التفسير الواضح - ج ٢

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ٢

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٨٨٤

فأولئك جزاؤهم بعد البعث شراب ماء ساخن يشوى البطون ، بئس الشراب شرابهم ، ولهم بعد ذلك عذاب مؤلم للغاية ، بما كانوا يكفرون.

هو الله ـ سبحانه ـ الذي جعل الشمس ضياء للكون ، ومصدر للحياة ، ومبعثا للحرارة والحركة للكائن الحي من حيوان ونبات ، وجعل القمر نورا يستضيء به السارى في الليل ، وقدر له منازل لتعلموا عدد السنين والحساب.

ولقد كان للعلماء أبحاث عن الضوء والنور ، وآراء لسنا في حاجة إلى ذكرها بعد ما ثبت علميا أن الشمس مصدر النور ، فالشعاع الواقع منها على الأرض مباشرة هو ضوؤها ، والواصل إلينا بعد انعكاسه على القمر [وهو جسم مظلم] يسمى نورا فنور القمر من الشمس عن طريق الانعكاس كالمرآة.

والقرآن فرق بين الشمس والقمر في كثير : (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) (١). (وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً) (٢) والسراج ما كان نوره من ذاته ، وهذا يؤيد من يقول : إن الضوء ما كان بالذات كالشمس والنار ، والنور ما كان بالعرض والاكتساب من النير كنور القمر ، وعلى العموم فالواجب معرفته واعتقاده أن تعبير القرآن الكريم لأسرار إلهية قد تخفى علينا حينا من الدهر ، ويكشف عنها العلم والبحث ، وليس معنى هذا الجري وراء الاصطلاحات العلمية إذا تعارضت مع النص القرآنى ، فالعلم نظرياته قد تسلم اليوم ، وتنقض غدا.

قدر الله للقمر مقادير مخصوصة في الزمان والمكان والهيئة ، لا يتعداها أبدا ومنازل القمر أماكن نزوله (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) (٣) أى : قدره لسيرة في فلكه ، في منازل ينزل كل ليلة منها لا يتخطاها أبدا [وهي معروفة في علم الفلك] هذا لتعلموا به عدد السنين والحساب للأشهر والفصول والأعوام ، وذلك لضبط عبادتكم من صيام وحج ومعاملات ، ولعل السر في اختيار القرآن السنة القمرية والحساب بها لأنه أسهل على البدوي والحضري وأما السنة الشمسية فحسابها يحتاج إلى علوم وقواعد ، ولكل فائدة.

ما خلق الله ذلك إلا بالحق ، نعم ما خلق هذا الكون ، وجعل فيه الشمس ذات

__________________

(١) سورة نوح آية ١٦.

(٢) سورة الفرقان آية ٦١.

(٣) سورة يس آية ٣٩.

٤١

الضياء والحرارة التي تفيض على الكون حياة ونورا. وما خلق القمر ونوره الذي يهدى السارى ويوقفنا على الزمن وحسابه ، ما خلق ذلك كله إلا بالحق المقرون بالحكمة العالية لنظامنا في الحياة.

وكيف يتصور من خالق الأكوان ، وواهب الوجود وخالق الشمس وضيائها والقمر ونوره ، على هذا النظام البديع المحكم ، أن يترك الإنسان الذي كمله بالعقل والبيان وكرمه على جميع خلقه أن يتركه بلا حساب ولا ثواب؟

تفصل الآيات الكونية الدالة على عظمتنا وقدرتنا ، والآيات القرآنية ، تفصل ذلك كله وتجليه ، ولكن لا يهتدى به إلا القوم العالمون الذين يعلمون وجوه الدلالة ويميزون بين الحق والباطل.

إن في اختلاف الليل والنهار ، وتعاقبهما طولا وقصرا ، وحرارة وبرودة ونظامهما الدقيق وكون الليل لباسا والنهار معاشا ، وإن في خلق السموات والأرض وما فيهما من عوالم لا يحيط بها إلا خالقها ، إن في هذا وذاك لآيات واضحات على قدرة الله وحكمته وعظمته وكمال علمه ، ولكن هذه الآيات لقوم يتقون الله ويؤمنون بالغيب ، أما الماديون الطبيعيون فلا يعتبرون بذلك أبدا. (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) (١).

المؤمن والكافر وعاقبة كل

إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا

__________________

(١) سورة يوسف الآية ١٠٥.

٤٢

وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠)

المفردات :

(لا يَرْجُونَ) لا يتوقعون لقاءنا (مَأْواهُمُ) ملجأهم الذي يلجئون إليه ، هذا توضيح لما سبق في آية ٤.

