التفسير الواضح - ج ٢

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ٢

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٨٨٤

لما حكى الله ـ سبحانه ـ عنهم تلك الاعتراضات الواهية ، ورد عليهم أبلغ رد وأكده مبينا أنه أنزل لهم كتابا فيه ذكرهم وشرفهم وسعادتهم ، وهو المعجزة الباقية. بالغ في زجرهم وتهديدهم بضرب الأمثال وذكر مظاهر القدرة القادرة.

المعنى :

وكثيرا من القرى قصمناها وأهلكنا أهلها ، لأنها كانت ظالمة لنفسها بالكفر وارتكاب الإثم ، وأنشأنا بعدها قوما آخرين.

روى أن المراد أهل قرية مخصوصة كانت باليمن تسمى (حضور) ، وكان لهم نبي فقتلوه فانتقم الله منهم ، ولما رأوا أمارة العذاب خرجوا هاربين ، فقالت لهم الملائكة استهزاء بهم : لا تركضوا وارجعوا فرجعوا وقتلوا. فلما رأوا القتل قالوا يا ويلنا : إنا كنا ظالمين ، ولكن هيهات أن ينفع الندم ..!!

فلما أحسوا بأسنا ، ورأوا عذابنا الشديد إذا هم يهربون ويفرون مسرعين يركضون دوابهم ويستحثونها ، عندئذ. قيل لهم من الملائكة : لا تركضوا ، وارجعوا إلى نعمكم التي أبطرتكم وحملتكم على الظلم والكفر والغرور لعلكم تسألون ، من الذي أنزل بكم هذا؟! أو تسألون لما ذا كان هذا العذاب؟!

لما قالت لهم الملائكة : لا تركضوا ، وارجعوا إلى مساكنكم ونعمكم ، ونزل بهم العذاب من كل جانب كانوا يسمعون مناديا يقول : يا لثارات الأنبياء!!

قالوا حينذاك : يا ولينا ويا هلاكنا. إنا كنا ظالمين! فما زالت تلك دعواهم ، وما زالوا يرددون تلك المقالة حتى جعلهم ربك كالزرع المحصود بالمنجل ، خامدين ميتين لا حركة بهم ، كالنار إذا انطفأ لهيبها وأصبحت خامدة لا حياة فيها.

هذا هو الحكم العدل ، والقول الفصل ، ما يفعل الله بهم هذا إلا بسبب ظلمهم وكفرهم ، وها هي ذي آيات عدل الله ، ناطقة شاهدة.

وما خلق السماء المرفوعة ، والأرض الموضوعة ، وما بينهما من عجائب الخلق للهو واللعب كما يفعل بعض الخلق في دنياه ، ولكنها آيات شاهدة على حكمة الحكيم ، وقدرة القادر العليم ، وعدل الحق ـ سبحانه وتعالى ـ ، وكانت ميادين للتفكير السليم ، والنظر

٥٢١

الصحيح الذي يوصل إلى العبادة الخالصة لخالقهما ، وكانت من نعم الله على خلقه (ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ) [سورة الدخان آية ٣٩] فانظروا لها واعتبروا بها.

لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا ، ومن جهة قدرتنا ، ولكنا لم نرد إلا الحكمة والصواب فيما خلقنا وفعلنا ، وما كنا فاعلين اللهو واللعب أبدا.

وبعضهم يفسر اللعب بالولد ، واتخاذه من لدن الله أى : من الملائكة ، وذلك ردا على من اتخذ المسيح أو عزيرا ابنا لله ـ سبحانه وتعالى ـ.

بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه ، وبل هنا إضراب عن اتخاذ اللهو واللعب ، وتنزيه منه لذاته كأنه قال : سبحاني! لا أتخذ اللهو واللعب من عاداتي ، بل من صفاتنا وموجب حكمتنا ، وتنزهنا عن القبيح أن نغلب الجد على اللهو واللعب ، وندحض الباطل بالحق ، استعار القذف والدمغ لضياع الباطل وفنائه ، لتصويره بالصورة الحسية المؤثرة ، وبيان أثر الحق في محو الباطل ومحقه ، فجعل الحق كأنه جرم صلب كالصخرة يقذف به في وجه الباطل ، وهو رخو لين ، فدمغه وشج رأسه ، حتى لم يعد له بقاء في الوجود.

إنه لتصوير رائع مؤثر يهز النفوس ، ويستولى على المشاعر ، ويجعلنا نتصور الباطل كسير الجناح ، ذليل النفس ، مشوه الوجه (فَإِذا هُوَ زاهِقٌ).

