التفسير الواضح - ج ٢

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ٢

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٨٨٤

المعنى :

هذه هي قصة نوح الذي عاش في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى عبادة الله ، وترك الشرك وعبادة الأوثان ، ومع ذلك كذبه قومه فقال الله فيهم : كذبت قوم نوح المرسلين ، فإن من كذب رسولا واحدا فقد كذب الكل لأن الرسول يدعو إلى الإيمان بجميع الرسل (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) [سورة البقرة آية ٢٨٥].

كذبوا إذ قال لهم أخوهم نوح : ألا تتقون! أتدعون صنما وتذرون أحسن الخالقين ، والله ربكم ورب آبائكم الأولين ، إنى يا قوم لكم رسول أمين في رسالتي صادق في دعواي أنى رسول رب العالمين ، فاتقوا الله ، وأطيعونى ، وإنى لا أرى سببا لعصياني وتكذيبي وأنا أخوكم تعرفون عنى ما تعرفون من شرف النسب وكرم الخلق وصدق الحديث ، وأنا لا أطلب بدعوتي مالا ولا جاها ولا ملكا ، وما أجرى إلا على ربي ، وليس جزائي إلا عنده فما لكم تكفرون؟ فيا قوم اتقوا الله وأطيعونى.

قالوا يا نوح : أنؤمن لك واتبعك الأرذلون؟ لم يجدوا حجة تؤيدهم في ترك الإيمان إلا أنه قد اتبعه ضعاف الناس وفقراء القوم.

يا للعجب! الحياة يوم مكرر ، فقديما وحديثا منع الناس من الإيمان ذلك الفهم السيئ ، وذلك الغرور الكاذب الذي أوقع إبليس في العصيان لأنه اغتر وقال : أأسجد لآدم ، وأنا خير منه خلقتني يا رب من نار وخلقته من طين ، ومنع أشراف قريش من الإيمان بمحمد لأنه آمن به بلال وصهيب وغيرهم من عامة الناس.

وهؤلاء أتباع نوح يقولون : أنؤمن لك ونصدق بك وقد اتبعك الأرذلون أصحاب الحرف الوضيعة. لا يمكن ، نحن أشراف القوم!

فيقول لهم نوح : وما علمي بما كانوا يعملون ، لم أكلف العلم بأعمالهم وأحسابهم وأنسابهم. إنما كلفت بدعواهم للإيمان برب العالمين فاستجابوا لي ، وآمنوا بي بعد إيمانهم بالله وملائكته واليوم الآخر ، وأما أعمالهم فحسابهم على ربي لا علىّ ، يا ليتكم تشعرون بذلك ، لو تشعرون وتعلمون أن حسابهم على ربهم لما عاتبتمونى بصنائعهم ، وما أنا بطارد المؤمنين مهما كانوا من فقر أو ضعف أو رقة حال فالكل سواء ، ولا فضل لأحد إلا بالعمل الصالح ، وما أنا إلا نذير مبين.

٧٦١

لم ينفعهم هذا الكلام ، ولم يرضهم هذا الأسلوب بل عدوه إهانة لهم وسبأ لآلهتهم ، وقالوا : لئن لم تنته يا نوح عن سب آلهتنا وتسفيه أحلامنا لتكونن من المرجومين بالحجارة المقتولين شر قتله.

فلما ضاق بهم ذرعا ، واستعصى عليه أمرهم دعا ربه وقال : رب إن قومي كذبوني فاحكم بيني وبينهم حكما عدلا ، ونجنى ومن معى من المؤمنين.

فكان الحكم العدل والقضاء ، الذي لا يرد : أن الله أنجاه ومن معه من المؤمنين أنجاه في الفلك المشحون بالخلق ، وقد مضى ذكرها والكلام عليها في سورة [هود والمؤمنون].

ثم أغرق الله الكافرين مطلقا.

إن في ذلك لآية وأى آية أبلغ من تلك لو كنتم تعلمون يا كفار قريش فهذا نوح دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاما ، وما آمنوا به ، بل وقالوا : أنؤمن لك واتبعك الأرذلون ، وها أنتم أولاء يدعوكم نبيكم الصادق الأمين فلم تؤمنوا ، وقلتم (أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) [سورة الأنعام آية ٥٣]. وقلتم إن أردت أن نؤمن لك فلا تجلس مع هؤلاء العبيد والخدم.

اتعظوا أيها القوم بما حل بالمشركين قبلكم حينما غضب عليهم نبيهم فقد غرقوا ، ولم ينج إلا نوح والمؤمنون معه ، وابنه لأنه لم يؤمن قد غرق كذلك ، وأما أنت يا محمد فلا تحزن ولا تيئس فالنصر للمؤمنين والهلاك للكافرين ، ونوح دعا قومه مدة من الزمن ومع ذلك ما كان أكثرهم مؤمنين ، وإن ربك لهو العزيز الرحيم.