المعنى :

إن الذين لا يتوقعون لقاءنا في الآخرة للحساب لأنهم لا يؤمنون بالبعث والجزاء ، هؤلاء لا يخافون عذاب الله ، ولا يرجون ثوابه ، وقد رضوا بالحياة الدنيا ونعيمها بدل الآخرة وما فيها ، واطمأنوا بها لسكون أنفسهم إلى شهواتها ولذاتها ، والذين هم عن آياتنا القرآنية وآياتنا الكونية غافلون فلا يتدبرون ، ولا يتعظون ، أولئك ـ والإشارة للفريقين ـ ، وما فيها من معنى البعد لبعد مكانتهم في الضلال ، أولئك مأواهم النار ، وملجأهم الذي يلجئون إليه ، سبحانك يا رب!! النار يوم القيامة هي ملجأ الكافر والويل كل الويل لمن تكون النار مأواه وملجأه.

وذلك بما كانوا يكسبون من أعمال كلها تتنافى مع العقل والحكمة والدين .. هذا جزاء الفريق الكافر أما المؤمن فهذا جزاؤه.

إن الذين آمنوا بالله وصدقوا برسله ، وعملوا الصالحات الباقيات يهديهم ربهم إلى الخير والسداد ، والهدى والرشاد ، يهديهم ربهم إلى كل عمل يوصل إلى الجنة التي وصفها بقوله : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) وهذا مثل للراحة والسعادة والهدوء في الجنة وقد تقدم كثيرا.

٤٣

دعواهم فيها سبحانك اللهم ، وتحيتهم فيها سلام ، وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين : أوصاف ثلاثة ، وكلمات ثلاث تبين لنا كيف يتنعم أصحاب الجنة .. فدعاؤهم ، وطلبهم من المولى ، وثناؤهم عليه ـ سبحانه ـ يبدءونه بهذه الكلمة : سبحانك اللهم على معنى تنزيها لك وتقديسا لجلالك يا الله.

وأما التحية فيها بينهم وبين أنفسهم ، وبينهم وبين الملائكة ، وتحية الله لهم هي : سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الصابرين.

وآخر دعواهم في كل حال لهم : أن الحمد لله رب العالمين ..

من طبائع الإنسان وغرائزه

(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤))

المفردات :

(يُعَجِّلُ) تعجيل الشيء تقديمه على أوانه المضروب له ، والاستعجال به طلب

٤٤

التعجيل في طغيانهم مجاوزة الحد (يَعْمَهُونَ) يترددن (الضُّرُّ) الشدة من ألم أو خطر أو شدة مسغبة (لِلْمُسْرِفِينَ) الإسراف تجاوز الحد (الْقُرُونَ) جمع قرن وهم القوم المقترنون في زمان واحد (خَلائِفَ) جمع خليفة وهو من يخلف غيره في الشيء أى : يكون خليفة له.

المعنى :

العجلة من غرائز الإنسان (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) (١) فهو دائما يتعجل الخير لأنه يحبه ، ولا يتعجل الشر إلا في حال الغضب والحماقة والعناد والتعجيز ، ظنا منه أن ما أقدم عليه خير مما هو فيه كالمنتحر.

ولو يعجل الله للناس الشر الذي يستعجلونه مخالفين طبعهم وغريزتهم ، مدفوعين بدافع الجهالة والحماقة والتعجيز كاستعجال كفار مكة للعذاب وإلحاحهم في نزوله تعجيزا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتكذيبا له ، وذلك حينما قص عليهم القرآن نبأ المكذبين من أقوام الرسل السابقين (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ) (٢). (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٣).

ولو يعجل الله للناس إجابة الشر الذي يطلبونه كاستعجالهم بالخير الذي يرغبونه لذاته بدعاء الله ـ تعالى ـ أو بأخذهم بالأسباب ، لقضى إليهم أجلهم ، وانتهى أمرهم وهلكوا كما هلك الذين كذبوا الرسل ، واستعجلوا العذاب من قبل. ولكن الله رحم العالم كله بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاتم النبيين ، المرسل رحمة للعالمين إلى يوم القيامة ، وقضى بأن يؤمن به العرب من قومه وغيرهم ومن يكفر يعاقبه الله بالقتل أو يؤخره إلى يوم القيامة ، وهذا معنى قوله : فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم وضلالهم يعمهون ويترددون ، أما عذاب الخسف والاستئصال فمنعه عنا إكراما لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وهاك بيان لغريزة الإنسان العامة وشأنه فيما يمسه من الضر.