ولكم أيها الظالمون المشركون الويل والثبور والهلاك والدمار ، مما تصفون به ربكم من اتخاذ الولد والشريك ـ سبحانه وتعالى ـ ، وكيف يكون ذلك؟ وله من في السموات والأرض ، ملكا وخلقا وعبيدا وتصريفا ، فكيف يكون له فيهما شريك؟

ومن خلقه فيهما مجادل ومخاصم؟! ومن عنده من الملائكة لا يستكبرون عن عبادته ، والعندية عندية مكانة وتشريف فكيف بكم تستكبرون عن عبادته؟

والملائكة همهم العبادة ليلا ونهارا ، لا يستكبرون ولا يعيون ، ولا يتعبون ، خلقوا هكذا ، ليس فيهم داعية من دواعي الشر ، وهم لا يفترون ...

٥٢٢

مناقشة المشركين في عقائدهم

(أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩))

المفردات :

(يُنْشِرُونَ) : النشر : إحياء الموتى من قبورهم ، والحشر : سوقهم إلى أرض المحشر (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) لا يتقدمون عليه في قول ، بل يقولون بعد قوله ، ويصدرون بعد أمره (مُشْفِقُونَ) خائفون.

٥٢٣

ما تقدم من أول السورة إلى هنا كان في باب النبوات ، وما يتصل بها من نقاش وأما هذه الآيات فهي في بيان التوحيد ، ونفى الشريك.

ويقول الزمخشري ـ رحمه‌الله ـ وأسكنه فسيح جناته جزاء ما قدمه لخدمة القرآن وبيان أسراره ـ فيما كتبه في الكشاف عن «أم» التي في هذه الآية : وهذه أم المنقطعة التي هي بمعنى بل (الإضرابية) والهمزة. قد آذنت بالإضراب عما قبلها والإنكار لما بعدها ..

المعنى :

بل اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون؟!! والمنكر هو اتخاذهم آلهة من الأرض تحيى الموتى للبعث والحساب ، نعم إن من أفظع المنكرات أن يحيى الجماد الموتى ، عجبا هم ينكرون البعث والحساب ويقولون : أإذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد؟ من يحيى العظام وهي رميم؟!!

ثم بعد ذلك يتخذون آلهة من الأرض هم ينشرون!! نعم في اتخاذهم هذه الأصناف آلهة إلزام لهم بأن ينسبوا لها إحياء الموتى ، فإنه لا يقدر على إعادة الحياة إلا الإله الذي بدأ الحياة ، وفي هذا من التهكم بهم والتوبيخ والتجهيل لهم ما لا يخفى فإن ما استبعدوه على الله من البعث لا يصح لأنه لازم للألوهية ؛ وانظر إلى قوله ـ تعالى ـ : (آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ)!! فإنهم من الأرض! ولا تعبد إلا فيها ...

لو كان في السماء والأرض آلهة شتى تدبر أمرها غير الواحد الأحد الفرد الصمد الذي فطر السموات والأرض لفسدتا إذ من المعلوم أن أى عمل يفسد بتدبير رئيسين كل يدعى لنفسه حق الرياسة والتوجيه لما يحدث بينهما من التغالب والتناكر والاختلاف ، ولله در عبد الملك بن مروان إذ قال حين قتل عمرو بن سعيد : كان والله أعز على من دم ناظري ، ولكن لا يجتمع فحلان في شول ، ولعلماء التوحيد في بيان الفساد عند وجود الشريكين أدلة منطقية وفروض شتى ليس هذا مكانها ، وإن حسن الاطلاع عليها.

ولما أقام الله ـ سبحانه وتعالى ـ الأدلة القاطعة على التوحيد قال : فسبحان الله رب العرش عما يصفون : نزه الله نفسه ، وأمرنا أن ننزهه عما يصفه المشركون.

٥٢٤

فهو الله لا إله إلا هو فاطر السموات والأرض. رب العرش ، وسع كرسيه السموات والأرض تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.

بعض من يدعى الشريك لله يرى أن في العالم نورا وظلمة ، وخيرا وشرا وغير ذلك مما يشبهه ويقول : لا يمكن أن يصدر هذا من إله واحد. إذ يسأل عن الشر لم فعلته وأنت إله الخير؟

فرد الله عليهم بقوله : إنما هو إله واحد يصدر عنه كل شيء في الوجود ، وهو لا يسأل أبدا عن فعله لم فعلت؟! والخلائق هي المسئولة عن أعمالها ومجزية عنها.

