التفسير الواضح - ج ٢

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ٢

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٨٨٤

الليل في النهار بزيادة وقته على حساب النهار (مُخْضَرَّةً) ذات خضرة (سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) ذلل لكم ما في الأرض تنتفعون به وتذللونه.

المعنى :

ـ الملك يومئذ لله يحكم بين عباده فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم ، والذين كفروا وكذبوا بآياته لهم العذاب المقيم خالدين فيه أبدا.

والذين هاجروا في سبيل الله ، وتركوا أوطانهم وديارهم في سبيله وكرسوا حياتهم للجهاد مع رسوله ، وإنما خص هؤلاء بالذكر لسمو قصدهم وعلو مكانتهم عند ربهم ، وهؤلاء الذين هاجروا ثم قتلوا بعد ذلك أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا ، وانظر إلى علو مكانتهم عند ربهم إذا قتلوا أو ماتوا.

ليرزقهم الله رزقا حسنا من عنده. وهو خير الرازقين إذ يعطى بغير حساب وينفق كما يشاء ، وكل عطاء فهو من فضل عطائه ، ليدخلنهم مدخلا يرضونه يوم القيامة ، وهذا المدخل الكريم ما أعد لهم في الجنة من النعيم المقيم ، وهذه الجملة بيان للرزق الحسن إذ لا يعقل أن يكون رزقا في الدنيا بعد الموت أو القتل إلا على التأويل ، ولا غرابة في ذلك فالله هو العليم بأسرار النفوس ، وطوايا القلوب ، حليم بعباده لا يعاجل بالعقوبة بل يعفو ويغفر ، ويمهل ولا يهمل.

الأمر ما قصصناه عليك من إنجاز ما وعدنا المهاجرين الذين قتلوا أو ماتوا. أى الأمر ذلك.

روى أن طوائف من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ورضى عنهم قالوا : يا رسول الله : هؤلاء الذين قتلوا في سبيل الله قد علمنا ما أعطاهم الله من الخير ، ونحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا إن متنا معك؟ أى فما حالنا لو متنا بلا قتل؟!! فأنزل الله هاتين الآيتين ـ وهما يفيدان التسوية بين من مات على فراشه ومن قتل في سبيل الله (... وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) [الحج ٦٠].

ووضع هذه الآية هنا يفيد معناها : أن هؤلاء المهاجرين المقاتلين في سبيل الله مع إكرامى لهم في الآخرة بما عرفتم لا أدعهم بل أنصرهم في الدنيا على أعدائهم ، وهذا مشروط بنصرهم لله (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) [سورة محمد آية ٧].

٦٠١

والمعنى من قاتل من قاتله ظلما وبغيا ، لينصرنه الله ويؤيده بروح من عنده واعلموا أن الله عفو غفور فلا تلجئوا للحرب والقتال إلا إذا وقفوا ضدكم ، وحاربوا دعوتكم ، فإن تركوكم وشأنكم ، ولم يعتدوا عليكم فمن الخير ألا تبدءوا بالقتال بل عليكم بالعفو فالله كثير العفو والمغفرة ؛ والعقوبة إنما تكون بعد فعل وقع. فهي جزاء منه ، وسمى الله ابتداء الظلم عقوبة مشاكلة لتسمية الجزاء (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [سورة الشورى آية ٤٠] فسمى عقوبة الجزاء سيئة للمشاكلة ، والمراد بالمثلية عدم الزيادة.

ذلك أى : المذكور كله بسبب أنه ـ سبحانه ـ قادر ، ومن كمال قدرته إيلاج الليل في النهار ، وإيلاج النهار في الليل بمعنى زيادة أحدهما على حساب الآخر فالقادر على ذلك قادر بلا شك على نصرة المظلوم ، وإثابة الطائع ومجازاة العاصي ، وذلك بسبب أن الله سميع لكل دعاء ، بصير بكل عمل فلا يعزب عنه شيء.

ذلك أى ما تقدم من اتصافه ـ سبحانه وتعالى ـ بكمال القدرة ، وتمام العلم بسبب أنه هو الحق ، الموجود بلا شك ، الموصوف بكل كمال المنزه عن كل نقص ، وهو صاحب الدين الحق ، فعبادته حق ، ونصره لأوليائه حق ، ووعده حق ، وهو الحق لا شك فيه ، وأن ما تدعون من دونه هو الباطل الذي لا ثبوت له ، ولا وجود ، والحال أن الله هو العلى المتعالي على الكل بقدرته ، وقدسيته تنزهه عن الأشباه والأنداد والنظائر.

ثم أخذ القرآن يلفت نظرنا إلى الأدلة الكونية التي تثبت ذلك.

ألم تعلموا أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة؟ بقدرة الله ، فالله ـ سبحانه ـ هو الذي أنزل من السماء ماء فأصاب الأرض الميتة فأحياها بالخضرة والنبات ، أو سلكه ينابيع في الأرض ثم يرفع بالآلات الرافعة فأصبحت به مخضرة ذات خضرة وبهجة.