__________________

(١) سورة الإسراء آية ١١.

(٢) سورة الرعد آية ٦.

(٣) سورة الأنفال آية ٣٢.

٤٥

وإذا مس الإنسان الضر من ألم أو خطر أو شدة ، دعانا واتجه إلينا مضطجعا لجنبه أو قاعدا أو قائما ، دعانا ملحا في كشفه عنه ، ومن هنا يعلم أن استعجال الكفار للشر من طغيانهم فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه.

مثل ذلك الذي عرفت من اتجاه إلى الله في الشدة وتركه في الرخاء زين للمسرفين ما كانوا يعلمونه.

وهكذا الإنسان يستعجل الشر ، ولا يلجأ إلى الله إلا في الشدة والضر إن الإنسان كان ظلوما جهولا (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) [سورة العصر الآية ٣].

هكذا الإنسان وتلك سنة الله في الأمم ، ولن تجد لسنته تبديلا فاعتبروا يا أولى الأبصار ، وانظروا يا أهل مكة ، ماذا أنتم فاعلون؟!! تالله لقد أهلكنا الأمم التي مضت من قبلكم يا كفار مكة ، وكانوا أكثر منكم قوة لما ظلموا أنفسهم بالبغي والطغيان ، وقد جاءتهم رسلهم بالآيات البينات التي تكشف لهم عن حقيقة الدنيا ، والتي تناديهم بوجوب اتباع الرسل الكرام ، وما كانوا ليؤمنوا لأن نفوسهم مرنت على الظلم والكفر ، واطمأنوا إلى الدنيا ، ومالوا إليها فصارت أعمالهم كلها فسقا وظلما وجورا ، ومن كان كذلك لا يتصور منه إيمان ، مثل ذلك الجزاء على الظلم من الإهلاك وإنزال عذاب الاستئصال ، أو ضياع الأمة بالضعف والانحلال نجزى القوم المجرمين ، وهكذا سنة الله في الخلق فاعتبروا يا أهل مكة ثم جعلناكم يا أمة محمد ـ أمة الدعوة ـ خلفاء لمن تقدمكم ، وأرسلنا لكم محمدا خاتم النبيين لننظر كيف تعملون؟ وسنجازيكم على أعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر ..

من أوهام المشركين والرد عليهم

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي

٤٦

أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨))

المعنى :

لون من ألوان خداعهم ومكرهم بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو أن يطلبوا منه أن يأتى بقرآن غير هذا ، أو يبدله ، والذي دفعهم إلى هذا كفرهم وعجزهم عن أن يأتوا بمثله ، ولقد مكروا ، ومكر الله ، ولقنه الجواب وهو خير الماكرين.

أرسل الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الناس كافة ، ودعا قومه العرب إلى دينه طالبا منهم التوحيد ، ومنذرا لهم ومبشرا ، وفي يمينه القرآن المعجزة الباقية ، والحجة الدامغة وقد تحدى العرب به بأسلوب مثير لهم ، تحداهم بعشر سور أو بسورة منه فعجزوا مجتمعين ، وفيهم الفصحاء والشعراء والخطباء (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (١) ، والقرآن لا

__________________

(١) سورة الإسراء آية ٨٨.

٤٧

يكف عن تسفيه أحلامهم وعيب آلهتهم ، وقد غاظهم ذلك كله ، وفيهم حب المغالبة وشهوة السبق فماذا يعملون؟!؟

قالوا : يا محمد ائتنا بقرآن غير هذا ليس فيه ذمنا وذم آلهتنا ، أو بدل هذا القرآن أى : وعده ووعيده وحلاله وحرامه ، وذمه ومدحه. إن فعلت ذلك فنحن معك يقصدون إن فعل محمد ذلك فقد هدم أساس دعوته ، وقوض صرح حجته إذ هو يدعى أنه من عند الله لا من عنده فإذا غير فيه وبدل ثبت أن القرآن من عنده وهو بشر مثلهم أعطى قوة خارقة للعادة كالسحرة والكهان ، ولكن الله أمره أن يجيب بهذا الجواب المسكت.

قل لهم : ما يكون لي وما يصح منى أن أبدله أبدا من تلقاء نفسي!! إذ ما أنا إلا رسول ، وما هو إلا وحى يوحى ، ولا أتبع إلا ما يوحى إلى من عند ربي ، على أنى أخاف إن عصيت ربي بالتبديل في كلامه عذاب يوم عظيم هوله شديد وقعه على.