وإذا كان الرئيس الموثوق فيه لا يسأل عن عمله ، مع أنه عرضة للخطأ لأنه مخلوق ضعيف ، فكيف بالخالق ـ سبحانه وتعالى ـ؟!

أم اتخذوا من دون الله آلهة؟! قل : هاتوا برهانكم ودليلكم على ذلك إن كنتم صادقين.

هاتوا برهانكم من جهة العقل ، ولن تجدوا. أما من جهة النقل فلن تجدوا ، هذا هو الكتاب المنزل على من معى ، وهذا ذكر من قبلي أى الكتاب المنزل على من تقدمني من الأنبياء كموسى وعيسى وداود فعندكم القرآن الذي نزل علىّ ، والتوراة التي نزلت على موسى ، والإنجيل الذي نزل على عيسى والزبور الذي نزل على داود ، هل في هذه الكتب حجة لكم على الشرك بالله.

بل أكثرهم لا يعلمون فهم الجهلاء بأنفسهم وبما يدعون.

ذلك الكتاب المنزل عليكم هو الحق من عند ربكم فاسمعوا له وأطيعوا ، وإلا فأنتم معرضون عنه ، ومن أعرض عن ذكر الله فإن له معيشة ضنكا ، ونحشره يوم القيامة أعمى.

وها هي ذي خلاصة الرسالات السماوية من لدن آدم إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم جميعا ، أنه لا إله إلا هو فاعبدوه وحده لا تشركوا به شيئا أبدا فهل لكم حجة عقلية أو نقلية في اتخاذ الآلهة من دون الله؟!!

ثم بعد ذلك نفى اتخاذ الولد له ـ سبحانه ـ فإن الولد يشبه أباه في شيء ويخالفه

٥٢٥

في شيء واتخاذ الولد أمارة الحدوث والحاجة ، ودليل مشابهة الحوادث ، والله ـ سبحانه ـ منزه عن ذلك كله.

وقالوا اتخذ الرحمن ولدا ، قيل : نزلت في خزاعة حينما ادعوا أن الملائكة بنات الله (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) [سورة الصافات آية ١٥٨].

سبحانه وتعالى : نزه الله نفسه عن ذلك ، وأمرنا أن ننزهه عن ذلك ، ثم أخبر عن الملائكة أنهم عباد والعبودية تتنافى مع الولدية ، فهم عباد إلا أنهم مكرمون ومقربون ومفضلون على كثير من الخلق لما هم عليه من العبادة ، فهم خلق من خلق الله دأبهم العبادة ليلا ونهارا ، لا يعصون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون ، لا يسبقونه في قول بل يعملون كما يؤمرون لا علم لهم بشيء بل الله يعلم ما بين أيديهم من أحوال القيامة وما خلفهم من أحوال الدنيا ، وهم لا يشفعون إلا لمن ارتضاه ربه من عباده المؤمنين ثم مع هذا كله هم من عذاب ربهم مشفقون وخائفون.

فكيف تجعلونهم أولادا لله؟!! ، وكيف تكفرون أنتم بالله بعد هذا؟!! وبعد أن وصفهم الله بما وصف فاجأهم بالوعيد الشديد ، وأنذرهم بالعذاب الأليم ليعتبر الناس وليعلموا جرم الشرك ، وفظاعته عند الله ، وعظم شأن التوحيد ومكانته عند الله فقال :

ومن يقل منهم ـ على سبيل الفرض ـ إنى إله من دون الله فسنجزيه جهنم وبئس القرار. مثل ذلك نجزى نحن الظالمين والمشركين فإنه لا يفعل معهم هذا إلا الله الواحد القهار.

الأدلة الكونية على وجود الواحد الأحد

(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ

٥٢٦

رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣))

المفردات :

(رَتْقاً) الرتق السد ضد الفتق يقال رتقت الفتق أرتقه فارتتق أى التأم والمراد كانت ملتزقتين ففصل الله بينهما (رَواسِيَ) جبال ثوابت (أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) خوف أن تتحرك وتضطرب (فِجاجاً) مسالك وطرقا ، والفج : الطريق الواسع بين الجبلين الفلك : مدار الشمس والقمر والنجوم.

هذه هي الأدلة المادية على وجود الواحد الصانع القادر المختار بعد الأدلة العقلية والنقلية ومناقشة الكفار السابقة في اتخاذهم شريكا له ، وفي هذا لفت لأنظار المشركين إلى جهة الكون وما فيه.

