يغالب ، العليم بخبايا النفوس وطوايا القلوب.

وأما أنت يا محمد فتوكل على الله حقا ، وفوض أمرك إليه صدقا ، إنك على الحق المبين ، ورسالتك هي المحجة البيضاء ، ليلها كنهارها ، ولا تعجب من كفر هؤلاء فليس ذلك راجعا لنقص فيك أو في رسالتك ، بل إنك لا تسمع الموتى وأشباههم ولا تسمع الصم الدعاء ، وكيف يسمع الأصم دعاء؟ وبخاصة إذا ولى مدبرا.

وما أنت يا محمد ، وكذا كل من دعا بدعوتك ، وسار على طريقتك بهادي العمى عن ضلالتهم.

ما تسمع إلا من فيه استعداد لقبول الحق ، ومن في روحه صفاء وهو المؤمن بآياتنا ، الناظر بعين البصيرة في ملكوتنا ، أولئك هم المسلمون ، أما غيرهم فكالأنعام لها عيون وآذان ، ولا قلب لها ترى به العبرة ، بل هم أضل من الأنعام.

بعض مناظر القيامة مع ذكر مقدماته

(وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (٨٢) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥) أَلَمْ

٨٠٦

يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦))

المفردات :

(وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ) دنا وقرب وقوع مدلول القول (دَابَّةً) كائنا حيا يدب على الأرض (فَوْجاً) جماعة (يُوزَعُونَ) في المادة معنى المنع كما تقدم في قصة سليمان والمراد هنا يمنع أولهم ويوقف حتى يتلاحقوا.

لا زال الكلام متلاحقا في البعث وإمكانه ، وبخاصة بعد ذكر بعض صفات الله كالقدرة والعلم والوحدانية والتعرض للنبوة والقرآن وكونه معجزة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

المعنى :

وإذا وقع القول عليهم ودنا الوقت ، وقربت الساعة الفاصلة ، وحق عليهم العذاب لفساد الدنيا ، وضياع الدين وهذا يكون قبيل قيام الساعة.

وإذا دنا وقت ما وعدوا به من قيام الساعة أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون ، وما هي تلك الدابة؟ وهنا انفلت خيال الكاتبين والمفسرين ، واستندوا إلى بعض أحاديث آحادية ، وأخذوا يغربون في وصفها وجسمها وكيفية خلقها. ونوعها.

وفي ظني ـ والله أعلم بكتابه ـ أن تلك الدابة هي إنسان عادى ، عالم بكتاب الله وسنة رسوله وأحكام شرعه ، يظهر في هذا الوقت الذي يقل فيه العلماء ، ويقبض فيه العلم بموتهم ، وينعدم حفظة القرآن الكريم ، ورجال الدين العاملون في هذا الوقت الذي يكثر فيه الفساد ، ويعم الجهل بأحكام الدين ، ويتخذ الناس رؤساء جهلاء يستفتونهم في دينهم فيفتونهم فيضلون ويضلون ، يا أخى لا تظن أنى متشائم بل دلائل هذا الأيام السود قد تكون ولدت ، فنحن في بلد تعتبر هي الموئل الوحيد للدين والعلم ولكن يجب أن نصارح الناس. أليس الأزهر في محنة؟! في هذه الأيام نعتنى بمحو

٨٠٧

الأمية ، ولكننا نضن بمال قليل ينفق على فصل لتحفيظ القرآن ، لقد بح صوتنا لتكون مدارس التحفيظ تعامل كمدارس المرحلة الأولى أو الإعدادية ولكن أهذا معقول؟ إن الدعوة إلى القرآن وحفظه والعناية بتلاميذه من الرجعية التي تتنافى مع مبادئ مسايرة الغرب وتقليده.

لقد قام بعض الكتاب يهاجم الأزهر في نظمه وقد يكون فيه عيب راجع لنظمه ولرجاله!! وفي الواقع هي حملة لإثبات أن الدين الإسلامى لم يصلح لتحريرنا ، وأنا أمة يجب أن تتحرر من كل شيء حتى من تقاليدها ودينها.

أيبعد بعد قرن أو قرنين أو ثلاثة ـ والله أعلم ـ أن يوجد هذا الوقت الذي يقبض فيه العلم والعلماء؟ حتى تنتهك الحرمات جهارا ونهارا ، فلا يوجد من ينكر وإذا حصل هذا يخرج الله للناس دابة من الأرض ـ وهي الإنسان المخلوق من التراب ـ تكلمهم ، وتعظهم ، وتأمرهم وتنهاهم ، ولكن هذا يكون في وقت قد بلغ فيه السيل الزبى وجاوز الحزام الطبيين ، وقربت الساعة.