وفي الإجابة على الإتيان بقرآن غير هذا أمره الله بما يأتى :

قل لهم : لو شاء الله ما تلوته عليكم أبدا ، ولا أعلمكم به فالمسألة ترجع إلى مشيئة الله لا مشيئتى ، وما شاء الله كان ، لا راد لحكمه ، ولا معقب لقضائه ومالكم تذهبون بعيدا؟ فقد لبثت فيكم عمرا من قبل هذا القرآن [أربعين سنة] لم أجلس إلى معلم ، ولم أقرأ كتابا ، ولم أدرس في جامعة وأنا أمى في وسط أمى ، لم أقل كلاما مثله في هذا الزمن الطويل (قبل النبوة) فهل يعقل أن يكون هذا كلامي. يا قومي أغفلتم عن هذا كله فلا تعقلون؟!!

ولا أحد أظلم من رجلين : أحدهما : افترى على الله كذبا ، والثاني : كذب بآياته البينة ، ولا غرابة في هذا الحكم إنه لا يفلح الظالمون أبدا.

كانت العرب في جاهليتهم ذات أديان مختلفة ، ومذاهب في العبادة متشعبة إلا أنها كلها تجتمع في الإشراك وعدم الوحدانية الخالصة لله ـ سبحانه ـ كان منهم من تهود

٤٨

كبعض قبائل اليمن ، ودخل آخرون في النصرانية كالغساسنة والتغلبيين ، وكان بنجران بقايا من أهل دين عيسى ـ عليه‌السلام ـ وتهود قوم من الأوس والخزرج لمجاورتهم خيبر وقريظة والنضير ، ومنهم من كان يميل إلى الصابئة ، ويقول : مطرنا بنوء كذا ، ومن أنكر الخالق والبعث وقالوا : إن هي إلا حياتنا الدنيا ، وما يهلكنا إلا الدهر ، ومنهم قوم ـ ويظهر أنهم الأكثرية ـ اعترفوا بالخالق (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) (١) وأنكروا البعث ، وعبدوا الأصنام وهي لا تنفع ولا تضر إذ هي حجارة أو أجسام مصنوعة ، وقالوا : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) (٢). وعبادتهم كانت بتقديسهم لها والذبح عندها ، واختصاصها بأنواع من الحيوان (فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) [سورة الأنعام آية ١٣٦].

وكانوا يعبدون الأصنام بتعظيم هياكلها ، والإهلال عند الذبح لها ، وبدعائها والاستعانة بها قائلين : هؤلاء شفعاؤنا عند الله يقربوننا إليه زلفى ، روى أن النضر بن الحارث قال : إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعزى.

قل لهم : منكرا عليهم ذلك أتخبرون الله بما لا يعلم في السموات والأرض؟ ونفى العلم دليل على عدم وجود هؤلاء الشفعاء والشركاء لله ـ سبحانه وتعالى ـ عما يشركون!!

هكذا فطر الله الناس

(وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩))

المعنى :

وما كان الناس في كل زمن إلا أمة واحدة تسير على هدى الفطرة وتأتيهم

__________________

(١) سورة الزخرف آية ٩.

(٢) سورة الزمر آية ٣.

٤٩

الرسل تردهم إلى حياض الإيمان بالله ، وإلى الاعتقاد في يوم القيامة ، ولكنهم اختلفوا بعد ذلك ، وتعددت بهم السبل ، فبعضهم آمن واهتدى. والآخر ضل واعتدى ، وذلك لأن في الإنسان دوافع الخير والشر (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) (١) ومثل هذه الآية قوله ـ تعالى ـ (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) .. [سورة البقرة آية ٢١٣].

وبعض العلماء يرى أن المعنى : وما كان الناس إلا أمة واحدة على الإسلام والدين الحنيف فطرة وتشريعا ، وأن الشرك وفروعه «جهالة حادثة ، وضلال مبتدع» والله أعلم.

ولو لا كلمة سبقت من ربك ، وقضاء محكم حكم به (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (٢) لو لا هذا لقضى بينهم فيما فيه يختلفون ، ولعجل لهم العذاب بما كانوا يعملون ، وفي هذا تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيان لطبع الإنسان.

اقتراح المشركين آيات كونية

(وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠))

المعنى :

وهذه جناية أخرى من جنايات المشركين وكفار مكة ، فهم يعجبون من الوحى لبشر مثلهم. ويقولون ائتنا بقرآن غير هذا أو بدله ، وهم يعبدون من دون الله شركاء ، ويقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله.

وبعد هذا كله يقولون : لو لا أنزل الله عليه آية من ربه غير ما نزل عليه من الآيات الباقيات البينات وهي آيات القرآن الكريم.

