التفسير الواضح - ج ٢

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ٢

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٨٨٤

إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١١٢))

المفردات :

(آذَنْتُكُمْ) أعلمتكم ، مأخوذ من الآذن ، أى : الإعلام.

بعد ذلك البيان الرائع ماذا يكون موقف النبي؟ إنه الرحمة المهداة ، عليه البلاغ ، وعلى الله الحساب.

المعنى :

عرفنا فيما مضى جزاء المشركين بالله. والمؤمنين به ، وكانت العاقبة للمتقين وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو مفتاح الخير ، وباب الرحمة ، ولقد صدق الله (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) أى : للناس أجمعين أما أتباعه فرحمته عمتهم وفضله ونوره وسعهم ، وغيرهم كذلك ، وإن كان عن طريق غير مباشر.

ولسنا مبالغين إذ قلنا إن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أول من شرع العدل وسنه وأول من حكم بالقسط ، وقنن القوانين الحكمية ، وهو أول من بذر بذور الديمقراطية الصحيحة في العالم ، وهو أول من نصر الضعيف وأعان المظلوم ، وانتصف للفقير من الغنى ، وساوى بين الخصمين ، وسوى بين أتباعه وأتباع غيره ، وأمر بالعدل والإحسان ، وإيتاء ذي القربى ، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي.

وكتابه هو المصباح الذي أنار للعالم طريقه ، وكان فاتحة الخير والهدى والعلم والمعرفة ، كان البلسم الذي هذب عقلية الفرس ، والرومان ، وكون فلسفة إسلامية عالية.

وبدينه ولدت العلوم والمعارف في الشرق أولا ثم انتقلت إلى الغرب عن طريق

٥٦١

الحروب الصليبية وتركيا ، وعن جامعات الأندلس. أخذ الغربيون تلك النفائس فنموها ، وجودوها ، حتى صارت علوما ومعارف واسعة النطاق ، وأراد الله لهم ذلك.

وأراد الله للشرق وللمسلمين أن يبتعدوا عن دينهم فأهملوا علومهم ومعارفهم فدارت الدائرة عليهم وأذلهم عدوهم. ولقد صدق الله (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) [آل عمران ١٤٠].

وأملنا في شبابنا خير ، هذا الشباب الذي أخذ ينادى بالقرآن ويدرسه ويتفهمه ليعيد للإسلام مجده ، ويتحقق جليا أن رسوله الكريم أرسل رحمة للعالمين ويكون على يديه إنقاذ العالم من وهدته ، وضرب المثل عمليا للمؤمن القوى الصالح لعمارة الدنيا والفوز بالآخرة.

ويقول ذلك الرسول مأمورا من ربه : قل لهم : إن ديني بسيط جدا. وسهل جدا لا تعقيد فيه ، ولا التواء : قل لهم إنما يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد فاعبدوه وحده ، ولا تشركوا به شيئا من الدنيا أو المال أو الشهوة أو الجاه أو السلطان ، وقولوا بقلوبكم ولسانكم : الله أكبر ولله الحمد.

فهل أنتم بعد ذلك مسلمون؟ والمعنى أسلموا لله ، وأخلصوا النية له ؛ فإن تولوا بعد ذلك فقل آذنتكم بحرب لا هوادة فيها ، وأعلمتكم بها أنا وأنتم سواء في هذا العلم فلا عذر ولا خيانة منى.

ولست أدرى والله أقريب أم بعيد ما توعدونه من العذاب! فأنا رسول الله إليكم فقط ، ولا أعلم من الغيب شيئا بل العالم بالحقائق حقا هو الله ـ سبحانه ـ الذي يعلم السر وأخفى ، ويعلم الجهر من القول ، ويعلم ما تكتمون من عداوة وحسد للمسلمين.

ولست أدرى لعل تأخير العذاب عنكم فتنة لكم ، وابتلاء ليرى كيف يكون صنيعكم وهو أعلم بكم ، ولعله متاع لكم تتمتعون به إلى أجل معلوم وزمن محدود ليكون ذلك حجة عليكم ، وليقع الموعد في وقت معين عنده قل لهم يا محمد : رب احكم بالحكم الحق ، فأنت الحق ، ولا نحب إلا الحق ، وربنا رب السموات والأرض صاحب النعم على العالم كله ، وربنا الرحمن المستعان وحده ، والملجأ إليه وحده ، والمفزع إليه وحده ، وهو المستعان وحده على ما تصنعون. وقد نصر الله عبده ، وأعز جنده ، وهزم الأحزاب وحده. لا إله إلا هو.