والذي دعاني إلى تفسير الدابة بالإنسان وصفها بالكلام ، ولأن الإنسان دابة من الدواب ، ولقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد سئل عن الدابة وخروجها ، فقال : تخرج من أعظم المساجد حرمة على الله ـ تعالى ـ المسجد الحرام ، ولقد قال بهذا بعض المفسرين ، وقوله تعالى : (أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) [النمل ٨٢] مما تعظ به تلك الدابة.

وهاك منظرا من مناظر يوم القيامة بعد الكلام على بشائرها. ويوم يحشر جماعة كثيرة من كل ممن يكذب بآياتنا نجمعهم ، ونسوقهم سوقا فهم يوزعون حتى يكبكبوا في جهنم ، وهذا إشارة إلى كثرة العدد! وتباعد أطرافه.

حتى إذا جاءوا ، وأخذوا جزاءهم قيل لهم تبكيتا : أكذبتم بآيات الله ، والحال أنكم لم تحيطوا بها علما؟ على معنى أنكم كذبتم قبل بحث الآيات والإحاطة بها لأنكم شغفتم بالتكذيب.

بل ماذا كنتم تعملون؟! أى : إذ كنتم لم تبحثوا الآيات وكذبتموها بادى الرأى من غير فكر ولا نظر فبما ذا كنتم تشغلون أنفسكم؟.

وعند ذلك وقع عليهم بالفعل العذاب الموعود بغشاهم بسبب التكذيب والكفر

٨٠٨

فشغلهم عن النطق والكلام والاعتذار (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ* وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) [سورة المرسلات الآيتان ٣٥ ، ٣٦].

يا عجبا لأولئك الكفار! ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه ، وجعلنا النهار مبصرا يبصرون فيه أمور معاشهم ، ومعادهم ، إن في ذلك لآيات لقوم يعلمون ، فالقادر على إيجاد الليل بعد النهار ، والنهار بعد الليل ، ومن يقدر على وفاة الناس ليلا ثم إحيائهم نهارا ، قادر بلا شك على إيجاد الحياة للبعث والجزاء. بعد الموت والفناء ، وفي ذلك آيات معلومة تلفت الأنظار ، ولكن لقوم يؤمنون.

من علامات يوم القيامة

(وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠))

المفردات :

ـ (الصُّورِ) هو البوق الذي ينفخ فيه (فَفَزِعَ) الفزع هنا : الخوف الشديد المفضى إلى الموت (داخِرِينَ) صاغرين من الذل أو الهيبة (فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ) ألقيت من جهنم.

٨٠٩

المعنى :

ذلك من علامات يوم القيامة ، العلامات القريبة التي تتقدمه بزمن يسير فإذا أراد الله .. أمر الملك الموكل بالبوق فنفخ فيه نفخة يرتج لها كل من في الدنيا من الأحياء ، ويصيبهم هول وخوف شديد ، يؤدى بهم إلى الموت إلا من شاء ربك من الملائكة (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ) مات (مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) آية ٦٩ من سورة الزمر. وعلى ذلك فالنفخ مرة ليموت الكل ، ومرة ليحيا الكل للحساب ، ومن شاء الله يموت بعد النفخة الأولى وقبل الثانية.

وكل أتوه صاغرين صغار ذل إن كانوا كفارا ، وصغار هيبة وخشية إن كانوا مؤمنين (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) (١).

وترى الجبال يومئذ تظنها جامدة ساكنة ، وهي تمر مر السحاب يدفعها الريح صنع الله الذي أتقن كل شيء وأحكمه ، إنه خبير بما تفعلون.

من جاء بالحسنة يوم القيامة فله ثواب جزيل بسببها ، وأصحابها يومئذ من الفزع آمنون مطمئنون ، وكان الفزع الأول عاما لأنه عقب نفخ الصور ، وأما الفزع المنفي عن المؤمنين فالمراد به دوامه واستمراره ، فالمؤمن يموت أو يحيا للحساب يستبشر بالثواب الجزيل والعطاء الذي لا يقطع فهو بحق من الخوف آمن.