المعنى :

أعموا ولم يروا أن السموات وما فيها والأرض وما عليها كانت رتقا ، وكانت السماء والأرض جزءا واحدا ففتقهما القادر المختار وجعل كل جزء في جهة ويدور في فلك ، ويؤدى مهمته على أكمل وجه.

يا أخى : اعلم أن القرآن معجز حقا ، وليس إعجازه في جمال أسلوبه. وكمال نظامه وترتيبه فقط ولكنه معجز أيضا في دلالته على أمور علمية دقيقة عميقة ، لم تظهر لنا إلا بعد أن أثبتها العلم بما لا يقبل الشك ، فإذا عدنا إلى القرآن وجدناه ينادى بها من القرن السادس الميلادى ، أيام كانت الدنيا تغوص في بحر الجهالة والضلالة ، فمن أعلم محمدا بهذا ، ومن الذي علمه ذلك!!؟

٥٢٧

ولكنها المعجزة الباقية الخالدة التي تثبت الأيام صدقها في كل شيء (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (١) والغريب أن القرآن نزل يخاطب العرب الذين لا يعرفون هذه الحقائق وطالبهم بعد ثبوت إعجازه بالإيمان بها غيبيا وأمرهم أن يحملوا تلك الأمانة للناس إلى أن يعرفوا علميا حقائق الكون ؛ فإذا بها في القرآن من أربعة عشر قرنا.

من هذه نظرية السديم. فقد أثبت العلم أن الشمس والكواكب والأرض كلها كانت قطعة واحدة ثم انفصلت بكثرة الدوران وبقدرة الحكيم الخبير فصارت إلى ما نرى من الدقة والنظام بفعل الجاذبية الذي خلقه الله في الكون.

أليس هذا هو عين ما يقوله القرآن الكريم (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) ولقد سبق أن تكلمنا عن نظرية خلق السموات والأرض «نظرية السديم» في الجزء الثاني عشر ص وقد ذكروا رأيا آخر في الآية : أن السموات والأرض كانتا رتقا لا تمطر ولا تنبت ففتقنا السماء بالمطر والأرض بالنبات.

(وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) وقد جعل الله ـ سبحانه وتعالى ـ كل شيء حي من الماء يغتذى به ويرويه ، ولا يمكن أن يصبر عليه وهو حي ، على أنه أصله فالحيوان من النطفة التي هي ماء ، والنبات لا ينبت أبدا إلا بالماء.

فالماء عنصر مهم جدا لحياة الكائن الحي من حيوان ونبات ، ألم تر أن الحيوان قد يعيش بدون غذاء حوالى سبعين يوما ما دام يشرب ماء ، ولا يعيش بدون الماء أياما قليلة ، والنبات يجف ويموت وهو في وسط الأرض التي منها غذاؤه إذا لم يرو بالماء ، فالماء والكائن الحي صنوان لا يفترقان فإذا افترقا هلك الحي.

وجعلنا في الأرض رواسى شامخات من الجبال خوف أن تميد بالناس وتضطرب ، وهي تدور حول نفسها وحول الشمس.

وجعلنا فيها طرقا واسعة وأودية مترامية الأطراف بين الجبال ليصلح عليها السير والإنبات لعلكم تهتدون إلى الصانع المختار.

__________________

(١) سورة فصلت الآية ٥٣.

٥٢٨

وجعلنا السماء سقفا محفوظا من الوقوع والاضطراب ، ومحفوظا من الشياطين التي تسترق السمع.

وهم عن آياتها معرضون.

هو الذي خلق الليل والنهار بفضل دوران الأرض حول نفسها ، وخلق الشمس والقمر كل واحد منهما يدور في فلك له ، يسبحون في الفضاء اللانهائى الذي لا يعلم حدوده إلا الله.

نرى أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ ساق الدليل على وحدانيته وقدرته ، تأييدا لما مضى من قوله : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) والقرآن يجنح دائما للأدلة الكونية ويلفت النظر إلى هذا الكون وما فيه من عجائب ليعتبر الناس كلهم به أما الجاهل فلما يراه فيه ببصره ، ويسمع بأذنه ويلمس بيده ، وأما العالم فلما يرى ويحس ، ويعلم من أسرار وقضايا علمية ، ونظريات كونية ، وسبحان من هذا كلامه.

ولسائل أن يسأل. كيف يقول الله لهم أو لم يروا؟ ومتى رأوا حتى يجيء تقريرهما بذلك؟ والجواب كما ذكر الكشاف والفخر : حيث ورد الرتق والفتق في القرآن وقام الدليل الذي لا يقبل الشك على أنه معجزة وأنه من عند الله ، وأنه صادق قام ذلك مقام الرؤية ، فإذا أضيف إلى ذلك ثبوت نظرية الرتق والفتق علميا كان الاستفهام وما فيه من تقرير وتعجب آية من آيات الله.