إن الله لطيف بعباده يدبر لهم أمر المعاش ونظام الدنيا خبير بهم ، وبحالهم ، وبنظام معاشهم ولا غرابة في ذلك كله إذ له ما في السموات وما في الأرض ملكا وخلقا وعبيدا وتصريفا ، والكل محتاج إليه ، وأن الله هو الغنى فلا يحتاج إلى شيء ، الحميد المحمود في السموات والأرض.

وهذه نعمة أخرى.

٦٠٢

ألم تعلموا أن الله الرحمن الرحيم بكم سخر لكم كل ما في الأرض من حيوان ونبات وأنهار وقوى طبيعية حتى استخدم الإنسان الأثير والذرة وها هي الفلك تجرى في البحر بأمره ، وخصها بالذكر لأنها هي الموجودة ساعة نزول القرآن. أما اليوم فالغواصة ، والطيارة ، والقنابل والتليفزيون وغيره وغيره مما ستتكشف الأيام عنه.

والله ـ سبحانه ـ يمسك السماء أن تقع على الأرض ، وقد رفعها بلا عمد ترونها فلن تقع السماء (أى ما فيها من كواكب وأجرام) إلا بإذنه وإرادته فليست الدنيا خلقت بالطبع ووجدت بالصدفة لا بل هذا الكون لا يمكن أن يسير وحده بلا مدبر قوى قادر حكيم عليم ناقد بصير هو الله ـ جل جلاله ـ ، وتقدست أسماؤه.

حقيقة إن الله بالناس لرءوف رحيم.

وهو الذي أحياكم من العدم ثم يميتكم عند انقضاء أعماركم ، وهذا الموت من أكبر النعم على الإنسان ، ألم تر لك قريبا عزيزا عليك مرض مرضا شديدا حتى تمنيت له الموت؟ كلنا ذلك الرجل ، ولذلك عد الموت في النعم (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) من سورة الرحمن ، أليست الدنيا سجن المؤمن وبالموت ينطلق إلى ساحة الرحمن ، ثم يحييكم للبعث والجزاء وإعطاء المحسن جزاءه والمسيء عقابه ، إن الإنسان لكفور بنعم الله جحود لفضل الله (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وشكروا الله حق شكره فأولئك جزاؤهم عند ربهم ...

لكل أمة شريعة صالحة لها

(لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (٦٧) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨) اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧٠))

٦٠٣

المفردات :

(مَنْسَكاً) عبادة وشريعة يعبدون بها ربهم ، والفعل نسك ينسك فهو ناسك ، ونسك أى : عبد فهو عابد.

المعنى :

العالم يتطور تطور الإنسان في الحياة فمن الطفولة إلى دور الشباب إلى دور الرجولة الكاملة ، وتلك سنة التطور ، وقد عالج الله العالم وقت أن كان كالطفل بعلاج التوراة التي أنزلت على موسى تحكم بالشدة ؛ وتعنى بالمادة ، ثم جاء الإنجيل متمما لحكم التوراة مع علاج الروح ؛ وتنمية الغرائز ، والعالم كان في شبابه ميالا لناحية الروح ، ثم لما كمل العالم ، وتمت رجولته ، وأصبح قادرا على تحمل رسالة خاتم المرسلين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرسل له بتشريع يجمع بين العناية بالمادة والروح ، وكان تشريعه وسطا (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [سورة البقرة آية ١٤٣].

نعم لكل أمة من الأمم جعلنا منسكا وشريعة تعبد بها ربها ، وهي مناسبة لها فكانت التوراة منسك الأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى ، والإنجيل منسك الأمة من مبعث عيسى إلى مبعث محمد ـ عليهم جميعا الصلاة والسلام ـ ، وكان القرآن وما فيه من تشريع وحكم شامل لكل مناحى الحياة الدنيا والأخرى منسك هذه الأمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ولقد أرسل محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونزل عليه القرآن هدى للناس جميعا وبينات من الهدى والفرقان ، والعالم في أشد الحاجة إليه ، فكان رحمة للعالمين ، ومنقذا للإنسانية المعذبة الضالة بين المادية القاسية ، والوثنية الضالة (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) [سورة المائدة آية ٤٨].

وإذا كان الأمر كذلك فلا ينازعنك في الأمر ـ أى أمر الدين ـ فهذا هو الدستور الذي نسخ جمع الدساتير السالفة ، وهذا نهى لهم عن النزاع ، وأنت يا محمد لا تلتف لنزاعهم وجدالهم واثبت في دينك ثباتا لا يطمعون معه أن يخدعوك ليزيلوك عنه ، وادع كل الناس إلى سبيل ربك وهو دين الله الحق ، وتوحيده الخالص ، إنك على الحجة البيضاء ليلها كنهارها ، وأنت على الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه ، فادع الناس جميعا إلى الإسلام وإن أبوا إلا جدالك بعد ظهور الحجة عليهم فكل أمرهم إلى الله وقل لهم :

٦٠٤

الله أعلم بما تعملون وسيجازيكم على عملكم ، ويحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون.