قصة هود مع قومه

(كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ

٧٦٢

مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٢٧) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (١٣٦) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٤٠))

المفردات :

(رِيعٍ) جمع ريعة. المرتفع من الأرض ، وقيل الطريق (آيَةً) علامة (تَعْبَثُونَ) تفعلون ما لا فائدة فيه أصلا كاللعب (مَصانِعَ) جمع مصنعة وهي الحوض أو البركة ، وقيل هي القصور والمدائن (بَطَشْتُمْ) البطش السطوة والأخذ بعنف (خُلُقُ) عادة وطبع وقرئ خلق بمعنى اختلاق وكذب.

المعنى :

أرسل الله هودا إلى قومه عاد ، وكانوا قوما أولى بأس وشدة ورخاء ونعيم فقال لهم : اعبدوا الله وحده فما لكم من إله غيره ألا تتقون الله ، وتخافون عذابه ، إنى لكم رسول أمين على رسالتي التي هي من عند الله ، فاتقوا الله وأطيعونى ، يصلح لكم أعمالكم ، ويحفظ عليكم نعمكم ، وأنا لا أسألكم على ذلك أجرا ولا مالا ، ولا أبغى

٧٦٣

بذلك سلطانا ولا جاها إن أجرى إلا على ربي لو كنتم تعلمون ، ولكنهم كذبوه إذ قال لهم هذا ، ورموه بالسفاهة ، والجنون.

وقال لهم هود : يا قوم أتبنون بكل مرتفع من الأرض أو بكل طريق بناء كالعلامة التي يهتدى بها حالة كونكم تعبثون؟ وتلعبون بهذا البناء ، ولم تنتفعوا به فيما ينفعكم ، وقيل أنتم في هذا البناء تسخرون ، وتهزءون بغيركم حينما يمرون عليكم؟ وتتخذون مصانع تجمعون فيها الماء كالأحواض والبرك والسدود ، أو تتخذون مصانع من المدائن والقصور الشامخات ، والتاريخ يحدثنا بأنهم كانوا أصحاب سدود وأحواض لجمع المياه ، وأصحاب قصور شامخات لعلكم بذلك كله تخلدون ، والمراد فعلتم هذا راجين الخلود في الدنيا منكرين البعث ؛ وإذا بطشتم بأحد بطشتم جبارين ، وقد كانت تلك القبيلة ذات بأس وقوة وشدة ، وقد زادهم الله بسطة في الجسم والخلق ، وبوأهم أرضا تدر عليهم من الخير الكثير ، لهذا كانوا إذا سطوا أو حاربوا بطشوا بعنف وشدة.

وقد وصفهم الله بصفات ثلاثة كلها تدل على أنهم يريدون علوا في الأرض واستكبارا ، فهم يبنون بكل ريع بناء ضخما حالة كونهم به يستهزئون ويعبثون ، وهم قد اتخذوا المصانع والمنازل كأنهم مخلدون ، وإذا بطشوا بالغير بطشوا جبارين ، وهذه صفات تتنافى مع الإيمان والتصديق بالرسل الكرام ، لذا تجدهم كذبوا هودا وتحدوه (يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ).

مع أن هودا كان يدعوهم بالحسنى ويذكرهم بالنعمى ، لعلهم يثوبون ويرجعون (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) واتقوا يا قوم الذي خلقكم وأمدكم بما تعلمون من النعم ، أمدكم بأنعام منها تأكلون ، وعليها تحملون ، ومن أوبارها وأشعارها تلبسون ، وأمدكم ببنين أولى بأس وقوة ، وأمدكم بجنات وعيون ، وهل بعد هذا نعمة؟ أعطاهم أنعاما ورجالا ، وجنات وأنهارا أفليس هذا مما يدعو إلى الشكر وامتثال الأمر ، ولذا قال هود لهم : يا قوم. إنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم في الدنيا والآخرة.

ولكنهم قوم مغرورون ، لم يستجيبوا لنبيهم بل قالوا له : يستوي عندنا وعظك لنا وتحذيرك إيانا ؛ وعدم وعظك أصلا ، فإنا لا نرعوى لوعظك ، ولا نسمع لكلامك والسبب في هذا. أن الذي خوفتنا به ما هو إلا خلق الأولين وافتراؤهم وكذبهم ، وعلى قراءة (خلق) يكون المعنى إن هذا الذي نحن عليه من بناء الصروح والقوة في

٧٦٤

الحروب إلا عادة آبائنا الأولين ورثناها عنهم ، وما نحن بمعذبين أبدا لأنه ليس الأمر كما تقول.

وكانت النتيجة أنهم كذبوه في كل ما أتى به ، فأهلكناهم بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال ، وثمانية أيام حسوما. فترى القوم فيها صرعى ، كأنهم أعجاز نخل خاوية.

إن في ذلك لآية : وأى آية أقوى وأشد أثرا وأبعد مغزى من هذه؟

فمنها نعرف الموقف النبيل الذي وقفه هود من قومه حينما رموه بالسفاهة والجنون فقال لهم : يا قوم ليس بي سفاهة ، ولست أنا مجنونا.

ومنها نعرف كيف يتلطف الداعي فيذكر النعم التي منّ الله بها والتي تقتضي الشكر لله ، والإيمان به.

وفي هذه القصة نرى كيف أهلك الله من عصى رسوله ولم يؤمن به فاحذروا يا آل مكة من عصيانكم وتكذيبكم ، وها أنت يا محمد ـ وأنت الرسول الصادق الأمين ـ ترى ما فعله أخوك ، وما حل بالقوم الكافرين ، ومع هذا كله فما كان أكثرهم مؤمنين ، وإن ربك لهو العزيز الذي لا يغلبه أحد ، الرحيم بمن آمن به ...

قصة صالح مع قومه ثمود

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٤٢) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٤٤) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٤٥) أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (١٤٨) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ

٧٦٥

(١٥٠) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (١٥٢) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٥٩))

المفردات :

(طَلْعُها) أول ما يطلع من ثمرة النخل ، وهو كنصل السيف في جوفه شماريخ القنو (هَضِيمٌ) لين متكسر من هضم الغلام يهضم خمص بطنه ولطف كشحه فهو أهضم وهضماء وهضيم. أما هضم يهضم فمعناه كسر أو ظلم (فارِهِينَ) بطرين أو أشرين أو حاذقين مأخوذ من الفراهة وهي النشاط (الْمُسَحَّرِينَ) الذين سحروا كثيرا حتى غلب السحر على عقولهم (شِرْبٌ) نصيب من الماء تشربه (فَعَقَرُوها) ذبحوها.

المعنى :

أرسل الله إلى قبيلة ثمود أخاهم صالحا من أوسطهم نسبا وأكرمهم خلقا ، فقال لهم : ألا تتقون. دعاهم إلى عبادة الله وترك الأصنام ، وقال لهم : إنى لكم رسول أمين ، فاتقوا الله حق تقواه ، وأطيعونى حيث إنى رسول رب العالمين إليكم وما أسألكم على ذلك أجرا ، ولا أطلب منكم مالا ، ولا أريد جاها ولا رئاسة.

وما أجرى إلا على رب العالمين ... ومن الواضح أن صالحا كغيره أيدت دعواه

٧٦٦

بآية دالة على صدقه (قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) من سورة الأعراف ، وقال لهم صالح : أتتركون في ما ها هنا آمنين؟ أى أتتركون في دنياكم هذه آمنين تتقلبون في النعيم آمنين من العذاب؟ والمعنى لا تظنوا ذلك ، ولا ينبغي لكم أن تعتقدوا أنكم تتركون على هذه الحال. أتتركون في ما ها هنا آمنين ، في جنات وعيون ، ونخل طلعها هضيم؟ لا يعقل أن تتركوا على ما أنتم عليه من الشرك والكفر والظلم المبين ، وأنتم تمرحون في بحبوحة من النعيم ، وتتمتعون بالجنان والأنهار والزرع والثمار ، والنخيل ذات الطلع اللين الجميل.

أتنحتون من الجبال بيوتا فارهين؟ الاستفهام هنا للإنكار ، والإنكار منصب على قوله فارهين ، على معنى لا تنحتوا من الجبال بيوتا وأنتم فرحون فرح بطر وأشر ، مع السرعة والنشاط فإن هذه المعاني تفيد الإخلاد إلى الدنيا والركون إليها مع عدم الإيمان بيوم القيامة. فاتقوا الله أيها القوم ، ولا تطيعوا المسرفين على أنفسهم بالمعاصي وارتكاب الخطايا ، لا تطيعوهم في أمر من الأمور ، فإنهم هم الذين يفسدون في الأرض ، ولا يصلحون أبدا في وقت من الأوقات ، وهؤلاء هم أشراف القوم والملأ ؛ أما ضعاف الناس فآمنوا بصالح ورسالته (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ. قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) (٧٦) من سورة الأعراف وقال الذين استكبروا أيضا يا صالح : إنا لفي شك مما تدعونا إليه بالرسالة منك فإنا ذو جاه ومال ، وإن كنت رسولا فائت بآية تدل على صدقك ، وأغلب الظن أنك رجل سحرت حتى ضاع عقلك فادعيت ما تدعيه ، قال صالح : هذه ناقة الله ، وهي آية ومعجزة دالة على صدقى ، ولها شرب ولكم شرب يوم معلوم ، والذي روى أنها ناقة خرجت من صخرة ، وكانت تشرب الماء كله في يوم ثم تعطيهم بدله لبنا منها ، ولهم ولأنعامهم وزروعهم شرب في يوم آخر ، ويظهر ـ والله أعلم ـ أن ذلك عنوان كون الناقة آية ، وإلا لو كانت ناقة عادية فكيف تكون دالة على صدق صالح ، وطالبهم بأنهم لا يمسوها بسوء بل يتركونها تشرب في يومها ، وترعى حيث تشاء ، ولا يمسوها بسوء أبدا ، وحذرهم أنهم إن تعرضوا لها فسيصيبهم عذاب شديد.