حكى القرآن عنهم في أكثر من موضع هذا الطلب ورد عليهم تارة بالإجمال كما هنا وطورا بالتفصيل.

__________________

(١) ـ سورة هود آية ١٠٥.

(٢) سورة يونس آية ٩٣.

٥٠

يقولون : هلا أنزلت عليه آية كونية كالتي كانت تنزل على الأمم السابقة التي يحكى لنا قصصها مع أنبيائها!! فيلقنه الله الجواب فقل لهم : إنما الغيب لله وحده فكل ما غاب فهو لله ومنه الآيات المقترحة ، وإنما أنا رسول من عنده أبلغكم ما أنزل إليكم ، ولا أدرى ما يفعل بي ولا بكم ، فانظروا حكمه وقضاءه فيكم ، إنى معكم من المنتظرين ما قدر لي (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) [سورة يونس الآية ١٠٢].

هكذا طبع الإنسان وخلقه

(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (٢١) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣))

المفردات :

(أَذَقْنَا) الذوق إدراك الطعم بالفم ، واستعمل مجازا في إدراك غيره (ضَرَّاءَ)

٥١

من الضر وتقابل السراء. (مَكْراً) التدبير الخفى الذي يفضى بالممكور به إلى ما لا يحتسبه ولا يتوقعه ، وهو حسن وسيئ. (يُسَيِّرُكُمْ) السير الانتقال من مكان إلى آخر ، والتسير جعل الشيء ينتقل بنفسه أو بدابة أو مركب. (عاصِفٌ) المراد : ريح شديدة قوية تعصف بالأشياء وتكسرها (يَبْغُونَ) أصل البغي طلب ما زاد على القصد والاعتدال إلى الإفراط المفضى إلى الفساد والظلم.

المعنى :

هذه الآيات الكريمة تكشف لنا عن غرائز الإنسان وطبائعه التي لا تتغير تبعا للزمان والمكان ، وهي تشير إلى الرد على الكفار الذين يطلبون الآيات الكونية حيث إنهم لا يعتبرون ولا يتعظون.

وإذا أذقنا الناس رحمة وفضلا من عندنا من بعد ضراء ، ألم بهم ألمها وبؤسها إذ الشعور بالنعمة عقب زوال البؤس والشدة أكمل وأتم.

ما كان منهم إلا أن أسرعوا بالمفاجأة بالمكر في مقام الحمد والشكر ، وهكذا الإنسان ، إذا أصابه المطر بعد الجدب والشدة قال : مطرنا لأنا في فصل الأمطار. وإذا نجا من مكروه حاق به قال : نجوت بالمصادفة ، ولقد فعل فرعون وقومه ذلك كما فعل مشركو مكة بعد قحط وجدب أصابهم ثم سألوا النبي الدعاء لإزالته فكشفه الله عنهم وما زادهم ذلك إلا كفرا وجحودا ومكرا وفسادا ، كما ثبت ذلك في حديث عبد الله بن مسعود الذي رواه الشيخان.

ألست معى في أن مكرهم في آيات الله بالطعن فيها ، والاحتيال في دفعها وعدم الاعتداد بها ، قل لهم يا محمد : الله أسرع مكرا ، وأعجل عقوبة على مكركم ، وعذابه أسرع وصولا إليكم مما تفعلونه لدفع الحق ، وإطفاء نور الله ، ولا غرابة في ذلك إن رسلنا والحفظة من الملائكة يكتبون ما تفعلونه مكرا وتدبيرا ، وفي هذا إشارة إلى تمام الحفظ والعناية حتى لا يغادر الكتاب صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.

وقد ضرب الله مثلا لهؤلاء المعاندين هو أبلغ أمثال القرآن.

٥٢

هو الذي يمكنكم من السير والانتقال بما أودع فيكم من القدرة على ذلك وبما أعطاكم من دابة أو مركب كالسيارة ، والقطار ، والسفينة تجرى في البحر.

حتى إذا كنتم في الفلك (السفينة) وجرت بكم في البحر بسبب ريح طيبة مواتية لهم في جهة السير وفرحوا بها جاءتها ريح شديدة قوية ، ولاقتها ريح تعصف بالأشياء وتكسرها وجاءهم الموج من كل مكان ، والمراد اضطراب البحر وأنه أرغى وأزبد ، وظنوا أى : اعتقدوا أنهم مغرقون وهالكون بإحاطة الموج بهم كإحاطة العدو اللدود.