ألم تعلموا أن الله يعلم ما في السماء ، وما في الأرض؟ وهو العالم الذي لا يغيب عنه شيء في الكون ، إن ذلك كله في كتاب مكتوب عنده ، فكيف يغيب عنه شيء؟ بل إن ذلك كله عليه يسير ، وهذا يفيد أن الحكم يوم القيامة بالعدل الذي لا جور فيه.

بعض أعمال الكفار والمشركين

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤) اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٧٦))

٦٠٥

المفردات :

(ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) المراد بالسلطان الدليل الذي ينزله الله ـ سبحانه وتعالى ـ (وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ) المراد حجة عقلية (الْمُنْكَرَ) دلالة الغيظ والغضب (يَسْطُونَ) يبطشون والسطو شدة البطش (ذُباباً) الذباب اسما واحدا للذكر والأنثى ، وسمى هذا الحيوان به لكثرة حركته (لا يَسْتَنْقِذُوهُ) الاستنقاذ والإنقاذ التخليص (يَصْطَفِي) يختار.

وهذا بيان لما يقدم عليه الكفار والمشركون بعد بيان نعم الله ـ سبحانه وتعالى ـ على خلقه ، وبيان مظاهر قدرته وتمام علمه المحيط بكل شيء.

المعنى :

ـ الله المتصف بصفات الألوهية الكاملة ، ولا إله إلا هو ، خالق السماء والأرض ، ومبدعهما لا على مثال سابق ، ومولج الليل في النهار ، والنهار في الليل ، ومنزل الماء من السماء ومنبت الشجر والزرع والنبات في الصحراء وهو صاحب الأمر في السموات والأرض ، السميع العليم ، القدير الخبير ، الذي سخر لكم ما في الأرض وخلقه لكم لتذللوه وتنتفعوا به ، ورفع السماء وبسط الأرض ؛ وأحياكم ، وهو الذي يميتكم ثم يحييكم لتأخذوا جزاءكم ومع هذا كله إن الإنسان لكفور مبين ، ومع هذا فهم يعبدون من دون الله أصناما وأوثانا لم يتمسكوا في عبادتهم بحجة سمعية نزلت عليهم من الله ، تكون لها سلطان عليهم ولم يتمسكوا في عبادتهم بعلم وحجة عقلية ، بل عبدوهم من دون الله عبادة ليس لها أساس اللهم إلا التقليد الأعمى والجهل المطبق والشبه التي هي أو هي من بيت العنكبوت.

وما للظالمين أمثالهم من ولى يتولى أمرهم يوم الحساب ، ولا نصير ينصرهم ويدافع عنهم ، ومع هذا الجهل والضلال إذا نبهوا إلى الخير والطريق الحق ، وإذا تليت عليهم آياته البينات من القرآن الكريم ظهر في وجوههم المنكر ، وبدت عليها دلائل الغيظ والغضب ، وامتلأت قلوبهم فجورا ونشوزا وإنكارا ، يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا ، ويبسطون إليهم ألسنتهم وأيديهم بالسوء.

٦٠٦

ثم أمر الله رسوله أن يقابلهم بالوعيد الشديد فقال : قل أفأنبئكم بشر من ذلكم؟ أى : بشر من غيظكم الذي ملأ قلوبكم ، وكأن سائلا سأل وقال : ما شر من ذلكم؟ فقيل : هو النار!! وعدها الله الذين كفروا ، وبئس المصير مصيرهم.

ولما بين الله أنهم يعبدون من دون الله مالا حجة لهم فيه أتبع ذلك بيان أن آلهتهم أضعف من الضعف فلا يستحقون العبادة بحال.

ومن عادة القرآن الكريم أن يعبر عن الصفات أو القصة الرائعة الغريبة بالمثل لأنها تشبهه في الغرابة والتأثير على السامع والذيوع بين الناس.

يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له ، وتدبروا فيه ، وحكموا عقولكم في مغزاه إن الذين تدعونهم من دون الله ، وتخصونهم بالقربى والدعاء لن يخلقوا ذبابا أبدا ، بل محال منهم ذلك ؛ وإنما اختير الذباب لحقارته ، وضعفه وقذارته. وكثرته ، والحال أنهم مجتمعون متكاتفون متحدون.

وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ، ولا يمكنهم أن يستخلصوه منه ، يا لهذا العجز المشين ، ويا له من تصوير فني رائع ، وضع الآلهة في موضع مهين ذليل ضعيف جدا للغاية حتى ولو كانوا مجتمعين!!