٥٦٢

سورة الحج

وهي مكية في القول الصحيح إلا بعض آيات. وقال الجمهور : السورة مختلطة منها مكي ومنها مدني. وهذا هو الأصح ، وآياتها ثمان وسبعون آية ، وهي تتضمن الكلام على البعث وبعض مشاهده ، ثم تنتقل إلى الكلام على المشركين وموقفهم من المسجد الحرام واستتبع ذلك الكلام على البيت وشعائر الحج ، ثم الكلام على المكذبين ومصارعهم للعبرة بهم وفي نهاية السورة آيات الله في الكون مع ضرب المثل للآلهة.

الدعوة إلى تقوى الله

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ (٢) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٤))

٥٦٣

المفردات :

(زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ) أصل الكلمة من زل عن الموضع إذ زال عنه وتحرك ، وزلزل الله قدمه أى : حركها ، وعلى ذلك كانت الزلة شدة الحركة مع تكرارها (تَذْهَلُ) الذهول الذهاب عن الأمر مع الدهشة (سُكارى) جمع سكران (مَرِيدٍ) متمرد عات.

المعنى :

يا أيها الناس اتقوا ربكم ، وخذوا الوقاية لأنفسكم من عذابه. وحاصل التقوى أنها ترجع إلى امتثال الأمر واجتناب النهى ، والإحسان في العمل ، والإخلاص فيه.

أمر الله بنى آدم بتقواه ، ثم علل وجوبها عليهم بذكر الساعة وأهوالها ، ولينظروا إلى يوم الحساب ببصائرهم ، ويتصوروه بعقولهم ، حتى يبقوا على أنفسهم ويرحموها من شدائد ذلك اليوم وهوله ، بامتثال ما أمرهم به ربهم من التحلي بلباس التقوى الذي لا يؤمنهم من الفزع إلا هو.

روى أن هذه الآية نزلت ليلا في غزوة بنى المصطلق فقرأها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم ير أكثر باكيا من تلك الليلة «وكان الصحابة بين حزين وباك ومفكر».

يا أيها الناس. اتقوا ربكم ، إن زلزلة الساعة واضطرابها شيء عظيم هوله كبير وقعه ، إلا على الذين آمنوا وعملوا الصالحات.

يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت ، نعم في يوم القيامة وساعة الزلزلة تذهل كل مرضعة عن طفلها ، الذي ترضعه ، والذهول : الغفلة عن الشيء بطروء ما يشغل عنه من هم ووجع أو غيره ، والمعنى : أن في هذا اليوم أهوالا تذهل المرضعة عن رضيعها ، وتجعل الناس سكارى ، والولدان شيبا (يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) وترى الناس كأنهم سكارى ، والواقع أنهم ليسوا سكارى ، ولكن عذاب الله شديد (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ* تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ* قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ* أَبْصارُها خاشِعَةٌ) [النازعات ٦ ـ ٩] ومع هذا ما أجهلك يا ابن آدم ، وما أغباك حيث لم تستعد لذلك اليوم ، ولم تأخذ لنفسك الوقاية منه فسيحاسبك خبير عليم وناقد بصير ، ولا تخفى عليه خافية!!

٥٦٤

ومع هذا كله فمن الناس من يجادل في الله وقدرته على البعث ، واتصافه بصفات الألوهية ، ويا ليته يجادل بالحق ، ولكنه جدال بالباطل ونقاش بغير علم وعقل ، وهو يتبع في هذا كله شيطانه المتمرد العاتي ، مع أنه كتب عليه وقدر تقديرا ظاهرا كالرقم على الشيء المعروض في السوق أنه من تولاه واتبعه من الشياطين الإنسية أو الجنية فإنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير.

وهناك معنى آخر وهو : كتب على الشيطان أن من تولاه من الإنس فإنه يضله ويهديه ـ أى : الشيطان ـ إلى عذاب السعير ، ولعل هذا هو المعنى الظاهر.

من أدلة البعث

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧))

٥٦٥

المفردات :

(رَيْبَ) شك (نُطْفَةٍ) النطفة : المنى وهو ما يخرج من صلب الرجل سمى نطفة لقلته ، والنطف القطر (عَلَقَةٍ) العلقة : الدم الجامد. وقيل : الطري (مُضْغَةٍ) المضغة : قطعة لحم قليلة. قدر ما يمضغ (أَشُدَّكُمْ) كمال قوتكم (أَرْذَلِ الْعُمُرِ) المراد : الهرم والخرف حتى لا يعقل (هامِدَةً) يابسة لا نبات فيها (اهْتَزَّتْ) تحركت وتفاعلت (وَرَبَتْ) نمت وارتفعت بالنبات (زَوْجٍ) لون وصنف (بَهِيجٍ) حسن للدين الإسلامى مقصدان مهمان جدا ، وأساسان عليهما يدور ، وعليهما تبنى الفروع ، أما الأول : فتوحيد الله. واتصافه بكل كمال ، وتنزيهه عن كل نقص ، وأما الثاني : فإثبات البعث والحياة الأخرى ، وما يتبعها من ثواب وعقاب وغيره ، إذا لا غرابة في تكرارهما في القرآن والسنة ، وإثباتهما والاستدلال عليهما بالآيات الكونية وغيرها.