إذا كان هذا دعوا الله والتجئوا إليه مخلصين له في الدعاء والعبادة ، ولم يتوجهوا إلى آلهتهم وأوثانهم التي يشركون بها ، وذلك طبع الإنسان (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ) الآية ١٢ من هذه السورة.

ماذا قالوا في دعائهم؟ قالوا : لئن أنجيتنا يا رب من هذه لنكونن من الشاكرين ، ولا نكفر ولا نشرك بك شيئا لا ينفع ولا يضر ، فلما نجاهم مما هم فيه أسرعوا بالمفاجأة يبغون في الأرض كلها بغير الحق ، يظلمون ويعبثون في الأرض الفساد ، وبغيهم بغير حق قطعا ، ولعل السر في تقيده بهذا أنهم يفعلونه معتقدين أنه بغير حق.

يا أيها الناس : انتبهوا إنما بغيكم وجزاؤه على أنفسكم في الدنيا ، وأنتم تتمتعون به متاعا زائلا لا أساس له إذ هو في الحياة الدنيا. وأما نتيجة البغي في الآخرة فالله يقول : إلينا مرجعكم يوم القيامة يوم الفصل والجزاء فيجازيكم عليه الجزاء الأوفى بسبب ما كنتم تعملون.

المثل البليغ للحياة الدنيا

(إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها

٥٣

أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤))

المفردات :

(مَثَلُ) المثل : الصفة العجيبة التي تشبه في غرابتها المثل (زُخْرُفَها) الزخرف : كمال حسن الشيء ومنه قيل للذهب زخرف (لَمْ تَغْنَ) يقال غنى بالمكان أقام به وعمره.

المعنى :

تقدم ذكر البغي وجزائه في الدنيا والآخرة ، وكان من أسبابه حب الدنيا والاغترار بها ، فناسب ذكر الدنيا وضرب الأمثال لها ليعتبر العاقل ، ويتعظ المؤمن.

إنما مثل الحياة الدنيا في سرعة انقضائها ، وزوال نعيمها ، وأنها تعطى لتأخذ ، وتحلى لتمر ، وتمنح لتسلب ، إنما مثلها وحالها كحال نبات الأرض الذي ينمو ويزدهر ويتشابك بعضه مع بعض بسبب ماء السماء الذي لا فضل لأحد فيه ، هذا النبات المزدهر مما يأكل الناس من قمح وشعير وذرة وغيره ، ومما يأكل الأنعام من كلأ وحشائش ، وما زال النبات ينمو ويزدهر حتى إذا أخذت الأرض زخرفها ، واستوفت زينتها من سندس أخضر ، وزهر أحمر وأصفر ، وأغصان شامخة ، وثمار يانعة ، وما أروع التركيب حيث شبه الدنيا بعروس بالغت في تزينها بالثياب والزينة حتى كمل لها ما أرادت. وهكذا الدنيا قبيل قيام الساعة.

وظن أهلها أنهم قادرون عليها متمكنون منها ، أغنياء بثمرها وغلتها حتى إذا حصل هذا كله أتاها أمرنا وقضاؤها ليلا أو نهارا. عشية أو ضحاها فجعلناها كالأرض المحصودة التي قطعت واستؤصل زرعها ، كأن لم تكن بالأمس ، والمعنى : هلكت فجأة فلم يبق من زرعها شيء.

٥٤

كهذا المثل في جلاله ووضوحه وتمثيله لحقيقة الدنيا وغرور الناس بها وسرعة زوالها عند تعليق الآمال بالنبات الغض الذي ينزل عليه ماء السماء فيزدهر وينمو ، وتزدان به الأرض حتى إذا ظن أهله وأصحابه أنهم قادرون عليه ومتمكنون منه يأتي أمرنا فيكون حصيدا كأنه لم يكن شيئا مذكورا.

مثل هذا نفصل الآيات في حقائق التوحيد وإثبات الجزاء وإحقاق الحق ولكن لقوم يتفكرون ويستعملون عقولهم.

ترغيب في الجنة وتنفير من النار

(وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٦) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧))

المفردات :

(دارِ السَّلامِ) هي الجنة (وَلا يَرْهَقُ) يلحق ومنه غلام مراهق ، أى لحق بالرجال. وقيل يغشى (قَتَرٌ) أى : غبار (ذِلَّةٌ) ذل (أُغْشِيَتْ) ألبست.

هذا ترغيب في الجنة والحياة الأخروية بعد التنفير من الحياة العاجلة بضرب الأمثال لها ، والذي يدعو إلى الدنيا وعرضها هو الشيطان ، والذي يدعو إلى الجنة ونعيمها هو الرحمن.