ضعف الطالب من المشركين ، والمطلوب من الأصنام ، وما أضعفهم! :

وكانوا يزعمون أنهم يعرفون الله حقا ، ويتخذون الآلهة قربى إلى الله ، فرد الله عليهم بأنهم ما قدروا الله حق قدره ، حيث جعلوا هؤلاء الأحجار ، والخشب المسندة في صفوف الآلهة ، وما أجهلهم حيث وضعوا الخالق الخبير البصير القاهر القادر في صف من يعجز عن دفع ضرر الذباب فكيف يتخذون العاجز المغلوب شبيها له.

وهذا الآتي رد على دعواهم أن الرسول لا يكون بشرا ببيان أن الرسل نوعان : رسل من الملائكة إلى الأنبياء كجبريل مثلا ، ورسل من البشر إلى الناس كالأنبياء والله وحده هو الذي يختار ويصطفى ، وهو السميع لكل قول البصير بكل نفس ، العليم الذي يعلم السر وأخفى ويعلم أحوال البشر ما مضى منها ، وما هو آت فاختياره على أساس سليم ونظر بعيد ، اعلموا أنه إليه المرجع والمآب ، وإليه وحده ترجع الأمور.

٦٠٧

مجمل التشريع الإسلامى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧) وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨))

المفردات :

(اجْتَباكُمْ) اختاركم (مِنْ حَرَجٍ) الحرج الضيق والعسر (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) شريعته.

لقد ذكر القرآن الإلهيات مع مناقشة المشركين الحساب ، ثم عرج على النبوات واختيار الأنبياء ، وختم السورة بالتشريع العام الذي يطلبه.

المعنى :

يا من اتصفتم بالإيمان ، بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر ، اركعوا واسجدوا والمعنى : صلوا صلاتكم ، واعبدوا ربكم بامتثال جميع الأوامر واجتناب جميع النواهي ، وافعلوا الخير ، من حيث هو خير ، لكم وللناس ، كصلة الرحم والبر! ومكارم الأخلاق وهذا وصف عام كامل لكل فضيلة حث عليها الدين ، وهذا الترتيب في الآية حسن ، فالصلاة

٦٠٨

عبادة ، والعبادة خير ، ثم علل ذلك الأمر بقوله : لعلكم تفلحون ، أى : رجاء الفلاح والفوز ، ولقد صدق رسول الله حيث يقول : «لن يدخل أحد مّنكم الجنّة بعمله».

وجاهدوا في الله أى : في دين الله أو ذات الله أو لأجل الله حق جهاده أى : جهادا حقا خالصا لوجه الله ، ومن نجاهد؟ إنا أمرنا بجهاد أنفسنا ، وجهاد عدونا ، وجهاد قرناء السوء ، والجهاد في مجتمعنا لرده إلى الجادة بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» قاله رسول الله وهو راجع من غزوة وها هو ذا القرآن الكريم يذكر المرغبات في الامتثال ، وموجبات هذه الأوامر لنعمل راغبين راجين الثواب من الله.

هو اجتباكم واختاركم حيث كلفكم وأمركم ، ولعل في التكليف مشقة قد تكون شديدة ، ولكن الله يتبع ذلك بقوله : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ، بل كله سهولة ، وقد قال رسول الله : «إنّ الدّين يسر ولن يشادّ الدين أحد إلّا غلبه الدّين» ويقول الله : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) (١) ويقول الرسول. «إنّ الله يحبّ أن تؤتى رخصه كما يحبّ أن تؤتى عزائمه».

فلم يحتم عليك استعمال الماء ، وقال «فإن لم تجدوا ماء فتيمموا».

وجعل التيمم للمريض ، وللمسافر ، ولمن فقد الماء ؛ وما حتم علينا الصيام في السفر ولا في المرض بل أباحه وحث على الفطر ، وما حتم علينا القيام في الصلاة بل جعله فرضا على القادر أما غير القادر فقد أباح له الصلاة وهو جالس أو نائم ، وقد أثبتت الأيام أنه ليس في نظم الإسلام مشقة ولا حرج أبدا.

وعلى العموم : ففي الدين رخص كثيرة وقد استعملها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم تخفيفا على أمته وتحقيقا لقول الله (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ).

اتبعوا ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل هذا أى : في الكتب السابقة وفي هذا أى : في القرآن ، وحيث كانت ملة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ هي كملة المصطفى في الأصول العامة فهذا داع من دواعي الامتثال والذي سماكم المسلمين هو أبوكم إبراهيم أو الله ـ سبحانه وتعالى ـ ليظهر التعليل في قوله : ليكون الرسول شهيدا عليكم ، وتكونوا شهداء على الناس وأنبيائهم يوم القيامة فقد ورد أن الأنبياء تستشهد

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢٨٦.

٦٠٩

بالمسلمين على أنهم بلغوا رسالتهم لأممهم فيشهد المسلمون بذلك فتقول الأمم : وممن علمتم؟ فيقولون أخبرنا الصادق الأمين صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وعلى هذا كله فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وهما عنوان العمل في الإسلام ، واعتصموا بالله أى : بدينه وقرآنه وأمره ، واسألوه العصمة والمغفرة هو مولاكم وسيدكم والمتصرف في أموركم.