المعنى :

يا أيها الناس جميعا من كل جنس ولون ، في كل عصر وزمن ، إن كنتم في شك من البعث ـ وهذا الشك يجب أن يكون بسيطا جدّا يزول بأدنى تنبيه لتضافر الأدلة على ثبوته ـ فاتركوه ، وانظروا مما خلقتم؟!!

ولقد كان اعتماد المنكرين للبعث على أنه يستحيل حياة بعد موت وتفرق للإجراء وانعدام لها بل تحولها إلى شيء آخر ، ومن الذي يعيد الحياة لتلك العظام النخرة التي أصبحت ترابا أو صارت ذرات في الهواء ، أو انتهى أمرها إلى بطون السباع أو بطون السمك والحيتان؟!! وعلى أى وضع يكون حساب وعقاب؟!! فنزل القرآن ينادى بالبعث ، ويسوق الأدلة كالصواعق أو أشد ، (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)؟!! [الرعد ٥] (فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ). [الإسراء ٥١] (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ* قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) [يس ٧٨ ـ ٨٠].

٥٦٦

(وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا* أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً)؟!! [سورة مريم الآيتان ٦٦ و ٦٧].

وغير ذلك من آيات القرآن وكلام الرسول كثير.

وخلاصة دعواهم ، استحالة الحياة بعد الموت ، والوجود بعد فناء الخلق ، وما علموا أن القادر على البدء قادر على الإعادة ، وهو أهون عليه ، إذا قسناها بمقاييسنا ..

يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فاذكروا خلقكم أولا ، واعلموا أنه قد مر عليكم أدوار سبعة لا مناسبة بينها أبدا إذ كل دور كنتم من نوع يخالف الآخر.

١ ـ خلقكم من تراب ـ أى : خلق أباكم آدم منه ، أو خلقكم من المنى والمنى سواء كان من الذكر أو الأنثى فهو من الدم ، والدم من الغذاء ، والغذاء نباتا كان أو حيوانا من الأرض فصح أن كل إنسان خلق من تراب.

٢ ـ ثم خلقناه من نطفة ـ (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) فمن الذي حول التراب اليابس إلى ماء فيه حيوانات منوية ، ولا علاقة بينهما ولا مناسبة.

٣ ـ ثم من علقة ـ والعلقة قطعة الدم الجامدة ، ولا شك أن بين المنى كماء والدم الجامد مباينة ، ومع هذا فقد تحول الماء إلى دم جامد بقدرة قادر ، وفي هذا إشارة إلى أنه لا معنى لاستبعاد الإعادة بسبب التحول من مادة إلى أخرى فإنه ثابت في بدء الخلق.

٤ ـ ثم من مضغة ، وهي قدر ما يمضغ من اللحم ، وانظر إلى أصلها الأول وكيف وصل التراب إلى ماء ثم إلى دم ثم إلى لحم يمضغ!! .. وهذه المضغة قد تكون مخلقة مسواة سالمة من العيوب والنقصان ، تمت فيها أحوال الخلق ورسومه ، وقد تكون غير ذلك.

يا أيها الناس إن كنتم في شك من البعث فإن خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة قد صورناها ، ومضغة لم نصورها ، أخبرناكم بهذا كله لنبين ما يزيل عنكم الشك ، وينفى عنكم الريب في أمر بعثكم فإن القادر على هذه الأشياء كيف يكون عاجزا عن الإعادة ؛ والله ـ بعد ذلك ـ يقر في الأرحام ما يشاء إلى أجل مسمى

٥٦٧

عنده وهو مدة الحمل فقد يولد الجنين لستة أشهر أو لتسعة أو لسنة أو لسنتين ، وبعض الفقهاء قال إن أقل الحمل ستة أشهر ولحظتان ، ونهايته أربع سنين.

٥ ـ ثم نخرجكم من بطون أمهاتكم أطفالا تتنفسون وتعيشون ، وتطعمون ، وقد كنتم في بطون أمهاتكم تتنفسون ، ولكن على أى كيفية؟. وكنتم تطعمون ، ولكن من دم أمهاتكم ، فهل هناك مناسبة بين الحالتين بين الطفل في بطن أمه ، وبينه وهو في الحياة العامة!!