٥٥

المعنى :

والله يدعو إلى دار السلام ، بطلبه من الناس جميعا الإيمان ، والعمل الصالح الذي يوصل صاحبه إلى دار السلام وهي الجنة فأصحابها يسلمون من جميع الشوائب ، والمتاعب والمخاوف ، وتحيتهم فيها السلام ، وهي دار السلام ـ جل شأنه ـ ، ودعاؤه إلى دار السلام وأمره بالإيمان عام للكل ، وأما الهداية فنوعان : هداية دلالة وإرشاد وهي للجميع «الدعوة للإسلام» ، وهداية توفيق وهي خاصة ، يهدى من يشاء من عباده إلى صراط مستقيم ، أى : يوفق من يشاء إليه.

وها هي ذي صفة من هداهم ربهم إلى صراط الإسلام فوصلوا إلى دار السلام. للذين أحسنوا في العمل المثوبة الحسنى التي تزيد في الحسن على إحسانهم وتشمل المضاعفة للحسنة بعشر أمثالها أو أكثر ، وأما الزيادة فقيل : هي النظر إلى الوجه الكريم. ورؤية المولى ـ جل شأنه ـ بهذا نطق الحديث الشريف ، وقيل : المراد بالحسنى الجنة والزيادة المضاعفة ولا حرج على فضل الله.

ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة ، ولا يلحق وجوههم الكريمة دخان من سيّئ الأعمال ولا مذلة.

أولئك الموصوفون بما ذكر أصحاب الجنة الملازمون لها هم فيها خالدون.

والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة مثلها ، جزاء وفاقا لا يزيدون ولا ينقصون من العذاب شيئا ، وتغشاهم ذلة الفضيحة ، وخزي الظلم والفجور والعمل السيئ ، مالهم عاصم يعصمهم من عذاب الله كالشركاء والشفعاء الذين اتخذوهم أولياء : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) [سورة الانفطار آية ١٩].

كأنما ألبست وجوههم قطعا من سواد الليل البهيم حالة كونه مظلما فصارت ظلمات بعضها فوق بعض.

أولئك الموصوفون بما ذكر أصحاب النار الملازمون لها هم فيها خالدون ، وفي هذا

٥٦

المعنى ما سبق في سورة الأنعام : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) [الأنعام : ١٦٠] ، وما في سورة عبس. (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ. ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ. تَرْهَقُها قَتَرَةٌ. أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ). [عبس ٣٨ ـ ٤٢].

من مشاهد يوم القيامة

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (٢٨) فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (٢٩) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٣٠))

المفردات :

(فَزَيَّلْنا) فرقنا وقطعنا ما بينهم من صلات (تَبْلُوا) تذوق وتختبر (أَسْلَفَتْ) قدمت.

المعنى :

يتكرر في القرآن الكريم التكلم على البعث والجزاء ومشاهد يوم القيامة بألوان مختلفة ، وأساليب متعددة. وهذا مشهد من مشاهدها :

يوم نحشر هؤلاء وهؤلاء من المؤمنين والكافرين ليوم الحساب ، ثم نقول للمشركين : الزموا مكانكم أنتم وشركاؤكم (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) (١) فزيلنا بينهم ، وفرقنا بين الشركاء ومن أشركوهم مع الله وقطعنا ما بينهم من أسباب الصلة والمودة.

__________________

(١) سورة الصافات آية ٢٤.

٥٧

وقال شركاؤهم لما رأوا ما هم فيه : ما كنتم إيانا تعبدون أى : ما كنتم تخصوننا بالعبادة ومن حق العبادة قصرها على المعبود دون سواه فهم يتبرءون منهم ومن عبادتهم ، فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم فهو العليم بحالنا وحالكم إننا كنا في غفلة عن عبادتكم ، لا ننظر إليها ولا نفكر فيها ولا نرضى عنها.

هنالك يوم القيامة تختبر كل نفس من عابدة ومعبودة ، وظالمة ومظلومة في ما قدمت في حياتها الدنيا من عمل ، وهكذا كل نفس تذوق عاقبة أعمالها إن خيرا وإن شرا.

وردوا إلى الله مولاهم الحق لا إلى غيره ، وضل عنهم ما كانوا يفترون ويختلفون من الشركاء والأوثان ، إذ الأمر يومئذ لله ـ سبحانه وتعالى ـ.