فنعم المولى ، ونعم النصير ....

انظر إلى القرآن أمرنا بأمور ثم رغبنا في الامتثال والعمل ثم أكدها مرة ثانية.

٦١٠

سورة المؤمنون

مكية كلها في قول الجميع ، وعدد آياتها ثماني عشرة ومائة آية.

وهي تدور حول الإيمان والمؤمنين من أولها إلى آخرها فهي إذ تصف المؤمنين ، تذكر أسس الإيمان في الإنسان والكون ، ثم تتعرض لرسالات بعض الأنبياء وكلها تدعو للإيمان ، ثم تعود إلى المؤمنين وخصالهم وإلى الكافرين وأعمالهم مع تعرض لبعض صفات الله ونراها تختتم الكلام بتوجيهات للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم بذكر مشهد من مشاهد يوم القيامة للعبرة والعظة.

من هم المؤمنون؟

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١))

٦١١

المفردات :

(اللَّغْوِ) ما لا خير فيه (ابْتَغى) طلب (العادُونَ) المتجاوزون الحدود (الْفِرْدَوْسَ) أعلى مكان في الجنة.

روى عن عمر بن الخطاب أنه قال : كان إذا نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الوحى يسمع عند وجهه كدوي النحل فلبثنا ساعة فاستقبل القبلة ، ورفع يديه وقال : «اللهمّ زدنا ولا تنقصنا ، وأكرمنا ولا تهنّا ، وآثرنا. ولا تؤثر علينا ، وارض عنّا وأرضنا ، ثم قال : نزل علىّ عشر آيات من أقامهنّ (أى : عمل فيهنّ) دخل الجنّة ، ثم قرأ : قد أفلح المؤمنون حتّى ختم العشر» رواه أحمد والترمذي.

وروى النسائي قال : قلنا لعائشة أم المؤمنين : كيف كان خلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قالت : كان خلقه القرآن ، فقرأت (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) حتى انتهت إلى (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) قالت : هكذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

المعنى :

قد أفلح المؤمنون ، وفازوا وسعدوا ، أولئك المؤمنون الذين وصفهم الحق ـ تبارك وتعالى ـ بما يأتى :

(الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) قد سكنت جوارحهم ، وخشعت قلوبهم ، وقال الحسن البصري : كان خشوع الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ في قلوبهم ، فغضوا بذلك أبصارهم ، وخفضوا جناحهم.

والخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن أفرغ قلبه لها ، واشتغل بها عما عداها ، وآثرها على غيرها ، وحينئذ تكون راحة نفسه ، وقرة عينه كما قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم «حبّب إلىّ من دنياكم ثلاث : الطّيب ، والنّساء ، وجعلت قرّة عيني في الصّلاة» ، وكما روى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا بلال «أرحنا بالصّلاة».

وأمارة الخشوع أن يتوقى إصلاح الثوب ، والالتفات يمينا وشمالا ، والتثاؤب وتغطية الفم باليد ، والتشبيك ، واللعب في اللحى ، والنظر إلى الأصابع ، وتقليب الحصى ،

٦١٢

وغير ذلك مما يكره فعله في الصلاة باعتبار القانون الشرعي ، وفي الواقع هذا مما يضيع الصلاة ويجعلها شيئا لا روح فيه ، ولقد صدق رسول الله حيث رأى رجلا يلعب في لحيته وهو يصلى فقال : «لو سكن قلب هذا لسكنت جوارحه».

(وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) اللغو هو الباطل ، وما لا خير فيه ولا فائدة منه والمؤمن حقيقة هو الذي يشعر بثقل الرسالة التي كلف بها ، ويشعر بالواجب عليه نحو نفسه ووطنه ودينه ، ويشعر تماما بأن في عنقه أمانة هو محاسب عليها ، لا يهدأ ، ولا يسكن حتى يقوم بها. ومن كان كذلك كان معرضا عن اللهو ، والمجون والعبث وضياع الوقت في غير المجدي.

وانظر يا أخى إلى أن هذا اللغو دأب أفراد الأمم المتأخرة المتكاسلة ، وإلا فالوقت مهما طال فهو أقل بكثير مما عليك من واجب (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً).

(وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) يظهر والله أعلم أن المراد بالزكاة مطلق الإنفاق في سبيل الله ، وإلا فالزكاة الشرعية المحددة النصيب لم تفرض إلا في السنة الثانية للهجرة وكانوا في مكة يؤمرون بالإنفاق المطلق ، ألا ترى إلى قوله ـ تعالى ـ في سورة الأنعام الآية ١٤١ (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) وفي سورة فصلت (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ* الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) [الآيتان ٦ و ٧].

(وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ* إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) نعم هم الذين قد حفظوا فروجهم من الحرام فلم يقعوا فيما نهاهم الله عنه من زنا ولواط واستمناء باليد ، لا يقربون سوى زوجاتهم التي أحلها الله لهم ، أو ما ملكت أيمانهم من السراري التي أخذت في الحروب لا التي شاعت في القرون السابقة ، وكانت تباع في الأسواق ، فالشرع لم يحلل الرق إلا في صورة واحدة هي في حروب الإسلام مع الكفار فتقسم النساء على المحاربين إكراما. لهم ، مع أن الدين حض في كل مناسبة على تحرير الرقاب ، ولم يكن الرق واجبا حتميا بل جعله في يد الإمام يفعله متى يشاء وعلى ذلك فلنا أن نحرمه الآن لما يترتب عليه.

ومن تعاطى ما أحله الله فلا لوم عليه ولا حرج ، فمن ابتغى وراء ذلك أى غير الأزواج والإماء فأولئك هم المعتدون المتجاوزون ، وعلى ذلك حرم نكاح المتعة ، والاستمناء باليد.

٦١٣

والإجماع من كل العلماء ما عدا أحمد بن حنبل تحريمه لظاهر الآية ولحديث أنس ابن مالك «سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكّيهم ، ولا يجمعهم مع العالمين ويدخلهم النّار في أوّل الدّاخلين : النّاكح يده ، والفاعل والمفعول به ، ومدمن الخمر ، والضّارب والديه حتّى يستغيثا ، والمؤذى جيرانه حتّى يلعنوه ، والنّاكح حليلة جاره».

(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) وهم إذا اؤتمنوا لم يخونوا بل يؤدونها إلى أهلها ، وإذا عاهدوا أو عقدوا عقدا قاموا به ، ووفوا ما عليهم ، وهكذا المسلمون دائما يوفون بالعهد ، وعلى عكسهم المنافقون الذين وصفهم الرسول بقوله «آية المنافق ثلاث ، إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان».

(وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) فهم يواظبون عليها ويؤدون جميع الصلوات في أوقاتها ، مع المحافظة على الصلاة وشروطها وآدابها وأركانها.

وقد افتتح الله ذكر هذه الصفات الحميدة بالصلاة ، واختتمها بالصلاة فدل على أفضليتها ومكانتها وأنها عمود الدين ولقد قال رسول الإسلام : «استقيموا ولن تحصلوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة».

أولئك البعيدون في درجات الكمال ، المتصفون بهذه الصفات التي تثبت الإيمان في قلب المؤمن ، والتي تغرس في قلبه حب الدين والخوف من الله ، والتي تنتج المؤمن الكامل ، المؤمن القوى ، والمؤمن العامل في جيش الإسلام فهذه صفات تخلق الفرد وهناك صفات للمؤمنين كجماعة من الجماعات (الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) [سورة التوبة آية ٧١].

أولئك هم الأحقاء بأن يأخذوا الجنة ، ويستحقوا الفردوس استحقاق الوارث في مال مورثه جزاء ما عملوا ، ونتيجة لما قدموا.

وهم فيها خالدون (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الزخرف ٧٢].

٦١٤

الإيمان بالله القادر الحكيم

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦) وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (١٨) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢))

المفردات :

(مِنْ سُلالَةٍ) من خلاصة استلت من الطين ، والسلالة من السل وهو استخراج الشيء من الشيء يقال : سللت الشعر من العجين والسيف من الغمد فانسل (قَرارٍ

٦١٥

مَكِينٍ) المراد الرحم (طَرائِقَ) جمع طريقة والمراد السموات السبع ، سميت بذلك لأن بعضها فوق بعض (بِقَدَرٍ) بمقدار معلوم عندنا (طُورِ سَيْناءَ) طور سيناء ، (وَصِبْغٍ) كل إدام يؤتدم به فهو صبغ ، وأصل الصبغ ما يصبغ به الثوب أى يلون ، وشبه الإدام به لأن الخبز يلون به إذا غمس فيه.

لقد أمر الحق ـ تبارك وتعالى ـ بالإيمان وبالاتصاف بشعبه المهمة التي تكون المؤمن الصالح ببيان صفات المؤمنين التي هي سبب في فلاحهم وفوزهم. وذلك في الآيات السابقة. وهذا لا يتم إلا بعد معرفة الإله معرفة حقيقة والإيمان به والاستدلال على ذاته الكريمة وصفاته الجليلة كالقدرة والوجدانية ، والعلم والحكمة وغيرها. ولذا ترى القرآن الكريم أخذ يسوق الأدلة على ذلك في خلق الإنسان ، وفي تكوين السموات وفي نزول الأمطار وخروج النبات ، وفي خلقه الحيوان ومنافعه.

المعنى :

ولقد خلقنا الإنسان ، وقلبناه في أدوار الخلقة وأطوار الفطرة. أفلا يكون ذلك دليلا كافيا على وحدانيته تعالى : واتصافه بكل كمال ، وتنزهه عن كل نقص؟ هذه الأطوار كل طور فيها لا يمت إلى الآخر بصلة.

لقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين. ومن هو الإنسان؟ أهو آدم أم أولاده أو هو لفظ عام شامل للكل؟

أما آدم فخلق من طين لازب (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ* فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) [سورة ص الآيتان ٧١ و ٧٢].

وأما أولاده فقد خلقت من منى يمنى ، وهذا المنى من الدم ، والغذاء سواء كان نباتا أو حيوانا مصدره الأرض ، إذا الإنسان مطلقا خلق من طين كما نصت الآية ؛ وعلى ذلك نفهم قوله تعالى (خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ* يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) أى : صلب الرجل وترائب المرأة أى : عظام صدرها ، مع قوله : (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) [السجدة ٧ و ٨].

تلك نظرية القرآن ـ كلام الله الذي خلق الإنسان من العدم ـ في وضوحها وهي لا تعارض بنظرية النشوء والارتقاء في تكوين الإنسان إذ أنها بنيت على الحدس والتخمين

٦١٦

حيث يظن أن أصل الإنسان حيوان ارتقى ، والواقع لا يشجعنا على هذا على أن نظرية القرآن تكرم الإنسان على الخلق كلهم (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ* فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي).

(ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ) نعم هو قرار مكين حقا فالجنين يوضع في كيس (المشيمة) وهذا الكيس فيه ماء قليل حامل للطفل وحافظ له من الحركات العنيفة ، وتقلبات الأم الشديدة ، وهذا الكيس في الرحم ، والرحم مغلق وهو في الحوض ، أفلا يكون هذا في قرار مكين؟ ومع هذا كله فالجنين يتغذى ويتنفس بعد مدة من الزمن أما كيف يتنفس؟ فهذا دليل على القدرة التي لا تحد!.

ثم خلقنا النطفة التي هي حيوان منوي واحد من ملايين تنزل من الرجل علقة أى : جعلناها علقة فحولنا النطفة من صفاتها إلى صفات العلقة ، وهي الدم الجامد.

فخلقنا العلقة مضغة : أى جعلناها قطعة لحم قدر ما يمضغ بعد أن كانت جزءا من الدم الجامد.

فخلقنا المضغة عظاما ، ومن الذي كون العظام من اللحم؟ ، والعظام لها طابع خاص ومكون من مواد تختلف عن مواد اللحم ، إنه الخالق ـ سبحانه وتعالى ـ.

فكسونا العظام لحما ، نعم قد كسى العظام باللحم والعصب. إنه نظام دقيق جدا يعرفه من مارس صنع الآلات ، وحاجتها الشديدة إلى ما يشبه المفاصل في الإنسان إنه تركيب دقيق ، وصنعة محكمة! والطب الحديث أثبت أن العظم يتكون أولا ثم يكسى باللحم فمن علم ذلك النبي الأمى؟! إنه الله!!

ثم أنشأناه خلقا آخر ، نعم ثم بعد هذا أنشأناه خلقا آخر يسمع ويتحرك ويتنفس وكان قبل هذا قطعة لحم بدون حياة كاملة ثم بعد ذلك نزل من بطن أمه للحياة يسعى ويعمل ، وصار في وضع لو دخل في بطن أمه لحظة بعد خروجه لمات لساعته ، سبحانك يا رب!!

وانظر إلى التعبير بثم هنا ، وبالفاء قبله!! فالفاء للترتيب مع التعقيب ، وثم للترتيب مع التراخي فتبارك الله أحسن الخالقين. نعم تعالى الله خالق هذا الإنسان ، فالبركات والخيرات والنعم كلها منه ـ سبحانه وتعالى ـ وهو المستحق للثناء والتعظيم والعبادة لا إله غيره ، ولا معبود سواه.

٦١٧

ثم إنكم بعد ذلك لميتون الموتة الأولى ، ثم إنكم يوم القيامة تبعثون والبعث بعد موتكم في قبوركم ليأخذ كل جزاءه وافيا ـ أليس الموت في الدنيا. والبعث في الآخرة دليلا قويا على القدرة الكاملة؟!!

الأدلة الواضحة في خلق السماوات

ولقد خلقنا يا بنى آدم فوقكم سبع سموات طباقا ، وما كنا عن الخلق غافلين ، بل حاسبين عالمين بالغيب والشهادة :

والسموات السبع ؛ قيل : إن السماء عبارة عن الفلك الذي يدور فيه مجموعة من الكواكب مثل المجموعة الشمسية وهذه المجموعة مكونة من الشمس مثلا وكثير من الكواكب التي تنجذب إليها وتدور حولها في مدارها ، وهكذا حتى تتكون سبعة أفلاك وهي السموات السبع التي هي جزء من العالم العلوي.

ولكن إذا نظرنا إلى نصوص القرآن المتعددة والمذكورة في كثير من السور مثل قوله تعالى : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً) (١). (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) (٢). (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) (٣) (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) (٤). (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ) (٥). (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) (٦). (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً* وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) (٧). (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) (٨). (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها) (٩). (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) (١٠) (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) (١١) .. (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ ...) (١٢) (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ* وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ) (١٣) (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (١٤) هذه النصوص كلها تجعلنا نقول مع القائلين أن السماء مادة فيها الكواكب والله أعلم بهذه المادة ، وإنما قيل سبع طرائق وفي آية أخرى طباقا لأنها متطارقة بعضها فوق بعض ، أى متطابقة ، وقيل لأنها طرائق الملائكة.

ويرى بعض العلماء أن المراد بقوله سبع طرائق ـ والله أعلم ـ سبع مدارات أو سبعة مجموعات فلكية ، أو سبع كتل سديمية :

__________________

(١) البقرة آية ٢٢. (٢) الذاريات آية ٤٧. (٣) الصافات آية ٦. (٤) فصلت آية ١٢. (٥) الطور آية ٤٤.

(٦) الحاقة آية ١٦. (٧) نوح الآيتان ١٥ و ١٦. (٨) النبأ آية ١٢. (٩) النازعات الآيتان ٢٧ و ٢٨.

(١٠) الانفطار آية ١.

(١١) الانشقاق آية ١. (١٢) البروج آية ١. (١٣) الغاشية الآيتان ١٧ و ١٨.

(١٤) الحج آية ٦٥.

٦١٨

الأدلة في نزول المطر وإنبات النبات

والله ـ سبحانه وتعالى ـ أنزل من السماء ماء على هيئة المطر ، وإن قصته لعجيبة تدل على كمال القدرة فالماء الذي على سطح الأرض (وما أكثره) يتبخر على شكل بخار يصعد إلى أعلى لخفته ثم إذا تجمد تحمله الرياح إلى حيث يراد نزوله ، فينزل عذبا فراتا سائغا شرابه ، كل هذه الأدوار والأطوار التي مر بها الماء من الذي خلقها؟ إنه الله ـ سبحانه وتعالى ـ.

الله ينزل من السّماء ماء على من يشاء من عباده ينزله بقدر معلوم ، قدر لا يضر ولا يهلك ، بل يقدر المصلحة العامة غالبا.

والمطر إذا نزل على الأرض تسرب فيها ، وكون في باطنها ما يشبه البحيرات والأنهار ، وقد أثبت البحث حديثا أن تحت القطر المصرى نهرا أكثر ماء من نهر النيل ، وآية ذلك العيون والآبار التي في الصحراء وغيرها ، والآلات الميكانيكية التي ترفع المياه الجوفية فيسقى بها الزرع ، وتنشأ بها الجنات والبساتين.

نعم أنشأ الله بهذا الماء النازل من السماء جنات من نخيل وأعناب وغيرها من أصناف المزروعات المنتشرة الآن في العالم كله ، وإنما خص النخيل والأعناب بالذكر لأنهما المعروفان عند العرب كثيرا ، وغيرهما بالقياس.

لنا في هذه الزروع ما نتفكه به ، وما نأكل منه ؛ ونشأ به شجرة تخرج في طور سيناء ـ وهي الصحراء القاحلة ، لو لا ما ينزل عليها من الأمطار ـ هي شجرة الزيتون ومنها الدهن والإدام الذي يؤتدم به ، وفيه الشفاء لكثير من الأمراض وهو أصح من السمن في كثير من الحالات والله ـ سبحانه وتعالى ـ قادر على إذهاب المطر ومنعه ، وعلى جفاف المياه الجوفية وإزالتها (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ)؟! [سورة الملك آية ٣٠].

الأدلة في الأنعام وخلقها

أما الأنعام التي خلقها الله لنا ، وسخرها لخدمتنا ، وذللها لمنافعنا ، فهي الإبل والبقر بنوعيه والضأن والماعز ، وغيرها كثير :

ولنا في لبنه عبرة وعظة ، وأية عبرة هذه!! إنه اللبن الذي تفرزه الغدد ويخرج من

٦١٩

بين فرث ودم فغذاء الحيوان يتحول إلى دم ولبن وفرث ، كل ذلك بواسطة شعيرات دقيقة منتشرة في الجسم ومتجاورة ، ومع هذا يخرج اللبن صافيا لا كدرة فيه ، فسبحان من خلق هذا!! ولكم فيها منافع كثيرة ، تحمل أثقالكم من بلد إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس ، وتحرث الأرض وتأخذون أصوافها وأوبارها فتجعلونه لباسا وأساسا ، ومتاعا ومن أولادها ولحومها نتغذى ونأكل ، وعليها وعلى السفن التي تسير في البحر نركب وننتقل حسبما نشاء (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ* وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ* وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ) [سورة يس الآيات ٧١ ـ ٧٣].

أفلا يدل هذا على وجود الصانع المختار ، الحكيم القادر؟ جل شأنه ، وأنه قادر على إعادة الحياة بعد فنائها ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى.

أليس من الفلاح والسعادة للبشر أن يؤمنوا بهذا الإله الذي خلق فسوى وأنعم وتفضل؟!

العبرة من قصة نوح ـ عليه‌السلام

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي

٦٢٠