التفسير الواضح - ج ٢

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ٢

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٨٨٤

ليس لله ولد وليس له شريك

(مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١))

المفردات :

(لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) لغلب بعضهم بعضا وطلب القوى الضعيف.

المعنى :

لقد وصف الله نفسه فيما مضى بما يوجب له القدرة والكمال ، وأن له التصريف الكامل في هذا الكون علويه وسفليه ، وهم يقرون بذلك ، ثم أراد الله أن ينزه نفسه من اتخاذ الولد والشريك ليرشد الناس إلى الإيمان الصحيح فقال ما معناه :

ما اتخذ الله ولدا ، وما كان له أن يتخذ ولدا ، وله ما في السموات والأرض وهو الغنى الذي لا يحتاج إلى غيره ، والكل محتاج إليه وكيف يكون له ولد؟ واجب الوجود ، القديم المعبود. المخالف لجميع الحوادث ، الذي لا يشبهه أحد من خلقه ، والولد لا بد يشبه والده في شيء.

وما كان معه من إله ، وليس له شريك ، ولو كان كذلك لذهب كل إله بما خلق وانفرد كل منهما بشيء من الكون ، ولو كان هذا لاختل نظام الوجود ، ولفسدت السموات وما فيها والأرض وما عليها ، والمشاهد أن الوجود منتظم متسق بل في غاية الدقة والنظام (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) [سورة آل عمران آية ١٩٠] (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) [سورة الملك آية ٣].

٦٤١

ولو كان معه آلهة كما يقولون لعلا بعضهم على بعض ، ولطلب كل منهما قهر الآخر ليعلو عليه (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [سورة الأنبياء آية ٢٢].

سبحان الله عما يصفون ، وتنزيها له ثم تنزيها عما يقول الظالمون المعتدون في دعواهم الولد أو الشريك ، وتعالى ربك علوا كبيرا فهو يعلم الغيب والشهادة ، فتعالى وتقدس ـ عزوجل ـ عما يقول الكافرون والظالمون.

توجيهات إلهية للحبيب المصطفى

(عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (٩٥) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (٩٦) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨))

المفردات :

(هَمَزاتِ) الهمزات جمع همزة والهمزة في اللغة : النخس والدفع.

المعنى :

يقول الله ـ سبحانه وتعالى ـ آمرا المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وموجها له أن يدعو بهذا الدعاء ، فيقول : يا رب إن تريني ما يوعدون ، وإن تجعلني أرى تحقيق وعدك الذي وعدته

٦٤٢

يا رب فلا تجعلني عندئذ في عداد القوم الظالمين ، ولا تجعلني واحدا منهم. وكان ـ عليه‌السلام ـ يعلم أن الله ـ تعالى ـ لا يجعله في عداد القوم الظالمين إذا نزل بهم العذاب ومع هذا أمره ربه بهذا الدعاء والسؤال ليعظم أجره ، وليكون في كل الأوقات ذاكرا لربه ، فما بالنا نحن؟!!.

وعلى أن نريك الوعد ونحققه لقادرون ، ثم علمه علاجا آخر للناس ، لأن الله يعلم أنه لا بد من أن يصيبه أذى منهم فقال : ادفع يا محمد بالفعلة التي هي أحسن السيئة أى : ادفع السيئة بالحسنة ، نحن أعلم بما يصفون وما يفترون على الله ، وسنجازيهم على ذلك.

وقل يا محمد : رب إنى أعوذ بك من همزات الشياطين ووسوستها التي هي كالنخس ولقد أمر الله تعالى نبيه ، وكذا المؤمنين بهذا ، وعلاجا لسورة الغضب التي كانت تصيب المؤمنين عند سماعهم المشركين ، وهم يصفون الله بما لا يليق به فتقع المشادة فلذلك وضعت الآيات هنا.

وكلها علاج لهم بعد بيان صفات الله الواجبة والمستحيلة ، وفي هذا إشارة إلى أن النبي وصحبه سيلقون بسبب ذلك شدائد من الناس.

والعلاج هو ذكر الله والتوجه إليه أن يبعدنا من العذاب إذا نزل ، وأن نحسن للناس إذا أساءوا لنا فالحسنة تجب السيئة (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [سورة فصلت آية ٣٤] ؛ وبعد هذا فإذا همز الشيطان ووسوس بالغضب والسورة فادعوا الله واستعيذوا به من الشيطان الرجيم (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) [سورة الأعراف آية ٢٠١] وإنه لعلاج مفيد يجب أن يتنبه له المسلمون.