٦ ـ ثم لتبلغوا أشدكم ، نعم فالله ـ سبحانه ـ القادر على كل شيء مهد لهذا الطفل الصغير سبل الحياة ، وأحيا فيه غريزة حب البقاء التي جعلته يرضع من ثدي أمه ، وهداه إلى طرق الحياة فعاش حتى بلغ أشده وكمال قوته وعقله.

٧ ـ وبعد هذا أو قبله منكم من يتوفى ، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر ؛ أليس في هذا دليل على وجود إله قوى مختار يحكم لا معقب لحكمه ، قادر على كل شيء إذ منكم من يتوفى وهو في تمام قوته ، وريعان شبابه ، ومنكم من يعيش ويعمر ، وقد يكون مريضا عليلا (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [النحل ٦١] وإذا عمر الإنسان كثيرا ، ووصل إلى الهرم ضعفت قواه العقلية والجسمية إلى درجة كبيرة ، وفنيت خلايا جسمه كلها أو أغلبها فيصير ضعيف العقل والحواس ، لا يعلم شيئا مما كان يعلمه ، وهذا أمر مشاهد معروف ، وصدق الله حيث يقول : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) [سورة الروم آية ٥٤].

وكيف تشكون في البعث ، وإعادة الحياة إلى الجسم ، وأنتم ترون مظاهر البعث والحياة بعد الموت أمامكم في كل وقت ، ألم تروا إلى الأرض ، وهي ميتة هامدة ساكنة لا حياة فيها ، ولا نبات بها فإذا أنزل الله عليها الماء اهتزت وتحركت وقد أثبت العلم الحديث ذلك ـ وربت وانتفخت وأنبتت من كل صنف من النبات بهيج وحسن.

انظر يا أخى : إلى ترتيب القرآن المحكم أثبت البعث واستدل على ذلك بدليلين :

(أ) خلق الحيوان. (ب) خلق النبات ثم رتب على ذلك أمورا.

١ ـ ذلك الذي بينه لنا من أمر الخلق في الحيوان والنبات ، وانتقال كل من حال

٥٦٨

إلى حال متباينة بسبب أن الله هو الحق ، والحق هو الموجود الثابت الذي لا يحول ولا يزول ، وأن كل ما سواه وإن كان موجودا حقّا ، فإنه لا حقيقة له في نفسه لأنه مسخر مذلل للحق ـ تبارك وتعالى ـ صاحب الوجود المطلق ، والغنى المطلق ـ سبحانه وتعالى ـ.

٢ ـ وأنه يحيى الموتى ، وإذا كان الله صاحب هذه الأفعال ، وموجد هذه الأشياء والأحوال فكيف يستبعد منه إعادة الأموات للثواب والعقاب؟

٣ ـ وأنه على كل شيء قدير ، ولا عجب فمن صدر منه هذا تكون القدرة صفة ذاتية له ، ويكون على كل شيء قدير.

٤ ـ وأن الساعة آتية لا ريب فيها حيث وعد بها ، وكان وعده مفعولا ، وقضى بها وهو القادر المختار.

٥ ـ وأن الله يبعث من في القبور للحساب والجزاء.

هكذا تكون الناس

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٠) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُوا لَمَنْ

٥٦٩

ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤))

المفردات :

(ثانِيَ عِطْفِهِ) ، المراد معرضا عن الذكر كفرا وتعظما ، والأصل في العطف أنه الجانب ، ويقال : ثنى فلان عنّى عطفه إذا أعرض ، ولوى جانبه (خِزْيٌ) هوان وذل (عَلى حَرْفٍ) المراد : على شك وضعف في العبادة كضعف القائم على طرف الجبل وحده.

ولقد أمر الله بالتقوى وخوفهم من عذاب يوم شديد ومع هذا فمن الناس من يجادل في الله بغير علم ، ثم ساق لهم الأدلة على البعث وقدرة الله على كل شيء ، ومع هذا فمنهم من يجادل في الله كذلك بغير علم.

هكذا تكون الناس مهما كانت النذر! منهم شقي ومنهم سعيد ، ومنهم المؤمن الصادق ، والمنافق الكاذب ، والكافر الصريح ، وهكذا أراد الله.

المعنى :

ومن الناس من يجادل في وجود الله وصفاته بغير علم ، ولا هدى ، ولا كتاب منير.

