التفسير الواضح - ج ٢

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ٢

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٨٨٤

ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم ، وقصصا عجبا ، لتعتبروا فهذا يوسف رمى بالزنى وبرأه الله ، وهذه مريم البتول رماها اليهود وهي العفيفة الحصان ، وها هي ذي عائشة رماها عبد الله بن أبى وهي البريئة بنص القرآن ، فهذا كله موعظة وهدى ، ولكن للمتقين.

الله نور السموات والأرض

(اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥))

المفردات :

(نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أصل لفظ النور يطلق على النور الحسى الذي تبصر به العين ، وقد تعورف في لسان الشرع على أنه ما به الاهتداء والإدراك (كَمِشْكاةٍ) المشكاة الكوة غير النافذة في الجبل أو الحائط. وقيل : هي ما يوضع فيه المصباح.

(مِصْباحٌ) هو السراج الضخم الثاقب مأخوذ من الصبح (الزُّجاجَةُ) جسم كالقنديل شفاف صاف (كَوْكَبٌ) الكوكب الجرم السماوي المضيء (دُرِّيٌ) نسبة إلى الدر لصفائه وتلألئه.

المعنى :

إن من يقرأ تلك الآيات البينات ، والأحكام المحكمات ، وذلك النظام الدقيق للأسرة

٦٨١

التي هي نواة المجتمع النظيف ، ويكرر النظر في ذلك يجد أن ذلك نور لو استضأنا به ما أظلمت حياتنا أبدا ، ولما وقعنا في خطر أبدا ، وكيف نضل ، ومعنا النور الإلهى الذي يهدينا إلى الحق؟!! والله هو صاحب النور في السموات والأرض ، هو يهدى إلى الحق ، ويهدى إلى طريق مستقيم.

واعلم يا أخى أن الهدى والنور ـ بمعنى الاهتداء ـ أساس الفوز في الأعمال وأصل النجاح فيها ، وعلى الهدى والنور تؤتى الأعمال ثمرتها والمرجو منها ، من أجل هذا توسعوا في لفظ النور حتى أطلقوه على كثير من المعاني التي تعتبر أساسا لغيرها في الثمرات فقيل : فلان نور البلد ، إذا كان عليه نظامها وإليه يرجع الفضل في تدبير أمرها وترتيب شئونها ؛ ويقال لنفس النظام والتدبير : نور فيقال مثلا : قد بنى هذا النظام على نور أى نظام وإتقان.

وعلى هذا يمكن أن نفهم قوله تعالى (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الآية على ما يأتى :

الله ـ سبحانه وتعالى ـ هو صاحب النور في السموات والأرض وهو خالق ذلك النور الحسى فيهما ؛ وهو صاحب النور فيها بمعنى أنه هو الذي بث فيهما من كمال النظام وحسن التدبير ، ما لو تفكر فيهما إنسان بعقل حر برىء لآمن به إيمانا كاملا ؛ وهو ـ تبارك وتعالى ـ نور السماء بالملائكة ، والأرض بالشرائع وما فطر عليه النفوس من الفطر السليمة التي تهدى إلى الحق ، والله ـ سبحانه وتعالى ـ نور السماء بالكواكب ، والأرض بالأنبياء.

ولك أن تقول بالإجمال ، الله ـ سبحانه ـ هو المدبر لما يجرى في السموات والأرض وهو المبدع لخلقهما ، وهو منزل الشرائع وباعث الملائكة بالوحي ، والهادي لعباده بالأنبياء والرسل جل شأنه وتبارك اسمه وتقدس في علاه ، فهو نور السموات والأرض حقا.

وإن أردت أن تتمثل نور الحق ـ تبارك وتعالى ـ ، وتتصوره بمثال حسى يجلوه لك فهو كمشكاة فيها مصباح قد وضع في زجاجة صافية كأنها كوكب درى.

مثل نوره وهدايته التي بسطها للعالمين من أدلة عقلية وسمعية وأحكام صحيحة وفي

٦٨٢

قوته وشدة تأثيره ووضوحه : كمشكاة فيها مصباح قوى الإضاءة ، شديد التأثير وهذا المصباح في زجاجة صافية ، كأنها كوكب مضيء متلألئ كالدر صفاء وتلألؤا ، يدفع نوره بعضه بعضا لشدته ولمعانه ووضعه بهذا الشكل ، وهذا المصباح يوقد من شجرة مباركة طيبة هي شجرة الزيتون ، وليست تقع شرقى شيء كالجبل ، ولا غربي شيء كذلك فإنها إن وقعت في هذا الموقع حجب الحاجز عنها ضوء الشمس في أول النهار وآخره فكانت الشجرة ضعيفة ، فالشجرة في مكان جيد متمتع بضوء الشمس والهواء الطلق ، وذلك أكمل لنضجها وطيب ثمرها.