وأما من جاء بالسيئة فسيلقى في جهنم على وجهه الذي طالما صعر خده كبرا ، وشمخ بأنفه عجبا وتيها على عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا ثم يقال لهؤلاء الكفار : هل تجزون إلا ما كنتم تعملون.

وبعض العلماء يقول في قوله تعالى : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً) (٢) ... إن ذلك في الدنيا وهذا دليل على دوران الأرض حول الشمس بسرعة فائقة ، وتلك نظرية علمية ثابتة ، ولكن الظاهر والله أعلم أن ذلك في الآخرة ، لأن الآيات التي هنا كلها عن يوم القيامة.

__________________

(١) سورة مريم الآية ٩٣.

(٢) سورة النمل الآية ٨٨.

٨١٠

خاتمة السورة

(إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٣))

وهذا ختام للسورة ، وإنه لختام رائع لا يصدر إلا من الحكيم العليم الذي أنزل هذا الكتاب المحكم الآيات ، المتشابه المقاطع والحلقات ، تقشعر منه قلوب الذين يتلونه بخشوع ، وخضوع ، وتخضع لقوته وأحكامه جباه البلغاء والحكماء ، ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا.

فبعد أن بين أن القرآن ينزل على النبي من لدن حكيم عليم ، وساق قصصا لإخواته الأنبياء في عصور مختلفة ليكون عبرة وعظة ، وحجة وبرهانا ، وتعرض بعد ذلك لأمر التوحيد مناقشا الكفار والمشركين ، مبينا آثار فضل الله ونعمه التي تنطق بوحدانيته وقدرته وعلمه ، ثم تعرض للبعث ، وما في يوم القيامة من أهوال وأحوال ختم هذا كله بما يفيد أن الواجب عليه عبادة الله حقا وتلاوة القرآن ، وبعد ذلك فالأمر لله.

فقال في النهاية : إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة ـ مكة ـ الذي حرمها ربها ، وعظّم الله حرمتها ، وجعلها حرما آمنا ، لا يسفك فيها دم ، ولا يظلم فيها أحد ولا يصاد فيها صيد ، ولا يعضد فيها شجر ، ولا يخوف فيها خائف ، بل هي الحرم الآمن تجنى إليه ثمرات الدنيا في كل ناحية ، ولله كل شيء ملكا وخلقا وعبيدا وتصريفا وليس علىّ إلا البلاغ والإيمان الخالص ، وعلى الله وحده الحساب ، وله الأمر من قبل ومن بعد.

٨١١

وأمرت أن أتلو القرآن مصدر البركات ـ وأساس الخيرات ، وأصل كل شيء (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (١) (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) (٢).

وإذا تلونا القرآن وعملنا بما فيه فلا يضيرنا شيء بعد هذا ، فمن شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر ، ومن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ، ومن ضل فإنما عليه وزرها ، وما ربك بغافل عما يعمل الظالمون ، وإنما أنت يا محمد نذير وبشير.

وقل الحمد لله حمدا يوازى نعماءه ، سيريكم الله آياته الدالة على عظمته وحكمته وقدرته فتعرفونها (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٣). وما ربك بغافل عما تعملون.

__________________

(١) سورة الإسراء آية ٨٢.

(٢) سورة النحل آية ٨٩.

(٣) سورة فصلت آية ٥٣.

٨١٢

سورة القصص

هذه السورة مكية على الأصح ، ولذا تراها تعلم المسلمين وقت أن كانوا يسامون الخسف والعذاب من المشركين : أن النصر من عند الله ، وأن الأمن في جوار الله ، وأن الكفار مهما كانوا على جانب من القوة والجاه والعلم والمال فمآلهم الخسف من الله والإبادة ولذلك ضرب مثلا لهذا بفرعون ذي البطش وبقارون ذي العلم وكيف كان مآلهما .. ووسط ذلك ساق البراهين المادية على قدرته وصدق رسله. مع ذكر بعض المواقف يوم القيامة.

افتتاح السورة والكلام على قصة فرعون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (٦))

٨١٣

المفردات :

(طسم) تقرأ هكذا طا. سين. ميم بمد في السين والميم مع إدغامه النون في الميم (نَبَإِ) النبأ : الخبر المهم (عَلا) استكبر وتجبر (شِيَعاً) فرقا وأصنافا (وَيَسْتَحْيِي) يترك نساءهم أحياء (أَنْ نَمُنَ) نتفضل عليهم وننعم (أَئِمَّةً) ولاة وملوكا (يَحْذَرُونَ) يخافون.

