التفسير الواضح - ج ٢

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ٢

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٨٨٤

ذلكم من الشاهدين الذين يدلون بالحجة على كلامهم ، ويصححون دعواهم بالبرهان كما تصحح الدعوة بالشهادة ، فأنا لست مثلكم إذ سندكم الوحيد ، وحجتكم في عبادة الأصنام أنكم تقلدون آباءكم ، ألا بئس ما تفعلون!!

ولقد أضمر إبراهيم الشر في نفسه لهذه الآلهة ، وأقسم بالله لا بد أن يلحق بها الأذى ، وهذه طريقة أراد بها أن يفهم القوم مركز آلهتهم حيث لم تدفع عن نفسها ضررا (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) (١) ، وأن يقيم الحجة عملا على أنها لا يمكن أن تلحق بهم أذى إذا تركوا عبادتها ، أو تكسبهم خيرا إذا عبدوها ، والبرهان العملي أوقع في النفس وأبعد عن التأويل والشك حيث لم يجد المنطق.

وذلك أنه كان لهم في كل سنة عيد يجتمعون فيه فقالوا لإبراهيم : لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا فقال إبراهيم في نفسه : (تَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) وقد تخلف عنهم بحجة أنه مريض (فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) [سورة الصافات آية ٨٩].

فلما ذهبوا دخل على الأصنام ، وأمامهم الأكل فجعلهم جذاذا وقطعا أى : كسرهم جميعا إلا كبيرهم فقد وضع الفأس على كتفه. وهذا هو الكيد الذي أقسم ليفعلنه بها وإنما فعل ذلك لعلهم إلى إبراهيم ودينه يرجعون ، حيث يرون أن الأصنام لم تقدر على دفع الأذى عن نفسها ، أو المعنى لعلهم إلى الصنم الأكبر يرجعون في تكسيرها ، ويحملونه تبعة ذلك ، ويسألونه أين كنت؟ ولما ذا كسرت تلك الأصنام؟ وأنت صحيح. والفأس على كتفك ، ولعل المعنى : لعلهم إلى هذا الصنم يرجعون استهزاء بهم وبآلهتهم.

ولما رأوا ذلك ، وقد غاظهم ما حل بآلهتهم قالوا ، من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين المتجاوزين الحد في عملهم.

قال بعضهم : سمعنا فتى يذكر الآلهة بسوء يقال له : إبراهيم فهو الذي فعل بهم ما فعل.

قال نمروذ وأشراف قومه. ائتوا به على أعين الناس ليكون ظاهرا بمرأى منهم حتى يروه ويشهدوا. فيكون ذلك حجة دامغة عليه.

__________________

(١) سورة الحج الآية ٧٣.

٥٤١

فلما حضر قالوا له : أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم؟ فقال لهم إبراهيم : بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون ، وفي تلك الإجابة تبكيت لهم ، ولفت لنظرهم ، وإثبات أنه الفاعل دون سواه حيث لم يكن إلا هو الصنم ، والصنم لا يمكنه أن يصدر منه ذلك فثبت أنه هو الفاعل بالدليل ولم يكن قصده نسبة الفعل للصنم مع أنه الفاعل حقيقة.

ولعل نسبة الفعل إلى الصنم من جهة أنه هو الذي غاظه كثيرا فحمله على التكسير فكأنه هو الفاعل للفعل.

فلما حاروا وبهتوا من إجابة إبراهيم ومناقشته لهم رجعوا إلى أنفسهم فقالوا : إنكم أنتم الظالمون ، ولكن أترى إبليس يتركهم يتوصلون إلى الحق؟! لا بل وسوس لهم وزين حتى أنهم بعد هذا نكسوا على رؤوسهم ورجعوا إلى الباطل يدافعون عنه وينغمسون في حمأته قائلين :

كيف تطلب منا سؤالهم؟ لقد علمت ما هؤلاء ينطقون!! قال إبراهيم مقاطعا ومفحما لهم فيما يتقولون : أتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا من النفع ولا يضركم شيئا من الضرر ، إذ أنه لا يقدر على الكلام أصلا ، ولم يمكنه أن يدفع عن نفسه شيئا؟!!

أف لكم!! ولما تعبدون من دون الله ، أعميتم فلا تعقلون شيئا أبدا؟!!

فلما أعيتهم الحيل كلها في إبراهيم وإسكاته ، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت : قالوا : لا ينفعه أبدا إلا الموت ، ولا يريحنا منه إلا إهلاكه ، وليكن هلاكه على أفظع صورة ، وبأقبح شكل ، وهو إحراقه بالنار فإذا تم ذلك كان لكم النصر ولآلهتكم الفوز ، إن كنتم فاعلين شيئا حقا فافعلوا هذا.

ولكن الله ـ سبحانه ـ الذي تكفل لعباده وخاصة الأنبياء بالحفظ والرعاية والكلاءة والمعونة أبى إلا نصر إبراهيم وحفظه من النار التي تذيب الحديد ، وتصهر المعدن والفولاذ.