وانظر يا أخى إلى هذا التمثيل ، وذلك التصوير الذي أبرز النور في صورة مؤثرة أخاذة للنفس ، فقد جعل النور في مصباح ، والمصباح في زجاجة ، وهو في كورة داخلة ، كل ذلك يجعل نوره مسلطا في جهة معينة ، مبددا للظلام الحالك الذي يحيط به ، وهو أشد روعة من نور الشمس الوهاج الذي لا يحيط به ظلام ، ألا ترى إلى البرق الخاطف وأثره في النفس؟ أليس أشد من ضوء الشمس تأثيرا في النفس وإن المصباح وسط الظلمات المتكاثفة لهو أشبه شيء بنور الحق وسط ظلمات الكفر والفسق والعصيان.

ولذا وصف الشجرة بأنها مباركة نامية ، لا يحجبها عن نور الشمس والهواء الطليق جبل أو حاجز ولعل قوله تعالى : لا شرقية ولا غربية إشارة دقيقة إلى أن نور الإسلام وشرائعه وسط بين طرفين متقابلين وما في شرائع الإسلام شاهد على ذلك وهذا الزيت المستخرج من تلك الشجرة ، زيت صاف يكاد يضيء بدون مس النور.

تأمل هذا التصوير تجد نفسك أمام نور قد استجمع مظاهر النور ، وتجلى في وسط ظلمة زادت بهاء ظهورا ، فهو بحق نور ، وهذا شأن هداية الله لعباده نور من كل ناحية ، وضوء من كل جانب فهو نور متضاعف يزداد كلما نظرت فيه ، وحاولت الوقوف على سره.

وانظر إلى التصوير الفنى العالي للمصباح وما يحيط به ثم انظر إليه وقد تعرض لمادة النور ، وهم لا يعرفون من مادة الاستصباح إلا الزيت ، وأجوده زيت الزيتون.

وإذا كان هذا هو وصف هداية الله وتمثيلها بالنور الحسى فما بالنا نرى كثيرا لم يهتد بذلك النور ، فرد الله على ذلك بقوله : (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ ويَصْرِفُهُ

٦٨٣

عَنْ مَنْ يَشاءُ) كل على حسب ما جبلت عليه نفسه ، وما اختاره الله له ، ولا عيب في النور ، ولا عجز فيه.

ويضرب الله الأمثال للناس : ويبصرهم بما خفى عليهم في صور مختلفة ، والله بكل شيء من المحسوس والمعقول والظاهر والخفى عليم ، وبه خبير.

المنتفعون بنور الحق تبارك وتعالى

(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (٣٧) لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٨))

المفردات :

(بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ) المراد المساجد المرفوعة لذكر الله (بِالْغُدُوِّ) الغداة والغدو أول النهار (الْآصالِ) جمع أصيل ؛ وهو آخر النهار.

وهذا نهاية المطاف بعد الحديث عن الهداية الإلهية فأثرها إيمان المؤمنين وكفر الكافرين ، وهكذا كان الناس منهم سعيد ، ومنهم شقي.

المعنى :

يسبح الله ، ويقدس له المسبحون في بيوت أذن الله أن ترفع ، ويذكر في تلك البيوت

٦٨٤

اسمه ، والمعنى ينزهه ويقدسه في الصلاة والوعظ والذكر والتفكير في الملكوت وغيره ، يسبحون في بيوت أراد الله أن ترفع وأن تكون خاصة لذكره جل شأنه ، يسبحونه في أول النهار وآخره ، والمراد كل وقت ... رجال.

هؤلاء المسبحون رجال لا تلهيهم تجارة ، ولا بيع عن ذكر الله ، أى ليسوا ماديين نفعيين ، بل هم قوم لا تشغلهم الدنيا عن الآخرة بل يذكرون الله ، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ، ويخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ، يوم تتردد فيه النفوس بين الخوف والرجاء فتتقلب القلوب متجهة إلى اليمين والشمال لا تدرى من أين تؤخذ؟ أو من أين تؤتى كتبها؟ أمن اليمين أم من الشمال؟.

فهم يسبحون الله ويذكرونه ويقيمون الصلاة ويؤدون الزكاة ، ويخافون يوم الحساب ليجزيهم الله على أحسن ما عملوا الجزاء الأوفى ، ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب وهو واسع الفضل ، وهو على كل شيء قدير.