هذا افتتاح لسورة القصص ، وقد ذكر فيها شيئا عن قصة فرعون وقصة موسى ثم قصة قارون ، وفي كل قصة عظة ، وشاهد صدق على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهي سورة مكية افتتحت كأخواتها بحروف المعجم ، والكلام على القرآن.

المعنى :

طسم (وفيها ما مضى في أخواتها). تلك الآيات ـ والإشارة إلى آيات السورة ـ من آيات الكتاب المبين الذي بين الحلال والحرام ، وبين بما فيه أنه من عند الله ، وأن محمدا صادق في دعواه ، وبين كل شيء لأن الله لم يفرط في ذكر الأصول العامة فيها (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) [سورة الأنعام الآية ٣٨].

نتلو عليك ، بواسطة الروح الأمين جبريل الذي كان مكلفا بتلاوته على النبي ، نتلو عليك شيئا من خبر موسى وفرعون وهو الجزء المهم من قصتهما سيق للعبرة والعظة ، إذ ليس القرآن كتاب تاريخ وقصص ، ونتلوه حالة كوننا محقين في أخبارنا ليس فيها مبالغة ولا مجافاة للحقيقة ، أخبار وقصص ذكرت بالحق ، وسيقت لأجل الحق وخدمة له ، ولا ينتفع بها ، ولا يؤمن إلا القوم المتقون ، وإن كانت ذكرت للناس جميعا.

إن فرعون ـ ملك مصر ـ علا في الأرض ، واستكبر وطغى فيها ، وتجبر على الخلق وأفسد فيها ، وجعل أعزة أهلها أذلة ، وجعل أبناء مصر شيعا وأحزابا ، كل حزب بما لديهم فرحون ، أفسد ما بينهما ، وقرب هذا وأبعد ذاك ليكون بأسهم بينهم شديدا فيظل الكل خاضعا له مستضعفا عنده ، وقيل في المعنى : وجعل أهل مصر شيعا متفرقين يتشيعون لرأيه ، ويدافعون عنه حقا كان أو باطلا ، وهذا صنف من الناس مرذول ،

٨١٤

يصفق لكل خطيب ، ويسير مع كل داع ، ويخضع لكل رئيس فما باله مع الملك ، إن كفر كفروا ، وإن قال خيرا أو شرا ، أو حقا أو باطلا أمنوا عليه فهم حزب (موافقون) وإن لم يعرفوا الكلام في أى موضوع.

ويظهر أن في طبيعة بعض الأمم الشرقية هذا الداء الوبيل الذي يصيب الحاكم والمحكومين ، فترى الحاكم أول أمره يتظاهر بالتقى والإيمان والإخلاص للمبادئ الفاضلة والمثل العليا ثم لا يلبث أن يجرفه تيار المادة ، وأن يصيبه داء الملك فيصبح فرعون مصر ، يتعالى ويتغطرس ويتجبر ويتكبر ، ويؤذى ويفسد ، ويسجن ويعتقل ، ويتنكر لكل صديق وحبيب ، وتكون الطامة الكبرى إذا أصبح حيوانا في الناحية الجنسية ، أو عبدا للمال إذا جمع المال من كل طريق.

أما المحكومون فلا يلبث أن يصيب بعضهم داء الخضوع والذل ، والحقارة والضعة حتى يصبح معه متشيعا للرئيس يوافقه ولو قال : إنى أنا ربكم الأعلى.

والعلاج الوحيد لذلك كله أن نضع الدين والقرآن نصب أعيننا ، وأن نغرس في نفوسنا تقوى الله والتوكل عليه حقّا حتى لا نغتر بدنيا ولا جاه ولا نخشى إلا الله فلا نقول إلا ما يرضى ربنا ، ويوافق ديننا.

وبعد فلنرجع إلى فرعون الذي علا في أرض مصر ، وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم الذكور خوفا على ملكه ودنياه ، ويترك نساءهم لأن الأنبياء التي سبقت موسى كانت تبشر به وبمولده ، وبأنه سيرفع أمر الله ، ويمنع الظلم عن الناس وبخاصة بنى إسرائيل ، ويزيل الملك القائم على أساس الظلم والجبروت ، إن فرعون كان من المفسدين.

يقول الله : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ ، وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) (١) وقادة وولاة وحكاما ، ونجعلهم الوارثين الذين يرثون ملك فرعون وأرض مصر بعد أن كانوا يسامون سوء العذاب.