قال الله : يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم فلم يشعر إبراهيم بشيء أبدا يؤلمه

٥٤٢

بل ظل يسبح بحمد الله ، ويشكر فضل الله الذي لا ينساه حتى خبت النار ولم يمس بسوء.

وهكذا تكون عناية الله ورعايته للأنبياء والأولياء والصالحين من عباده ، ألم تر إلى قريش وقد جمعت جموعها ، وتشاورت في أمرها. واتفقت فيما بينها على أن تقتل محمدا ، ولكن أين لهم هذا!! والله تعالى يقول : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة ٦٧] و

روى أبى بن كعب ـ رضى الله عنه ـ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أن إبراهيم حين قيدوه ليلقوه في النار قال : لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين لك الحمد ولك الملك لا شريك لك» قال ثم رموا به في المنجنيق من مضرب شاسع فاستقبله جبريل فقال : يا إبراهيم ألك حاجة قال «أما إليك فلا» ، فقال جبريل فاسأل ربك فقال. «حسبي من سؤالى علمه بحالي» فقال الله : يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم.

وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين ، ونجيناه ولوطا ابن أخيه إلى أرض الشام ، التي باركنا فيها حيث كانت مهبط الأنبياء ، وإحدى القبلتين ، وكانت من حيث الماء والزرع فيها بركة وخير للساكنين بها.

ووهبنا لإبراهيم إسحاق ، ومن ولده كان يعقوب جعلناه صالحا تقيا.

وجعلناهم أئمة مهديين يقتدى بهم في الخيرات ، وأعمال الصالحات كل ذلك يأمرنا ، وبما أنزلناه عليهم من الوحى والإلهام ، ومن هنا نفهم أن من ينصب نفسه إماما يجب أن يكون مهديا : بطبعه مصلحا لنفسه ثم يصلح غيره ، وأو حينا إليهم فعل الخيرات ، والطاعات ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وكانوا لنا عابدين مطيعين.

طرف من قصة لوط ونوح عليهما‌السلام

(وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ

٥٤٣

فاسِقِينَ (٧٤) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧))

المعنى :

وآتينا لوطا الحكم والنبوة ، والعلم والمعرفة ، بأمور الدين والدنيا ، وآتيناه علما نافعا وفهما سليما ، وتلك مقومات النبوة وأسسها ، وهكذا يعد الله ـ سبحانه ـ من يتحمل رسالته بما يجعله أهلا لها وأحق بها ، والله أعلم حيث يجعل رسالته.

ونجيناه من القرية (سدوم) التي بعث فيها ، وكانت تعمل الخبائث والمنكرات ، تلك القرية الظالم أهلها بالفسق والفجور ، إذ كانوا يأتون في ناديهم المنكر ، وكانوا يأتون الرجال من دون النساء كما تقدم في سورة هود.

وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين.

وهذا هو نوح الأب الثاني للبشر ، اذكر وقت أن نادى من قبل إبراهيم ولوط ، نادى داعيا على قومه فقال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) (١). فدعا ربه أنى مغلوب فانتصر ، ولم يدع على قومه بهذا إلا بعد أن دعاهم بالحسنى ألف سنة إلا خمسين عاما ولكنهم أبوا إلا العناد والكفر.

فاستجاب الله دعاءه وأنزل بهم العذاب ، وأغرقهم بالماء الذي هو مصدر الحياة ، فكان عندهم مصدر الفناء ، ونجا الله نوحا والمؤمنين معه من الغرق والكرب الشديد ، ونصره على القوم الكافرين المكذبين الذين كذبوا بآياتنا ، وذلك جزاء الظالمين.

فهل لكم يا كفار مكة أن تعتبروا وتتعظوا بمن سبقكم من قوم لوط ونوح وما حل بهم ، وكيف كان النصر للمؤمنين ، والعذاب الشديد للكافرين.

__________________

(١) سورة نوح الآية ٢٦.

٥٤٤

داود وسليمان عليهما‌السلام

(وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (٧٩) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (٨٠) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (٨٢))

المفردات :

(الْحَرْثِ) هو الزرع عامة ، وقيل : كان الحرث كرما. (نَفَشَتْ) : النفش : الرعي ليلا ، وفيه معنى التفرق في الزرع بلا نظام (لَبُوسٍ) اللبوس عند العرب السلاح بأنواعه ، والمراد في الآية الدروع خاصة (عاصِفَةً) شديدة الهبوب (يَغُوصُونَ) الغوص : النزول تحت الماء. والغواص : الذي يغوص في البحر على اللؤلؤ.