من مشاهد يوم القيامة

(حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ

٦٤٣

هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (١١١) قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً

٦٤٤

آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨))

المفردات :

(وَرائِهِمْ) ، أى أمامهم (بَرْزَخٌ) أى : سد وحاجز يمنعهم من الرجوع (نُفِخَ فِي الصُّورِ) الصور بوق ينفخ فيه نفختين النفخة الأولى ليموت الكل والثانية ليحيا الكل ؛ (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) وقيل الصور جمع صور والمراد نفخ الروح في الأجساد (مَوازِينُهُ) موزوناته أى أعماله (تَلْفَحُ) تحرق واللفح كالنفخ إلا أنه أشد (كالِحُونَ) عابسون ، وقال أهل اللغة الكلوح تكشر في عبوس وتقلص الشفتين عن الأسنان (اخْسَؤُا) اسكتوا سكوت هوان وذلة وابعدوا في جهنم كما يقال للكلب اخسأ ، أى : أبعد (شِقْوَتُنا) شقاوتنا والمراد : غلبت علينا لذاتنا وأهواؤنا فسمى اللذات والأهواء شقوة لأنهما يؤديان إليها (سِخْرِيًّا) بكسر السين بمعنى الاستهزاء وبضم السين بمعنى التسخير والاستعباد بالفعل ، وهما قراءتان مرويتان (عَبَثاً) مهملين كالبهائم.

المعنى :

يخبر الله ـ سبحانه وتعالى ـ وخبره الصدق وقوله الحق ـ عن حالة المحتضر عند الموت من الكافرين والعصاة والمفرطين في حقوق الله حينما يرون ما أعد لهم من العذاب ، يقول الواحد منهم : يا رب ارجعنى ارجعنى ، ارجعنى لعلى أعمل صالحا فيما تركت ، وضيعت من الطاعات ، فهو يطلب الرجوع إلى الدنيا متيقنا من نفسه أنه سيعمل الصالح من غير تردد ، يرجع إلى رده إلى الدنيا أو إلى التوفيق إلى العمل الصالح.

ونصوص القرآن في مثل هذا الموضوع (فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) (١) (فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) (٢). (وَلَوْ تَرى

__________________

(١) سورة الأعراف الآية ٥٣.

(٢) سورة السجدة الآية ١٢.

٦٤٥

إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا) (١). (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) (٢). (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) (٣) تدل على أنهم يسألون الرجعة فلا يجابون لها عند الاحتضار ، وحين يعرضون على النار ، وقت العرض على الجبار.

ولذلك جاء الرد : كلا! وهي كلمة ردع لمن طلب شيئا بلا حق ، إنها كلمة هو قائلها نعم هو حكم قد حكم به الحكيم الخبير ، ولا راد لحكمه ، ولا معقب على قضائه وكيف يكون غير هذا؟!! ، ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ، فقول الظالم : (رَبِّ ارْجِعُونِ) كلمة هو قائلها ، ولا عمل معها البتة ، وحتى التي في أول الآية غاية لما قبلها ، والمعنى : هم مصرون على ما وصفناهم به سابقا حتى إذا جاء أحدهم الموت وتيقن ضلالته وعذابه وشاهد الملائكة تقبض روحه بوجه عابس فطلب ما طلب ، وأمامهم بعد هذا برزخ وحاجز بين الدنيا والآخرة يستحيل عليهم أن يتخطوه ، فهم في حياة بين الدنيا والآخرة وهي حياة القبور ، وستظل كذلك فيها العذاب إلى يوم يبعثون فإذا نفخ في الصور النفخة الأولى ، وهلك جميع الخلق حتى الملك الذي نفخ في الصورة ، نفخ في الصور مرة أخرى فإذا الناس جميعا قيام ينظرون ماذا يحل بهم؟ فلا أنساب بينهم يومئذ ، ولا يتساءلون ولا يسأل حميم حميما ، كل امرئ عن أخيه مشغول (يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى) [سورة الحج آية ٢].

فمن ثقلت موازينه ، ومن رجحت حسناته على سيئاته ، ولو بالقليل فأولئك هم المفلحون الفائزون ، الذين زحزحوا عن النار وأدخلوا الجنة بسلام ، ومن خفت موازينه أى : ثقلت سيئاته على حسناته فأولئك هم الذين خسروا أنفسهم ، وخابوا وهلكوا ، واشتروا الضلالة بالهدى ، وباعوا النعيم المقيم بالزخرف الفاني ، والحياة الفانية ، وهم في جهنم خالدون ، وماكثون مقيمون ، تلفح وجوههم النار وتغشاها وقد كانوا يصعرون خدودهم ، ويشمخون بأنوفهم في الدنيا كبرا وعجبا (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ) (٤) ، وهم فيها كالحون ، وعابسون

__________________

(١) سورة الأنعام الآية ٢٧.