نعم من الناس من يجادل بالباطل ، ويجادل في الله وصفاته بغير علم صحيح ، وفكر سليم ، وبغير هدى واستدلال يهدى إلى المعرفة الصحيحة ، وبغير كتاب وحجة منقولة. وهذا والله هو الحق ، يجادل الإنسان ويخاصم بظن واه ، لا دليل معه من علم أو نظر أو حجة ، ولكنه العناد والضلال وعمى القلوب والبصائر (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [سورة الحج آية ٤٦].

وهو إذا ذكّر لا يذّكّر بل يعرض وينأى بجانبه كبرا (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) [سورة لقمان آية ٧].

٥٧٠

ولما أدى جداله إلى الضلال ، وكانت عاقبته خسرا ، جعل كأنه غرضه ، ولما كان الهدى في استطاعته ، وتحت سمعه وبصره ، ولكنه تركه وأعرض عنه ، وأقبل على الجدال بالباطل جعل كالخارج من الهدى إلى الضلال وبئس المصير.

وهؤلاء لهم في الدنيا خزي وهلاك ، وهوان وذل ، وفي يوم الجزاء يذوقون عذاب الحريق.

ذلك الجزاء الكامل المناسب بسبب ما قدمته يداه ، وبسبب أنه ـ سبحانه وتعالى ـ الحكم العدل ، وعدله يقتضى معاقبة الفجار ، وإثابة الأبرار : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا ، وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) [سورة النجم آية ٣١] ، وما ربك بظلام للعبيد ، فيما يجازى به كلا على عمله.

صنف آخر أمره عجب!! يعبد الله عبادة ليست صادقة خالصة ، عبادة ليس فيها صدق نية ، ولا إخلاص في الطوية ، عبادة باللسان وترديد في الكلام. لم يدخل الإيمان قلبه ، ولم تخالط بشاشة الدين روحه ، فهو دائم القلق والاضطراب ، كمن يجلس على حرف الجبل وحده لا يهدأ له قرار ، ولا تسكن له نفس.

هؤلاء هم المنافقون ، أو المنافقون صنف منهم ؛ يعبدون الله على خوف وشيك ، فإن أصابه خير من غنيمة ومال ، وزيادة في النسل والإنتاج رضى عن هذا الدين.

وإن امتحن بالبلاء ، واختبر في الضراء بنقص في المال أو الأنفس ، أو هلاك في الثمرات والغلات ينقلب على وجهه ، ويرتد معلنا سخطه وعدم رضاه.

وهؤلاء خسروا الدنيا بما أصابهم ، وخسروا الآخرة إذ لا ثواب لهم على ما أصابهم فإنهم لم يصبروا ولم يحتسبوا.

وذلك هو الخسران الكامل ، والضلال المبين.

ومن ذكر من الكافرين أو المترددين المنافقين ، يدعو من دون الله ما لا يضره ، ولا ينفعه ، وإنما يتمسك ويتجه إلى ما لا يفيد أصلا ، بل لا ينفع نفسه ، وذلك هو الضلال الموغل في الضلالة البعيد جدا عن الصواب.

يدعو من ضره أقرب من نفعه ، إذ هو سبب كفره وعذابه ، لبئس هذا المولى والناصر ولبئس هذا العشير والصاحب.

٥٧١

ولا بد من وجود المؤمنين الموحدين مع هؤلاء ، وأولئك ليكون ثوابهم على إيمانهم كثيرا ، وها هم أولاء وجزاؤهم.

إن الله يدخل الذين آمنوا وأخلصوا في إيمانهم ، وعملوا الصالحات ، يدخلهم جنات تجرى من تحت أشجارها الأنهار ، لهم فيها نعيم مقيم ، وثواب عريض ، إن الله يفعل ما يريد ، من إكرام من يطيعه ، وإهانة من يعصيه.

الله ـ سبحانه وتعالى ـ ناصر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

(مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (١٥) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦))

تقدم الكلام على من يجادل في الله بغير علم ، ومن يعبد الله على حرف ، وهؤلاء كان يغيظهم ما يرون من حال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتفاف الناس حوله. فجاءت هذه الآية لقطع أطماعهم ، ورد كيدهم في نحورهم.

المعنى :

حكى القرطبي عن أبى جعفر النحاس قوله : «من أحسن ما قيل في هذه الآية أن المعنى من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه يتهيأ له أن يقطع النصر الذي أوتيه. (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ) أى : فليطلب أية حيلة يصل بها إلى السماء. (ثُمَّ لْيَقْطَعْ) أى : ليقطع النصر إن تهيأ له (فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ) وحيلته ما يغيظه من نصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

والفائدة في الكلام أنه إذا لم يتهيأ له الكيد والحيلة بأن يفعل مثل هذا لم يصل إلى قطع النصر.