من مواقف المشركين مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

(وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٣٥)

٥٢٩

وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤١))

المفردات :

(هُزُواً) سخرية (بَغْتَةً) فجأة (فَتَبْهَتُهُمْ) فتغلبهم وتحيرهم (فَحاقَ) أحاط ودار : هذا هو موقفهم مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أعيتهم الحيل ، وانقطعت بهم السبل.

وغلبتهم الحجج أخذوا يعللون أنفسهم بموت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

المعنى :

لقد كانوا يمنون أنفسهم بموت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيشمتون فيه ويستريحون منه فنفى عنه الشماتة بهذا ، وقضى قضاءه العدل بأنه لا يخلد في الدنيا أحد. فلا أنت ، ولا هم بباقين فيها ، وإذا كان الأمر كذلك أفإن مت فيبقون هم أحياء؟! أفإن مت فهم

٥٣٠

الخالدون؟! لا : كل نفس ذائقة الموت ، وكل شيء هالك إلا وجهه ، له الحكم ، وإليه ترجعون ، فالموت نهاية كل حي وسبيل كل نفس ، ولا يبقى إلا الحي القيوم الباقي بعد فناء خلقه فاعتبروا يا أولى الأبصار. واعلموا أن محمدا رسول قد خلت من قبله الرسل ، وتولى الله دينه بالنصر والحياطة.

فهكذا يحفظ الله دينك بعد موتك يا محمد ما دام القرآن موجودا.

والله ـ سبحانه وتعالى ـ قضى أن يختبر الناس بما يعطيهم من خير أو شر وكان ابتلاؤه بالخير دقيقا جدا قل من ينجح فيه فإن شكروا في الخير والنعيم ، وصبروا في الشر والبلاء ، فذلكم هم الفائزون ، وإن أبطرتهم النعمة وجزعوا من البلاء فأولئك هم الخاسرون ، وإلى الله ترجع الأمور.

وإذا رآك الذين كفروا ما يتخذونك إلا هزوا وسخرية لأنك تذم آلهتهم ، وتعيب أصنامهم ، وتذكر الرحمن الرحيم بالخير والتمجيد والتقديس والعبادة ؛ ويقولون : أهذا الذي يذكر آلهتكم بالسوء ويذكر الرحمن بالخير؟! ومن أحق بالاستهزاء والسخرية؟ أمن يذكر الأصنام والحجارة بالخير ، ويذكر الرحمن بالسوء والشر وهم الكافرون أم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي يقدس فاطر السموات والأرض؟!.

إنهم هم الأحق بالاستهزاء والسخرية لأنهم وضعوا الشيء في غير موضعه ، وهم بذكر الرحمن هم وحدهم كافرون!!

كانوا يستعجلون عذاب الله وآياته الملجئة إلى الإيمان والإقرار بالعبودية لله وبالرسالة لمحمد (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [سورة الأنفال آية ٣٢].

فيقول الله لهم : خلق الإنسان من عجل حتى كأن العجل جزء من مادة تكوينه ، وهذا طبع في الإنسان كله وغريزة فيه ، سأريكم آياتي الدالة على القدرة وعلى صدق رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا تستعجلون ، وقد رأوا ذلك في نصرة الدين وإتمام نور الله ولو كره الكافرون.

وكانوا يقولون : متى هذا الوعد؟ إن كنتم صادقين أيها المؤمنون.

وهذا الاستعجال فيه معنى التكذيب والكفر بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن.

والله حين ينهانا عن العجلة مع أنها غريزة وطبع فينا إنما يطالبنا بأن نحكم العقل

٥٣١

في غرائزنا ، ونجعل الدين يتسلط على أعمالنا الظاهرة والباطنة ، ولا شك أن هذا تسامى بالغريزة وإعلاء لها.

لو يعلم الذين كفروا الوقت الذي يستعجلونه بقولهم : متى هذا الوعد؟ مع أنه وقت صعب ، وموقف شديد ؛ إذ تحيط بهم النار من كل جانب فلا يقدرون على دفعها على أنفسهم ، ولا يجدون لهم ناصرا ينصرهم.

لو يعلمون هذا ويعرفونه حقا لما كفروا بالله واستهزءوا برسول الله ، واستعجلوا يوم العذاب ، ولكن جهلهم به ، وعدم تبصرهم في الأمور بعين سليمة وقلب خال من الغل والحسد ، وسوء التقليد هو الذي دفعهم إلى ذلك وهون عليهم عملهم هذا.