المحرومون من نور الحق

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠))

المفردات :

(كَسَرابٍ) السراب ما يرى في الصحراء نصف النهار في اشتداد الحر كالماء ،

٦٨٥

وهو يلتصق بالأرض (بِقِيعَةٍ) القيعة مفردها قاع وهو ما انبسط من الأرض واتسع ولم يكن فيه نبت ، وفيه السراب ، وأصل القاع الموضع المنخفض الذي يستقر فيه الماء (الظَّمْآنُ) العطشان (لُجِّيٍ) هو الذي لا يدرك قعره ، واللجة معظم الماء واللجة أصوات الناس.

وهذا مثل للكفار بعد مثل المؤمنين.

المعنى :

والذين كفروا بالله ورسوله أعمالهم التي يعملونها وفي ظاهرها خير إذا كانوا يوم القيامة وجدها كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ، فهذه أعمالهم التي يعملونها من بر أو صدقة أو غيرها لا خير فيها ولا جزاء عليها يوم القيامة فهو أشبه ما تكون بالسراب مع العطشان لا يفيده شيئا ، نرى هؤلاء يوم القيامة ، قد خاب أملهم وطاش ظنهم وضاع مرتقبهم كالعطاش في الصحراء إذا اشتد بهم العطش ظنوا الماء في السراب حتى إذا ذهبوا إليه لم يجدوا شيئا وهم في أشد الحاجة إلى الماء.

وأما ما عمله من سيئ الأعمال ، فإنه يراه وقد عظم جرمه ، وتراكم ذنبه من جهة كفره وسوء عمله ، وبطلان قصده ، وضلال نفسه وكأنه قد قذف به في بحر لجي تلاطمت أمواجه ، وتراكمت غيومه ، واشتد ظلام ليله ، فإذا حاول أن يرى يده لم يرها ، لأنه فقد نور ربه ، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.

وإن هذه الآيات البينات لتوحى لنا أن شرع الله ونظامه هو نور السموات والأرض نور الدنيا ونور في الآخرة والمتبعون ذلك النور هم المنتفعون به الناجون يوم القيامة.

وأما غير ذلك النور ، وأما التشريع المخالف لذلك التشريع فهو كالسراب مع الظمآن في الصحراء يحسب فيه الخير فإذا ذهب إليه وعمل به لم يجد شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه ، والله سريع الحساب.

فهل من مدكر؟!! ولا عجب ، فإنما يتذكر أولو الألباب ...

٦٨٦

انقياد الكون لله

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٤٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣) يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤))

المفردات :

(صَافَّاتٍ) مصطفات الأجنحة في الهواء ، والطير أثناء طيرانه يقبض أجنحته وقد يسطها بلا تحرك (يُزْجِي) يسوق (يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) يجمعه (رُكاماً) مجتمعا يركب بعضه بعضا (الْوَدْقَ) قيل : إنه البرق ، أو المطر وبكل نطق العرب (سَنا بَرْقِهِ) ضوء ذلك البرق الذي في السحاب.

إذا كان الله أحكم كتاب الكون الناطق بلسان الحال على قدرته وحكمته أفلا يكون هذا دليلا على إحكام كتابه الناطق المنزل على رسوله وخاتم أنبيائه.

المعنى :

الله نور السموات والأرض ، وواهب الهداية للكل ، فمن الخلق من انتفع بذلك

٦٨٧

النور ، واهتدى بهديه ، ومنهم من ضل سواء السبيل ، وتراكمت عليه الظلمات حتى إذا أخرج يده (وهي أقرب الأشياء إليه) لم يكد يراها .. والله قد ساق من الأدلة الحسية ما يشهد بذلك ويؤيده ، ويبين مدى انقياد الكون كله لله ، وفي هذا ما يدل على فرط جهل الكفار ، وبيان ضلالهم.

ألم تر وتعلم أيها النبي وكذلك كل مخاطب أن الله ـ سبحانه ـ يسبح له من في السموات ومن في الأرض ، وما بينهما من الطير ، ولقد ساق الله هذا بأسلوب فيه استفهام تقريرى وفي ذلك إشارة إلى أن تسبيح الكائنات وانقيادها له ـ سبحانه ـ واضح إلى حد أن يرى ويعلم علما لا شك فيه.

هذا الكون كله بما فيه من سماء وأرض وفضاء وكل شيء يدل دلالة قوية على تنزيه الحق ـ سبحانه وتعالى ـ ، ويشهد على ذلك بلسان الحال لا بلسان المقال ، وبما أودع فيها من آيات الإبداع والإتقان الدالات على كمال منشئها وعظيم قدرته وحسن تنظيمه وإتقانه.