(٢) سورة غافر الآية ١١.

(٣) سورة فاطر الآية ٣٧.

(٤) سورة الأنبياء الآية ٣٩.

٦٤٦

مكشرون ، وذلك جزاء الظالمين ، وهذا تقريع من الله وتوبيخ لهم على ما ارتكبوا من الكفر والإثم والعدوان حيث يقول الله لهم : (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ)؟!! وهذا استفهام تقرير وتوبيخ لهم ، والمعنى : قروا بهذا واعترفوا فهو أمر ظاهر لا ينكره عاقل.

قالوا : ربنا غلبت علينا شهواتنا. وقادتنا لذاتنا إلى الشقاء ودخول النار ، وكنا قوما ضالين غير فاهمين للأمور على وضعها الصحيح ثم عادوا فكرروا ما طلبوه أولا وقالوا : ربنا أخرجنا من هذا الموقف إلى الدنيا فإن عدنا إلى أفعالنا تلك فإنا ظالمون نستحق منك العقوبة الصارمة.

فيرد الله عليهم بمنتهى الغلظة والشدة قائلا : اخسئوا فيها ، وابعدوا في جهنم ، ولا تكلمون أبدا بعد هذا.

وكأن سائلا سأل وقال. لم هذا العذاب والرد الشديد؟ فأجيب بقوله : إنه كان فريق من عبادي يقولون في الدنيا : ربنا آمنا بك وصدقنا رسلك فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين فما كان منكم أيها المكذبون الظالمون إلا أنكم اتخذتموهم سخريا تسخرون بهم ، وتضحكون عليهم ، وتسخرونهم وتعذبونهم.

اتخذتموهم سخريا إلى أن نسيتم ذكرى لشدة انشغالكم بالاستهزاء ، وكنتم منهم تضحكون ، إنى جزيتهم اليوم بما صبروا على فعل الطاعات ، وترك المحرمات ، والرضا بقضاء الله وقدره ، جزاهم ربهم بهذا جنة قطونها دانية ، إنهم هم الفائزون.

يقول الله لهم تبكيتا وتأنيبا بعد أن طلبوا الرجوع فردوا ، وقيل لهم : اخسئوا فيها ولا تكلمون : كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟ وهذا سؤال عن مدة مكثهم في الدنيا.

قالوا : لبثنا يوما أو بعض يوم ، استقصروا مدة لبثهم لما هم فيه من العذاب فاسأل العادين المتمكنين ، فإننا في حالة تذهب العقول وتحير النفوس.

قال : ما لبثتم في الأرض إلا قليلا من الزمن بالنسبة إلى لبثكم في العذاب المقيم.

ألم تعلموا فحسبتم أنا خلقناكم عابثين لاعبين ليس لغرض صحيح؟ أفحسبتم أنكم إلينا لا ترجعون؟

٦٤٧

فتعالى الله ، وتنزه عن الشريك والولد وتعالى عن العبث واللعب هو الملك الحق ، لا إله إلا هو ، رب العرش الكريم ، فكيف لا يكون هذا إلها وربّا للكون كله؟!

ومن يدع مع الله إلها آخر. ولا برهان له به ، فإنما حسابه عند ربه ، وجزاؤه عند خالقه فاطر السموات والأرض حساب عسير. إنه لا يفلح الكافرون.

وقل يا محمد لتقتدى بك أمتك : رب اغفر لي سيئاتي ، وارحمني فإنك الرحمن الرحيم.

وهذا دواء لكل ألم ، إذ الاستغفار وطلب الرحمة هما المنجيان من المهالك.

روى عن عبد الله بن مسعود. أنه مر بمصاب مبتل فقرأ في أذنه (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) حتى ختم السورة فبرأ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ماذا قرأت في أذنه؟ فأخبره فقال : «والّذى نفسي بيده لو أنّ رجلا موقتا قرأها على جبل لزال» ولا غرابة فالقرآن علاج حقا ، ولكن يتوقف على الطبيب وعلى المريض وقابليته فإذا كان الطبيب ذا نفس مؤمنة ، والمحل أى : المريض قابلا للعلاج بالقرآن يبرأ وإلا فلا.

٦٤٨

سورة النور

مدنية بالإجماع ـ وعدد آياتها ثلاث وستون آية. وفيها إشعاعات النور ، والآداب الإسلامية العامة التي تحافظ على الأنساب والأعراض وبيان أن ذلك كله من نور الله.

افتتاح السورة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١))

المفردات :

(سُورَةٌ) السورة : جملة من القرآن الكريم لها بدء ونهاية معلومان شرعا بالتوقيف. ولعل الأصل في التسمية أنها كالسور لما فيها من الآيات ، أو هي بمعنى المنزلة والمرتبة ، ولا شك أن من يقرأها ويفهمها ويعمل بها يصبح ذا منزلة عالية رفيعة (أَنْزَلْناها) المراد : أوحينا بها إليك يا محمد ، ولعل السر في التعبير بالإنزال الذي يشعر بالنزول من العلو هو الإشارة إلى أن هذا القرآن من عند الله ، ولا شك أن من دونه نازل عنه في الرتبة والمكانة (وَفَرَضْناها) أمرنا بها أمرا جازما مؤثرا (آياتٍ) جمع آية هي العلامة ، وقد تطلق على الجملة من القرآن لأنها علامة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

افتتح الله ـ سبحانه وتعالى ـ هذه السورة الكريمة بما هو متحقق في كل سورة فما من سورة في القرآن إلا وقد أنزلها الله على نبيه ، وفرضها ـ جل شأنه ـ على عباده وألزمهم بالعمل بما فيها من أحكام ، وما أنزل فيها من آيات بينات ، وحجج واضحات.

ولعل السر في بدء هذه السورة بهذا البدء العجيب هو أن يسترعى انتباه المسلمين لها ، فينظروا إلى ما فيها من أحكام ومواعظ ، ويعملوا به.

٦٤٩

وهذه السورة حقيقية بهذه العناية فقد عالجت ناحية من أخطر النواحي ناحية الأسرة وما يحفها ، وبخاصة العرض وأثره والخوض فيه ، ثم ذكرت قصة الإفك وما فيها من آداب وحكم غالية. وإشارات سامية ، وما يستتبع ذلك من الأمر بغض النظر ، والاستئذان وغير ذلك مما يساعد على العفة ، وعلى العموم ففي هذه السورة أسس الحياة المنزلية وآداب الحياة الزوجية الصحيحة ، وما يتصل بذلك ، وفيها آية النور (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وغير ذلك كثير.

ولا شك أن في هذه السورة من الأحكام المفصلة ، والآيات البينة ما لو تذكرها المسلم لنجا من مزالق النفس ومسالك الشيطان والهوى ، وهي مدعاة للذكرى وإن الذكرى تنفع المؤمنين.

الزنا وحدّه

(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣))

المفردات :

(فَاجْلِدُوا) الجلد الضرب ، وسمى به لأن فيه إصابة الجلد بالسوط أو العصا (رَأْفَةٌ) الرأفة : الشفقة ورقة القلب.

٦٥٠

المعنى :

جريمة الزنا إحدى الموبقات بل هي أشدها بعد الشرك بالله ، ولا تحصل إلا من زان أو مشرك ، وكان الواجب ألا تكون من مؤمن ولا مسلم ، وهي من الخطورة بمكان. بحيث كانت أول حكم في تلك السورة ، وما بعدها من أحكام فوقاية منها ، وشرعت من أجلها ، وانظر يا أخى إلى حده المخزى الزاجر ، ثم إلى النهى عن الرأفة بالزاني والزانية وإن كان من يقيم الحد يؤمن بالله واليوم الآخر ، فالغلظة معهما من مقتضيات الإيمان ، ثم اشترط التشهير بهما والفضيحة لهما بشهود طائفة من الناس لعذابهما ، وما بالك؟ بأن النهى كان عن القرب منه لا عن فعله فقط كغيره من المنكرات ، وقد قرنه الله بالشرك وقتل النفس (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً* يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً) [سورة الفرقان الآيتان ٦٨ و ٦٩].

ثم انظر إلى ما رتب من أحكام على مجرد الاتهام به ، وأنه لا يثبت إلا بالإقرار أو الشهادة من أربع شهود عدول.

مما يتلى عليكم حكم الزانية والزاني ، فإن كان بكرا ببكر فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة على جسمه ما عدا الوجه والفرج.

وهذه عقوبة الزنا في الدنيا ، وفي الآخرة أشد وأبقى. وهذا هو حكم الزنا مع غير الإحصان ، أما المحصن وهو من سبق له زواج شرعي إن زنى فحكمه الرجم بالحجارة ، وقيل البكر يجلد مائة ويغرب عاما ، والمحصن يجلد ثم يرجم.

وكأن الزاني والزانية خرجا عن حدود الإنسانية إلى حد البهائم التي لا تردع إلا بالضرب والألم ، أما الموعظة الحسنة فلم تعد تؤثر فيه.

ولا شك أن عقوبة الزنا كبيرة وشاقة ، ولكنا نهينا عن أن تؤثر فينا الرأفة بهما وتقودنا إلى العطف عليهما في تنفيذ حد الله.

وقوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) من باب الإلهاب ، واستنهاض الهمم ، وشحذ العزيمة حيث علق تنفيذ العقوبة وعدم الرأفة بهما على الإيمان بالله واليوم الآخر كما نقول : إن كنت رجلا فافعل هذا.

٦٥١

وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ، وهذا إيلام لنفسيهما بعد إيلام جسميهما وهو معنى التشهير والفضيحة فجعل ضربهما أمام جماعة من الناس ليكون الخزي والعار أبلغ وأكمل ، وفي هذا شهادة عامة من الناس جميعا بأن هؤلاء قد تجردوا من الإنسانية ومعانيها السامية ، فلا حق لهما في إعادة الاعتبار ، ودعوى الافتخار.

وانظر إلى التنفير من تلك الفعلة الشنيعة بقوله تعالى : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ).

وهذه الآية من المشكلات في القرآن التي تحتاج إلى تؤدة وتأن حتى يمكن فهمها وفي أسباب نزولها روايات. المعقول منها روايتان :

الأولى : أن كثيرا من المهاجرين في المدينة قد أجهدهم الفقر ، وأضرّ بهم الاحتياج حيث تركوا أموالهم وديارهم في سبيل الله ، وقد رأوا في المدينة البغايا المعلنات عن أنفسهن ، وقد كثر عندهن المال والخير فحدثتهم أنفسهم لو تزوجوا من هؤلاء فيكن عونا لهم على الإقامة بالمدينة ـ فاستأذنوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك على عادتهم في كل صغيرة وكبيرة فنزلت الآية ليمتنعوا عن ذلك فامتنعوا.

وروى جماعة كأبى داود والترمذي والبيهقي أن صحابيا يقال له مرثد ، ذهب إلى مكة مستخفيا ليحمل أسيرا فرأته امرأة اسمها عناق ـ وكانت بغيا وكان له بها صلة قبل إسلامه ـ وطلبت منه أن يبيت عندها وتسهل له مأموريته فقال لها مرثد : يا عناق إن الله حرم هذا فصاحت المرأة به وأخبرت قريشا بوجوده ، ولكنه بلباقته تمكن من الحصول على طلبته ونقل الأسير إلى المدينة ثم يروى مرثد عن نفسه قائلا : فأتيت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت يا رسول الله : أأنكح عناق؟ فأمسك ولم يرد على شيئا حتى نزلت هذه الآية فقال النبي : «يا مرثد! الزّاني لا ينكح إلّا زانية أو مشركة والزّانية لا ينكحها إلّا زان أو مشرك وحرّم ذلك على المؤمنين» فلا تنكحها.

واعلم يا أخى أن هناك حقائق شرعية سلّم بها من الجميع. وهي أن المسلم ولو كان زانيا لا ينكح مشركة ، وكذا المسلمة ، وأن المسلم الزاني يحل له نكاح العفيفة ، والزانية يحل لها نكاح العفيف.

وعلى هذا الأساس فالمعنى الظاهر من الآية ـ وهو أن الزاني لا يحل له أن ينكح إلا امرأة زانية أو مشركة ، وأن الزانية لا يحل لها إلا نكاح الزاني أو المشرك ـ مخالف

٦٥٢

لما أجمع عليه المسلمون ، ولما سار عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والصحابة أجمعون ، وهذا يدلنا على أن هذا الحكم المفهوم من الآيات منسوخ ، وبهذا قال بعض العلماء.

وخلاصة هذا الرأى. أن الآية واردة لتحريم نكاح الزواني والزناة إلا من بعضهم لبعض أو من بعضهم للمشركين ، وأن ذلك نسخ بقوله تعالى (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى) والزانية لم تخرج عن كونها من أيامى المسلمين بالإجماع ، ونسخ جواز نكاح المشركين والمشركات ولو زناة المسلمين بقوله تعالى (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ) [سورة البقرة آية ٢٢١].

وعلى هذا فأحل النكاح بين الزناة والعفائف ، وبين الزاني والأعفاء ، وحرم النكاح بين المسلمين ـ ولو زناة ـ وبين المشركين.

ولكن النسخ غير مسلم به عند كل العلماء فمن يمنعه قال. إن الآية مسوقة للتنفير من نكاح المسلم العفيف للزانية ، وتنفير المسلمة العفيفة من نكاح الزاني ، ولو جاء لكل واحد منهما خير كثير. وتكون الآية مطابقة لأسباب النزول ، وهي مسوقة لتنفير المسلمين الضعفاء الذين حدثتهم أنفسهم بالتزوج من البغايا رجاء المال وطمعا في الرخاء الذي يعينهم على ما هم فيه من جهد ، وعلى تحقيق ما ألقى على عاتقهم من مسئوليات (كمرثد).

فلما استأذنوا رسول الله في ذلك ، نزلت الآية ليبتعد المسلمون عن بيئة الزنى فإنه مدعاة للخروج عن حدود الدين ، وينزل بالمسلم إلى درجة قد تؤثر عليه فإن رؤية المنكرات ، تميت في المسلم الحمية الدينية والعصبية الإسلامية كما هو موجود عند كثير من المسلمين الذين خالطوا اللادينيين.

وهذا بلا شك مما لا يليق بالمؤمن ، وإنما هو من سمات الزناة فهم الذين يميلون أو يقبلون نكاح الزواني أو من هن أفحش كالمشركات وكذلك الزانية هي التي تقبل أو يليق بها أن تميل إلى الزاني ومن هو شر منه كالمشرك ، وعلى ذلك فالآية مسوقة للتنفير ، وبيان ذلك أن هذا لا يليق بالمؤمن المحافظ على دينه ومما يؤيد هذا المعنى قوله تعالى الآتي : (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ) [سورة النور آية ٢٦].

٦٥٣

(وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) نعم ومحرم ذلك على المؤمنين الكاملين فنكاح المؤمن الصادق المحمود عند الله زانية خبيثة فاجرة وانخراطه في بيئة الفساق محظور عليه ومحرم ، ولو كانت الزانية الفاجرة من أثرياء العالم.

وليس معنى ذلك أن العقد محرم ولا يصح ، وإنما التحريم معناه لا ينبغي للمسلم ولا يصح ذلك منه من حيث كونه مؤمنا صادقا وإن عقد فالعقد صحيح من ناحية الحكم الشرعي ، وكذلك الشأن عند من تتزوج من زان خبيث ، ولقد صدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فاظفر بذات الدّين تربت يمينك» أما نكاح المؤمن للمشركة وبالعكس فحرام مطلقا وهذا تعليم قرآنى كريم لا يصدر إلا من خبير بصير رءوف بنا رحيم ، فقد أثبتت الأيام أن هذه الزيجات التي تعقد على أساس المادة مع التعامي عن الخلق والسيرة الحسنة فاشلة وغير مجدية.

بقي علينا أن نفهم السر في تقديم الزانية على الزاني في أول الآية ، وتقديم الزاني على الزانية في عجز الآية!!.

ولعل السر أن الزنى ينشأ غالبا وللمرأة فيه الضلع الأكبر فخروجها سافرة متبرجة متزينة ، داعية لنفسها بشتى الوسائل المغرية من أصباغ وعطور وملابس ضيقة تبرز كل أجزاء جسمها فهن العاريات الكاسيات المائلات المميلات ، ثم هي تمشى بحركات وسكنات ونظرات كلها إغراء ، وإلهاب للشباب وفتنة ، وهذه كلها حبائل للشيطان ، وليس معنى هذا أن الرجال بريئون ، لا. بل عليهم قسط كبير في الجرم وقسط المرأة أكبر ولذا قدمها على الزاني وفي عجز الآية حيث يعالج النكاح بمعنى العقد وللمرأة فيه الخطوة الثانية أما الرجل فله مهما كانت الظروف الخطوة الأولى والكلمة الأولى ، ولذا قدمه على المرأة والله أعلم بأسرار كتابه.

القذف بالزنا وحدّه

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ

٦٥٤

الْفاسِقُونَ (٤) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥))

المفردات :

(يَرْمُونَ) الرمي : الإلقاء والقذف بحجر أو سهم مما يضر أو يؤذى استعير لنفى النسب والقذف بالزنى لما فيه من الأذى والضرر (الْمُحْصَناتُ) الإحصان هنا معناه العفة (شُهَداءُ) جمع شهيد وهو الشاهد ، وسمى بذلك لأنه يخبر عن شهادة وعلم ويقين وأمانة.

وهذا حكم القذف بالزنى ، وفيه دلالة على عظيم جرمه وكبير إثمه حيث كان الرمي به حده ثمانون جلدة ، ورد الشهادة ، والحكم بالفسق فما بال من يرتكب؟ أليس تخصيص هذا الحد بالزنى دون السرقة والقتل دليلا على ذلك.

المعنى :

والذين يرمون المحصنات العفيفات بالزنى ، ويتهمونهم بهذا الجرم الفظيع الذي يثلم العرض ، ويؤذى النفس ، ويطأطئ الرأس ، ثم لم يأتوا بشهداء أربعة يشهدون بصدق قولهم ، ولم يحصل إقرار ممن رمى بالزنا فجزاء هؤلاء القاذفين أن يجلدوا ثمانين جلدة ، وألا يقبل من لسان فاعل هذا الفعل شهادة أبدا جزاء له على ما ارتكب من جرم ، وأولئك هم الفاسقون الخارجون عن حدود الله وحدود شرعه.

إلا الذين تابوا وأنابوا من بعد ذلك الخطأ الشنيع ، وأصلحوا ما أفسدوا بأن يقروا بأنهم أخطئوا في رميهم بالزنا فإن الله غفور رحيم ، وهل تقبل شهادتهم بعد ذلك ، ويخرجون من حكم الفسق أو لا تقبل شهادتهم أبدا ، ولو بعد التوبة قولان لأئمة الفقه ، ولكل سند يؤيد رأيه.

أما التوبة الصادقة فتقضى من الإنسان أن يعلم علما يقينا قلبيا بجرم ذنبه وخطأ رأيه ، فيندم بعد ذلك ندما عميقا شديدا على فعله ، ويستتبع ذلك الإقلاع عن الذنب

٦٥٥

في الحال ، والعزم عزما أكيدا على عدم الرجوع إليه أبدا بحال من الأحوال مهما كانت الظروف والملابسات ، وأن يبعد عن الظروف التي قادته إلى مثل هذا العمل. والإصلاح : يقتضى إصلاح نفسه ، وتفكيره ، وبيئته وظروفه ، ويرد المظالم إلى أهلها إذا أمكنه ذلك ، تلك يا أخى هي أصول التوبة الطاهرة التي تتوفر ، على أن التوبة أمر قلبي لا يطلع عليه إلا الله فحذار حذار من التوبة باللسان فقط إذ هي لا تنفع شيئا.

قذف الرجل زوجته

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠))

المفردات :

(لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ) اللعن : الطرد من الرحمة (غَضَبَ اللهِ عَلَيْها) الغضب هو : إنزال العذاب مع المقت (وَيَدْرَؤُا) يدفع.

الحكم الأول للزنا ، والثاني للقذف به مع الأجانب ، والثالث للقذف به مع الزوجة ، وهذا ما يسمى في كتب الفقه باللعان.

٦٥٦

المعنى :

والذين يرمون أزواجهم بالزنا ، وكأن الكلمة قبل أن تتكلم بها تكون في ملكك فإذا خرجت منك كانت كالسهم إذا انطلق فلا يمكن رده ؛ ولعل هذا مما يساعد على تفهم السر في التعبير عن القذف بالرمي على ما فيه ـ كما قلنا ـ من الألم والضرر.

ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم ، وهذا أمر معقول فربما يدخل الرجل على امرأته في أماكنها الخاصة فيجد معها الأجنبى على هيئة منكرة فماذا يعمل! أيخرج يطلب الشهود! قد لا يتصور هذا ؛ أيسكت ويلحق بنفسه من لا يستحق هذا النسب ، ويتخذ لأولاده أخا يرثه ويرثهم وهو لا يستحق! إن هذا لأمر خطير.

ولكن الشارع الحكيم قال : إن لم يكن له شهداء يشهدون على مثل الشمس رؤية ويقينا ، إذا لم يكن ذلك فليشهد أربع شهادات بالله ، فيقول : أشهد بالله العظيم إنى لصادق فيم رميت به زوجتي فلانة من الزنى (أربع مرات) ويقول في المرة الخامسة : وعلى لعنة الله إن كنت من الكاذبين في دعواي ، وحينما رمى زوجته بالزنا وجب عليه الحد كما نصت الآية السابقة فإنها عامة من المحصنات سواء كن زوجات أو أجنبيات.

وليس يرفع الحد إلا البينة بأربعة شهود أو اللعان منه أى أن يشهد أربع شهادات ثم الخامسة كما تقدم ... عند ذلك يجب عليها الحد إن لم تلاعن هي الأخرى ، وذلك كله بعد تحذير الحاكم لهما من الكذب وخطره ، وبيان أن عذاب الدنيا بالحد أخف بكثير من عذاب الآخرة فإن أصرت الزوجة على تكذيب زوجها لا عنت فشهدت أربع شهادات بالله العظيم إنه لمن الكاذبين ، وتقول : أشهد : بالله العظيم إن فلانا هذا زوجي لمن الكاذبين فيما رمانى به من الزنى ، وفي الخامسة تقول : وعلى غضب الله إن كان من الصادقين.

وهذا معنى قوله تعالى : (وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ) ومن أحكام اللعان أنه متى لا عن الزوج حرمت عليه زوجته ، قيل حرمة مؤبدة وقيل كالطلقة البائنة يجوز له أن ينكحها إذا عاد وكذب نفسه وأقيم عليه الحد.