وأما أنت يا محمد فصبر جميل فهذه هي طبيعة الناس مع كل من يدعوهم إلى الخير والرضوان فقديما استهزءوا برسل الله قبلك وفعلوا معهم الأفاعيل فكان جزاؤهم من الله أن أحاط بهم العذاب من كل جانب وأذاقهم الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ، ونجى الله رسله ومن معهم من المؤمنين ، وإن الله على نصرهم لقدير.

لا راد لقضاء الله

(قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (٤٤) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا

٥٣٢

ما يُنْذَرُونَ (٤٥) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٤٦))

المفردات :

(يَكْلَؤُكُمْ) يحرسكم ويحفظكم ، والكلاءة : الحراسة والحفظ ، كلأه الله حفظه (يُصْحَبُونَ) يجارون من عذابنا (نَفْحَةٌ) نصيب قليل.

المعنى :

إن استهزأ بك هؤلاء المشركون تكذيبا لك وإضعافا لشأنك فلا يهولنك ذلك أبدا فقد استهزئ برسل من قبلك ، فحاق بالذين سخروا منهم سوء العذاب بما كانوا يستهزئون.

وأنت يا نبي الله قل لهم : من يحفظكم من عذاب الله إن أتاكم؟ ومن يحفظكم ويرعاكم بالليل وأنتم نيام ميتون الموتة الصغرى؟! ومن يكلؤكم وأنتم بالنهار تغدون وتروحون؟! من يحفظكم من عذاب الرحمن وبأسه إذا أراد أن ينزله بكم؟! وانظر إلى تعبير القرآن الكريم الذي آثر ذكر الرحمن صاحب النعم للإشارة إلى أن عدم إيقاع العذاب على الكفار والعصاة من أتم النعم على الإنسان ، لعله يبوء إلى نفسه ، ويرجع إلى ربه ؛ وإذا كان لا راد لقضائه ، فلن يمنع مانع من إيقاع العذاب بكم!!

بل هم عن ذكر ربهم ذكرا قلبيا تسكن إليه النفوس ، وتطمئن له القلوب معرضون بل ألهم آلهة يعبدونها تمنعهم عن عذابنا ، وتقف حائلا دون تنفيذ أمرنا؟ ليس لهم ذلك إذ آلهتهم لا يستطيعون نصر أنفسهم فضلا عن نفع غيرهم ونصره. وليس لهم شفيع ، ولا هم يمنعون عن عذاب الله أبدا.

ولا يغرنكم تقلب الذين كفروا في النعيم ، وما هم فيه من غنى وجاه فهو متاع أعطاهم الله إياه ليس لأحد فيه يد ، وليس هناك مانع منع الله من إيقاع العذاب بهم بل متعهم الله به حتى تطول أعمارهم ، وتقسو قلوبهم ، وتسوء أعمالهم ، ويكون حسابهم شديدا ، وجزاؤهم نارا وحميما ، وليس تركهم عن عجز أو تقصير. أعموا

٥٣٣

فلا يرون أنا نأت الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه. وما هي الأرض وما معنى نقصها من أطرافها؟

هذه السورة مكية ، وحالة المسلمين في مكة كما تعرف يا أخى كانت شديدة ، فهل لنا أن نفهم أن المراد بالأرض أرض الكفر ، ومعنى نقص أطرافها دخول الناس في الإسلام شيئا فشيئا ، واتساع نفوذ الإسلام شيئا فشيئا على حساب أرض الكفار ونفوذهم ، وهذا فهم يصح أن يكون إذا تجاوزنا في فهم نقصان الأطراف نوعا ما أو نقول إن هذا من باب الإخبار بالغيب.

وبعض العلماء يقول : هذه آية سيقت للدلالة على قدرة الله ـ سبحانه وتعالى ـ حتى لا يفهم المشركون أن تركهم بدون إيقاع العذاب بهم عن عجز أو تقصير. لا : بل هي الحكمة الإلهية ، والترتيب الرباني للمسلمين. فيكون المعنى أفلا يرى الكفار أنا نأتى الأرض أى الكرة الأرضية ننقصها من أطرافها أى : في الشمال والجنوب فعلماء الطبيعة يقولون : إن الأرض ليست تامة التكوير والاستدارة بل منبعجة في الوسط مفرطحة من جهة القطب الشمالي والجنوبي وهذه آية كونية يفسرها العلم الحديث بعد نزولها بثلاثة عشر قرنا.