انظر إلى العوالم التي في السماء ، والعوالم التي في الأرض ، وإلى عالم الطير الذي يعيش في الجو ، وما يحويه كل عالم من عجائب تجدها ناطقة على قدرة القادر ، ووحدة الصانع ، ووصفه بصفات الكمال والجلال :

وفي كل شيء له آية

تدل على أنه الواحد

وهذا تقرير الربوبية ، ولفت النظر إلى الكائنات العلوية والسفلية ، وإنما خص الطير حالة كونها صافات أجنحتها بلا تحرك وهي في أجواء الفضاء طائرة لأن ذلك أدل على قدرة الله الصانع.

كل كائن في السماء أو في الأرض أو بينهما قد علم الله صلاته وتسبيحه ، والله عليم بما يفعلون ، فما بالك أيها الإنسان تكفر بربك ، وتجحد نعمته ولا تؤمن بكتابه.

والله وحده ملك السموات والأرض ، وما فيهن ، وإلى الله وحده المصير ، وإليه المرجع والمآب ، والكل منه وإليه.

وهذا دليل آخر من أدلة العظمة الإلهية ، التي نراها ونلمسها في كل وقت وحين ألم تر أن الله يزجى سحابا أى : يسوق بعضه إلى بعض ، ولا غرابة فهو يتكون من

٦٨٨

البخار الذي يخرج من البحار ، ويرتفع إلى أعلى منساقا بعضه إلى بعض ، ثم يؤلف الله بين أجزائه ويجمعها حتى يتكون منها سحاب عال مرتفع في طبقات الجو الباردة ، وهذا معنى قوله : (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً).

فترى الودق أى المطر أو البرق يخرج من خلال السحاب. وهذه السحب المتجمعة في السماء تشبه الجبل ، وتراها وقد أنزل منها المطر والبرد فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء بحكمته وقدرته.

يكاد سنا برق السحاب يذهب الأبصار لقوته وإن منظر السحاب في تراكمه ثم نزوله مطرا أو ثلجا أو بردا مما يوقظ النفوس الغافلة وينبهها إلى الأدلة الحسية التي تثبت وجود القادر المهيمن على العالم ، وإن ظهور البرق الخاطف والرعد القاصف وسط السحاب المملوء ماء لدليل على قدرة الله ـ جل شأنه ـ وتصريفه الكامل للسموات والأرض.

يقلب الله الليل والنهار ، فيتعاقب كل منهما على الآخر ، ويأكل كل منهما من أخيه بزيادة أو نقص ، وتنقلب الأحوال فيهما من حر وبرد وغيرهما كل هذا يحصل أمام الناس ويشاهدونه ، فهل من مدكر؟!! إن في ذلك كله لعبرة وعظة لأولى الأبصار ، فهي أدلة مجموعة يكفى لإدراكها البصر فقط ، وليست من الأمور العويصة التي تحتاج إلى فكر ونظر وبصيرة.

وجود الضلال رغم الآيات الناطقة

(وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥) لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ

٦٨٩

ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠))

المفردات :

(دَابَّةٍ) الدابة ، اسم على لكل ما دب ودرج على وجه الأرض ، وقد يستعمل في العرف العام : خاصة بذوات الأربع (يَتَوَلَّى) يعرض (مُذْعِنِينَ) طائعين منقادين (ارْتابُوا) شكوا (يَحِيفَ) يجور ويظلم.

وهذا من تتمة الأدلة على كمال القدرة ، وتمام العلم والحكمة ، مع التعرض لبعض من عميت بصائرهم فلم يهتدوا بنور الحق كالمنافقين.

المعنى :

والله ـ سبحانه وتعالى ـ خلق كل دابة تدب على الأرض من إنسان وحيوان ، وطير ، ووحش ، وغيرها. خلق كل ذلك من ماء ، وهل هو المنى الحيواني الذي يخرج من كل كائن حي للقاح؟ أم المراد بالماء العنصر المعروف ، بناء على أنه داخل في قوام كل حيوان ، ولا غنى عنه في تخلق الحيوان وحياته ، كل هذا يصح.

وأيّا ما كان فإن هذه الآية تشبه في الدلالة على باهر القدرة ، قوله تعالى : (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) [سورة الرعد آية ٤] فقد خلق الكل من الماء ثم باين بين الأنواع مباينة تامة ، وفي هذا دلالة على كمال القدرة.

فمنهم من يمشى على بطنه ، وهذا النوع أظهر في الدلالة حيث يمشى بلا رجلين ومنهم من يمشى على رجلين ، ومنهم من يمشى على أربعة أرجل ، وقد عبر بمن وهي للعقلاء تغليبا ثم عبر في كل نوع بها للمشاكلة فإن من يمشى على رجلين يدخل فيه الإنسان والطير فعبر بمن تغليبا ، وعبر بها في غيره المشاكلة.