٧٦٧

فعقرها واحد منهم قيل : إن اسمه (قدار) ، ولكنهم راضون عن فعله ، ولذا نسب العقر إليهم جميعا ، فعقروها فأصبحوا نادمين ندما بلا توبة ، ولكنه ندم من تيقن نزول العذاب ، ولا مناص ، وكان أن أخذتهم الصيحة مصبحين ، فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون.

إن في ذلك لآية ، وأى آية أعظم من هذا ، فهم قوم طغوا وبغوا واغتروا بمالهم وجاههم فلم ينفعهم ذلك ، وهم قوم لم يؤمنوا برسولهم مع أن معه آية شاهدة بصدقه فلما ظلوا على هذا نزل بهم العذاب.

وما كان أكثرهم مؤمنين ، وإن ربك لهو العزيز الرحيم.

قصة لوط مع قومه

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٦٣) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٤) أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (١٦٦) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (١٦٨) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٧١) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٧٥))

٧٦٨

المفردات :

(الذُّكْرانَ) الذكور (وَتَذَرُونَ) وتتركون (عادُونَ) متجاوزون الحد (الْقالِينَ) المبغضين (الْغابِرِينَ) الباقين الماكثين.

المعنى :

لوط بن هارون ـ أخ إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ آمن بعمه ورحل معه واهتدى بهديه ، ثم أرسله الله إلى أهل سدوم في قطاع الأردن ، وكانوا قوما ذوى خلق سيئ ، وشرك بالله فقال لهم : ألا تتقون ، إنى لكم رسول آمين فاتقوا الله وأطيعون ، وما أسألكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين ، يا قوم : أتأتون الذكران في أدبارهم ، وتتركون ما أحله الله وأعده لذلك وهو فروج أزواجكم (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) [سورة البقرة آية ٢٢٢] بل أنتم قوم عادون ومتجاوزون الحدود المعقولة.

قالوا يا لوط. كيف تنهانا عن عملنا هذا؟ لئن لم تنته يا لوط عن هذا لتكونن من المخرجين من قريتنا ، قال لهم : إنى لعملكم هذا من القالين المبغضين ، فإنه عمل يتنافى مع الإنسانية ، بل ترتفع عنه الحيوانات البهيمية.

فلما استمروا على عملهم ، ونفد صبره معهم ، ولم تنفعهم مواعظه دعا عليهم ، وقال : رب نجنى وأهلى مما يعملون ، فإن عمل هؤلاء مدعاة لسخطك ، ومباءة لعقابك.

فنجيناه وأهله أجمعين إلا عجوزا في الغابرين ، وهي امرأته لم تكن مؤمنة معه ، وكانت تحب القوم الكافرين ، وتنقل إليهم الأخبار ، ولذا كانت من الهالكين ، ثم دمرنا وأهلكنا القوم الآخرين الذين فعلوا المنكرات ، وكفروا بالذي خلقهم ، ولم يؤمنوا برسله ، وأمطرنا عليهم مطرا ، فبئس مطر المنذرين المهلكين.

إن في ذلك لآية وعبرة حيث أهلك العصاة المذنبين ، ونجى المؤمنين الصالحين ، ولم ينفع امرأة لوط قربها وصلتها به بل كل امرئ بما كسب رهين ، وما كان أكثرهم مؤمنين ، وإن ربك لهو العزيز الرحيم.

٧٦٩

قصة شعيب مع أصحاب الأيكة

(كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٠) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (١٨٦) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (١٨٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٩٠) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٩١))

المفردات :

(الْأَيْكَةِ) الشجر الكثيف الملتف وقرئ أصحاب ليكة وأصله الأيكة فنقلت حركة الهمزة إلى اللام تخفيفا ثم حذفت فاستغنى عن همزة الوصل وصارت الكلمة

٧٧٠

ليكة (بِالْقِسْطاسِ) بالميزان المستقيم أى العادي (وَلا تَبْخَسُوا) ولا تنقصوا من الناس شيئا (وَلا تَعْثَوْا) يقال عثا في الأرض أفسد فيها (وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ) الجبلة الخلق الكثير من الناس (كِسَفاً) جمع كسفة وهي القطعة والجانب (الْمُسَحَّرِينَ) المسحورين مرارا حتى فسدت عقولهم (الظُّلَّةِ) أصل الظلة ما يظل الإنسان ، والمراد العذاب الذي أهلكهم ، وكان على شكل ظلة لهم.

المعنى :

أرسل الله شعيبا إلى قبيلته مدين (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً) وإلى أصحاب الأيكة ، وهم قوم كانوا أصحاب غيضة وشجر وزرع وثمر ، ولذا يقول الله هنا (إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ) ولم يقل أخوهم لأن شعيبا لم يكن من أصحاب الأيكة وإن أرسل لهم.

قال شعيب لهم : ألا تتقون إنى لكم رسول أمين. فاتقوا الله وأطيعون. وما أسألكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين .. كما قال أخوه نوح. وهود. وصالح لاتفاقهم جميعا على الأمر بالتقوى ، والطاعة والإخلاص في العبادة ، والامتناع من أخذ الأجر على تبليغ الرسالة ، وعلى تحملهم المشاق والصعاب رجاء مثوبة رب العالمين لهم يوم القيامة ، وهكذا أصحاب الدعوات لا يرجون بعملهم جزاء ولا شكورا من العبد ، ولا يبغون بها مالا ولا جاها ولا رئاسة كاذبة ، وإلا كانوا كعلماء اليهود اشتروا الضلالة بالهدى ، وباعوا الباقية بالفانية.

اتفق جميع الأنبياء في الأمور العامة للرسالات ، ثم أخذ كل نبي يعالج المرض الشائع عند قومه ، ولذا رأينا هودا يقول منكرا على قومه إنهم يعبثون ببنائهم ، وأنهم طامعون في الدنيا حتى كأنهم مخلدون ، وإنهم يبطشون بطش الجبارين ؛ وقال صالح : منكرا على قومه : أتنحتون من الجبال بيوتا فارهين؟! وقال لوط : أتأتون الذكور من الناس وتتركون النساء من الأزواج؟ وقال شعيب هنا منكرا عليهم التطفيف في الكيل آمرا لهم أن يوفوا الكيل ويعطوه حقا كاملا بلا زيادة ولا نقصان ، أن يزنوا بميزان العدل ، ولا يخسروا الميزان وألا يبخسوا الناس أشياءهم ، وألا يفسدوا في الأرض بالبهتان.

وأن يتقوا الله ، ويخافوا عقابه فقد خلقهم ، وخلق آباءهم والجبلة الأولين ، ومن

٧٧١

كان صاحب تلك النعم ، كانت عبادته من أوجب الواجبات ... ولكنهم قوم معاندون لم يسمعوا لشعيب بل قالوا : إنما أنت رجل سحرت مرارا حتى فسد عقلك ، وضاع لبك ، على أنك بشر مثلنا ، فكيف تأتيك الرسالة دوننا ، ونحن لا نظنك إلا من الكاذبين وإن كنت صادقا حقا ، وأننا سنعذب لو لم نطعك فأسقط علينا قطعة من السماء تكون دليلا على أنك رسول من قبل الله ولكن الله يعلم ما عندهم ، وقد حكاه بقوله (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ) [الطور ٤٤].

وقد طمأن شعيب نفسه وقال : لست مكلفا بإدخال الإيمان في قلوبكم ، ولست مكلفا بحسابكم على أعمالكم ، إن على إلا البلاغ ، وربي وربكم يعلم ما تفعلون ، وسيجازيكم على أعمالكم.

وكانت النتيجة أنهم كذبوه وعصوه فأخذهم عذاب يوم الظلة ، إنه كان عذاب يوم عظيم ، روى عن ابن عباس : أنه أصابهم حر شديد فأرسل الله ـ سبحانه ـ سحابة فهربوا إليها ليستظلوا بها ، فلما صاروا تحتها صيح بهم فهلكوا جميعا وكان هذا من أعظم أيام في الدنيا عذابا.

إن في ذلك لآية يا كفار مكة لو كنتم تعلمون ، وما كان أكثر قوم شعيب بمؤمنين ، وإن ربك لهو العزيز الذي يعز أولياءه ، وينصرهم ، ويذل أعداءه ، ويأخذهم أخذ عزيز مقتدر ، وهو الرحيم بالخلق جميعا إن عاقب أو أثاب ، ولا يتغير قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) الآية تكريرا لأنها سيقت عقب كل قصة ، وفي كل قصة آية وعبرة (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ).

الحديث عن القرآن وموقف المشركين منه

(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ

٧٧٢

عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٢٠٢) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (٢٠٩) وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢) فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣))

المفردات :

(الرُّوحُ الْأَمِينُ) هو جبريل الأمين على الرسالة (زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) كتب الأولين جمع زبور وهو الكتاب. يقال : زبر الكتاب يزبره أى : كتبه يكتبه (الْأَعْجَمِينَ) العجمي هو من كان من أصل فارسي وإن كان فصيحا في كلامه والأعجمي هو من كان غير فصيح وإن كان عربيا (سَلَكْناهُ) أدخلناه (بَغْتَةً) فجأة (مُنْظَرُونَ) من الإنظار وهو التأجيل (لَمَعْزُولُونَ) لممنوعون.

وهذا رجوع إلى المقصود الأول في السورة ، وهو الكلام على القرآن الكريم ، والدعوة المحمدية ، وموقف المشركين منها ، وكانت القصص التي ذكرت آية ، وعبرة لمن يعتبر وحجة دامغة ، ودليلا صادقا على نبوة المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حيث قص قصص

٧٧٣

الأولين الذين لم بعاصرهم ، ولم يدرس أخبارهم ، على معلم أو أستاذ ، وهو النبي الأمى الذي لم يقرأ كتابا ، ولم يخط حرفا.

وقد ساق الله هنا الأدلة على أن القرآن من عند الله ، وليس من عند محمد بعد هذا.