ولو لا ما حفكم من فضل الله ومزيد إحسانه الذي منشؤه الرحمة التي هي صفة

٦٥٧

ذاتية لله كتبها على نفسه ، وأنه هو التواب الذي يقبل التوبة عن عباده ، ويعفو عن السيئات لو لا ذلك كله لكان ما كان مما لا يطاق ، ولا تحيط به العبارة.

حقا إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ بما شرع من اللعان قد خلصنا من أزمات جسام! هب أن الرجل الحر فوجئ برجل على سريره يفعل المنكر فإن قتله قتل به أو ناله أذى على فعله شديد ، وإن سكت سكت على ما لا يطاق ، وإن تكلم ورمى زوجته بالزنى أقيم عليه الحد ، وردت شهادته بين المسلمين فماذا يكون إذا؟

تفضل ربكم عليكم بتشريع يرفع هذا الحرج كله رحمة منه وفضلا فأباح للرجل أن يثبت قوله بشهادته أربع مرات على ما سبق بيانه ، ولم يهمل شأن المرأة فقد يكون للظن السيئ والغيرة الشديدة أثر كبير في رمى الزوجة بالزنى وهي بريئة ، ففتح لها باب الخلاص تدفع عن عرضها وشرفها وشرف قومها ، فشرع لها اللعان ، ورحمهما معا بالستر على الكاذب منهما في الدنيا ، وقد يتوب فتقبل توبته فينجو من عذاب الدنيا والآخرة ، فأى حكم أعدل وأرحم وأفضل من هذا؟!!!

وروى في سبب نزولها : أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشريك ابن سحماء فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «البيّنة أو حدّ في ظهرك قال : يا رسول الله ، إذا رأى أحد رجلا على امرأته يلتمس البينة! فجعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «البيّنة وإلّا حدّ في ظهرك» فقال هلال. والذي بعثك بالحق إنى لصادق ، ولينزلن الله في أمرى ما يبرئ ظهري من الحد فنزلت الآية. وقيل إن القاذف لزوجته عويمر بن زيد لا هلال بن أمية.

وروى أن آية القذف لما نزلت (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) الآية وتناول ظاهرها الأزواج وغيرهم قال سعد بن معاذ : يا رسول الله إن وجدت مع امرأتى رجلا أمهله حتى آتى بأربعة! والله لأضربنه بالسيف غير مصفح عنه فقال رسول الله : «أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير من سعد. والله أغير منّى» ثم لم يمض يسير من الزمن حتى جاء هلال بن أمية ورمى زوجته بالزنى ، ونزلت الآية ..

٦٥٨

قصة الإفك

(إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١) لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢) لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٣) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ (١٥) وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦) يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٨) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (١٩) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (٢٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ

٦٥٩

خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢١) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢))

المفردات :

(بِالْإِفْكِ) الكذب البعيد عن الصدق (عُصْبَةٌ) جماعة من الأربعة فصاعدا (لا تَحْسَبُوهُ) لا تظنوه (شَرًّا) الشر ما زاد ضرره على نفعه والخير ما زاد نفعه على ضرره (كِبْرَهُ) وفي قراءة كبره ـ بالضم ـ وهو معظم الشيء (أَفَضْتُمْ) الإفاضة الخوض مع الإكثار كأنهم زادوا في حديثهم حتى فاض من جوانبهم كما يفيض الماء من إنائه (تَلَقَّوْنَهُ) تلقى الشيء استقباله والتهيؤ لأخذه ، والتلقف كالتلقى إلا أنه يلاحظ فيه معنى السرعة في الالتقاط (هَيِّناً) سهلا لا مؤاخذة فيه (بُهْتانٌ) كذب مختلق لا أساس له يفاجأ به الشخص ، ولم يكن يخطر له على بال فإن المرمى به يبهت ويدهش (تَشِيعَ الْفاحِشَةُ) تفشو وتظهر والفاحشة الفعل القبيح المفرط في القبح وقيل الفاحشة في هذه الآية القول السيئ (خُطُواتِ الشَّيْطانِ) المراد مسالكه ومذاهبه ووساوسه ، وواحد الخطوات خطوة وهو ما بين القدمين (السَّعَةِ) الغنى والثراء (وَلا يَأْتَلِ) لا يحلف من الألية وهي اليمين (وَلْيَعْفُوا) أى : يمحو الذنب حتى يعفو كما يعفو أثر الربع.

سبب النزول : كان من عادته صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا خرج إلى غزوة أقرع بين نسائه ، فمن خرجت قرعتها أخذها معه ، وفي عزوة بنى المصطلق في السنة السادسة للهجرة خرج ومعه عائشة وفي رجوعه إلى المدينة نزل منزلا مع القوم ثم أمر بالرحيل ، فسارت عائشة

٦٦٠