التفسير الواضح - ج ٢

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ٢

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٨٨٤

ولما كانوا لا يعترفون بالبعث والميعاد لقن الله رسوله الجواب إذ لا يمكنهم الجواب أبدا. قل : الله يبدأ الخلق ثم يعيده إذ القادر على البدء قادر على الإعادة ، وهم يرون الإعادة تتكرر كل عام في النبات والكون ، بقدرة الله وحده أفلا يحكمون عقولهم؟ ويسلمون بمبدأ البعث والجزاء يوم القيامة!

فأنى تؤفكون؟ فكيف تصرفون عن ذلك الحق وهو من دواعي الفطرة والطبيعة والنظر السليم؟ إلى الباطل والجهل بالمصير.

قل لهم : هل من شركائكم من يهدى إلى الحق والخير؟ هداية بالطبيعة والفطرة أو بالتشريع والتقنين ، أو بالتوفيق ومنع الصوارف ، هذه الهداية بأنواعها من تتمة الخلق والتكوين (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (١) وهم بأى شيء يجيبون عن هذا؟!! والشواهد كثيرة تدل على الجواب المتعين الذي لقنه الله إلى رسوله : قل لهم : الله يهدى للحق ، ويهدى إلى صراط مستقيم ، وهو يمن عليكم أن هداكم للإيمان.

أفمن يهدى إلى الحق والهدى ، والخير والفلاح ، أحق أن يتبع فيما يشرعه؟

أم من لا يهتدى إلى الخير أبدا في حال من الأحوال إلا أن يهدى؟ أى يهديه الله وذلك كالأصنام لا تهتدى أبدا إلى الخير ولا تهدى إلى الخير ، وأما عزير والمسيح والملائكة فتهدى إلى الخير ولكن بهداية الله ـ سبحانه وتعالى ـ وهذا معنى قوله : (إِلَّا أَنْ يُهْدى).

فما لكم؟ استفهام تعجب وتقريع عن حالهم على معنى أى شيء أصابكم؟ وماذا دهاكم؟ حتى تتخذوا أصناما وآلهة بهذا الوصف!!

كيف تحكمون؟ وعلى أى حال ووضع تحكمون بجواز عبادتهم أو وساطتهم وشفاعتهم عنده؟ نعم إن هذا لشيء عجيب!!

والحق الذي لا مرية فيه أنه ما يتبع أكثرهم في هذا إلا الظن لا اليقين وما يتبعون في شركهم وإنكارهم البعث ، وتكذيبهم الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ إلا ضربا

__________________

(١) سورة طه آية ٥٠.

٦١

من ضروب الظن كاستبعادهم خطأ آبائهم في العبادة ، وكتقليدهم لهم ، وقياسهم الغائب على الشاهد واستبعادهم الإعادة والبعث بعد أن يصير الخلق ترابا منثورا. واستبعادهم نزول الوحى على بشر منهم لم يكن عظيما في نظرهم.

فإن قيل : وما حكم هذا الظن؟ أجيب أن الظن لا يغنى بدل الحق شيئا ، فالحق هو الثابت عن دليل لا يقبل الشك ، والظن مبنيّ على الشك والوهم ، فهو عرضة للزوال والتغيير.

إن الله عليم بما يفعلون وسيجازون على ذلك كله ، خاصة بعد توضيح الأمور وسياق الأدلة وضرب الأمثال.

القرآن كلام الله ومعجزة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وموقفهم منه

(وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (٤٢)

٦٢

وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (٤٣) إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤))

القرآن الكريم هو المعجزة الباقية الخالدة ، الدالة على صدقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم القائمة مقام قول الحق : «صدق عبدى في كلّ ما يبلّغه عنّى» لذلك كانت عناية القرآن الكريم بإثبات أنه من عند الله ، وليس من عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما نرى في كثير من الآيات ، ولا ننسى أنه أساس الدين ، ودستور الإسلام ، فإثبات التوحيد ، والبعث ، وأن القرآن كلام الله من مقاصد الدين الهامة.

المعنى :

وما كان هذا القرآن العظيم الشأن في أسلوبه ونظمه ، وبلاغته وحجته ، وتشريعه وعلمه ، وحكمته وأدبه ، وسياسته الإلهية ، والاجتماعية ، والعمرانية ، والاقتصادية وقصصه وأخباره عن الغائب في ضمير الزمن والمستقبل في كنه الكون ، نعم ما كان وما صح ولا يستقيم أبدا في نظر العقل أن يفترى هذا القرآن أحد من الناس مهما كان!! يفتريه من دون الله وينسبه إليه إذ لا يقدر عليه إلا الله ـ سبحانه وتعالى ـ فليس القرآن من كلام محمد وإنما هو وحى من عند الله. ثم ذكر ما يؤكد هذا بقوله : (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ..) أى : ولكن كان هذا القرآن تصديقا لما بين يديه من الكتب السابقة المشتملة على الوحى لرسل الله بالإجمال : كإبراهيم وموسى وعيسى. ولما فيه من الدعوة إلى الإيمان والتوحيد الخالص. وإثبات البعث والجزاء فهو على نسق ما قبله ، ومحمد ليس بدعا من الرسل ، وكان تفصيل جنس الكتاب المنزل فيه الشرائع والحكم والمواعظ والقصص ، وأصول الاجتماع والشرائع فكيف يكون من عند البشر؟! ولا ريب فيه أبدا لأنه الحق والهدى ، وهو من عند رب العالمين لا يقدر عليه غيره

٦٣

(وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [سورة النساء آية ٨٢]. ترى أنه وصف القرآن الكريم بصفات :

١ ـ لا يصح أن يفترى هذا القرآن ، وينسب إلى الله!!

٢ ـ وهو مصدق لما قبله ومهيمن عليه.

٣ ـ مفصل الكتاب الإلهى والحكم الرباني.

٤ ـ ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين.

٥ ـ هو من عند الله إذ قد تحدى العرب فعجزوا. فهل بعد هذا حجة لمدع أن القرآن ليس من عند الله؟

ثم انتقل القرآن الكريم لبيان عقيدتهم في القرآن ، ناعيا عليهم سوء فهمهم بعد ما بين أنه أجل وأعلى من أن يفترى ويختلق.

بل يقولون افتراه محمد من عنده؟!! قل لهم يا محمد : إذا كان الأمر كذلك فأتوا بسورة مثله قوة وإحكاما وبلاغة ودقة ، وادعوا من استطعتم دعاءه من دون الله ، ليعينكم على عملكم ، فإن الخلق مجتمعين عاجزون عن الإتيان بمثله : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [الإسراء ٨٨] إن كنتم صادقين في دعواكم فإن لم تفعلوا هذه ولن تفعلوا أبدا فاسمعوا ، وارجعوا إلى الحق وآمنوا بالله ، ورسوله ، وهذا تحد سافر لقوم أولى بلاغة وقوة ، قوم أنفقوا النفس والنفيس للقضاء على دعوة الإسلام ، وحاربوا النبي بكل الأسلحة ليطفئوا نور الله فلم يفلحوا. ألست معى في أن هذا إعجاز صارخ ، وحجة باقية خالدة على أن القرآن من عند الله ، وأنهم عجزوا عن الإتيان بمثله مع تحديهم ، فكيف يكون من عند محمد؟!!

بل كذبوا بالقرآن وأنه من عند الله ، ولسوء حظهم كذبوا بالذي لم يحيطوا علما به ، فهم لفساد طبعهم ورداءة نفسهم كذبوا به قبل بحثه والنظر فيه والإحاطة بجزئياته ، وهذا شأن المعاند المعتدى.

ولما يأتهم تأويله ، ونتيجة ما فيه من الوعد والوعيد على تكذيب الرسل ، وقد كان هذا متوقعا وآتيا لا شك فيه ، وقد كذبوا كما كذب الذين من قبلهم.

فانظر كيف كان عاقبة المكذبين من جميع الأمم ، وكيف كان نظام الله معهم وسنته

٦٤

فيهم التي لا تتغير : (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [سورة العنكبوت آية ٤٠].

هؤلاء المشركون منهم من يؤمن بالقرآن باطنا ، وإنما يكذبه في الظاهر ، بل من زعمائهم من كان يقول فيه : إن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق وما هو بقول البشر. فهؤلاء عرفوا الحقيقة ولكنهم كذبوا عنادا واستكبارا ، ومنهم من لا يؤمن به جهلا وتقليدا من غير نظر ولا معرفة ، وربك أعلم بالمفسدين في الأرض بالشرك والظلم والعصيان والبغي فسيعذبهم في الدنيا والآخرة ، وفي هذا تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويؤكدها قوله تعالى : وإن كذبوك ، وأصروا على ذلك ، فقل لهم : لي عملي وهو تبليغ الرسالة والإنذار والتبشير وسيجازينى عليه ربي ، ولكم عملكم ، الذي تعملونه وسيجازيكم عليه ربكم : (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) (١) ، أنتم بريئون مما أعمل ، وأنا برىء مما تعملون ، ولن يؤاخذ الله أحدا بذنب غيره ، وصدق الله : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) [سورة هود آية ٣٥].

وأما أنت يا محمد فلا تعجب من حال هؤلاء ، ولا تحزن إن عليك إلا البلاغ وأنت تقوم بعملك خير قيام ، ولكن منهم من يستمعون إليك بأسماعهم دون تدبر ولا فهم إذ قلوبهم في أكنة مما تدعو إليه. (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ. لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) (٢) والسماع النافع للمستمع هو ما عقل بما يسمعه ، وعمل بمقتضاه وإلا كان كالأصم الذي لا يسمع ، وأنت أيها الرسول لم تؤت القدرة على إسماع الصم حقيقة أو مجازا وهم الذين لا يعقلون.

ومنهم من ينظر إليك بوجهه ، ويوجه بصره إليك عند قراءتك القرآن ، ولكنه لا يبصر نور القرآن وهدى الدين ، وعمى البصيرة (والعياذ بالله) أشد وأنكى من عمى البصر : (أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ). والمعنى : أنك لا تقدر على هداية هؤلاء ، فمن فقد حاسة السمع لا يسمع ومن فقد حاسة البصر لا ينظر ، كذلك من فقد الاستعداد للفهم والهداية لا يمكن أن يهتدى ولا يهديه غيره ولو كان نبيا مرسلا.

__________________

(١) سورة يونس آية ٥٢.

(٢) سورة الأنبياء الآيتان ٢ و ٣.

٦٥

إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس يظلمون أنفسهم فقط ، إذ هم يجنون عليها بالكفر والمعاصي.

هكذا الدنيا وهذه نهايتها

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (٤٥))

المعنى :

ويوم يحشر ربك الظالمين يوم القيامة ، ويجمعهم بعد خروجهم من المقابر ويسوقهم إلى موقف الحساب والجزاء ، كأنهم لم يمكثوا في الدنيا إلا مدة يسيرة هي ساعة من النهار يتعارفون بينهم.

يا ويل هؤلاء الذين يضيعون الدنيا في اللهو والعبث والفساد ولا ينظرون إلى ما ينفعهم في الآخرة والحياة الباقية حتى إذا رأوا ما يوعدون يوم القيامة تذكروا الدنيا فإذا هي مرت كلمح البصر ، وكأنهم لم يمكثوا فيها إلا ساعة من النهار أى : وقتا قليلا مقدار تعارف الزوار والأقارب.

قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله ، ولم يعلموا من الصالحات ما ينفعهم ليوم الحساب وما كانوا مهتدين في الدنيا ، ولا موفقين في العمل ، وفقنا الله جميعا إلى ما فيه الخير وأرشدنا إلى الصواب.

القول الفصل في الرد على المشركين وعلى استعجالهم العذاب

(وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (٤٦) وَلِكُلِّ

٦٦

أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٥٤) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٥) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٥٦))

المفردات :

(أَجَلٌ) وقت معين من الزمن (أَرَأَيْتُمْ) أى : أخبرونى (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ) يستخبرونك أى : يطلبون منك الخبر (إِي) حرف جواب أى : نعم.

٦٧

المعنى :

كان المشركون يكذبون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في توعده لهم إذا أصروا على الشرك ، وكانوا يستعجلونه استهزاء به وتكذيبا ، ويتمنون موته ظنا منه أنه إذا مات ماتت دعوته. فيرد الله عليهم بما يكبتهم ، ويشد من عزيمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وإما نرينك أيها الرسول بعض الذي نعدهم أو نتوفينك قبل أن ترى ما يحل بهم ، فإلينا المرجع والمآب ، وقد رأى رسول الله بعض الذي وعدهم الله ببدر وحنين ، وغيرهما ، والمراد تأكيد الموعود به من العقاب في الدنيا والآخرة ، فإلينا مرجعهم ، ثم الله شهيد على ما يفعلونه مطلقا وسيجازيهم به على علم وشهادة حق.

ولستم أنتم يا أمة محمد بدعا بين الأمم ، بل هناك قانون عام يشمل الجميع هو : ولكل أمة من الأمم رسول يهديهم ويرشدهم إلى ما فيه صلاحهم في المعاش والمعاد ، فإذا جاء رسولهم وكذبوه وكفروا به ، وقامت الحجة عليهم قضى بينهم بالقسط ، وهم لا يظلمون إذ العدل يقتضى إثابة الطائع والعاصي كل بما يستحق.

ويقولون متى هذا الوعد؟ ومتى يكون؟!! إن كنتم أيها المؤمنون صادقين وهنا يلقن الله رسوله الجواب قل لهم : إننى بشر مثلكم ، ورسول من رب العالمين ، لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا ، فكيف أملك لغيري؟ وليس لي علم بشيء ، (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ ، وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) (١) ، لكن ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، والله ـ سبحانه ـ جعل لكل أمة أجلا لبقائها وهلاكها لا يعلمه إلا هو فإذا جاء الأجل المضروب والوقت المحدود لنفاذ أمره ، فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون لحظة ، ولا يملك رسولهم أن يؤخر أو يقدم شيئا ، وهذا هو النظام العام.

ومن هنا نعلم أن المؤمن يجب أن يعتقد أنه ليس هناك بشر في الوجود حيا أو ميتا رسولا أو وليا له دخل في شيء فهذا إمام الأنبياء وخاتم المرسلين يسجل الله عليه في القرآن قوله : لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا. وقد قرر ذلك في القرآن بأساليب متعددة. وهاكم رد آخر على استعجالهم :

__________________

(١) الأعراف ١٨٨.

٦٨

قل لهم : أخبرونى إن أتاكم العذاب المعد للعصاة والمجرمين وأنتم بالليل نائمون أو في النهار لاهون أو مشتغلون ، ولا يخلو الحال من واحد منهما ، إن أتاكم العذاب ماذا تستعجلون؟ أعذاب الدنيا أم عذاب الآخرة ، إن كان هذا أو ذاك فهو حماقة وجهالة ، لأنه استعجال لأمر محقق الوقوع.

أيستعجل بالعذاب المجرمون منكم ، ثم إذا وقع آمنتم به يوم لا ينفع نفسا إيمانها ما لم تكن آمنت من قبل ، إذ فرق بين الإيمان والتصديق الخالص لله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين الإيمان للضرورة ولرؤية الخطر الداهم.

ويقال لكم حينئذ : توبيخا وتأنيبا الآن آمنتم به اضطرارا؟ وقد كنتم به تستعجلون تكذيبا واستنكارا وتعجيزا ، ثم قيل للذين ظلموا أنفسهم بالكفر والعصيان ذوقوا عذاب الخلد ، والعذاب الدائم المستمر المعد لكم ولأمثالكم ، هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون؟!!

ويستنبئونك أيها الرسول ، ويطلبون منك الخبر الصحيح أحق هذا الذي تقوله وتعد به الكفار؟ أحق هو؟ كأنهم لم يكونوا على يقين من تكذيبهم (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا) قل لهم أيها الرسول : نعم إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ. ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) وما أنتم بمعجزين ، ولا أنتم بهاربين وكيف تعجزون خالق السماء والأرض ، وكيف تهربون؟ ولأيّ جهة تتجهون؟!!

هذا العذاب الذي تستعجلونه في الدنيا ، والذي أعد لكم في الآخرة ، عذاب الله أعلم به وقد وصفه الله فقال : (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ) بالاعتداء على نفسها أو على غيرها ، ولو أن لها كل (ما فِي الْأَرْضِ) ثم رأت العذاب المعد لها (لَافْتَدَتْ بِهِ) نفسها ، ولكن أنى لها ذلك؟

وهم حين يرون العذاب يسرون الندامة لاعتقادهم أنه لا فائدة في إظهار الندم والحسرة على ما فرط ، وتارة يجهرون ويقولون : (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) وقضى بينهم بالقسط ، وهم لا يظلمون.

والله ـ سبحانه ـ قادر على ذلك ، ووعد به ، ووعده الحق وكلامه الصدق ، وهو القادر على كل شيء ، وإليه المرجع والمآب ولذا اختم الآية بقوله : ما معناه (أَلا إِنَّ لِلَّهِ

٦٩

ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ملكا وخلقا وتصرفا ، (أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) ومن أصدق من الله حديثا.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ، و (هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ) وهو على كل شيء قدير ، وإليه مرجعكم جميعا.

القرآن الكريم وأغراضه الشريفة

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨))

المفردات :

(مَوْعِظَةٌ) الموعظة والوعظ الوصية بعمل الخير ، واجتناب الشر بأسلوب الترغيب والترهيب الذي يرقق القلب ويلهب العاطفة. ويبعث على الإحسان في العمل (وَرَحْمَةٌ) رقة في القلب تقتضي الإحسان والبر والتعاطف والرحمة بالغير (فَلْيَفْرَحُوا) الفرح والسرور انفعال نفسي بنعمة حسية أو معنوية يلذ له القلب وينشرح به الصدر.

هكذا القرآن يعاود الكلام على نفسه بأسلوب آخر مبينا هنا مقاصده وأغراضه الشريفة ليتجدد دائما عند القارئ الإدراك الصحيح والفهم السليم له ، ولا تنس أن إثبات التوحيد ، والبعث ، والرسالة ، وأن القرآن من عند الله ، كل هذا من مقاصد الدين الحنيف.

المعنى :

يا أيها الناس ما بالكم تكذبون بالقرآن؟ ولما يأتكم تأويله ، ولم تحيطوا به علما ،

٧٠

يا أيها الناس قد جاءكم بهذا الكتاب وعظ يزلزل القلوب ، ويرقق الطباع ، ويصلح الأعمال ، ويشفى أمراض الصدر ، ويطهر القلوب ويهدى الناس إلى طرق الخير ، ويغرس في قلوب المؤمنين أكثر من غيرهم رحمة على الغير وتعاطفا على الجميع.

وها هو ذا القرآن الكريم وما فيه من تشريعات ، وتوجيهات ، ووصايا ، وحكم ، وقصص ، وآداب ، واجتماع يهدف إلى أربعة أغراض :

١ ـ موعظة حسنة من الذي رباكم وتعهدكم بفضله ورحمته وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) [سورة آل عمران آية ١٣٨] (إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) [سورة النساء آية ٥٨].

٢ ـ (وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ) من أمراض الشك والنفاق ، والشرك ومخالفة الوجدان والحقد والحسد ، والبغي والعدوان ، وحب الظلم وكراهية العدل وغير ذلك من الأمراض التي يضيق بها الصدر ويموت بها الضمير الحي.

٣ ـ والقرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ، فهو الذي يبين الحق من الضلال ، ويهدى إلى الخير والرشاد ، ويحذر من البغي والفساد.

٤ ـ (وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) وهي صفة قلبية نتيجة لما مضى من الوعظ والشفاء والهدى فالوعظ تعليم ينشأ عنه الشفاء من الأمراض وإزالة الأوساخ ، ويترتب عليهما الهداية والتوفيق إلى الخير ، وينشأ عن الثلاثة الرحمة وهي الرقة في القلب ، وهي بكمال صفتها لا تكون إلا في المؤمنين الكاملين.

وفي السنة المطهرة الكثير من الأحاديث التي تحث على الرحمة بالخلق جميعا ، ويكفيها شرفا أنها صفة المؤمنين (وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) [سورة البلد آية ١٧] أليس الرحمة من صفات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ).

قل لهم : (بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) أصل العبارة في التركيب العادي ليفرحوا بفضل الله وبرحمته ، ولكنها بالأسلوب القرآنى آية في البلاغة يعجز القلم عن بيان نواحيها وأحسن وصف لها أنها آية من كلام الله وكفى!!

ولكن لا مانع من بيان بعض النواحي. فلقد قدم بفضل الله وبرحمته ليفيد الاختصاص أى : ليكن الفرح والسرور بفضل الله وبرحمته فقط ، وكانت الفاء في

٧١

قوله : (فَلْيَفْرَحُوا) للإشارة إلى تسبب الفضل والرحمة في الفرح ، ويكون المعنى : إن كان في الدنيا شيء يستحق أن يفرح به فهو فضل الله ورحمته ، وكان قوله : (فَبِذلِكَ) للتأكيد والتقرير ، وإعادة الباء (بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ) للإشارة إلى أن كلا منهما يصلح سببا في الفرح ، إن الفرح بفضله ورحمته أفضل وأنفع لهم مما يجمعون من حطام الدنيا الفانية لأنه هو الذي يجمع سعادة الدارين ، ويدعو إلى الخيرين (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ) [سورة القصص آية ٧٧].

لون آخر في إثبات الوحى والنبوة

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ (٥٩) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٦٠))

المفردات :

(تَفْتَرُونَ) تختلقون وتكذبون أصل الفري قطع الجلد لمصلحة ، والافتراء تكلف القطع ، وشاع في تعمد الكذب.

وهذه حجة أخرى على منكري الوحى ، ورسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكون القرآن من عند الله.

المعنى :

قل لهم أيها الرسول : أخبرونى ، هذا الذي أفاضه عليكم ربكم من السماء والأرض ، وأنزله عليكم من رزق تعيشون به فترتب على ذلك أن جعلتم بعضه حراما ،

٧٢

وبعضه حلالا (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا) الآيات من سورة الأنعام قل لهم : الله أذن لكم؟ ومعلوم أنه ليس لأحد في الوجود أن يحرم أو يحلل إلا الله ـ سبحانه وتعالى ـ فهل الله أذن لكم؟ بهذا عن طريق الوحى أم على الله وحده تفترون وتكذبون؟!! لا بد من الإجابة بأحد الأمرين ، إما أن تقولوا بأن الله أذن بوحي من عنده نزل علينا ، مع العلم أنكم تنكرون الوحى الإلهى وإما أنكم تفترون على الله الكذب.

وما ظن الذين يفترون الكذب يوم القيامة؟!! أيظنون أنهم يتركون بغير عقاب على الجريمة؟ أم لهم شركاء شرعوا لهم ما لم يأذن به الله؟ وسيشفعون لهم يوم القيامة : لا هذا ولا ذاك ، والويل لهم ثم الويل لهم!! إن الله لذو فضل على الناس عظيم لا ينكره إلا مكابر ومعاند فهو الرزاق ذو القوة المتين. وهو الرحمن الرحيم ، وهو صاحب الفضل في أن جعل الشرع له وحده ولم يجعل حق التحليل والتحريم لغيره لئلا يتحكم في الخلق مخلوق ، وهو صاحب النعم التي لا تعد ولا تحصى ولكن أكثر الناس لا يعرفون هذا ولا يشكرون فضل الله عليهم (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ : ١٣].

مراقبته تعالى لعباده ، وإحاطته بكل شيء علما

(وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦١))

المفردات :

(شَأْنٍ) أى : أمر مهم (تُفِيضُونَ) أفاض في الشيء أو أفاض من المكان اندفع فيه بسرعة (ما يَعْزُبُ) أى : يبعد يقال عزب الرجل بإبله يعزب أى : يبعد ... بعد

٧٣

أن بين أن فضل الله عظيم ، أنه قليل من عباده الشكور (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) أردف ما يفيد أنه عالم بكل شيء في الكون ، وأنه محيط بكل ما يعملون ليحاسب الناس أنفسهم على تقصيرهم في شكرهم له.

المعنى :

وما تكون أيها الرسول في شأن من شئونك الخاصة بك أو العامة التي تدعو فيها إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، وما تتلو من أجل ذلك الشأن من قرآن ينزل عليك.

وانظر إلى التعبير عن العمل بالشأن حين خطابه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن في ذلك إشارة إلى أن أعماله كلها عظيمة وخطيرة حتى العادي منها إذ هو قدوة حسنة لغيره ، ولقد خاطب الأمة بعد خطاب النبي وهو سيدها في أخص شئونه وأعلاها فقال : (وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ) صغير أو كبير (إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً) فيه ومطلعين وسنجازيكم عليه (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (١) إذ تفيضون فيه ، وتندفعون بسرعة وخفة ، وما يعزب عن ربك ـ جل شأنه ـ ولا يبعد عن علمه أقل شيء يبلغ وزنه ثقل ذرة «الذرة كالغبار الذي لا يرى إلا في ضوء الشمس من النافذة» في الأرض ، ولا في السماء ، ولا شيء أصغر من الذرة ولا شيء أكبر منها إلا وهو معلوم ومحصى في كتاب مرقوم عظيم الشأن تام البيان.

وهل هناك ما هو أصغر من الذرات؟ نعم أثبت العلم الحديث مبدأ تحطيم الذرة وتقسيمها إلى ذرات ولقد صدق الله (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ* وَما لا تُبْصِرُونَ) (٢) نعم. ولقد أرتنا آلات الكشف الحديثة «كالمكرسكوب» دقائق في الكون ما كنا نعرفها قبل ذلك ، فسبحان الذي يعلم ما في البر والبحر وما في الأرض والسماء!!

من هم أولياء الله

(أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُمُ الْبُشْرى

__________________

(١) سورة الزلزلة الآيتان ٧ و ٨.

(٢) سورة الحاقة الآيتان ٣٨ و ٣٩.

٧٤

فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٤))

المعنى :

أولياء الله هم أحبابه وأصفياؤه ، والخلص من عباده ، المخلصون في عبادتهم وتوكلهم ، وحبهم ، هم الذين آمنوا وكانوا يتقون ـ أولياء جمع ولى ـ وهذه الكلمة تتكون من واو ولام وياء. وهذه الأحرف مجتمعة تدل على القرب ، والقرب منه ـ تعالى ـ في المكان والجهة محال ، إنما يكون إذا كان القلب مستغرقا في نور معارفه ، غارقا في بحر إدراكه ، وسبحات وجهه ، فإن رأى رأى دلائل قدرة الله ، وإن سمع سمع آيات الله ، وإن نطق نطق بالثناء على الله ، وإن تحرك ففي خدمة دين الله ، وإن اجتهد اجتهد في طاعة الله ، فهنالك يكون في غاية القرب من الله ، وحينئذ يكون وليا من أولياء الله وإذا كان العبد كذلك كان الله وليه وناصره ، ومعينه ومتولى أمره ، (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ). قال العلامة البيضاوي : أولياء الله الذين يتولونه باطاعة ويتولاهم بالكرامة ومحبة العبد لله تكون بطاعته ومحبة الله للعبد الكامل بحسن مثوبته ، (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) وهذا الجزاء ثابت لجميع المؤمنين الصالحين المتقربين إلى الله في آيات كثيرة سبقت وستأتى.

الذين آمنوا إيمانا كاملا بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر. وكانوا يتقون الله في ما يعملون ويذرون ، فهم يتقون غضبه وعقابه بترك ما يغضبه ، هؤلاء لهم البشرى في الحياة الدنيا بالنصر فيها ما داموا ينصرون الله ورسوله ويقيمون شريعته وأحكام قرآنه ، ولهم البشرى بحسن العاقبة ، وباستخلافهم في الأرض إن أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) وأما البشرى في الآخرة فالنعيم والجنة العالية ذات القطوف الدانية (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ. نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) [سورة فصلت الآيات ٣٠ ـ ٣٢].

٧٥

لا تبديل لكلمات الله ، ولا خلف في وعد الله بل قوله الحق ، ووعده الصدق ، ومنه هذه البشارة ، وذلك المذكور هو الفوز العظيم الذي ليس بعده فوز.

وهنا لبعض الناس كلام في الأولياء لست أراه .. نسأله التوفيق والهداية والله أعلم بكتابه ..

العزة لله

(وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٥) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٦٦) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٧))

المفردات :

(الْعِزَّةَ) الغلبة والقوة والمنعة (يَخْرُصُونَ) الخرص : الحزر والتخمين. لقد وعد الله أولياءه بالبشرى في الدنيا والآخرة ، وأنهم لا يحزنون ولا يخافون وإذا كان لهم ذلك فما بالك بإمامهم وقائدهم الرسول الأعظم سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟!!

المعنى :

ولا يحزنك يا محمد قولهم أبدا ، الذي سجل عليهم في هذه السورة وغيرها من تكذيب وكفر وتعجب من الوحى إلخ. ما مضى ، ولا تحزن فالله قد كتب وقدر

٧٦

ليغلبن هو ورسله ، إن الله قوى عزيز ، وكأن سائلا سأل وقال لم؟ فأجيب إن العزة لله جميعا ، نعم إن الغلبة والقهر ، والنصر والمنعة لله جميعا ، لا يملك أحد من دونه شيئا ، له الأمر من قبل ومن بعد ، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ، وهو السميع لما يقولونه العليم بما يفعلونه وسيجازيهم عليه ، فلا يهمنك أمرهم وفي هذا تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتأكيد لوعده بالنصر.

ألا إن لله كل من في السموات ، وكل من في الأرض ، وخص العقلاء بالذكر لكون غيرهم من باب أولى في العبودية والملكية ، فالأصنام والأوثان التي لا تعقل أولى وأحق ألا تتخذ لله شريكا ولا ندا ، وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء في الربوبية؟ إن يتبعون إلا الظن الذي لا يغنى من الحق شيئا ، وإن هم إلا يخرصون ويكذبون ، فإن من يحكم حكما على غير أساس يكون كاذبا فيه ومدعيا غير الواقع وكيف يسوون الله الذي له كل من في السماء والأرض بهذه الأصنام؟ وهو الذي جعل لكم الليل ظلاما لتسكنوا فيه وتهدءوا من عناء العمل ولتجددوا نشاطكم حتى إذا أقبل النهار قمتم فيه للعمل والكدح في الدنيا والعبادة والتقرب إلى الله ، فهو الذي جعل الليل للنوم والنهار مبصرا للمعاش والعبادة إن في ذلك لآيات واضحات لقوم يسمعون.

كيف يكون لله ولد

(قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٨) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (٦٩) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠))

٧٧

المفردات :

(سُلْطانٍ) المراد حجة قوية تتسلط على العقول.

هذا لون آخر من شركهم ، وادعاء باطل هو اتخاذ الله ولدا وقد شاركهم في ذلك بعض أهل الكتاب ، ولذلك مكان آخر.

المعنى :

زعم بعض المشركين أن الملائكة بنات الله كما زعم بعض النصارى أن المسيح ابن الله وبعض اليهود أن عزير ابن الله ، كبرت كلمة تخرج من أفواههم جميعا إن يقولون إلا كذبا وبهتانا ، كيف يتخذ الله ولدا؟ وهو الخالق للسموات والأرضين وكل ما فيهما ، لا يشبهه أحد من خلقه ، ولا يحتاج إلى أحد من خلقه بل الكل محتاج إليه ، وهو الغنى بذاته عن كل شيء ـ سبحانه وتعالى ـ له ما في السموات وما في الأرض ملكا وخلقا وعبيدا وتصريفا لا يشاركه في ذلك أحد.