والرأى الأول لا بأس به أيضا لقوله تعالى : (أَفَهُمُ الْغالِبُونَ)؟ فإن معناها كيف يكونون غالبين بعد نقصنا لأرضهم من أطرافها وتقليل عددهم بمن يدخل في الإسلام ولو سرّا وفي هذا إشارة إلى غلبة المسلمين ونصرة أصحاب الحق مهما لاقوا ومهما حصل لهم ، قل لهم يا محمد تهديدا لهم : إنما على البلاغ ، وعلى الله الحساب ، وإنما أنذركم بالوحي والقرآن ، وأبين لكم عاقبة كفركم بما أتحدث به عن الأمم السابقة ، وذلك شأنى؟ وما أمرنى الله به. ولكن هل يسمع الصم الدعاء؟ إذا ما ينذرون!! لا : إنه لن يسمع أولئك الذين ختم الله على قلوبهم ، وعلى سمعهم ، وجعل على أبصارهم غشاوة فقلوبهم مغلقة لا يدخلها خير أبدا (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) وقد قالوا : إن هناك حواس لإدراك المعنويات من الإنذار والتخويف ، ومحلها القلب وسيأتى بيان ذلك قريبا إن شاء الله.

وتالله لئن مستهم نفحة قليلة من عذاب ربك ليقولن : يا ويلنا ويا هلاكنا ، إنا كنا ظالمين.

٥٣٤

وفي هذا إشارة إلى قوة عذاب ربك وشدته (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) (١) وإن الإنسان المسكين لفي خسر وخسارة إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ، وأنه سيعرف الحق يوم يرى الجزاء الحق يوم القيامة ، وسيندم حين لا ينفعه ندم (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) [سورة النبأ آية ٤٠].

عدل السماء

(وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (٤٧))

المفردات :

(الْقِسْطَ) العدل (مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) مثقال الحبة وزنها ، وحبة الخردل مثل في الصغر.

المعنى :

لا غرابة في عذاب هؤلاء المشركين والتشديد عليهم ، والتنكيل بهم فالله حكم بذلك ، وحكمه العدل ، وهو صاحب الميزان القسط ، وهو الذي يقول : ونضع الموازين العادلة يوم القيامة ، وهل هناك موازين حقيقية توزن بها الأعمال بعد تجسيمها؟ أو هي موازين توزن بها الأمور المعنوية كما توزن بموازيننا الأمور الحسية؟ وأظن بعد اختراع موازين للضغط وللحرارة ، وللحركة وغيرها من الأمور العارضة لا تستبعد من الله القوى القادر أن تكون هناك موازين لوزن العمل والإخلاص فيه لا تخطئ أبدا ، وقال بعضهم : إن هذا كناية عن عدل الله المطلق الذي يعطى كل ذي حق حقه مهما كان والله أعلم بكتابه.

فلا تظلم نفس شيئا أبدا أى : فلا ينقص من إحسان محسن ، ولا يزاد في إساءة

__________________

(١) سورة البروج الآية ١٢.

٥٣٥

مسيء وإن كان وزن حبة من خردل ـ فإنها مثل في الخفة والصغر ـ أتينا بها ، وحاسبنا صاحبها عليها ، وكفى بالله حسيبا وعلى الأعمال رقيبا وشهيدا ...

موسى وهارون

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٠))

المفردات :

(الْفُرْقانَ) التوراة التي أنزلت على موسى.

يقول الفخر الرازي في كتابه الفخر : اعلم أنه ـ سبحانه وتعالى ـ لما تكلم في دلائل التوحيد والنبوة والمعاد. شرع في قصص الأنبياء تثبيتا للقلوب وتطمينا للنفوس (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) [سورة هود آية ١٢٠].

المعنى :

وتالله لقد آتينا موسى وهارون التوراة الفارقة بين الحق والباطل والفارقة بين الحلال والحرام ، والضياء الذي يتوصل به إلى طريق الهداية وسبل النجاة إذ هي تعرفك بالله وبشرائعه ، وكانت ذكرى وموعظة فيها كل ما يحتاجون إليه في دينهم ومصالحهم ، ولكن لن ينتفع بها إلا المتقون ، وهكذا القرآن!!

نعم : وهذا كله إنما ينتفع به المتقون الذين يخشون ربهم ويخافون حسابه فيأتمرون

٥٣٦

بأمره ، وينهون بنهيه ، وهؤلاء هم الذين يؤمنون بالغيب ، والله لا يغيب عنه شيء.

وهم من الساعة وهولها مشفقون وخائفون.