المعنى :

واذكر يا محمد داود وسليمان. اذكر خبرهما وقت أن يحكما في شأن الحرث إذ

٥٤٥

رعته غنم القوم ليلا. وكان الله ـ سبحانه ـ لحكم داود وسليمان ومن تابعهما شاهدا وحاضرا إذ لا يغيب عنه شيء ، ولا يكون إلا ما يريد ، ذكر المفسرون. أن رجلين دخلا على داود وعنده ابنه سليمان. أحدهما صاحب الحرث ، والآخر صاحب الغنم. فقال صاحب الحرث : إن هذا انفلتت غنمه ليلا فوقعت في حرثى ، فلم تبق منه شيئا ، فقضى داود بأن يأخذ صاحب الحرث الغنم ، فإنها تساوى قيمة الحرث التي أفسدته.

فلما سمع سليمان هذا الحكم رأى ما هو خير منه ، وأرفق بالجميع فقال : ينبغي أن تدفع الغنم إلى صاحب الحرث فينتفع بألبانها وسمنها وأصوافها ، ويدفع الحرث إلى صاحب الغنم ليقوم عليه حتى إذا عاد الزرع إلى حاله التي أصابته الغنم في السنة المقبلة رد كل واحد منهما ماله إلى صاحبه .. فقال داود يا بنى : القضاء ما قضيت ، وقضى بما قضى به سليمان وأقره. وهذا معنى قوله : ففهمناها سليمان ، أى : فهمنا سليمان القضية وحكمها العادل عدلا فيه تعويض وتعمير.

وكلا من داود وسليمان آتيناه حكما صحيحا ، وإدراكا للأمور سليما ، ومن هنا قيل : لكل مجتهد نصيب ، وفي الحديث الصحيح : أن الحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران. وإن اجتهد فأخطأ فله أجر.

وهل كان حكم داود وسليمان عن اجتهاد أو عن وحى؟ الظاهر أنه عن اجتهاد. ولما مدح الله داود وسليمان معا أخذ يذكر ما يختص به كل واحد منهما فبدأ بداود لأنه أب سليمان ، فقال : وسخرنا مع داود الجبال يسبحن.

فكان داود إذا سبح سبحت الجبال معه ، وقيل : كانت الجبال تسير مع داود فإذا رآها أحد سبح لله تعظيما له وتقديسا ، وسخرنا مع داود الطير تسبح كما يسبح ، وتمتثل أمره إذا أمر ، وكنا فاعلين.

وعلمنا داود صنعة دروع لكم تقيكم من بأس الحرب وشدته ، فهل أنتم شاكرون؟ ومعنى الاستفهام اشكروا الله على ما أسبغ عليكم من نعمه ، ووفقكم إلى ما فيه خيركم وسعادتكم ، والتركيب يفيد طلب الشكر طلبا شديدا.

ثم ذكر ما خص به سليمان ـ عليه‌السلام ـ فقال :

وسخرنا له الريح حالة كونها عاصفة شديدة الهبوب ، فهي تجرى بأمره وتخضع

٥٤٦

لحكمه ، وتنقله إلى الأرض التي باركنا فيها ، وهي أرض الشام كما تقدم ، وكان الله بكل شيء عليما.

وسخرنا له من الشياطين من يغوصون في البحار ، ويستخرجون من المعادن ما يحتاج إليه! ويعملون غير ذلك من بناء أبنية ، ومحاريب وجفان كالجواب وقدور راسيات ، وكنا لهم حافظين ، فلا هرب ولا إفساد ، ولا لعب بل كل يجتهد حسب ما يكلف.

هذه الآيات شهادة للعمال وأهل الحرف والصنائع ، بأن العمل شرف واتخاذ الحرفة كرامة ، ولقد قيل : صنعة في اليد أمان من الفقر ، وقد أخبر الله ـ سبحانه وتعالى ـ عن نبيه داود ـ عليه‌السلام ـ أنه كان يصنع الدروع ، وكان يأكل من عمل يده ؛ وكان نوح نجارا يصنع السفن ، ولقمان خياطا ، وهكذا التاريخ يحدثنا أن العمل كان ديدن الصالحين وطريق المؤمنين اثروا العمل على ذل السؤال وفي الحديث الشريف : «لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب خير له من أن يسأل النّاس أعطوه أو منعوه».

فالإسلام دين لا يعرف البطالة ولا الكسل بل هو دين العمل والجد ، والكسب والغنى ، ولكن عن طريق الحلال لا عن طريق الحرام.

ولقد يفهم الناس خطأ أن الإسلام يدعو إلى الفقر والزهد والمكث في المساجد وعدم العمل ، وهذا فهم خطأ ، وإنما يحث الدين على القناعة والإجمال في الطلب ؛ وعدم التكالب على الدنيا فإن ذلك قد يدفع صاحبه إلى التعدي على أخيه وظلمه إرضاء لشهوة المال وجمعه.

أيوب عليه‌السلام

(وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (٨٤))

٥٤٧

المفردات :

(الضُّرُّ) بفتح الضاد الضرر في كل شيء ، وبالضم الضرر في النفس من مرض وهزال.