المعنى :

وإن القرآن الذي أنزل عليك يا محمد لتنزيل رب العالمين ، وقد نزل به جبريل ـ عليه‌السلام ـ ، الأمين على الرسالات ، وخادم الآيات المنزلات ، نزل به على قلبك فوعاه ، وكان هذا الفضل من عند الله (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ* فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) (١) وكان ذكر القلب لأنه أمير الجسم ، ومركز الحواس الخاصة. الحواس الروحية. ولذا وصف القرآن دائما الكفار بأن قلوبهم مغلقة فقال (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (٢) (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (٣) وفي ذكر القلب إشارة إلى أن القرآن نزل على النبي ، فوعاه ، وحفظه ، ليكون من المنذرين ؛ وانظر إلى قوله تعالى : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) مع تحدى القرآن للعرب على أن يأتوا بمثله ، أو بعشر سور ، أو بسورة فعجزوا هم وشركاؤهم وأعوانهم ، أليس في هذا دليل على أن القرآن من عند الله لا من عند محمد ، إذ هو واحد منهم ، فكيف يأتى بما عجز عنه قومه مجتمعين مع التحدي والاستهزاء بهم.

ثم انظر إلى الدليل الثالث على أن القرآن من عند الله : (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) حقا إن القرآن ذكر في الكتب السابقة التي نزلت على الأنبياء بمعنى أنها بشرت بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبأنه سينزل عليه قرآن يشهد بصدقها ، ويهيمن عليها (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) [سورة البقرة آية ٨٩].

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) (٤) أعموا وضلوا ولم يكن لكفار مكة في أن يعلمه علماء بنى إسرائيل ويقولون لهم إن

__________________

(١) سورة القيامة الآيات ١٦ ـ ١٨.

(٢) سورة محمد الآية ٢٤.

(٣) سورة الحج الآية ٤٦.

(٤) سورة المائدة الآية ٤٨.

٧٧٤

هذا حق ، وهذا هو النبي المبشر به عندنا ، أو لم يكن لهم في هذا آية ودليل؟ هذه أدلة أوضح من الشمس على أن القرآن من عند الله ، وأن محمدا صادق في دعواه ، ولكن العناد والكفر يأبى عليهم الخضوع للحق ، ولو أنزل هذا القرآن على بعض الأعاجم ، فقرأ عليهم ما كانوا به مؤمنين أبدا (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) (١) مثل إدخالنا التكذيب في قلوبهم لو قرأه عليهم أعجمى ، أدخلناه في قلوب المجرمين كفار مكة المشركين.

فهم لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم ، فما هو أشد منه ، وهو لحوق العذاب بهم فجأة ، فما هو أشد منه ، وهو سؤالهم الإنظار من القطع بامتناعه ومعنى الكلام : لا يؤمنون بالقرآن حتى يأتيهم العذاب فجأة ، وهم لا يشعرون به فيرونه فيقولوا : هل نحن منظرون ومؤخرون عن الهلاك ولو طرفة عين لنؤمن؟ فيقال لهم اخسئوا في جهنم ، ولا تكلمون ، وعلى هذا فالفاء التي في الآية ليست للترتيب الزمانى بل للترتيب الرتبى.

ومع هذا فهم يقولون : متى هذا العذاب؟ استبطاء له واستهزاء بالنبي أفبعذابنا يستعجلون؟!! إن هذا لعجيب ، ولكنهم قالوا : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٢) فبدل أن يقولوا : إن كان هذا الحق فاهدنا إليه قالوا تلك المقالة ، فلا عجب أن يستعجلوا العذاب ، إن عذاب الله له أجل محدود ، ونظام معلوم ، ولكل أجل كتاب أيظنون أن الله يهمل! لا. ولكنه يمهل فقط.

أفرأيت أيها المخاطب إن متعناهم سنين بتأخير العذاب عنهم ثم جاء العذاب فجأة ، وهو ما وعدوا به أى إغناء عنهم ما كانوا يمتعون به؟ أعنى لو أخر العذاب ، وكان الإنسان متمتعا استدراجا له ثم حل به العذاب فكان انجعافه وهلاكه مرة واحدة أى فائدة استفادوها من النعم؟ لم يستفيدوا شيئا ، ولم يغن عنهم متاعهم شيئا ، وإنما كان استدراجا لهم وتنكيلا بهم حتى يكون هلاكهم شديدا وعبرة وعظة ونكالا لمن يأتى بعدهم. وما قصص فرعون وعاد وثمود وقوم لوط عنكم ببعيد ...

وهكذا سنة الله مع الأمم قديما وحديثا وما أهلكنا من قرية إلا كان لها رسل منذرون تبشرهم وتنذرهم وتدعوهم إلى الصراط المستقيم بشتى الأساليب وبمنتهى الحكمة

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٧.

(٢) سورة الأنفال الآية ٣٢.

٧٧٥

والموعظة الحسنة فإن أبوا وكفروا حاق بهم سوء العذاب ، ونجى الله المؤمنين ؛ فاعتبروا يا أولى الأبصار فسنة الله لا تتغير (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) [سورة الفتح آية ٢٣].

وهاكم الدليل الأخير على أن القرآن من عند الله : ذكر بعد مناقشة المشركين السابقة التي سيقت وسط الأدلة.

وكانوا يقولون : إن محمدا كاهن ، وإن القرآن كهانة تلقيها الشياطين على محمد كما تلقى على غيره فقال الله : وما نزلت به الشياطين ، وما ينبغي لهم ، وما يستطيعون إنهم عن سمع مثل هذا القرآن لممنوعون ، نعم لقد قص التاريخ أن الكهانة والكهان كانوا موجودين قبل البعثة المحمدية ، وكان الشياطين يسترقون السمع وأخبار السماء المتعلقة ببعض الأحداث الجارية في الجزيرة ، ثم يلقون بهذا إلى الكهان أمثال (شق وسطيح).

ولكن الله ـ سبحانه ـ قبيل البعثة منع هذا بالمرة حتى ضجت الجن ، وأخذوا يبحثون عن السبب (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً* وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً* وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) [سورة الجن الآيات ٨ ـ ١٠].

وإذا ثبت هذا كله ، وأظنه ثابتا في ميزان العقلاء الموفقين إذا كان هذا فلا تدع مع الله إلها آخر ، فتكون من المعذبين المهلكين ..

نصائح ربانية

(وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠))

٧٧٦

اعلم يا أخى ـ وفقك الله للخير ـ أنه ـ سبحانه وتعالى ـ أرشد رسوله إلى ترك الأسف والحزن على عدم إيمان أكثر الناس ، ثم ساق القصص مؤيدا ذلك ومسليا ، ثم أقام الحجة والبرهان على صدق الرسول في دعواه ، وناقش المشركين في شبههم الواهية ، وبعد ذلك كله نهى الرسول عن اتخاذ الشريك للباري في كل صورة متوعدا من يفعل ذلك بالعذاب الشديد ، والمراد من ذلك نهى غير النبي عن الشرك.

نفهم من نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الشرك (فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ). ثم أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يدعو الأقرب فالأقرب من أهله وعشيرته. يمكن أن نفهم من هذا كله ، أن المراد نفى الشك والطعن عن الدعوة المحمدية لأن الإنسان جبل على حب الخير له ولأهله.

روى مسلم في صحيحه من حديث أبى هريرة قال : لما نزلت آية (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قريشا فاجتمعوا فعم وخص فقال : «يا بنى كعب ابن لؤي أنقذوا أنفسكم من النّار. يا بنى عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النّار ، يا بنى هاشم أنقذوا أنفسكم من النّار. يا بنى عبد المطّلب أنقذوا أنفسكم من النّار ، يا فاطمة أنقذى نفسك من النّار ، فإنّى لا أملك لكم من الله شيئا غير أنّ لكم رحما سأبلّها ببلالها أى أصلكم في الدنيا ، ولا أغنى عنكم من الله شيئا يوم القيامة.

وهذه نصائح غالية تنفع الدعاة والمرشدين إلى الحق والخير حيث تبدأ بدعوتك أقرب الناس إليك. فهم الذين يعرفونك ، ويثقون فيك ، فإذا أضفت مع هذا لين الجانب وحسن الخلق ، وطيب العشرة لمن اتبعك وسار على طريقك ، كان لكلامك وقع ولشخصك مكانة في القلوب ، ولسلوكك في الناس تأثير وأى تأثير؟ ولذا يقول الله لرسوله (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ* وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) فإن لم تتبعك عشيرتك وقرابتك وعصوك فقل لهم : إنى برىء مما تعملون ، وتوكل على الله ، وسلّم أمرك إليه ، وفوض أمرك لربك إنه هو العزيز يعز أولياءه ، ويقهر أعداءه ، وينصرك عليهم برحمته ، فإنه يراك ، ويلحظك حين تقوم في أى عمل من الأعمال ، وحين تتقلب مع الراكعين الساجدين العابدين القانتين ، إنه هو السميع لكل قول ، العليم بكل فعل.

٧٧٧

الرد على من يصف النبي بأنه كاهن أو شاعر

(هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧))

المفردات :

(أَفَّاكٍ) كذاب (أَثِيمٍ) فاجر (وادٍ) المراد فنون القول وطرقه (يَهِيمُونَ) الهيام : أن يذهب المرء على وجهه لا يلوى على شيء من عشق أو غيره (مُنْقَلَبٍ) مصير ومرجع.

المعنى :

كان للقرآن وقع في نفوس العرب كبير ، وكان لجرسه هزة في أسماعهم وكان له أثر السحر فيهم أو أشد ، أرأيت إلى الوليد بن المغيرة حين سمع جزءا منه فقال : والله إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وما هو بقول البشر ، وإلى العربي الذي سمع قارئا يقرأ (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) فسجد فقيل له : لم؟ قال سجدت لبلاغته ، وأظنك لا تنسى قصة إسلام عمر حين سمع أول سورة (طه) وهو في أشد عنفوانه ، وأقوى عدائه للمسلمين.