وقد كانت التوراة كذلك هدى وضياء وذكرى قبل أن يحرفوا كلمها عن مواضعه ، ويغيروا ويبدلوا فيها.

وكما أنزل الله على موسى وهارون الفرقان فكذلك أنزل عليك يا محمد القرآن ، وها أنا أنذركم بما فيه ، ولست بدعا فالأنبياء قبلي كانت لهم كتب كالتوراة وغيرها.

وهذا القرآن ذكر مبارك ونور وهداية ، فيه الخير والهدى والعلم والمعرفة ، وفيه النجاة والسعادة ، والفوز والفلاح.

فيه أسباب سعادة الدنيا والآخرة إذ هو علاج لكل داء ، ودواء لكل مرض ، وقد أثبتت الحوادث ذلك فيما نرى.

أفأنتم له منكرون بعد هذا؟!! إن هذا لعجيب!!!

شيء من قصة إبراهيم عليه‌السلام

(وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (٥٥) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦) وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧)

٥٣٧

فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨) قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (٦٠) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (٦٦) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٧) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٦٨) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠) وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (٧١) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (٧٢) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (٧٣))

٥٣٨

المفردات :

(رُشْدَهُ) الرشد : اسم جامع للهدى والخير ووجوه الصلاح (التَّماثِيلُ) جمع تمثال وهو الصنم ، والتمثال : اسم المصنوع الذي يشبه المصنوع الذي يشبه خلقا من خلق الله تعالى (عاكِفُونَ) مقيمون على عبادتها (فَطَرَهُنَ) خلقهن وأبدعهن (لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) لأمكرن بها (جُذاذاً) فتاتا ، والجذ الكسر والقطع وقرئ جذاذا أى : كسرا وقطعا جمع جذيذ وهو الهشيم. قال الشاعر :

جذذ الأصنام في محرابها

ذاك في الله العلىّ المقتدر

(عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ) بمرأى منهم (نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ) عادوا إلى جهلهم (أُفٍ) صوت إذا صوت به علم أن صاحبه متضجر (نافِلَةً) زيادة على ما سأل ...

وفرق بعضهم بين الصنم والوثن فالصنم هو المصنوع من المعدن يذوب في النار ، والوثن المصنوع من الخشب أو غيره ، وأما التمثال فيلاحظ فيه أنه يشبه إنسانا أو حيوانا ...

إبراهيم خليل الله وأب الأنبياء ، ذكر في القرآن كثيرا لعدة أغراض ، وكان قومه أهل أوثان ، وكان أبوه نجارا ، يصنع الأصنام ويبيعها للناس ، وأما إبراهيم فقد صنعه الله على عينه ؛ ورباه على يده ، وهداه إلى الرشد فعلم أن الأصنام لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تغنى شيئا ، وما هي إلا خشبة أو حجر صنعها أبوه أمامه بالقدوم.

وها هو ذا إبراهيم قد رأى في الأوثان العجب ، وفي عبادتهم لها ما يبعث الهم والحزن ، فأخذ يناقشهم ويجادلهم تارة بالحسنى ، وطورا بالشدة ، مرة مع أبيه ، وأخرى مع الملك ، وثالثة مع الجمهور ، جادل وناقش فلما لم ينفع حطم الأصنام بيديه ليكلموه في شأنهم لعلهم بذلك يرجعون إلى الصواب ، وانتهى الأمر إلى أن أوقدوا له نارا ، وألقوه فيها فنجاه الله منها ثم هاجر من بلده (فدان آدرام) بالعراق إلى الشام ثم وهب الله له إسماعيل وإسحاق ثم يعقوب نافلة ، وكانوا لله عابدين.

٥٣٩

المعنى :

ولقد آتينا إبراهيم رشده ، ووفقناه لوجوه الصلاح والخير ، وآتيناه الحكمة من قبل ذلك ، وكنا به عالمين ، وهذا يفيد أن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ خلق ونفسه مطبوعة على التوحيد ، وحب الخير والنظر السليم للأمور ، لهذا لم يعجبه ما هم عليه من عبادة الأصنام التي لا تحس ولا تشعر!!

واذكر إذا قال إبراهيم لأبيه وقومه : ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ، وعلى عبادتها مقيمون؟!! وهذا استفهام المراد منه التجاهل والتحقير لشأنها مع علمه بأنهم يعظمونها ويجلونها ، وهو يفيد إنكار عبادتهم لها.

وانظر إلى الجهل المطبق ، والعمى عن طرق الخير والسداد ، وانظر إليهم وهم يجيبونه على سