التفسير الواضح - ج ٢

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ٢

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٨٨٤

المعنى :

وهذه شكاية الرسول لرب العزة والجبروت من سوءاتهم وأفعالهم التي تناهت في الفحش والسوء ، وقال الرسول : يا رب : إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا! ولا شك أن ترك الإيمان بالقرآن والتصديق به هجران له ، وترك تدبره وتفهمه هجران له ، وإن ترك العمل به وعدم امتثال أمره واجتناب نهيه في كل شيء هجران له ، وإن ترك الحكم به والعمل بقانونه في كل صغيرة وكبيرة ـ مع أن حكمه مرن وصالح لكل زمان ومكان ـ هجران له ، وإن اللغط واللغو عند تلاوته هجران له (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) وناهيك عن وصفه بأنه كذب وسحر وشعر فهو هجران له وأى هجران؟ وفي كل هذا ألم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأى ألم أكثر من هذا؟!! ، ولذا يقول الله لا تحزن يا محمد فتلك سنة الله في خلقه ، ولن تجد لسنة الله تبديلا ، وكذلك جعلنا لكل نبىّ عدوا من المجرمين ، إى : وربي قد جعل الله ـ سبحانه ـ لكل نبي ورسول عدوا من شياطين الجن والإنس ، الذي يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا.

ولما ذا يكون للنبي أعداء! ألم يأت بالحق؟ ألم يدع إلى الخير؟ ألم يأمر بالمعروف وينه عن المنكر؟ ألم يدع إلى عبادة الله الذي خلق الخلق ، وفطر السموات والأرض ، نعم الأنبياء رسل الله إلى الناس ، والدعاة إلى كل خير ، ولهذا فقط كان لهم أعداء ، وأعداء كثيرون!!! سبحانك يا رب ما أعدل حكمك وأجل شأنك!! ألست قادرا على إهلاك الأعداء ونصرة عبادك الأنبياء؟ نعم الله ـ سبحانه ـ قادر على كل شيء ، ولكن هذا يحصل ليبتلى الله المؤمنين ، وليمحص الله الذين اتقوا ، ويمحق الكافرين والمنافقين ، وليبوء أعداء الله والحق ، وأعداء الأنبياء بالإثم الكبير ، والذنب العظيم.

نعم جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكذلك الدعاة إلى الله في كل وقت وحين لهم أعداء يقفون لهم بالمرصاد ، ويذيقونهم سوء العذاب (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) [سورة العنكبوت الآيتان ٢ و ٣].

ولكن مع هذا كله فالله معهم ، وناصرهم ومؤيدهم ما داموا على الحق الصريح يحاربون نفوسهم ، ويهزمون شياطينهم ، وكفى بربك هاديا ، وكفى به نصيرا ، وهو على كل شيء قدير!

٧٢١

اسمع لمشركي قريش يعترضون على النبي والقرآن اعتراضا آخر لما عجزوا وأفحموا وتحداهم القرآن فلم ينجحوا ، اسمع لهم يقولون : لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة كما نزلت الكتب على موسى وعيسى وداود! كذلك نزل القرآن منجما تبعا للحوادث والظروف لحكم إلهية هي تثبيت فؤاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن معه ، فيكون ذلك أدعى إلى حفظه وفهمه فهما عميقا لأن الحوادث تفسره تفسيرا عمليّا ، وكذلك رتلنا القرآن ترتيلا ، وبيناه تبيينا (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) ولا يأتونك بصفة وحال غريبة تشبه المثل كقولهم : لو لا أنزل عليه ملك ، لو لا كانت له جنة إلى آخر ما قالوا. إلا جئناك بالقول الحق والرد القوى الذي يلجمهم ، ولا يسألونك سؤالا للتعنت والتحدي إلا جعلناك تجيب بأن ننزل عليك القرآن ، وهو الحق من عند ربك ، فلو نزل جملة واحدة لوقفت إذا سألوك عن شيء خارج ، ... حقا ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا.

الذين من دأبهم هذا ومن طبعهم ، يحشرون على وجوههم إلى جهنم ، وبئس القرار ، أولئك هم شر مكانا وأضل سبيلا.

والخلاصة : ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق ، وأنت منصور عليهم بالحجج الواضحة ، وهم محشورون على وجوههم ، أولئك مأواهم جهنم ، وبئس المصير مصيرهم.

قصص بعض الأمم التي كذبت رسلها

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (٣٦) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ

٧٢٢

وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (٣٨) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (٣٩) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (٤٠))

المفردات :

(وَزِيراً) يقال : فلان وزير الملك أو الرئيس لأنه يؤازره أعباء الملك ، أى : يعينه من المؤازرة ، وقد مضى الكلام عليه في آية (٢٩) من سورة طه (تَدْمِيراً) أهلكناهم إهلاكا (الرَّسِ) البئر التي لم تطو ، وقيل : الرس الحفر ، ومنه رس الميت أى : قبر (تَتْبِيراً) التتبير : التفتيت والتكسير ومنه التبر وهو كسارة الذهب والفضة ، والمراد أهلكناهم إهلاكا.

وهذا قصص ما مضى من الأمم التي وقفت من أنبيائها مواقف تشبه مواقف قريش مع النبي ، وكيف كان جزاؤهم في الدنيا!.

المعنى :

وتالله لقد آتينا موسى الكتاب الذي هو التوراة ، وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا له ليشد أزره ، ويحمل معه عبء الرسالة ، فقلنا : اذهب أنت وأخوك بآياتنا إلى فرعون إنه طغى ، فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ، اذهبا إلى القوم ـ فرعون وملئه ـ الذين كذبوا بآياتنا وعصوا رسلنا فكانت عاقبتهم أنا دمرناهم تدميرا ، فانظروا يا كفار مكة عاقبة الكفر وتكذيب الرسل.

واذكر لهم قوم نوح. لما كذبوا الرسل جميعا ، إذ من يكذب رسولا فقد كذب الرسل ، ومن يؤمن برسول حقا فقد آمن بجميع الرسل ، لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية ، فهل من مدكر؟ وأعتدنا للظالمين أى : لكل من سلك سبيلهم في تكذيب الرسل عذابا أليما ، وقوم نوح يدخلون في ذلك دخولا أوليا.

٧٢٣

واذكر لهم عادا لما كذبوا هودا ؛ وثمود لما كذبوا أخاهم صالحا ، وأصحاب الرس قيل : هم قوم من عبدة الأصنام أصحاب آبار وماشية فبعث الله لهم شعيبا فدعاهم إلى الإسلام فكذبوه ، وآذوه فخسف الله بهم وبدارهم الأرض ، وقيل هم أصحاب الأخدود وقيل غير ذلك ، وأيا ما كانوا. فهم قوم أخبر الله عنهم بالهلاك ، فاعتبروا يا أولى الأبصار.

واذكر لهم قرونا بين ذلك ، أى : أمما لا يعلمهم إلا الله بين قوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الرس ...

وكلا من الذين ذكروا بالنص كقوم نوح وعاد ، ومن الذين ذكروا بالإجمال ضربنا له الأمثال ، وبينا له الحجج والآيات ، وأجبناهم على كل الشبه والاعتراضات فلما لم يجد هذا ولا ذاك تبرناهم تتبيرا ، وأهلكناهم هلاكا تاما.

فما لكم لا تعتبرون؟!!

ولقد أتى أهل مكة على القرية ، ومروا بها في رحلاتهم ، والمراد بالقرية (سدوم) من قرى قوم لوط ، التي أمطرت بالحجارة فكان أسوأ مطر وأشده عليهم! أفلم يكونوا يرونها؟

أفلم يكونوا في مرورهم ينظرون إلى آثار عذاب الله ـ تعالى ـ ونكاله بهم!! بل السبب في جحودهم وعدم اعتبارهم والتفاتهم إلى موضع العبرة والعظة ، أنهم قوم كفرة لا يرجون نشورا. نعم إن الإنسان لا يتحمل متاعب التكاليف ، إلا رجاء ثواب الآخرة وخوف عقابها فإذا لم يؤمن بها ولم يرج ثوابها فلا يتحمل مشاق التكاليف ، ولا يفتح عينه ولا قلبه على موضع العبرة والعظة ، وهذا هو معنى قوله تعالى (لا يَرْجُونَ نُشُوراً) ولعلك تدرك من هذا السر في قوله : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) (١) ولا شك أنهم هم المنتفعون بالقران إذ من لا يؤمن بالحياة الآخرة بعيد عليه ان يتقبل الهدى والنور.

__________________

(١) سورة البقرة الآيتان ٢ و ٣.

٧٢٤

من قبيح أعمالهم

(وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً (٤١) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٢) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (٤٣) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٤))

يا عجبا لهؤلاء! لم يكتفوا بتكذيبهم لرسول الله الصادق الأمين ، وإنما جعلوه موضع استهزائهم ، يستهزئون به ويتندرون عليه ، وأيم الله إن هذا منهم لعجيب فلم يكن المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شكله العام أو تصرفاته الخاصة يصح أن يكون موضع استهزاء ، على أن الآيات والحجج التي ظهرت على يد الرسول تمنع من ذلك ، بل هم الذين يستحقون الاستهزاء بهم حيث تركوا عبادة الواحد القهار إلى عبادة الأصنام والأحجار!!

وإذ رأوك ـ ما يتخذونك إلا هزوا ـ يقولون : أهذا الذي بعث الله رسولا؟ والاستفهام هنا للتحقير والاستهزاء ، ولعل منشأ ذلك أنه ليس غنيا من أغنياء القوم.

والعجب منهم كيف يستهزئون به ثم ينسبون له في الوقت نفسه العمل الجليل والأثر الخطير حيث يقولون : (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها) فهو قوى الحجة شديد التأثير يكاد يصرفنا عن عبادة الآلهة ، لو لا أن حبسنا أنفسنا على عبادتها وتعظيمها ، وهذا يدل على جد الرسول واجتهاده في تبليغ دعوته ، وعلى مقدار تمسكهم بالباطل ، وقد رد الله عليهم بأمور ثلاثة :

٧٢٥

(أ) وسوف يعلمون حين يرون العذاب يوم القيامة من هو أضل سبيلا؟ من هو أقوم طريقا؟ أمحمد وصحبه أم كفار مكة ومن على شاكلتهم؟.

(ب) (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) والمعنى. تعجب يا محمد من جهل هؤلاء الذين اتخذوا آلهتهم هواهم ، فهم لم يتخذوا لأنفسهم آلهة إلا هواهم ، وانظر إلى قول سعيد بن جبير : كان الرجل من المشركين يعبد الصنم فإذا رأى أحسن منه رماه ، واتخذ الآخر وعبده. وهذا يدل على أنه لم يكن لهم حجة في عبادة الأصنام إلا اتباع الهوى وتقليد الآباء! أما الحجة والنظر السليم فهم بعيدون عنها كل البعد.

وقيل المعنى : إن هؤلاء كانوا عبيدا لهواهم. وكان هو الحكم في كل شيء بلا عقل ولا عقيدة ولا نظر ...

(أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) ولست عليه بمسيطر ولن تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ، ما عليك إلا البلاغ فقط.

(جـ) وهذا هو الرد الثالث عليهم (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) وأم بمعنى بل ، وهي تفيد الإضراب عما مضى كأن هذا هو الرد فقط ، نعم لا تظن أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون وقد نفى عن أكثرهم السماع والعقل ـ وهذا حكم عدل إذ كل مجموعة فيها الحسن والقبيح ـ ونفى السماع والعقل هنا يدلنا على أن المراد بهما السماع والعقل الروحيان الذي يكون القلب موضعهما (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) فليس المراد السماع والعقل الحسى فالكفار يسمعون بلا شك ويعقلون بلا شك ، وإنما الروح التي هي من الله ، والتي هي القوة الدافعة إلى الخير والمحاربة للنفس المادية والشيطان ، تلك الروح لها حواس موضعها القلب ، ومن أضله الله وأعمى بصره القلبي وسمعه وعقله وختم عليهما ، لا يكون له سمع يسمع الحق ويهتدى به. ولا يكون له بصر يبصر الطريق المستقيم ويسير عليه ، وهذا بلا شك لا يعقل ولا ينظر ولا يتذكر (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ).

ما هؤلاء الكفار إلا كالأنعام في أن لهم سمعا وبصرا حسيين ، وليس لهم إدراك وإحساس روحي ، بل هم أضل ، لأن البهائم لم تكلف ولم تعص خالقها ، وأما هؤلاء فقوم عندهم الاستعداد لإدراك الخير ، والقوة لمعرفة الحق ، ولكنهم قوم ضلوا وأضلوا ، ولهم النار وبئس القرار ...

٧٢٦

بعض الظواهر الكونية التي تدل على

وجود الله ونعمه علينا

(أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (٤٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (٤٧) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (٤٩) وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٥٠) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (٥٢))

المفردات :

(الظِّلَ) حالة وسط بين الظلام الخالص والنور الخالص ، ومده بسطه ، وينشأ من وجود جسم تقع عليه أشعة الشمس فيظهر ظله صباحا جهة المغرب وبعد الزوال يكون جهة المشرق ، وقال ابن السكيت : الظل ما نسخته الشمس ، والفيء ما نسخ الشمس (ساكِناً) ثابتا لا يزول (لِباساً) ساترا كاللباس (سُباتاً) من السبت وهو القطع لانقطاع التعب فيه ، أو لانقطاع الحياة الكاملة (نُشُوراً) ذا نشور أى انتشار ينتشر فيه الناس لمعاشهم (بُشْراً) مبشرات (طَهُوراً) مطهرا لغيره

٧٢٧

(أَناسِيَ) هم الناس (صَرَّفْناهُ) صرفنا المطر أى : فرقناه وحولناه من جهة إلى جهة ، ومنه قيل تصريف الأمور (كُفُوراً) أى كفرا.

ما مضى كان نقاشا لأهل مكة في أمور معنوية عامة ، وتهديدا لهم حيث كذبوا ولم يؤمنوا ثم ساق لهم قصصا يؤيد ذلك. وبين لهم أن هلاكهم أمر واقع ، ليس له من دافع ، ثم ساق أدلة على وجود الصانع المختار ، وهذه الأدلة بعض الظواهر الكونية ، التي يدركها كل مخلوق مع بيان قدرة الله ونعمه التي لا تنفد ، وكان الكلام على الظل. والليل والنهار. والريح. والمطر وغير ذلك مما يناسب عقول هؤلاء الناس ، ويلتقى مع خيالهم ، وهو عماد بيتهم.

المعنى :

ألم تنظر إلى صنيع ربك الذي يدل على كمال قدرته ، ومنتهى رحمته حيث مد الظل وبسطه ، أو قبضه وقلله ، والظل نعمة من الله على الناس جميعا ، إذ الحياة والدفء من نور الشمس ، ولكن قد يبهر العين ، ويجلب الحر ، ويقتل النفس. وفي الظلام السكون والهدوء ، ولكن النفس لا تألفه ، والطبع السليم يأباه ، فكان من نعم الله علينا الظل وسطا بين النور والظلام ، وجاء وصفا للجنة حيث كانت ذات ظل ممدود ، ومن هنا ندرك السر في تفسير بعض العلماء للظل بأنه الوقت من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس إذ هو وقت الهدوء والسكون والراحة النفسية ، والجو الصافي ، وقت النشاط الروحي والصفاء النفسي : ولا تنس أن للظل مكانة عند العرب.

ولو شاء ربك لجعل الظل ساكنا ثابتا لا يحول ولا يزول ، ومن هنا يذهب رواؤه ، ويقل تأثيره ، إذ تأثيره الطبعي والمعنوي في ذهابه وحضوره ووجوده وانعدامه وقلته وكثرته.

والظل أمر لا يعرف ولا يدرك إلا بالشمس ، وتبارك الله أحسن الخالقين (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً) فكأن الله ـ سبحانه ـ خلق الظل أولا ، ثم جعل الشمس دليلا على وجود هذه النعمة الجليلة ذات الأثر الفعال في الإنسان والحيوان والنبات.

أليس في وجود الظل ثم تحركه وتغيره ، وانتقاله من حال إلى حال ثم جعل الشمس

٧٢٨

دليلا عليه؟ أليس في ذلك كله ما يدل على الخبير البصير القوى الحكيم؟ على أنه بنا رءوف رحيم.

وانظر إلى قوله تعالى : (ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) وكأنه يسير الهوينا ، ولا شك أن قبضه وبسطه يسير على فاطر السموات والأرض.

إنها الشمس تشرق على الكون فتملؤه حياة وبهجة وحركة ودفئا ، ويظهر بسببها الظل في أول النهار ، والفيء من آخره ، ثم يأتى الليل بجحافله ، فتغيب الشمس ، ويحمر الأفق ، وتبيت الطير ، وتسكن الحركة ، وينام الناس .. أليس في ذلك كله مظاهر دالة على قدرة الله؟

وهو الذي جعل الليل لباسا ، فهو ساتر بظلامه الناس. وفي ظلام الليل وسكونه آية وأى آية؟ على وجود الله ، وفيه منافع للناس في الدنيا والدين ، لا تخفى على ذي بصيرة.

سبحانك يا رب خلقت فأبدعت ، وصنعت فأحكمت ، ولا غرابة فأنت الحكيم العليم!! يا أخى تصور أن الله حرمنا من الليل والنوم ، أيكون للدنيا ذلك البهاء ، وتلك الروعة؟ إننا نبيت متعبين مكدودين فنأوى إلى فراشنا طلبا للراحة والهدوء فيمن الله علينا بالنوم والسبات العميق فيقطع علينا تفكيرنا وألمنا ، ويجدد من نشاطنا بل ويبعثنا من جديد ، فنصحو وكلنا نشاط وقوة وعمل واجتهاد ، حقا من نعم الله علينا أن جعل لنا النوم سباتا ، والنهار معاشا ، وإن من يحاول العمل في الليل والنوم في النهار لا يفلح ولا ينتج وما أحسن جعل الليل للسبات والنهار للنشور والمعاش.

وهو الذي أرسل الرياح مبشرات بين يدي رحمته تبشر بالغيث والمطر والإنبات وسير السفن ، وأنزل ربك من السماء ماء طهورا ، أى في نفسه مطهر لغيره ، يزيل النجس والخبث ، ويرفع الحدث.

أنزله ليحيى به الأرض بعد موتها ، إذ حياة الأرض بالزرع والنبات ، فالأرض المجدبة ، والصحراء القاحلة ميتة لا حياة فيها ، وإذا كان هذا حالها فما بال البلاد الواقعة فيها والناس الذين يسكنونها؟!! ومن المطر يشرب من خلق الله الأنعام من إبل وبقر وغنم وغيرها : ويشرب منه ويحيا به خلق كثير ، ربطت حياتهم بالمطر ، وهم سكان الصحارى والقفار.

٧٢٩

ولقد صرف الله المطر ، وغير أحواله فتارة يكثر ، وطورا يقل ، بل وينعدم والله ـ سبحانه ـ يسوقه إلى حيث يشاء حسب إرادته وعلمه ، وصرفه الله وقلب أحواله ليذكر الناس ويتدبروا ، ويعلموا أن ذلك صادر من فاعل مختار ، ولا يمكن أن يكون بالطبع والعلة كما يقول الطبعيون ، ومع ذلك فقد أبى وكفر أناس كثيرون.

وقيل المراد تصريف القرآن ، وتقليب حججه وآياته من حال إلى حال ليذكر الناس ويتعظوا. ومع هذا فقد كفر به خلق كثير ...

ولو شاء ربك لبعث في كل قرية أو جماعة نذيرا ينذرهم ويبشرهم كما كان يحصل قديما ، ولكن الله ـ سبحانه وتعالى ـ أرسل محمدا خاتم النبيين أرسله للناس جميعا ، لأنه جمع خير الرسالات ، وفضائل الأنبياء وصفاتهم ، وكان بعثه فاتحة عصر جديد للعالم ، يمكن فيه لسهولة الاتصالات وانتشار نواحي العلم والمدنية أن يعلم الكل ولو بالإجمال إرسال رسول للناس وقد كان ذلك. فما من أمة أو جماعة إلا وقد عرفت برسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فلا تطع يا محمد الكافرين ، وجاهدهم بكل سلاح جهادا كبيرا ، جهادا يتناسب مع كل عصر وزمن ، وهكذا يكون أمراء دينك وحكام أمتك ، بل وأمتك كلها واجب عليها ألا تطيع الكافرين وأن تجاهدهم بكل سلاح والويل لها حين أطاعت ولم تجاهد!!

من دلائل التوحيد وجميل الإنعام وكريم التوجيه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

(وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (٥٣) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (٥٤) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (٥٥)

٧٣٠

وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٥٧) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (٥٨) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (٥٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (٦٠) تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (٦١) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (٦٢))

المفردات :

(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) خلاهما وأرسلهما متجاورين (فُراتٌ) المراد شديد العذوبة وأصل الكلمة من فرته وهو مقلوب رفته إذا كسره لأنه يكسر سورة العطش ويزيلها (أُجاجٌ) شديد الملوحة مع مرارة (بَرْزَخاً) حاجزا يحجز كلا منهما عن الآخر (نَسَباً) أى : ذوى نسب أى : ذكورا ينسب إليهم (وَصِهْراً) أى : وذوى صهر أى : قرابة ، واشتقاق الصهر من صهرت الشيء إذا خلطته ، وسميت المناكح صهرا لاختلاط الناس بها (ظَهِيراً) أى : مظاهرا وقيل : هو من الظهر والمراد هينا ذليلا لا يعبأ به (نُفُوراً) أى : بعدا عن الدين (بُرُوجاً) أى : منازل كالقصور للكواكب السيارة (خِلْفَةً) أى : كل منها يأتى بعد الآخر.

٧٣١

المعنى :

وهو الذي مرج البحرين العذب والملح وخلى بينهما وخلط ، وأفاض أحدهما إلى الآخر ، فهما يلتقيان أحدهما عذب فرات ، يزيل العطش ، ويكسر سورته وذلك كمياه الأنهار والعيون والآبار ، وهي المياه الجارية التي فرقها الله بين عباده لاحتياجهم إليها كأنهار النيل والفرات والمسيسبى في أمريكا وغير ذلك كثير في جميع بقاع العالم ، وكذا العيون والآبار التي في الواحات والصحارى الكبرى وغالب هذه الأنهار وروافدها تتكون من الأمطار ، وبعضها يتسرب في الأرض ثم يظهر على شكل عيون وآبار.

والثاني ملح أجاج ، مر المذاق لا يستساغ شربه ، كالبحار الكبيرة والمحيطات المعروفة ، وهذه مياه ساكنة إلا من المد والجزر ، وتصب فيها الأنهار الجارية.

وإنا نرى أن البحرين العذب والملح ، يسيران جنبا إلى جنب بل وقد يصب العذب في الملح ، مع ذلك يبقى كل منهما محافظا على خصائصه مسافة طويلة ، هذا هو المشاهد عند مصاب الأنهار ، ونشاهد كذلك أن الأرض تحمل النوعين ، والقارة فيها الصنفان المتميزان كل عن الآخر ، لا يبغى أحدهما على الآخر أبدا.

وعلى ذلك يصدق فيهم قوله تعالى : (وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً) وقوله تعالى في سورة الرحمن (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ* بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) فالحاجز هو اليابس من الأرض ولقد صرح بذلك بعض أئمة التفسير كابن كثير وغيره ، وإلى هذا أميل ، وبعضهم يرى أن الحاجز ما يشاهد من نهر النيل مثلا يصب في البحر الأبيض وهو ملح ، ومع هذا يظل ماء النيل سائرا في الملح مسافة وهو محتفظ بخاصيته وهذا من نعم الله التي أنعم بها على خلقه فللماء العذب فوائد كلنا يعرفها ، وللماء الملح فوائد لا تخفى في تربية بعض الأسماك ؛ والأصداف والأحجار الكريمة كاللؤلؤ والمرجان. ولقد أثبت العلم الآن أن للمحيطات وملحها أثرا كبيرا في حياة الناس ولو كانت عذبة لفسد الجو.

وهو الذي خلق الإنسان من ماء مهين هو ماء النطفة ، فسواه وعدله ، وجعله كامل الخلقة ذكرا أو أنثى تكون لها مصاهرة وقرابات وأختان ، وتبارك ربك الخلاق وكان ربك قديرا بالغ القدرة ، خلق الإنسان ، وكان أن جعل منه الذكر والأنثى (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) أرأيت الله واهب الوجود مبدع ذلك

٧٣٢

الكون الغريب؟ كيف ضل عن عبادته وكفر به المشركون ، فهم يعبدون من دون الله أشياء لا تنفعهم ولا تضرهم لو أرادت ضررهم ، لأنها لا تدفع عن نفسها الضرر ، ولا تجلب لها الخير ، فكيف بها معكم أيها الجهلة؟!.

وكان الكافر على عصيان ربه ، ومخالفة أمره ، وتكذيب رسله مظاهرا ومتعاونا مع الشيطان وهو وحزبه هم الخاسرون ، وقيل المعنى : وكان الكافر هينا لا قيمة له عند ربه.

وأما أنت يا محمد فلا يهمنك هذا العناد والكفر ، فما أنت إلا نذير ، وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا ، وعلى الله وحده الحساب والعقاب قل لهم : لم لا تطيعوني وقد قامت الأدلة على صدقى؟ هل سألتكم أجرا على رسالتي حتى تخالفوني ، لا : لم أسألكم أجرا أبدا ، لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا حسنا ، ومن شاء أن يكون عند الله من المقربين بالإنفاق والعمل الصالح فليفعل ، فكل ذلك عنده بمقدار ولا يضيع عنده مثقال ذرة من عمل.

وتوكل يا محمد على الحي الذي لا يموت ، صاحب هذا الملكوت ، القوى الباقي بعد فناء الخلق جميعا ، فمن يتوكل عليه فهو حسبه وكافيه من كل شر إن الله بالغ أمره ، قد جعل الله لكل شيء قدرا ، والتوكل لا ينافي الأخذ بالأسباب الظاهرة مع اعتقاد أن الله ـ سبحانه ـ بيده كل شيء ، فهو كما ترى حي لا يموت ، فسبحه وقدسه وأطعه واعبده فهو العالم الخبير ، وكفى به بذنوب عباده خبيرا ، وسيجازى كلا على عمله إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، وهو الرحمن الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام الله أعلم بمقدارها ، ولا تسل عن عددها بل تذكر قول الله في عدد خزنة النار حيث يقول : (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) [سورة المدثر آية ٣١].

خلق الله السموات والأرض في ستة أيام ، ثم استوى على العرش استواء يليق بعظمته ، وهو أعلم به ـ وهذا رأى السلف ـ أما الخلف فيؤولون ويقولون ثم استولى على العرش يدبر الأمر. ويقضى بالحق وهو خير الفاصلين ، وثم للترتيب الإخبارى لا للترتيب الزمنى.

٧٣٣

فاسأل خبيرا عنه واتبعه واقتد به ، ولا أحد أعلم بالله ولا أخبر به من عبده ورسوله والكتاب الذي نزل عليه (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى). [النجم ٤ و ٥]

وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن ـ سبحانه وتعالى ـ قالوا : وما الرحمن؟ كما قال فرعون لموسى : وما رب العالمين؟ وهل هم يسألون عن حقيقته؟ أو هم يعرفونها وينكرون الاسم ويسألون عن الوصف.

أنسجد لما تأمرنا بالسجود له وهو الرحمن؟ وزادهم هذا القول نفورا ، وبعدا عن الصواب والحق ، وبخاصة حينما يسجد المسلمون.

تبارك وتعاظم الذي جعل في السماء بروجا ومنازل للكواكب السيارة ، سبحانه من إله قوى قادر حكيم خبير ، ولكن المشركين لا يعقلون.

تبارك الله الذي جعل في السماء سراجا قويا ذا ضوء وحرارة ، وجعل فيها قمرا منيرا للكون في الليل ، وخص هذان لأنهما المعروفان المشاهدان.

وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة ، يخلف كل منهما الآخر فمن فاته خبر في الليل يعلمه في النهار ، هذا لمن أراد أن يتذكر ويعمل ، وكأن الليل والنهار المختلفان على الكون من آيات ربك الكبرى لمن أراد أن يتذكر ويتعظ ، ثم يشكر ربه على نعمه التي لا تحصى .. تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام ...

من صفات المؤمنين

(وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (٦٣) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (٦٤) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (٦٥) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٦٦) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (٦٧))

٧٣٤

المفردات :

(هَوْناً) المراد متواضعين بسكينة ووقار (سَلاماً) أى : خيرا من القول (يَبِيتُونَ) كل من أدركه الليل فقد بات وإن لم ينم (غَراماً) لازما لا يفترق (يَقْتُرُوا) القتر والإقتار والتقتير البخل ، وهو ضد الإسراف (قَواماً) بفتح القاف : العدل والاستقامة ، وبالكسر : ما يدوم عليه الأمر ويستقر.

وهذا بيان لصفات المؤمنين بعد ما تكلم على الكفار والمشركين ، وبين أعمالهم واعتقادهم وما هم فيه ، وما ينتظرهم من جزاء ؛ فكان ختاما للسورة على أتم ما يكون وأحسنه ، وقد وصف الله المؤمنين هنا بتسع صفات ، كلها ترجع إلى صفة الشخص وخلقه ، وقد تعرض القرآن الكريم إلى صفات المؤمنين في عدة مواضع لاعتبارات مختلفة ، فمرة يذكرهم كجماعة وأمة ، ومرة كأفراد عاملين ، وأخرى يذكر صفاتهم وأخلاقهم كما هنا ـ إن شئت فارجع إلى الآيات من سورة التوبة ، والآيات ٤٠ ، ٤١ من سورة الحج ، وكذا أول سورة المؤمنون إلى آخر ما مضى وما مر عليك.

المعنى :

وعباد الرحمن ـ وهم المؤمنون حقا ـ الذين يفعلون كيت وكيت ... أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ، يلقّون فيها تحية وسلاما.

والعبودية للرحمن ، أعلى صفة للإنسان : بل أعطيت لأكرم الرسل وخاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وسلم انظر إلى قوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) ، (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ) فدل ذلك على أن هذه الصفة من أشرف صفات المخلوقات ، ولا تعطى إلا للمشتغلين بالعبودية حقا ، وإلا فالكل عبد الله.

١ ـ (الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) .. هم الذين يمشون في نهارهم مع الناس ويعاملونهم برفق ولين ، ويمشون في سكينة ووقار ، وخضوع وتواضع من غير أشر ولا بطر ، ولا عجب ولا كبر ، ولا يفسدون ، ولا يتكبرون ، ولا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا ، وليس المراد أنهم يمشون كالمرضى تصنعا ورياء ، وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا مشى كأنما ينحط من صبب. أى : مرتفع.

٧٣٥

٢ ـ (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) أى : إذا تعرض لهم غيرهم من الناس بسوء ردوا عليه بالخير ، وألقوا قولا فيه سلام وتسليم ، وفيه العفو والصفح ، فهم يقابلون السيئة بالحسنة حيث صدرت السيئة من جاهل حقيقة أو حكما (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) فإذا وصلت حالة إلى أنه لا يعتبر جاهلا بل قاصدا عامدا للإهانة فهم يعتزون بالله وبرسوله ، ويدفعون عنهم الذل والعار ، ويضربون على أيدى السفيه الأحمق المعاند حتى يكون عبرة له ولغيره.

٣ ـ (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً) وهذه صفة تختلف باختلاف الناس فمنهم من إذا صلّى العشاء في جماعة وأتبعها بسنتها ثم صلّى الفجر في جماعة كان متصفا بأنه بات لربه ساجدا وقائما ، ومن الناس من يصدق فيهم قوله تعالى (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ* وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ). (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) وفي الحق أن كل نفس عليها ما تستطيعه بل وأقل منه حتى لا تنفر من العبادة ، ولا يصيبها الملل والكسل.

وقد وصف الله عباده في النهار بالمشي هونا ، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ، وفي الليل بأنهم يبيتون لربهم سجدا وقياما «عبّاد الليل وفرسان النهار».

٤ ـ (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) نعم هؤلاء هم عباد الرحمن حقا يفعلون من الخير ما يفعلون ، ولكنهم دائما في حذر وخوف ، ولا يأمنون مكر الله ، إنه لا يأمن مكره إلا القوم الفاسقون ، هؤلاء دائما يذكرون الله ، ويخشون عذابه ، ويقولون سائلين متضرعين : ربنا اصرف عنا عذاب جهنم الذي أعد للعصاة إن عذابها كان لازما لزوم الغريم ، إنها ساءت مستقرّا ومقاما وهذه الآية كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) [سورة المؤمنون آية ٦٠].

٥ ـ (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) وتلك أساس الاقتصاد بل أولى دعائمه ساقها القرآن من أربعة عشر قرنا ، وإن جهلها المسلمون ولم يعملوا بها حتى غزانا الأجنبى اقتصاديا كما غزانا سياسيا.

والدين كثيرا ما أمرنا به انظر إلى قوله تعالى : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ). (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) من سورة

٧٣٦

الإسراء. والإنفاق المطلوب شرعا في الأمور المباحة هو ما كان بين الإسراف والتقتير إذ خير الأمور أوسطها ، واعلم أنه لا سرف في الخير ولا خير في السرف ، وقد قيل : الاقتصاد نصف المعيشة وما عال من اقتصد. والاقتصاد فضيلة بلا شك بشرط أن لا يصل إلى حد التقتير والمبالغة في الإمساك ، واحذروا أيها المسلمون من أعدائكم في الاقتصاديات فهم يريدون فرض نفوذهم علينا إما بالسيف أو بالمال أو بالعلم ، وحذار ثم حذار من ألا عيبهم التي تجوز على كثير منا.

من صفاتهم أيضا

(وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً (٧١) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (٧٢) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (٧٣) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (٧٤) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (٧٥) خالِدِينَ

٧٣٧

فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٧٦) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (٧٧))

المفردات :

(أَثاماً) عقابا وجزاء (مُهاناً) ذليلا مطرودا (لا يَشْهَدُونَ) إما من الشهادة أو من الشهود أى الحضور (بِاللَّغْوِ) اللغو : كل ما لا خير فيه من قول أو فعل (لَمْ يَخِرُّوا) الخرور. السقوط على غير ترتيب ونظام (قُرَّةَ أَعْيُنٍ) المراد ما به تقر عيوننا أى : تسكن وتهدأ (الْغُرْفَةَ) كل بناء عال فهو غرفة المراد الدرجة الرفيعة ، وهي أعلى منازل الجنة وأفضلها (ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي) يقال : أنا لا أعبأ بفلان أى لا أبالى به ، وأصل العبء هو الحمل الثقيل : والمراد ما كان له عندي وزن ولا قدر.

وهذه صفات سلبية بعيدة كل البعد عن العباد المؤمنين ، وهي صفات المشركين الجاهلين ، فقد كان منتشرا عندهم الشرك وعبادة الصنم ، وقتل النفس بغير حق ، والإغارة على الآمن ، ووأد البنات خوف الفقر ، والزنا السرى في الأشراف ، العلنى في الإماء. وغير ذلك من الموبقات.

وقد روى مسلم من حديث عبد الله بن سعود قال : قلت : يا رسول الله. أى الذنب أكبر عند الله؟ قال : «أن تدعو لله ندّا وهو خلقك» قال : ثم أى؟ قال : «أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك» قال : ثم أى؟ قال : «أن تزانى حليلة جارك» فأنزل الله ـ تعالى ـ تصديقها في هذه الآيات.

المعنى :

وعباد الرحمن الموصفون بما تقدم من صفات هم أيضا المنزهون عن تلك ..

٦ ـ (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) فهم البعيدون عن الشرك بالله ، ولا يدعون مع الله إلها آخر بل وجهتهم ربهم ، به آمنوا ، وعليه توكلوا ، وإليه التجئوا مخلصين غير مشركين.

٧٣٨

٧ ـ (وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) اعلم يا أخى أن دم الإنسان محترم ولا يباح الاعتداء عليه إلا في ثلاث ، إذا ارتد بعد إسلام ، أو زنى بعد إحصان أو اعتدى بقتل إنسان لم يحل قتله ، فالمؤمنون هم الذين لا يقتلون نفسا حرم الله قتلها إلا بحق ، وصاحب الحق في قتل من ارتد أو قتل أو زنى هو الإمام ، أى الحاكم.

٨ ـ (وَلا يَزْنُونَ ...) والزنى جريمة شنعاء ، وفعلة نكراء ، لا يأتيها إنسان ومعه ضمير حي ، ولقد صدق رسول الله «لا يزنى الزّاني حين يزنى وهو مؤمن» ولذا كان النهى عن القرب من الزنا في قوله تعالى (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) [الإسراء ٣٢]

وهذه الصفات الثلاث أمهات الكبائر ، وعنوان الرذائل فمن يفعلها يلق أثاما وعذابا ونكالا.

ويضاعف له العذاب يوم القيامة أضعافا ، الله أعلم بها ، ويخلد فيه حالة كونه مهانا ، إلا من تاب وأناب ، وآمن بالله وعاد إلى رشده ، وعمل عملا صالحا كدليل على صدق التوبة ، وحسن النية ، وحقيقة الندم.

والتوبة كما قلنا مرارا عملية تطهير للنفس ، لها أصول تقتضي الإيمان الكامل ، والعلم بالذنب والإقرار به ، والندم عليه. والعزم على عدم العودة إليه والعمل الصالح فليست التوبة باللسان فقط.

فأولئك التائبون العاملون يبدل الله سيئاتهم حسنات ، وكان الله غفورا للذنوب رحيما بالعباد يقبل التوبة عنهم ، ويعفو عن سيئاتهم.

وفي تبديل السيئة بالحسنة نظريتان ، قيل يبدل الله إيمانا بدل الشرك ، وإخلاصا بدل النفاق والشك ، وإحصانا بدل الفجور ، وحسنات بدل سيئات الأعمال ، وقد روى أبو ذر الغفاري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنّ السّيئات تبدّل بحسنات». وفي الخبر : «ليتمنين أقوام أنهم أكثروا من السيئات» فقيل : ومن هم؟ قال : «الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات» رواه أبو هريرة .. ولا حرج على فضل الله يجعل مكان السيئة حسنة إذا تاب العبد وأحسن التوبة ، ففي الحديث «اتّق الله حيثما كنت ، وأتبع السّيّئة الحسنة تمحها ، وخالق النّاس بخلق حسن». النظرية الثانية أن المراد تغيرت أحوالهم السيئة إلى أحوال حسنة فأبدلهم الله بالعمل السيئ العمل الصالح ، والأمر كله بيد الله ، ومن

٧٣٩

تاب عن أى ذنب عمله فإنه يتوب إلى الله توبة حقا ، والله تكفل بجزائه الجزاء الحسن على ذلك.

٩ ـ (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) والزور هو : الكذب أو الشرك وعبادة الأصنام ، أو الفسق والباطل ، وقيل هو أعياد المشركين أى : مشاركة الكفار في مواسمهم وأعيادهم ، وعلى هذا فالمراد حضور تلك المآثم والاشتراك فيها ، أو المعنى لا يشهدون الزور وهو الكذب متعمدا على الغير.

وقد روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيحين عن أبى بكرة قال : قال رسول الله «ألا أنبّئكم بأكبر الكبائر؟ ـ ثلاثا» ـ قلنا : بلى يا رسول الله قال : «الشّرك بالله ، وعقوق الوالدين» وكان متكئا فجلس فقال : «ألا وقول الزّور ألا وشهادة الزّور» فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت.

والأظهر أن المراد لا يحضرون الزور وكل بهتان وإثم ، وإذا اتفق ومروا عليه مرور الكرام لا يلتفتون ، ولا يشتركون مع الآثمين.

١٠ ـ (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) فهم الذين إذا ذكروا بآيات الله أو تليت عليهم آياته وجلت قلوبهم ، وازداد إيمانهم وتوكلهم على الله بخلاف الكفار فهم إذا سمعوا آيات الله لم يتأثروا ، ولم يتغيروا عما كانوا عليه بل يظل حالهم على ما كان بل وقد يسوء (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً؟) (١) (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ* وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) (٢) ، (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) (٣) وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية ما معناه : إذا ذكروا بآيات الله أكبوا عليها وأقبلوا على من ذكروهم بها بأذن سامعة وأعين باصرة ، وقلوب واعية لا كالكفار وعصاة المؤمنين إذا ذكروا بالقرآن تراهم مقبلين بوجوههم فقط وهم صم الآذان عمى البصائر والأبصار حيث لم يفهموا من هذا القرآن شيئا ، ولم يتعظوا بمرور تلك الآيات أبدا.

١١ ـ (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) المؤمن الكامل هو الذي يجعل نفسه متجهة إلى الباقية لا العاجلة فيكون همه الآخرة وما فيها ، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ، وهو الذي يطلب من الله أن

__________________

(١) التوبة الآية ١٢٤. ـ

(٢) التوبة الآيتان ١٢٤ و ١٢٥. ـ

(٣) مريم الآية ٥٨.

٧٤٠