٥٧٢

وذكر الزمخشري في كشافه أن المعنى :

«الله ناصر رسوله في الدنيا والآخرة فمن كان يظن من حاسديه وأعاديه أن الله يفعل خلاف ذلك ، ويطمع فيه ، ويغيظه أنه لم يظفر بمطلوبه فليستقص كل ما في وسعه ، وليفرغ مجهوده في إزالة ما يغيظه بأن يفعل ما يفعله من بلغ منه الغيظ كل مبلغ حتى لو مد حبلا إلى سماء بيته للانتحار فاختنق به منتحرا فلينظر ، وليصور في نفسه أنه إن فعل ذلك هل يذهب نصر الله الذي يغيظه».

وسمى الاختناق قطعا لأن المختنق يقطع حياته ، وسمى فعله وهو (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ) كيدا لأنه وضعه موضع الكيد حيث لم يقدر على غيره ، أو سمى كيدا على سبيل الاستهزاء لأنه لم يكد به محسوده ، وإنما كاد به نفسه.

ألست معى في أن هذا رد لأعداء الإسلام في أن يطمعوا في إحباط دعوة الإسلام؟! ألست معى في أن الله متم نوره ، ومؤيد رسوله ، وعاصمه من الناس ، ومؤيده بوحيه ، ومنزل عليه آياته البينات.

ومثل ذلك الإنزال أنزلنا القرآن كله آيات بينات واضحات ، يهدى به الله الذين يعلم أنهم مؤمنون ، وفي نفوسهم استعداد للإيمان بالغيب.

من مظاهر عدله وقدرته

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ

٥٧٣

وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (١٨))

المفردات :

(آمَنُوا) الإيمان : هو التصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر (وَالَّذِينَ هادُوا) وهم أتباع موسى ـ عليه‌السلام ـ لقولهم : (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) بمعنى رجعنا وتبنا (وَالصَّابِئِينَ) قوم يعبدون النجوم والكواكب (وَالنَّصارى) هم أتباع المسيح ـ عليه‌السلام ـ (وَالْمَجُوسَ) عبدة النار من الفرس وغيرهم وهم يقولون بأن هناك إلهين للخير والشر ، وللعالم أصلين نورا وظلمة (وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) هم مشركو العرب الذين يعبدون الأصنام والأوثان (يَسْجُدُ) يخضع وينقاد لما يجريه عليه من حكم.

المعنى :

إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يهدى من يريد لأنه يستحق الهداية على حسب ما اطلع على نفسه وميله في الأزل بحيث لو ترك وحده لاختار ما قدره الله له ، وهو يحكم بين الخلائق كلها بالعدل والقسطاس المستقيم ؛ فلا يظلم نفسا شيئا ، وإن كان مثقال حبة من خردل.

فالذين آمنوا بالله وكتبه واليوم الآخر ، وهم المسلمون الموحدون المؤمنون بالنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبإخوانه الأنبياء جميعا (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) [سورة البقرة آية ٢٨٥].

والذين هادوا وهم أتباع موسى ـ عليه‌السلام ـ ، ولو كانوا أتباعا له حقيقة ، ولم يغيروا ويحرفوا التوراة لآمنوا كذلك بعيسى ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

والصابئون الخارجون عن حدود الدين العابدون للكواكب ، والنصارى من أتباع عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله ، ولو كانوا كذلك لآمنوا بمحمد خاتم الأنبياء والرسل فدينه ينسخ كل ما تقدمه ، وفي التوراة والإنجيل البشارة الصحيحة بالنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٥٧٤

والمجوس عباد النار القائلون بوجود إله للخير وآخر للشر ، وللعالم أصلان هما النور والظلام.

هؤلاء جميعا يفصل الله بينهم بحكمه العدل ، ويقضى يوم القيامة ، فلا فضل لأمة على أمة ، ولا لعنصر على عنصر ولا غرابة في ذلك إن الله على كل شيء قدير ، وفي الكون شهيد ورقيب.

ألم تعلم أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض ، والشمس والقمر ، والنجوم والجبال ، والشجر والدواب؟!! ، وكيف لا تعلم والله أخبر به ، وخبره الصدق. لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

والسجود لله مطلق الانقياد لما أمر ، إذ الكل خاضع لأمره وتصريفه إذا قال للشيء كن فيكون.

وكثير من الناس يسجد سجود طاعة وعبادة فوق السجود العام الشامل له ولغيره. وكثير حق عليه العذاب لأنه أساء العمل في دنياه ، وفسق عن أمر مولاه.