والولد يحتاج إليه أبوه لإبقاء ذكره ، وهو قوته وعصبته وأهله وعشيرته ، ومتاعه وزينته ، عليه يعتمد ، وبه يفاخر ، وقد يحتاج إليه في كبره وضعفه وهل يحتاج الله إلى شيء من ذلك كله؟! وهو الغنى ـ سبحانه وتعالى ـ عما يصفون!! ما عندكم من سلطان وحجة على قولكم الإفك!! أتقولون على الله ما لا تعلمون!! وهذا استفهام تبكيت وتوبيخ.

قل لهم : إن الذين يفترون على الله الكذب الصريح باتخاذهم الشركاء ، وزعمهم أن له ولدا لا يفلحون أبدا ، ولا ينجون من عذاب الله.

وهل يمتعون في الدنيا أم لا؟ فأجيب أن الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة ومتاعها قليل لا قيمة له.

ثم إلى الله مرجعهم فسيحاسبهم حسابا عسيرا ثم يذيقهم العذاب الشديد بسبب كفرهم بالله ووصفه بما لا يليق (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ* اللهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [سورة الإخلاص].

٧٨

قصة نوح عليه‌السلام

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (٧١) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٧٢) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (٧٤))

المفردات :

(كَبُرَ عَلَيْكُمْ) عظم وشق عليكم (مَقامِي) أى : قيامي فيكم (تَذْكِيرِي) أى : إعلامى بآيات الله ووعظي ونصحى (غُمَّةً) أي : خفيا فيه شيء من الحيرة واللبس (اقْضُوا) أدوا إلى (خَلائِفَ) جمع خليفة والمراد : يخلفون غيرهم في عمارة الأرض وسكناها.

هذه السورة في خطاب المشركين والاحتجاج عليهم وإثبات الوحدانية والرسالة والبعث والجزاء يوم القيامة ، وتذكيرهم بمن سبقهم وكيف كانت عاقبة المكذبين للرسل (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا).

٧٩

وها هي ذي قصة بعض الأمم مع رسلهم ، حيث كان النصر للرسل ومن معهم ، والهزيمة للكفار مع كثرة عددهم وعدتهم ، وفي هذا كله تسلية للنبي ، ووعد له بالنصر ، وحث للمؤمنين على أن يقلدوا من سبقهم.

المعنى :

واتل يا أيها الرسول على قومك المكذبين المغرورين قصة نوح وخبره المهم إذ قال لقومه : يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي فيكم ـ فقد لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ـ وشق عليكم ما أدعوكم إليه من عبادة ربكم وعدم الإشراك به شيئا ، وكبر عليكم تذكيري بآيات الله ووعظي ونصحى لكم (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ) [سورة هود آية ٣٤] إن كان هذا كله حصل فعلى الله وحده توكلت ، وعليه اعتمدت لا على غيره.

فأجمعوا أمركم واتفقوا على ما تريدون مع شركائكم وآلهتكم التي تعبدونها من دون الله ، ثم لا يكن أمركم بعد هذا خفيا عليكم بل كونوا على بصيرة منه ، ثم اقضوا إلىّ بعد العزم الثابت والفحص التام الذي يجلى الأمر بحيث لا يكون فيه خفاء بما ترون ، ونفذوا ما عزمتم عليه ، ولا تنظرون ، وهكذا الموقف! وهكذا الوثوق بالله ، ولا غرابة في ذلك فهو نوح الأب الثاني للبشر ، توكل على الله ، ووثوق بنصره ، وتحد سافر للمشركين ولشركائهم ، فإن توليتم وأعرضتم عن دعوتي وتذكيري فما سألتكم على ذلك أجرا ولا مالا إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ، يا قومنا إن أجرى وجزائي عند الله وحده ، وقد أمرت أن أكون من المسلمين إليه المنقادين لحكمه. وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه.

أما هم فكذبوه وعصوه ، ولم يستمعوا لأمره ونهيه فكان من أمرنا وسنتنا التي لا تتخلف ، أن نجيناه والذين معه في السفينة التي صنعها بأمرنا ووحينا ، وجعلنا المؤمنين معه خلفاء في الأرض يخلفون أولئك المكذبين وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا بعد أن أنذرناهم ووعظناهم فانظر يا من يتأتى منه النظر. كيف كان عاقبة المنذرين الذين يكذبون الرسل خاصة أنت يا محمد انظر كيف كان حالهم وكذلك تكون عاقبة المؤمنين ، وعاقبة المكذبين.

٨٠