ونريد أن نمكن لهم في الأرض ، ونرى فرعون الطاغية وهامان وأمثاله من وزراء الملك وحاشيته ، وجنودهما ما كانوا يحذرون ويخافون.

وقد حقق الله هذا كله بأن أرسل موسى وأنزل معه التوراة.

__________________

(١) سورة القصص الآية ٥.

٨١٥

فهل لنا أن نلتفت إلى هذا؟ ونفهم أن الذي أنقذ بنى إسرائيل من الذل ، وجعلهم ملوكا وحكاما ومكن لهم في الأرض إنما هو الكتاب المنزل والشريعة المقدسة فإذا ما خرجوا منها ، وابتعدوا عنها ضربت عليهم الذلة والمسكنة!! وإنما يتذكر بذلك أولو الألباب.

قصة موسى

قصة موسى كما ذكرنا سابقا تشتمل على عدة عناصر ، وقد ذكرت في مواضع كثيرة في القرآن ، ويلاحظ أنه ذكر في هذه السورة بإسهاب الجزء الأول من حياة موسى ، ويتلخص ذلك في العناصر الآتية.

ولادته وإرضاعه .... ، تربيته في بيت فرعون ، سبب خروجه من أرض مصر. أرض مدين ونزوله بها ، ومصاهرته للشيخ ، قضاء موسى مدة استئجاره. موسى بالوادي المقدس. محاجة موسى لهم. وعناد فرعون. وعاقبتهم.

ولادته وإرضاعه

(وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩) وَأَصْبَحَ

٨١٦

فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤))

المفردات :

ـ (وَأَوْحَيْنا) ألهمنا (وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي) الخوف ألم نفسي لما يتوقع حصوله في المستقبل ، والحزن ألم يصيب الشخص لأمر واقع في الماضي (خاطِئِينَ) متعمدين للخطيئة من خطىء إذا تعمد ، أما أخطأ فمعناه لم يصب ولكن بغير تعمد (قُرَّتُ عَيْنٍ) المراد أنه مصدر سرور وارتياح ، واشتقاق الكلمة من القرار فإن العين تقر على ما تسر به أى تسكن ، أو من القر أى البرد ، وبرد العين كناية عن سرور صاحبها (فارِغاً) خاليا من كل ما عدا موسى (لَتُبْدِي بِهِ) لتظهر أمره (رَبَطْنا) المراد ثبتناها (قُصِّيهِ) القص اقتفاء الأثر وتتبع الخبر (عَنْ جُنُبٍ) عن مكان بعيد (يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ) يقومون بأمره (أَشُدَّهُ) غاية نموه ، وهو مفرد جاء على وزن الجمع.

٨١٧

المعنى :

وأخيرا ولدت أم موسى (قيل اسمها يوكابد وقيل غيره وهذا لا يهمنا في شيء) ولدت موسى في وقت شديد على بنى إسرائيل ، كان يقتل فيه فرعون ذكورهم ويبقى نساءهم فماذا تفعل تلك الأم المسكينة؟! إن ابنها سيكون له شأن ، وهو النبي الذي ينقذ بنى إسرائيل ، ويرسل إليهم ، وتنزل عليه التوراة ، وفيها هدى ونور ، فمن المعقول أن يرعاه ربه ويحفظه حتى يؤدى رسالته ، وقد كان ما أراد الله ، وصنعه على عينه ، فلما ولدته أمه خبأته من عيون فرعون ، فمكث عندها زمنا فلما خافت عليه وخافت من انكشاف سرها المكتوم فيقضى على فلذة كبدها ، وموضع أملها لما حصل هذا أوحى الله إليها وألهمها ـ وهو القادر على كل شيء ـ أن تصنع له تابوتا ثم تضعه فيه ، وتلقيه في البحر.

وهنا نقف لحظة أمام قوله تعالى (فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي) (١) إذ كيف يكون الإلقاء في البحر نتيجة الخوف؟ وهل من المعقول أنى إذا خفت على ابني مكروها ألقيه من النافذة؟! ولكنها عناية الله ورعايته تحوط بأنبيائه ورسله ، وهم في المهد بل وفي ظهور آبائهم «خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح» عناية الله ورعايته بهم هكذا تكون لهم إرهاصا بنبوتهم ، ودليلا على أنهم ليسوا بشرا عاديين ، فحينما تلقى أم موسى به في البحر الذي يغرق الرجال والشبان ، ثم يحفظه الله لها ، بل ويرده إليها كما وعدها. تعلم علما أكيدا أن وعد الله حق ، وأنه القادر المقتدر لا تخفى عليه خافية ، ويكون في هذا دليل على صدق موسى فيما يدعيه مستقبلا ؛ إذا خفت عليه من فرعون فألقيه في البحر ، ولا تخافي عليه من الغرق فعين الله ترعاه.

وإذا العناية لاحظتك عيونها

نم فالمخاوف كلهنّ أمان

أليس في هذا عبرة وعظة للمسلمين في مكة قبل الهجرة.

ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك ، وجاعلوه من المرسلين.

وكان من أمرها أنها ألقته بتابوته في البحر فالتقطه آل فرعون ، وهم أعداء له ولربه ، ولكن الله ألقى عليه المحبة؟ فأحبته امرأة فرعون وحافظت عليه. وأبقته قرة عينها وعين

__________________

(١) سورة القصص الآية ٧.

٨١٨

زوجها فرعون ، راجية أن ينفعهما أو يتخذاه ولدا لهما (إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) [سورة طه آية ٣٩].

التقطه آل فرعون لتكون العاقبة والنهاية أن موسى يصير لهم عدوّا مبينا ومصدر حزن وتعب لهم جميعا ، إن فرعون وهامان وزيره وجنودهما كانوا مجرمين ومذنبين ، إذ لا يستوي الخبيث والطيب ...

فلما وصل إلى بيت فرعون قالت امرأته عند ما وقع نظرها عليه ـ وقد ألقى الله عليه محبتها ـ قالت ؛ هذا الطفل ألمح فيه أنه سيكون لنا سلوى ، به تقر عيوننا ، وتسكن نفوسنا ، فلا تقتلوه ، يا فرعون عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا نتبناه ، قالوا هذا وهم لا يشعرون ما يضمره الغيب لهم بسبب ذلك الطفل.

ولما حصل هذا ألقت أم موسى به في البحر. وهو ابنها فلذة كبدها أصبح فؤادها فارغا من كل شيء إلا من موسى وخبره ، وانتابتها الهواجس والظنون ، واعتراها ما يعترى البشر من الهلع والجزع عند فقد الحبيب ، إنها أوشكت أن تخبر أن الذي وجدتموه هو ابني ، وفي رواية كادت تقول : وا ابناه!! من شدة وجدها عليه ، كادت تفعل ذلك لو لا أن ربطنا على قلبها وألهمناها الصبر ، كما يربط على الشيء ليسكن ويستقر لأمر الله ، ولتكون من المؤمنين حقّا بقضاء الله وقدره ، المصدقين بوعده.

وكان من أمرها أنها أمرت أخته أن تقتفى أثره ، وتقف على خبره ، فأبصرته من مكان بعيد ، وهو في بيت فرعون ؛ تعرض عليه المرضعات فيأبى أن يرضع من إحداهن لأن الله حرم عليه المراضع ، فقالت أخته : هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم ، ويقومون بخدمته وإرضاعه والعناية به ونظافته؟ ولا شك أن هذا عمل يقوم به أهل بيت لا امرأة واحدة ، وأهل هذا البيت لفرعون وعرشه ناصحون فلا تخشون منهم سوءا ، وكان ما أشارت به أخته.

وانظر إلى تدبير الله ـ جل جلاله ـ ، الرحمن الرحيم بخلقه ، وخاصة أولياءه وأحبابه ، حيث أعاد لأم موسى ابنها ترضعه وتربيه ، وتكون ظئرا له ، وتتقاضى على ذلك كله أجرا ، وهي آمنة من كيد الكائدين ، وسعى الساعين.

٨١٩

والله الذي أخرج اللبن من بين الفرث والدم لبنا خالصا سائغا للشاربين ، أخرج موسى من بين فرعون وهامان وجنوده ، ولا حرج على فضل الله.

فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ، وتسكن نفسها ، ولا تحزن عليه ، ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثر الناس لا يعلمون ...

وبعد فطامه عاد إلى بيت فرعون ، وتربى فيه (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) [سورة الشعراء آية ١٨].

ولما بلغ مبلغ الرجال ، واستكمل قواه العقلية والجسمية وهذا معنى قوله : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى) آتيناه حكمة وحكما ، ونبوة وعلما ، ومثل ذلك نجزى المحسنين ..

سبب خروجه من أرض مصر

(وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ

٨٢٠