هذا القرآن حار فيه المشركون بما ذا يؤولون هذا السحر الذي فيه ، الذي يفرق بين المرء وأبيه ، وأمه وأخيه!! فقالوا : إنه سحر ، وأخرى إنه كهانة. وثالثة إنه شعر أى له تأثير الشعر ، ويرد الله عليهم هنا بأنه ليس كهانة ولا شعرا.

٧٧٨

وللكهانة عند العرب في أيام الجاهلية تأثير كبير ، ولكهانتهم مركز ملحوظ يقطع بهم النزاع ، ويحكمون في المعضلات والمشكلات من الأمور ، وكتب الأدب العربي مليئة بأخبارهم وقصصهم. فهند بنت عتبة ـ أم معاوية بن أبى سفيان ـ مع زوجها الفاكه بن المغيرة المخرومى لها قصة : حيث رماها زوجها بالزنا فذهب أبوها إلى الكاهن فقال لها انهضى يا هند غير رسحاء ولا زانية وستلدين ملكا اسمه معاوية : فالتفتت هند إلى زوجها الفاكه وقالت من غيرك وتزوجت أبا سفيان وولدت معاوية.

ومن أشهرهم فاطمة الخثعمية وكانت بمكة ، ولها قصة مع عبد الله بن عبد المطلب قبل زواجه بآمنة أم الرسول ... ومن أشهرهم شق أنمار ، وسطيح الذئبى.

ويرجع فيما أعلم صدق بعض كلامهم إلى قوة الفراسة ، وبعد النظر ، وإلى استراق السمع من السماء بواسطة الشياطين ، وكان لهم قدرة على ذلك قبل البعثة كما قدمنا ، وكثيرا ما كذبوا في أخبارهم.

ومن هنا يدفع الله عن النبي وعن القرآن وصمة الكهانة بقوله : هل أخبركم أيها الناس على من تنزل الشياطين. إنها تنزل على كل كذاب ، أفاك. أثيم فاجر. تلقى الشياطين عليه ما سمعته ، وأكثرهم كاذبون يضمون إلى ما سمعوه أكاذيب أخرى كثيرة.

فهل أنتم ترون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من هؤلاء الكهان؟

أما الشعر ، وما أدراك ما الشعر ، فله تأثير السحر ، ولكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس بالشاعر ، ولا ينبغي له أن يقول لسمو مكانته وشخصيته عن قرضه.

والشعراء يتبعهم الغاوون البعيدون عن الحق ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتبعه الهداة المهتدون ، ألم تر إلى الشعراء في كل واد من القول وفن فيه وغرض من أغراضه كالغزل والهجاء المقذع. والمدح بالباطل بل مدح الشخص وذمه والإجادة في الناحيتين يهيمون ويسيرون على وجوههم. لا يلوون على شيء ، وذلك أن عماد الشعر الخيال والخيال لا يجده حد ، ولا يقف دونه شيء ، فكلما كان الشاعر واسع الخيال قوى العاطفة كان شعره جيدا قويا ، والشعر لا يعتمد على الصدق بل على المبالغة والتجوز ولذا قيل : أعذب الشعر أكذبه ، والشعراء قوم خياليون عاطفيون يقولون ما لا يفعلون ، لهذا كله ما كان ينبغي للنبي أن يقول الشعر ؛ والشعر نوع من الكلام فيه الحسن والرديء ، والمقبول والمردود ، ومن هنا يمكن أن نوفق بين قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لأن يمتلئ جوف أحدكم

٧٧٩

قيحا حتى يريه خير من أن يمتلئ جوفه شعرا» يريد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن يمتلئ الجوف قيحا يأكله خير من أن يمتلئ جوفه شعرا ، وبين قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن من البيان لسحرا ، وإن من الشعر لحكمة»

فالشاعر الذي وقف نفسه على نصرة الحق والدفاع عن الوطن ، والذود عنه ، وعلى مدح من يستحق المدح كمن مدح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قديما وحديثا ، ومن تكلم فأجاد من المواقف الوطنية التي تربى النفوس ، وتهذب العقول ، وتوحد الصفوف ، وليس كالشاعر الذي يتكلم في الغزل ، ويتشبب بالنساء والغلمان ، والذي يدعو إلى الفجور والفسق ، وإن كان كلامه تحفة فنية في باب الأدب ، الأول ممدوح شرعا ، والثاني مذموم.

ولهذا استثنى القرآن بقوله : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، ودفعوا عن النبي ودينه كحسان بن ثابت وابن رواحه الذي يقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شعره «خلّ عنه يا عمر فلهو أسرع فيهم ـ أى قريش ـ من نضح النّبل» وما شعر حسان بن ثابت وشعر البوصيرى ، وشعر شوقي عنك ببعيد.

ثم ختمت السورة بهذا التهديد الشديد : وسيعلم الذين ظلموا أنفسهم أى منقلب ينقلبون.

٧٨٠