المعنى :

واذكر يا محمد أيوب وخبره الحق وقت أن نادى ربه أنى مسنى الضر ولحقني التعب والهم ، وأنت يا رب أرحم الراحمين.

أما ضر أيوب الذي لحقه فالمفسرون جالوا في تحديده وصالوا ، وذكر القرطبي في ذلك خمسة عشر قولا. الأول : أنه وثب ليصلى فلم يقدر على النهوض فقال : مسنى الضر : إخبارا عن حاله لا شكوى لبلائه ، وهذا لا ينافي الصبر إلى آخر الأقوال التي ذكرت في تفسير الآية.

والناس يروون في بلاء أيوب أقوالا يوردونها تدل على أنه مرض مرضا مشوها ومنفرا للناس.

وهذا يتنافى مع منصب النبوة ، إذ الأنبياء منزهون عن الأمراض المنفرة ، ويمكن أن نفهم أن الابتلاء بهذا الشكل كان قبل النبوة فلما صبر وصابر اجتباه الله واختاره نبيا ، على أن المبالغين في تصوير ضر أيوب ومرضه إنما اعتمدوا فيما يقولون على ما جاء عند أهل الكتاب في السفر المسمى «سفر أيوب».

وبهذه المناسبة هذا السفر اختلفوا في وضعه هل هم اليهود. أو أيوب ، أو سليمان ، أو أشعيا ، أو رجل مجهول الاسم ، أو حزقيال ، أو عزرا؟

واختلف أهل الكتاب في زمانه هل هو معاصر لموسى؟ أو لأزدشير ، أو لسليمان أو لبختنصر ، أو كان زمان قبل إبراهيم إلخ ، حتى قال أحد علماء البروتستانت : إن خفة هذه الخيالات دليل كاف على ضعفها.

أما القول الحق فهو : أيوب عبد صالح امتحنه الله في ماله وأهله وولده وبدنه قصير ثم من الله عليه بالعافية ، وأعطاه أكثر مما فقد ، وأثنى عليه ثناء جميلا في القرآن وجعله نبيا ، ولم يكن عنده المرض المنفر.

٥٤٨

وساق قصته لثبوت رحمته للمؤمنين ، وكيف ينصر عباده المتقين ، ولتكون ذكرى للعباد في كل حين ، حتى لا ييأس إنسان من عفو الله ، ولا يطمع إنسان مؤمن في أنه لا يصاب بمكروه في الدنيا ابتلاء ومحنة ، وورد «أشدّ النّاس بلاء الأنبياء ثمّ الصّالحون ثمّ الأمثل فالأمثل» وصدق رسول الله.

إسماعيل وإدريس وذو الكفل

(وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٦))

المعنى :

وذكر إسماعيل وهو ابن إبراهيم ، وجد النبي ـ عليهم جميعا الصلاة والسلام ـ وإدريس نبي بعث بعد شيث وآدم ـ عليهم‌السلام ـ جميعا.

وأما ذو الكفل فالظاهر أنه عبد صالح ناب وأتاب إلى الله ـ سبحانه ـ ، وكان من بنى إسرائيل. روى من حديث ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : كان في بنى إسرائيل رجل يقال له ذو الكفل لا يتورع من ذنب عمله فأتبع امرأة فأعطاها ستين دينارا (على أن يطأها) فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته ارتعدت وبكت فقال : ما يبكيك؟ قالت من هذا العمل والله ما عملته قط! قال : أأكرهتك. قالت : لا. ولكن حملتني عليه الحاجة ، قال اذهبي فهو لك. والله لا أعصى الله بعدها أبدا ثم مات من ليلته فوجدوا مكتوبا على باب داره إن الله قد غفر لذي الكفل ، والله أعلم بصحة هذا الحديث!

وإسماعيل ، وإدريس ، وذو الكفل كلهم من الصابرين المحتسبين ، وأدخلناهم في رحمتنا ، وشملناهم بعطفنا وتوفيقنا. وذلك لأنهم كانوا من الصالحين القانتين.

وقد ذكر القرطبي في تفسيره بعد أن ساق الحديث السابق في ذي الكفل روايات قال عمر بن عبد الرحمن بن الحارث ، وقال أبو موسى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن ذا الكفل

٥٤٩

لم يكن نبيا ، ولكنه كان عبدا صالحا فتكفل بعمل رجل صالح عند موته إلى آخر ما ذكر ... ولكن سياق الآية وفي سورة (ص) التي ذكر فيها كثير من الأنبياء (وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ) (٤٨) من سورة (ص) أليس دليلا على أنه نبي؟! على أن الكشاف : صرح بأنه نبي وله اسمان إلياس وذو الكفل أى : ذو الحظ الكثير.

يونس عليه‌السلام

(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨))

المفردات :

(وَذَا النُّونِ) هو يونس ـ عليه‌السلام ـ. صاحب الحوت ، والنون هو الحوت (نَقْدِرَ) من القدر والتقدير الذي هو القضاء والحكم ، والمراد فظن أن لن نقضي عليه بالعقوبة. ، ويؤيد هذا قراءة نقدر وقيل المراد : أى نقتر يقال قدر يقدر أى : يقتر عليه وقوله تعالى (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) أى : يبسط ويقتر ؛ أى : فظن أن لن نضيق عليه.

قصة يونس ـ عليه‌السلام ـ صاحب الحوت من المواضع الدقيقة في القرآن الكريم التي تحتاج من الباحث سعة اضطلاع وحسن تصرف ، وذلك أن القصة ذكرت في سورة الأنبياء كما هنا ، وفي سورة (ص) الآتية ، وفيهما يقول الله : (إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) ، ويقول في سورة (ص) (إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) ويقول كما هنا (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ). (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ).

٥٥٠

وظاهر نصوص القرآن الكريم تثبت ليونس أنه غاضب. فممّن غاضب؟!. ، وأنه أبق! وأنه ظن أن لن نقدر عليه ، وأنه كان من الظالمين .. ، وهذا بلا شك لا يليق بالأنبياء على أن هذا الموضوع سيجرنا إلى البحث عن عصمة الأنبياء وإلى أى مدى تكون ، ويحملنا كذلك على تأويل تلك النصوص بما يتفق وروح الدين ؛ والقول الحق في نظري عن عصمة الأنبياء خلاصته : أن الأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ معصومون عن الكبائر مطلقا. وأما عن الصغائر فهم معصومون على الإتيان بها عمدا في حال النبوة ، وإن جاز أن يقع منهم شيء فهم متأولون أو ناسون وهذه تعتبر ذنوبا في حقهم ، وإن كانت غير ذنوب عند أممهم نظرا لما لهم من القرب والاتصال بالحضرة العلية ، وصدق من قال : حسنات الأبرار سيئات المقربين ، وموضوع كلامنا قصة يونس فنقول : سائلين الله أن يحفظنا من الخطأ.

المعنى :

واذكر يا محمد ذا النون وهو يونس إذ ذهب مغاضبا لله ، أى : لأجل الله فيونس غاضب قومه من أجل ربه إذ يكفرون به ولا يصدقون برسله.

والظاهر أن يونس أرسل إلى قومه فعصوه ، ولم يتبعه إلا القليل ، وكان ذلك مما يحز في نفسه ويؤلمه ويغضبه ، وكان يونس ضيق الصدر شديد الإخلاص لقومه كثير الحرص عليهم فهذا كله يجعله يغضب ويثور ، وما هكذا تكون الأنبياء والرسل انظر إلى الله يقول لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ) (١) وكثيرا ما كان يعالج القرآن ذلك عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المعصوم والمبرأ من كل عيب فيقول : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) [سورة هود آية ١٢].

ولهذا كان الأنبياء الذين بالغوا في الصبر والمثابرة وهم ـ إبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ونوح. ومحمد ـ صلوات الله عليهم جميعا ـ أولى العزم.

فيونس ذهب مغاضبا من أجل عصيان ربه ، وليس مغاضبا ربه أو آبقا حقا ، وإلا كان من مرتكبا لكبيرة لا تليق بالفرد العادي فما بال يونس النبي الكريم؟! الذي يقول فيه المصطفى «لا تفضّلونى على يونس بن متّى».

__________________

(١) سورة القلم الآية ٤٨.

٥٥١

إذا فهو مغاضب من أجل ربه ، وكان في خروجه من عند قومه في صورة الآبق وهذا لا يليق بنبي كريم ولذا كان العتاب وكان وصفه لنفسه أنه من الظالمين ؛ وأما قوله تعالى : (أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) فالمعنى فظن يونس أن لن نقتر عليه ونضيق بل نتركه يسير حيث أراد ، أو فظن أن لن نقدر عليه من القدر أى : فظن أن لن نقضي عليه بالعقوبة.

والذي ذكر في قصته أنه خرج مغاضبا من أجل ربه خرج في صورة الآبق إلى ساحل البحر فوجد سفينة فركبها ، وهو هائم على وجهه فلما سارت السفينة إلى عرض البحر اضطربت واهتزت وأشرفت على الغرق فقال ربانها : لأن يغرق شخص خير من أن نغرق جميعا فاستهموا فخرج سهمه فألقى في البحر فالتقمه الحوت وهو مليم ، (فعل فعلا يلام عليه) إذ كان الأولى أن يصبر حتى يأتى أمر الله في قومه ، فلما قر في جوف الحوت أدرك نفسه وعرف موقفه فنادى في الظلمات ظلمة الليل ، وظلمة البحر ، وظلمة جوف الحوت : أن لا إله إلا أنت سبحانك يا رب!! إنى كنت من الظالمين فاغفر لي يا رب فغفر الله له ونجاه مما هو فيه ، وكذلك ينجى الله المؤمنين. فاعتبروا يا أولى الأبصار واتعظوا بهذا. أما قومه فلما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) [يونس ٩٨].

زكريا. ويحيى. ومريم

(وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ

٥٥٢

وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (٩٠) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (٩١))

المفردات :

(لا تَذَرْنِي) لا تتركني (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ) والمراد : حفظت نفسها والإحصان العفة فإنها تحصن النفس من الذم والعقاب.

المعنى :

واذكر زكريا وقت ان نادى ربه نداء خفيّا ، وقال إنى وهن العظم منى واشتعل الرأس شيبا ، وقد عودتني الجميل وإجابة الدعاء ، يا رب : لا تذرني وحيدا لا ولد لي وأنت الباقي بعد فناء خلقك ، فأنت حسبي ونعم الوكيل ، فإن لم ترزقني ولدا يحمل عبء الرسالة من بعدي فإنى أعلم أنك لا تضيع دينك ، وأنه سيقوم بذلك من عبادك من تختاره وترتضيه.

فاستجاب الله دعاءه ، ووهب له يحيى ولم يجعل له من قبل شبيها ولا نظيرا وأصلح الله له زوجه خلقا حتى صارت تحمل ولدا بعد أن كانت عقيما ، وخلقا حتى صارت مثله في الخلق الطيب.

ولا عجب في هذا فإن زكريا ويحيى وزوجه كانوا دائما يسارعون في الخيرات ، ويتسابقون في عمل الصالحات.

وقيل : إن الأنبياء جميعا كانوا دائما يتسابقون مسرعين في عمل الخيرات ، وهذا تعليل لإكرام الله لهم ، وإجابته طلبهم ، فاعتبروا أيها الناس .. وكانوا يدعوننا رغبا ورهبا ، وفي الرخاء والشدة ، وفي المنشط والمكره ، وكانوا لنا خاشعين متواضعين متضرعين.

٥٥٣

واذكر مريم البتول التي أحصنت فرجها وأعفت نفسها وحفظتها من كل عيب وذم فنفخنا فيها من روحنا ، وقد تقدم قول الله في آدم (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) (١) أى : أحييته ، فيكون المعنى هنا : فأحيينا عيسى الذي هو في بطن مريم.

وجعلناها وابنها آية على القدرة القادرة لله ـ سبحانه وتعالى ـ ، فقد خلق عيسى من غير أب كما خلق آدم من غير أب وأم ، فجعل عيسى آية للناس جميعا.

وذكر مريم وإن لم تكن من الأنبياء هنا لأجل عيسى ابنها.

الوحدة الكبرى عند الرسل جميعا وجريان السنن على وتيرة واحدة

(إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (٩٣) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (٩٤) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (٩٥) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (٩٧))

__________________

(١) سورة الحجر الآية ٢٩.

٥٥٤

المفردات :

(أُمَّتُكُمْ) ملتكم (حَدَبٍ) أى : مرتفع (شاخِصَةٌ) يقال : أبصار وعيون شاخصة إذا كانت لا تكاد تطرف من هول ما هي فيه.

المعنى :

بعد ما ذكر أخبار الماضين من الرسل وأقوامهم ، وظهر أنهم جميعا يسارعون في الخيرات ، ويدعوننا رغبا ورهبا ، وكانوا لله خاشعين ، وعليه متوكلين ، وله مسلمين ، دينهم التوحيد الخالص ، والإيمان بالله ورسله وكتبه ، أشار ـ سبحانه وتعالى ـ إلى الدعوة المحمدية على أنها ليست بدعا وليس صاحبها بدعا من الرسل.

إن هذه الملة المحمدية هي ملتكم التي يجب أن تتمسكوا بها ، ولا تنحرفوا عنها ، هي ملة واحدة كما عرفتم من الأمم مع أنبيائهم ، أعنى ملة واحدة غير مختلفة في الأصول والعقائد (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) [سورة آل عمران آية ٦٤].

إن هذه أمتكم أمة واحدة ، وأنا ربكم الواحد الأحد ، الفرد الصمد فاعبدوني ، ولا تشركوا بي شيئا ، وآمنوا برسلي خاصة خاتم النبيين محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

حول الخطاب إلى الغيبة كأنه ينقل أخبارهم إلى قوم آخرين ، على معنى : ألا ترون ما ارتكب الناس من مخالفات في دين الله ، لقد جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعا ، كما يوزع الجماعة الشيء ، ويقتسمونه فيكون لهذا قطعة ولذاك قطعة ، وهذا تمثيل لاختلافهم وكونهم أحزابا وفرقا شتى ، وما علموا أن الكل إلينا راجع ، وكلهم واردون على حساب شديد يوم الفزع الأكبر ، فاحذروا أيها الناس أن تكونوا مثلهم.

فإن من يعمل بعض الصالحات وهو مؤمن فسيأخذ جزاءه كاملا غير منقوص ، ولا كفران لسعيه أبدا ، وإن عمله مكتوب عند الملائكة ، وفي كتابه الذي يلقاه بيمينه (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً).

(وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ). نعم حرام على قرية أردنا

٥٥٥

إهلاكها وقدرناه لها أنهم يرجعون عن الكفر إلى الإسلام ، ويثوبون إلى رشدهم فأولئك ختم الله على قلوبهم وعلى أبصارهم فهم لا يؤمنون أبدا ..

وقوله : (حرام) مستعار لمنع الوجود ، كقوله في آية أخرى (إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ) [سورة الأعراف آية ٥٠] ، أى : منعهما.

ومعنى الآية بإيجاز : إن قوما ما أراد الله إهلاكهم لعلمه بحالهم غير متصور أبدا أن يرجعوا إلى الإسلام وحدوده إلى أن تقوم القيامة ، وحينئذ يثوبون إلى رشدهم ويقولون : يا ويلنا إنا كنا في غفلة من هذا ، بل كنا ظالمين!! فهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم ، وعلى ذلك فقوله تعالى : (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) غاية لما قبلها كما ذكرنا ذلك ، ولا في قوله (لا يَرْجِعُونَ) صلة أى زائدة للتأكيد. وهذا شيء مألوف في الأساليب العربية.

وقيل إن معنى الآية : حرام على قرية أهلكناها أن أهلها لا يرجعون إلينا يوم القيامة للحساب إذ الجزاء ليس في الدنيا فقط ...

وقوله تعالى : (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) إلى آخر الآية. مظهر من مظاهر يوم القيامة ، أى إذا فتحت قبور يأجوج ومأجوج وهم الناس جميعا ، وقد خرجوا من قبورهم ، وأقبلوا من كل حدب يسرعون ، ويؤيد هذا قراءة ابن عباس ، «وهم من كل جدث (قبر) يسرعون» وهذا هو النشر بعينه.

واقترب الوعد الحق فإذا هي الأبصار شاخصة أى : أبصار الذين كفروا من هول ما رأوا لا تطرف أبدا ، ويقولون : يا ويلنا وهلاكنا قد كنا في غفلة من هذا!! ولم نعمل حسابا لهذا الموقف ، بل لم نؤمن أبدا بل كنا ظالمين لأنفسنا ولغيرنا.

وفي التفسير المأثور يروون في قوله تعالى : (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) أن المراد حتى إذا فتح سد يأجوج ومأجوج ، وذلك يكون في الدنيا ، وأنهم يعيثون في الأرض فسادا ، ويخرجون ويدمرون ثم يهلكهم الله بعد ذلك ، وذكر ابن كثير في تفسيره أحاديث تثبت هذا.

والذي يمنع ذلك أنه ليس هناك سد مادى موجود في الدنيا ، فإذا تأولنا في السد جاز أن نفهم في تحقيق ذلك جواز طغيان المبادئ الهدامة المنتشرة في روسيا والصين

٥٥٦

وأصحابهما في يوم من الأيام ، واكتساحهم العالم ، وسيبقى نفر قليل من المسلمين كما روى الحديث ويكون هلاكهم من الله ـ سبحانه وتعالى ـ ، والآية على هذا ذكرت مقدمة من مقدمات قيام الساعة ، والله أعلم بكتابه.

نهاية الكافرين ونهاية المؤمنين

(إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (٩٩) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (١٠٤) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦))

٥٥٧

المفردات :

(حَصَبُ جَهَنَّمَ) حطب جهنم ووقودها ، وكل ما ألقيته في النار قد حصبتها به (وارِدُونَ) داخلون (زَفِيرٌ) الزفير : صوت نفس المغموم الذي يخرج من القلب (حَسِيسَها) صوتها وقيل : حركاتها (مَا اشْتَهَتْ) الشهوة : طلب النفس اللذة (الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) هو النفخة الثانية (نَطْوِي) الطى ضد النشر (السِّجِلِ) هو الصحيفة والمراد كطىّ الصحيفة على ما فيها من الكتابة (الزَّبُورِ) زبرت الكتاب أى كتبته ، وعلى ذلك صح إطلاق الزبور على التوراة والإنجيل والقرآن ...

ترتيب عجيب محكم ، هذه الآيات الكونية ناطقة بالتوحيد ، وهؤلاء هم الرسل جميعا يدعون إليه فما حال من يشرك بعد ذلك؟!!

لقد ذكرت الآيات مشهدا من مشاهد يوم القيامة تجلت فيه نهاية الموحدين والمشركين روى عن ابن عباس : أنه لما نزلت آية (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) شق على كفار قريش ذلك ، وقالوا : شتم آلهتنا ، وأتوا ابن الزبعرى وأخبروه فقال : لو حضرت لرددت عليه قالوا : وما كنت تقول؟ قال : كنت أقول له : هذا المسيح تعبده النصارى ، وعزير تعبده اليهود ، أفهما من حصب جهنم؟ فعجبت قريش من مقالته ، ورأوا أن محمدا قد خصم ، أى : غلب في المخاصمة ، فأنزل الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) وفيها نزل (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) أى : يضجون من سورة الزخرف.

المعنى :

إنكم أيها الكفار والمشركون أنتم وما تعبدون من دون الله من صنم أو وثن أو شيطان أو حيوان أو نجم أو غيره حصب جهنم ووقودها (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) (١) أنتم جميعا لها واردون ، وفيها داخلون. وانظر يا أخى إلى نار وقودها الناس والحجارة!! وقالوا : إن المراد بالحجارة حجارة الكبريت. وقانا الله شرها.

انظر إلىّ بعقلك ، وتفهم قول الحق ـ تبارك وتعالى ـ فإنه أوضح من الشمس.

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢٤.

٥٥٨

لو كان هؤلاء الذين عبدوهم آلهة تنفع وتضر كما هو مقتضى العبادة لما وردوا النار ، ودخلها العابدون والمعبودون!!

وكل منهم في جهنم خالدون معذبون عذابا شديدا ، لهم فيها من شدة الكرب والهم ـ والعياذ بالله ـ زفير وشهيق ، ولهم صوت يدل على شدة الألم ، ومنتهى الهم والحزن ، وهم فيها لا يسمعون بل هم صمّ بكم عمى (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا) [سورة الإسراء آية ٩٧].

هذه عاقبة الكفر ومآله.

أما من آمن وعمل صالحا فلا ضير عليه أبدا ، وإن عبده غيره إذ لا ذنب عليه وما ذنب المسيح؟ والعزير ، وعلى بن أبى طالب مثلا وما ذنب الملائكة التي عبدها بعض الناس؟! فهم داخلون الجنة في قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) أى : الجنة بسبب أعمالهم الطيبة لا يسمعون صوت النار ولا يصيبهم شررها أولئك عنها مبعدون ، وهم في جنات الخلد يمتعون بما اشتهته أنفسهم ، وبما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ* نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) [سورة فصلت الآيتان ٣١ و ٣٢].

وهم فيها لا خوف عليهم ولا هم يحزنون أبدا ، لا يحزنهم الفزع الأكبر ، والهول الأعظم الذي ينتاب غيرهم فيزلزل قلوبهم ، ويهز كيانهم ، وتتلقاهم الملائكة بالبشر والترحاب مسلمين عليهم (سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) [سورة الزمر آية ٧٣] قائلين لهم : (هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) فيه الكرامة والمثوبة والحسنى.

وهذا كله يكون يوم يطوى الله السماء ويضعها بعد نشرها كما نرى ، كطي الصحيفة للكتاب المكتوب فيها ، إنه لتصوير رائع لقدرة القادر الذي يطوى عوالم السماء كما تطوى صحيفة كتابك! سبحانك يا رب! إنك على كل شيء قدير.

طويت السماء بعد أن كانت منشورة ، وأعدت الخلق أحياء كما كانوا في الدنيا ، تعيد الخلائق كما بدأتها تشبيها للإعادة بالبدء في تناول القدرة لهما على السواء فكما أوجدت الخلائق أولا من العدم إلى الوجود تعيدها كذلك من العدم إلى الوجود بل

٥٥٩

هو أهون عليه ـ سبحانه وتعالى ـ في نظرنا. وعد ذلك وعدا عليه ، وكان وعد ربك مفعولا ، ومن أصدق من الله حديثا (إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ). ولقد كتبنا في الكتب التي أنزلت على الأنبياء جميعا من بعد الذكر أى : في أم الكتاب أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ، وقد حكم أن يرثها عباده الصالحون ، والأرض هي الجنة فهي التي يستحقها الصالحون المؤمنون كما يستحق الوارث ميراث أبيه.

وبعض العلماء يرى أن الأرض أرض الكفار ، ويرثها العباد الصالحون المؤمنون القائمون بأمر الدين الحاكمون بالقرآن المتمسكون بهدى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا رأى حسن بلا شك فقد جعل الله العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ، ولم يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا ، ولكن يا أخى أين نحن من القرآن؟ وأين المسلمون الصالحون؟!.

وبعض الناس يرى أن الأرض هي أرض الدنيا ويرثها أى يملكها العباد الصالحون لعمارتها ، ولكن هذا لا يعبأ به حتى يكتب في جميع الكتب : وأما قول بعضهم إن الأرض يأخذها المؤمن الصالح لا الكافر فهذا مردود بالواقع المحسوس .. والله أعلم بكتابه.

إن في هذا الذي تقدم من أول السورة إلى هنا من توجيه أنظارنا لآيات الله الكونية ، ومن قصص لنا فيها عبر ومواعظ وحكم. لبلاغا ـ والبلاغ الكفاية ، وما تبلغ به البغية ، وما تنال به الرغبة ـ ولكن يكون لقوم عابدين خاضعين قانتين إذ هم المنتفعون بهذا البلاغ.

موقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الناس

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (١٠٩)

٥٦٠