ومن يهنه الله بأن يكتب عليه الشقاوة لما سبق عليه من كفره وفسقه وعصيانه ـ وقد كتب عليه ذلك لأنه يستحق كما قدمناه ، ولموافقته لما يعلمه الله من ميله إلى الشر ـ فما له مكرم أبدا ، ومن يكرم من أهانه الله؟!! إن الله نافذ أمره لا راد لقضائه ، ولا معقب لحكمه ، وهو يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. له الملك وله الحمد. وهو على كل شيء قدير :

الكافرون والمؤمنون وجزاء كل

(هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا

٥٧٥

أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٢٢) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (٢٤))

المفردات :

(خَصْمانِ) فريقان متنازعان (الْحَمِيمُ) الماء البالغ النهاية في الحرارة (يُصْهَرُ) الصهر : الإذابة (مَقامِعُ) جمع : مقمعة ، وهي : قطعة من الحديد اتخذت آلة للقمع سميت مقمعة لأنها تقمع المضروب أى : تذله (الْحَرِيقِ) أى : العذاب المحرق (مِنْ أَساوِرَ) جمع أسورة التي هي جمع سوار فالأساور جمع الجمع ، وهي حلية تلبسها النساء الآن في معاصمها (وَلُؤْلُؤاً) هو ما يستخرج من البحر من جوف الصدف (وَهُدُوا) أى : ارشدوا.

المعنى :

هذان فريقان من الناس يتميز كل منهما عن الآخر ، وقد اختصموا في شأن ربهم الذي خلقهم ، فريق منهم في الجنة ، وفريق في السعير ، فريق كفر بالله وبرسوله ، ولم يكن عنده استعداد للإيمان بالغيب والحياة الأخروية ، وفريق آمن بالله وبرسله وآمن بالغيب والحياة الآخرة.

أما الفريق الأول : فهم الذين كفروا ، وكان جزاؤهم أنه قطعت لهم ثياب من نار أى : سويت وجعلت لهم لباسا ، تراه قد شبه النار بالثياب لأنها مشتملة عليهم كاشتمال الثياب ، وقيل إنها ثياب من نحاس مذاب من شدة الحرارة فصار كالنار ، وهذه هي السرابيل التي ذكرت في قوله تعالى : (سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) (١)

__________________

(١) سورة إبراهيم الآية ٥٠.

٥٧٦

من سورة إبراهيم. وهؤلاء يصب من فوق رؤوسهم الحميم ، وهو ماء شديد الحرارة مغلى بنار جهنم ، ويا ويلهم من هذا العذاب!!

يذاب بذلك الماء الحار ويصهر به ما في بطونهم من الأمعاء ، وتحرق به جلودهم ولهؤلاء مقامع من حديد يضربون به على رؤوسهم لقمعهم وذلهم ، كلما أردوا أن يخرجوا من النار بسبب غمهم بها ، أعيدوا فيها بشدة حتى يأخذوا عذابهم كاملا غير منقوص ، ويقال لهم : ذوقوا العذاب المحرق فأنتم أهل له.

أما الفريق الثاني : فهم الذين آمنوا بالله ورسله وعملوا الصالحات ، فسيدخلهم ربهم جنات تجرى من تحت أشجارها الأنهار العذبة ، منها يشربون ، وبها يتمتعون ، ويحلون في الجنة أساور من ذهب خالص. ولؤلؤا ، ولباسهم فيها حرير.

وعلى ما أعتقد هذا تقريب وتمثيل لنفهم متاع الآخرة المادي وإلا ففي الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ، ورضوان من الله أكبر من ذلك كله لأنه النعيم الروحي الخالص.

هؤلاء لا غرابة في جزائهم هذا ؛ فهم قد هدوا إلى القول الطيب والعمل الصالح وهدوا إلى صراط العزيز الحميد ودينه القويم وهو الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.

اللهم وفقنا إلى هذا ، واحشرنا مع هؤلاء ، واهدنا الصراط المستقيم آمين.

روى مسلم عن قيس بن عباد قال : سمعت أبا ذر يقسم قسما إن (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) إنها نزلت في الذين برذوا يوم بدر : حمزة ، وعلى ، وعبيدة ابن الحارث ـ رضي الله عنهم ـ. وعتبة ، وشيبة ابنا ربيعة. والوليد بن عتبة. وبهذا الحديث ختم مسلم ـ رحمه‌الله كتابه ، وروى هذا الحديث عن ابن عباس مع التنصيص على أن هذه الآية نزلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة.

٥٧٧

صد الكفار عن المسجد الحرام وبيان مكانه

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٥) وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦))

المفردات :

(وَيَصُدُّونَ) الصد : المنع ، والفعل يفيد استمرار المنع (الْعاكِفُ) ، المقيم الملازم (وَالْبادِ) ، أى : أهل البادية (بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ) يقال : بوأته منزلا وبوأت له كما يقال : مكنتك ومكنت لك ، وقيل : بوأنا له مكان البيت ، أى : بيناه له.

ما مضى كان في بيان المؤمنين العاملين وجزائهم ، وهنا بيان للكفار المشركين ، وخاصة المعاصرين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا كالمقدمة لما يأتى.

المعنى :

إن الذين كفروا بالله ورسوله ، وهم يصدون عن سبيل الله صدا دائما مستمرا ، ولا شك أن المشركين صدوا الناس عن سبيل الله بما عملوا من أعمال ضد المسلمين في مكة وغيرها.

وهم يصدون عن سبيل الله ، وعن المسجد الحرام ، وقد صدوا رسول الله عن المسجد الحرام عام الحديبية ، وقد جعله الله للناس جميعا لصلاتهم وطوافهم وعبادتهم

٥٧٨

والناس من حيث كونهم ناسا ، العاكف فيه والبادي سواء وبهذا يعلم أن المسجد الحرام مكان عالمي عام للمسلمين جميعا يستوي فيه المقيم والمسافر ، ومع هذا فقد صدوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المسجد الحرام وأخرجوه من مكة بلده الحبيب مكرها.

ومن يرد فيه مكروها حالة كونه ملحدا ظالما ، أى : مائلا عن الحق والعدل بأى صورة كانت يكون جزاؤه أن الله يذيقه العذاب الأليم ، وإذا كان هذا هو حكم الله فيمن يرتكب المعاصي في المسجد الحرام ، سواء كانت صغيرة أو كبيرة ، فما بال من يصد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام ، ويكفر بالله فيه؟ إنه لظلم عظيم.

واذكر يا محمد للناس وقت أن بوأنا لإبراهيم مكان البيت ، وهيأنا مكانه ، وبيناه له على أن لا يشرك بالله شيئا ، وهذا نهى لإبراهيم ـ عليه‌السلام ـ ولأولاده من العرب.

وأمرناه أن يطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود ، يطهره من الأصنام والأوثان ، (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) ، وهذا تكريم لإبراهيم وتشريف للبيت ...

وإذا كان هذا هو موقف إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ ، وما أمر به فكيف يكون حال المشركين الذين يدعون أنهم من نسل إبراهيم وعلى ملته؟!

ثم هم يشركون بالله ، ويعبدون الأوثان ، ويرتكبون الإثم والعدوان في المسجد الحرام ، والبيت المقدس ، إن هذا لظلم فادح.

حج بيت الله الحرام

(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ

٥٧٩

عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩))

المفردات :

(رِجالاً) المراد : ماشين على القدم ، جمع راجل ، كتاجر وتجار (فَجٍ) الفج : الطريق الواسع (عَمِيقٍ) بعيد ، ومنه بئر عميق أى بعيدة القعر (الْبائِسَ) ذو البأس والشدة (الْفَقِيرَ) الذي أضعفه الإعسار وأجهدته الحاجة (لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) ليؤدوا. التفث أى الدرن والوسخ والمراد : تقصير الشعر وقص الظفر ، ونتف الإبط (الْعَتِيقِ) القديم ، وقيل : الكريم.

روى أنه لما فرغ إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ من بناء البيت ، وقيل له : أذن في الناس بالحج قال : يا رب! وما يبلغ صوتي؟ قال : أذن وعلى الإبلاغ ؛ فصعد إبراهيم خليل الله جبل أبى قبيس وصاح : يا أيها الناس إن الله قد أمركم بحج هذا البيت ليثيبكم به الجنة ويجيركم من عذاب النار ، فحجوا ، فأجابه من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء : لبيك اللهم لبيك. إن تعلمهم بوجوبه عليهم يأتوك سراعا حالة كونهم سائرين على القدم وراكبين.

المعنى :

يا إبراهيم أذن في الناس بالحج ، وأعلمهم بوجوبه ، وطالبهم به وهل الأمر لإبراهيم أو هو للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الله أعلم به.

الركائب ، يأتوك على كل ضامر من الإبل بسبب طول السفر ، وبعد الشقة ، إذ هم يحضرون من كل فج عميق وسفر بعيد ، وبلاد نائبة.

ومن هنا ومن قوله تعالى في سورة إبراهيم على لسانه (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) ندرك السّر الإلهى الذي أودعه الله في قلب كل مسلم نحو زيارة بيت

٥٨٠