نقاش مع المشركين لإثبات التوحيد وبطلان الشرك

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١) فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥)

٥٨

وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٣٦))

المفردات :

(فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) كيف تصرفون عن الإيمان إلى غيره ، (حَقَّتْ) ثبتت (تُؤْفَكُونَ) تصرفون عن الحق إلى الباطل (لا يَهِدِّي) أي : لا يهتدى وهذا احتجاج أخر على المشركين بأسلوب آخر ، وهو يقتضى إثبات التوحيد والبعث ، وذم الظن الذي لا يغنى بدل الحق شيئا.

المعنى :

قل يا أيها الرسول : لهؤلاء المشركين مع الله غيره : من يرزقكم من السماء والأرض؟! من ينزل من السماء المطر؟ ومن يحيى الأرض بالنبات الذي تأكلون منه أنتم وأنعامكم؟

أم من يملك السمع والأبصار؟ أم بمعنى بل ـ للإضراب الانتقالى من سؤال إلى آخر ـ والمعنى بل قل لهم : من يملك السمع والأبصار؟! من يملك خلقهما على هذا النمط البديع والتركيب الغريب؟ ومن يملك حفظهما من الآفات؟ ولقد خص السمع والبصر لأنهما طريق العلم والإدراك؟ وفي جهاز السمع والبصر الأعاجيب.

ومن يخرج الحي من الميت ، ويخرج الميت من الحي؟ ولقد كان القدامى يفهمون الآية فهما بسيطا. فالله يخرج الإنسان من النطفة والطائر من البيضة ، ويخرج النطفة من الإنسان ، والبيضة من الطائر ، وكانوا يفهمون أن النطفة والبيضة ميتة لا حياة فيها ، وهذا الفهم صحيح إذا اعتبرنا أن البيضة وإن تكن فيها حياة فهي حياة خاصة ليس فيها حركة ولا نمو.

والعلماء المحدثون يقولون : إن في البيضة والنطفة حياة بل في البذور حياة ، والمثل الصحيح أن الغذاء بعد دخوله النار ميت بلا شك ، وهو يكون الدم ومنه المنى فهذا

٥٩

المنى الحي خرج من الغذاء الميت ، ويخرج الله الفضلات والهشيم من الإنسان والنبات وهو ميت خرج من حي ، والمراد من ذلك كله إثبات القدرة الكاملة لله ـ سبحانه وتعالى ـ وأنه خالق الموت والحياة.

وفي التفسير المأثور أراد الحياة والموت المعنويين ومثلهما أخرج المؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن.

ومن يدبر الأمر ، ويصرف الكون؟ ومن صاحب هذا النظام المحكم في كل شيء؟

وفي كل شيء له آية

تدلّ على أنه الواحد

فسيكون جوابهم عن هذه الاستفهامات الخمسة : أن الفاعل لذلك كله هو الله رب كل شيء ، لا جواب غيره ، ولا مجال للمكابرة في ذلك.

فقيل لهم : أتعلمون هذا فلا تتقون أنفسكم عذابه ، ولا تتقون عقابه لكم عن شرككم وعبادتكم لغيره مما لا يملك نفعا ولا ضرا!! فذلكم الذي يفعل ما ذكر هو الله ربكم خالقكم ومدبر أمركم ، هو الحق الثابت بذاته الحي القيوم ، لا إله غيره ولا معبود سواه.

وإذا كان هو ربكم الحق الذي لا ريب فيه المستحق للعبادة دون سواه فماذا بعد الحق إلا الضلال؟!! فالقول بألوهية غيره باطل ، وعبادة غيره ضلال.

وإذا كان الأمر كذلك فكيف تصرفون ، وتتحولون عن الحق إلى الباطل؟ وعن الهدى إلى الضلال؟!!

كذلك حقت كلمة ربك أى : مثل ذلك حقت به كلمة ربك أيها الرسول ، وثبتت في وحدة الربوبية والألوهية ، وأنه ما بعد الحق إلا الضلال. حقت كلمته على الذين فسقوا وخرجوا من نور الفطرة ، وحظيرة الهدى والحق ، أنهم لا يؤمنون بما ينزله الله على ألسنة الرسل ، وليس المعنى أنه يمنعهم ـ سبحانه ـ بل المراد أنهم يظلون على العناد والاستكبار وعدم الإيمان فهم لا يؤمنون.

قل لهم أيها الرسول : هل من شركائكم الذين عبدتموهم مع الله أو من دون الله ، أو اتخذتموهم شفعاء عنده يقدر على بدء الخلق في طور ثم إعادته في طور آخر؟ سواء كان صنما أو وثنا أو كوكبا أو ملكا أو بشرا من الرسل أو غيرهم.

٦٠