٦٩٠

يخلق الله خلقه على ما يشاء ولا غرابة في ذلك. إنه على كل شيء قدير. بعض العلماء يرى أن هذا المثل ضرب للكفار إذ هم يمشون على بطونهم وقد ضرب للمنافق ما يمشى على أربع وضرب للمسلم المنتفع بنور الله من يمشى على رجلين والله أعلم.

لقد أنزل آيات دالات على كمال القدرة منها ما ذكر هنا ، وهذه الآيات مبينات للحق والهدى ، ظاهرات في نفسها ، ولكن لا يهتدى بها إلا من يشاء الله له الهداية ، لأنه بطبعه يميل إليها وهو يستحقها ، والله ـ سبحانه ـ يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا وذلك الفضل من الله وكان الله عليما حكيما ، وهو على كل شيء شاءه قدير.

بعد أن ساق ـ جل شأنه ـ من الأدلة والبراهين ، ما يثبت الإيمان الحق ، في قلوب الناس ، وينفى الشك والريب. شرع ـ جل جلاله ـ يبين أن هذه الآيات وإن تكن بينة واضحة في نفسها مبينة وموضحة حقيقة الشرع ، إلا أنها لا تكفى وحدها بل لا بد من هداية من الله وتوفيقه لمن يشاء ، حتى يظل الإنسان طامعا في عفوه ، غير خارج عن حظيرة الرجوع إلى الله في كل شيء ، وهذه قصة بعض المنافقين ، الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم يؤمنون باللسان ثم لا يرضون بحكم الله ، وهؤلاء قد ضلوا سواء السبيل. ولعل ذكر أوصافهم صريحة مما يقوى تمثيلهم بالحيوان.

روى أن رجلا من المنافقين كان بينه وبين يهودي خصومة ، فدعاه اليهودي إلى التحاكم إلى رسول الله ، ودعاه المنافق إلى التحاكم إلى كعب بن الأشرف فرارا من الحكم الحق الذي سيحكمه رسول الله ثم انتهى الأمر ، وتحاكما إلى رسول الله فحكم لليهودي ، لأنه صاحب الحق ، ورسول الله لا يحكم إلا به ولو على أقرب الناس إليه ، فرضي اليهودي بذلك ، ولم يرض المنافق ، وتحاكما إلى عمر طمعا فيه فقال له اليهودي : قد تحاكمنا إلى رسول الله ورضيت ولم يرض زميلي فقال عمر : أهذا حصل ، قال المنافق : نعم ، فضرب عمر رقبته بالسيف حيث لم يرض بحكم رسول الله!!.

(وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ).

٦٩١

والمعنى : من الناس من يقول بلسانه بدون اعتقاد : آمنا وأطعنا ثم يتسلل فريق منهم ويعرض عن حكم الله الذي هو مقتضى قوله آمنا وأطعنا ، وانظر إلى قوله : ثم التي تفيد العطف ولكن مع التراخي في الترتيب إذ بعيد على العاقل أن يقر بالإيمان والطاعة ثم يعرض عن حكم الله ورسوله وما أولئك بالمؤمنين أبدا.

أليس هذا كافيا؟! لمن يدعى الإيمان ثم يجاهر بالرضا عن الحكم بغير كتاب الله وسنة رسوله!! إنه بلا شك في الدرك الأسفل من النفاق العملي : وإذا دعوا هؤلاء إلى الحكم بكتاب الله وسنة رسوله ليحكم بينهم إذا فريق ـ وقد يكون كبيرا ـ منهم معرضون ، وكيف يقبلون التحاكم إلى الله؟ الله يحكم بشدة على الزاني والسارق وشارب الخمر ، والذي يسب المحصنات الغافلات ، ويحرم الاختلاط ، والسفور ، ويقول للمؤمنين وللمؤمنات : غضوا من أبصاركم واحفظوا فروجكم وأنفسكم عن الفاحشة.

فلا يقبل هذا ولا يرضى به إلا كل مسلم عفيف ، وكل محصنة عفيفة ، أما من يريد الإباحية ، والفوضى الخلقية ، فيتعلل بأنظمة واهية ، وتقاليد غريبة بالية لا تصلح لنا ولا تعيش في جونا ، وما أشبه الليلة بالبارحة.

فأولئك هم الذين ينفقون النفس والنفيس في سبيل عرقلة الدعوة إلى الحكم بكتاب الله ، وأصارحكم يا إخوانى أن هناك عدة جهات همها وعملها في الشرق إماتة كل حركة إسلامية فإنها العدو اللدود للاستعمار.

ومن الغريب أن يخدع بعض الشباب المسلم بهذا ، وينادى بما ينادى به أولئك القوم ، ولكن لا غرابة فالله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم.

هؤلاء الذين لا يرضون الحكم بكتاب الله يقول الله في شأنهم :

أفي قلوبهم مرض؟ أم ارتابوا؟ أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله؟ ... بل أولئك هم الظالمون ...

نعم فهم لا يخرجون عن واحد من هذه الفروض ليخلص أن الباعث الحقيقي هو ظلمهم وتوغلهم فيه وحدهم.

ومعنى الآية : أعميت بصائرهم فلم يدركوا هذا النور الذي ملأ السموات والأرض؟!! .. بل أهم في شك من أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلا يدرون أحق ما جاء به أم

٦٩٢

باطل؟!! بل ألحقهم الخوف من أن يحيف عليهم حكم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما شعروا به من ضلالهم وظلمهم؟!!

كلا! وألف كلا! لم يكن شيء من ذلك عند من أعرض عن حكم الرسول قديما وبدليل أنهم يأتون إليه مذعنين عند ما يعلمون أن الحكم في جانبهم ، وأنهم لا يتكلفون شيئا.

فهل هذا إلا لشيء واحد هو ظلمهم ، وتمسكهم به ، والاستفهام في الآية لإنكار أن يكون السبب غير الظلم فقط وتمسكهم به.

وانظر إلى مكانة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث جعل مع الله في سلك واحد في قوله (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) فقد بينت الآية أن حكم الرسول هو حكم الله فهل يعقل أن من هذا وضعه مع الله ـ سبحانه ـ يحيف في الحكم ، أو ينطق عن الهوى أو بالإثم؟!!.

رب إن الهدى هداك وآيا

تك نور تهدى بها من تشاء

هؤلاء هم المؤمنون الممتثلون

(إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١) وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٥٢) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ

٦٩٣

وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٥٤))

المفردات :

(جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) قدر طاقتهم من اليمين (وَيَتَّقْهِ) أى : ويتق فالهاء للسكت.

المعنى :

لقد مضى الكلام في المنافقين المترددين في قبول حكم الله وحكم رسوله ، الذين يسيرون مع الإسلام إذا كانت لهم مصلحة ، فإن ابتعدت المصلحة ابتعدوا عن الإسلام وركبه ، واعلم يا أخى أن هذه أمراض لا زلنا نراها في كثير من الناس؟ أما المؤمنون الصادقون فها هو ذا قولهم الحق الناشئ عن إيمانهم الصدق ، إنما كان قول المؤمنون إذا دعوا إلى الله ورسوله في أى شيء يتعلق بهم وبخاصة في الحكم بكتاب الله وسنة رسول الله ، إنما كان قولهم أن يقولوا بألسنتهم وقلوبهم : سمعنا وأطعنا ، أى : سمعنا دعوتكم للتحاكم لرسول الله وشرعه ، وأطعناكم فيما تطلبون ، وتلك مقالة المؤمنين الواثقين المتمكنين.

ومن يطع الله ورسوله في أمور الدين كلها ، ومن يخش الله أى : يخف عذابه وعقابه فيما مضى من الذنوب ، ويتقه فيما يستقبل منها فأولئك هم الفائزون وحدهم ، لأجل اتصافهم بطاعة الله وطاعة رسوله وبخشيته وتقواه.

ثم عاد الكلام إلى الفريق الأول من المنافقين ، وما أكثرهم في كل زمان ومكان وأقسموا بالله جهد طاقتهم من الأيمان ؛ لئن أمرتهم ليخرجن إلى العدو أو ليخرجن من أموالهم بالصدقة ، فيرد الله عليهم قائلا : قل لهم : لا تقسموا ... طاعتكم معروفة. فأنتم تطيعون في السهل من الأمور كالصلاة مثلا ، أما صعبها كتحكيم كتاب الله أو الجهاد أو الشيء يحتاج إلى بذل وعطاء فلستم معنا إن الله خبير بما تعملون.

قل لهم يا محمد : أطيعوا الله وأطيعوا رسوله في كل ما فرض الله وسن رسوله ،

٦٩٤

فإن تولوا واعرضوا فلا شيء أبدا ، إذ لا تذر وازرة وزر أخرى فإنما على الرسول ما حمل ، وعليه تنفيذ ما طلب منه ، وعليكم إثم ما طلب منكم ، ولم تقوموا بأدائه.

وإن تطيعوا الرسول تهتدوا ؛ وما على الرسول إلا البلاغ فقط وما يتصل به : وليس عليه الهداية والحساب (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ* إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ* فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ* إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) [سورة الغاشية ٢١ ـ ٢٦].

دولة المؤمنين

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧))

المفردات :

(لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ) ليجعلنهم خلفاء فيها (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ) ليجعلنه ممكنا بتثبيت قواعده وإعزاز جانبه (مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) أى : لا تلحقهم قدرة الله.

لما كشف الله سر المنافقين ، وفضح حالهم ، وعرفهم المؤمنون ، وكان في ذلك تقليل لعددهم ، وأراد الله أن يطمئن المؤمنين ، ويشد أزرهم ببيان مكانة الدولة الإسلامية بين الدول.

٦٩٥

المعنى :

ـ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليجعلنهم خلفاء الله في أرضه ووعده ناجز ، وقوله صادق فالله لا يخلف الميعاد وقد شرط الله ذلك بالإيمان والعمل الصالح فإن تحقق الشرط تحقق المشروط ، والعكس صحيح ، وقد حقق الله وعده ، ونصر عبده ، وأعز جنده ، وهزم الأحزاب وحده ، فاستخلف المؤمنين في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ، ومكّن لهم دينهم ، وبدلهم من بعد خوفهم أمنا.

ولا يزال هذا شأن كل أمة مسلمة تؤمن بالله حقا وتعمل الصالح الذي أمر الله ـ تعالى ـ به. ونهى عن غيره ، فأقاموا العدل والنظام وحكموا بما أمر الله ، وأخذوا الحيطة لأنفسهم كجماعة ودولة.

والتمكين لهم في دينهم بإعزاز جانبه. وإرساء قواعده. وتقوية حجته. حتى يقبلوا عليه بنفوس اشتراها الله ليكون لهم الجنة فيجاهدون في سبيله بأموالهم وأنفسهم ابتغاء رضوانه.

(وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) اعلم يا أخى أن المؤمنين بالله في كل عصر وزمن قلة بالنسبة لغيرهم فيريد الله أن يقلع جذور الخوف من قلوبهم. ويملؤها. إيمانا ويقينا وثباتا بنصر الله ومعونته وتأييده ودفاعه عنهم. ليعلموا أن النصر والنهاية الحسنة لهم ما داموا مؤمنين عاملين. عابدين حقا لا يشركون به شيئا. والإشراك بالله باب واسع يشمل الشرك في العقيدة كالمشركين والوثنيين ، ويشمل الشرك في العمل كالمرائين والمتكبرين والمعجبين.

ولقد وعد الله المؤمنين أن يخلفهم في الأرض وأن يمكن لهم في دينهم وأن يبدل خوفهم أمنا إذا آمنوا إيمانا عميقا. وعملوا عملا وثيقا. وعبدوا الله عبادة خالصة يتحقق فيها قوله تعالى. (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).

ومن كفر بعد ذلك البيان الكامل الذي ينير الطريق. فأولئك هم الفاسقون الخارجون عن حدود الدين الصحيح وفي هذا تهديد ووعيد.

أيها المؤمنون إن العمل الصالح له دعائم. هي إقامة الصلاة التي هي عماد الدين التي تجر إلى فضائل كثيرة. وتنهى عن رذائل كثيرة ، ولا تعترض بما يفعله بعض المصلين

٦٩٦

من الخروج عن حدود الدين. فأولئك يأتون بصلاة لا روح فيها. صلاة من غير عقل إذ قد خلت من الخشوع والخضوع. وكمال الاستحضار ؛ الدعامة الثانية الزكاة فالصلاة لتقويم الفرد أولا ثم المجموع ثانيا. والزكاة لتقويم الجماعة. وتصفية الضمائر ، وتقوية الأواصر. وتجعل الأمة كالبنيان المرصوص لهذا قرنت دائما بالصلاة في القرآن.

وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون. وفي هذا إجمال لكل ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلكم بعد هذا ترحمون وتلك هي الدعامة الثالثة.

(لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) وفي هذا تبديد لمخاوفهم ؛ وتطمين لنفوسهم حتى لا يرهبون أعداء الله مع كثرتهم وقوتهم ؛ فإن الله معهم وناصرهم وهو القوى القادر ؛ فلا تظنوا أن الكفار مهما كانوا يعجزون الله هربا ؛ بل هم في قبضة الله ، في الدنيا ، وأما في الآخرة فمأواهم النار وبئس المصير مصيرهم.

والخلاصة أن دولة المؤمنين وعزهم وسلطانهم مشروط بالإيمان والعمل الصالح والعبادة الخالصة بلا إشراك مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، وطاعة الرسول في كل ما جاء به فإن تخلوا عن ذلك أو عن جزء منه أصابهم الوهن والعجز والانحلال ؛ وتحكم فيهم عدوهم وعدو دينهم.

آداب لمن يعيشون في بيت واحد

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨)

٦٩٧

وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠))

المفردات :

(الظَّهِيرَةِ) وقت الظهر (لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ) أى : لم يحتملوا ، والبلوغ الذي هو مناط التكليف يكون بالاحتلام أو ببلوغ السن خمس عشرة سنة (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ) أى يطوفون عليكم (وَالْقَواعِدُ) النساء قعدن لكبرهن وضعفهن (مُتَبَرِّجاتٍ) التبرج الظهور والتكشف.

المعنى :

تلك آداب خاصة لمن يعيش في أسرة كبيرة في بيت واحد ، ويكون فيه الإخوة والأولاد والخدم والعبيد مثلا ، فالواحد منهم لم يدخل بيتا غير بيته حتى تشمله الآيات السابقة الخاصة بالاستئذان ، وما من شخص إلا وله أحوال داخلية ، لا يجب أن يطلع عليها إنسان ، ولو كان ابنه ، لهذا لم يتركنا القرآن الكريم الذي هو الدستور الإسلامى الإلهى بل أنقذنا من ذلك الحرج فقال :

يا أيها الذين آمنوا : ليستأذنكم المملوكون لكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات وكون الصبى غير مكلف لا يمنع أن وليه يعوده على ما يطلب منه من الآداب والحقوق ألا ترى إلى قول الرسول : «مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم لعشر».

٦٩٨

أما الأوقات الثلاث فهي : من قبل صلاة الفجر حين يستيقظ من نومه ويهب من فراشه ، فيخلع ثوبا ويلبس ثوبا ، ولعله بحاجة إلى خلوة في هذه الحال ، ومن بعد صلاة العشاء حيث يكون قد فرغ من عمله ، وتخلى عن تكاليف الحياة وأوى إلى أهل بيته ليأنس بهم ، ويأنسوا به ، وهو يستعد إلى النوم ، وربما لبس ثيابا خاصة ، ولا منغص له أكثر من طارئ يفاجئه على هذه الحال مهما كان ، ولو كان صغيرا ما دام يعقل ، ولم يتعرض لما بين الوقتين لندرة الدخول حينئذ ويمكنك أن تفهم بالإشارة استحباب تعجيل النوم عقب صلاة العشاء والتبكير باليقظة قبل صلاة الفجر فذلك أعون على انتظام الصحة العامة ؛ الوقت الثالث : حين تضعون ثيابكم من الظهيرة. وليس محددا كأخويه إذ القيلولة قد يتعجلها إنسان. ويتأخر بها آخر. فلذلك قال (وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ).

هي ثلاث عورات لكم. وهذا تعديل للحكم. وبيان لحكمة التشريع. والعورات كل ما يكره الإنسان أن يطلع عليه غيره.

أما في غير هذه الأوقات ، فلا حرج ولا جناح عليكم فإن الإنسان في بيته حيث لم يكن في حجرته الخاصة لا يسوؤه أن يراه أحد من خدمه وأولاده مثلا بلا استئذان على أن من في البيت يطوفون عليكم بعضكم على بعض فلو استأذنوا لشق عليهم ذلك كذلك يبين لكم آياته الكاملة والله عليم بخلقه حكيم في حكمه يضع الأمور في نصابها.

وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم أى : بلغوا سن التكليف فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم في الآيات السابقة (لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) وهذا علاج لبعض البيوت غير المحافظة التي ترى أن الطفل وإن شب وترعرع فلا مانع من الاختلاط لأنه كان صغيرا وكانوا يطلعون عليه فهذه الآيات تمنع تلك العادة. والقواعد من النساء وهن من قعدن في البيوت أو كان أغلب أحوالهن القعود ولا يطمع فيهن لكبرهن ولا جناح عليهن ولا حرج في أن يضعن ثيابهن التي لا يفضى خلعها إلى كشف العورة مثل القناع والجلباب الذي يلبس فوق الملابس الداخلية ، حالة كونهن غير متبرجات بزينة ، وهذا المعنى هو الحد الفارق بين من يخشى منها الفتنة ومن لا يخشى منها ذلك ، فالثانية لا جناح عليها أن تضع ثيابها التي لا تكشف

٦٩٩

العورة بشرط عدم التبرج بالزينة ؛ ومع هذا فالاستعفاف ، والاحتياط بالستر خير لهن وأكمل نسأل الله أن يوفقنا إلى العمل بكتابه وإرشاداته وأن يعصمنا من الزلل.

آداب إسلامية

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١))

المفردات :

(حَرَجٌ) الحرج الضيق ، وفي لسان الشرع هو الإثم والذنب (أَشْتاتاً) متفرقين (مُبارَكَةً) كثيرة الخير.

٧٠٠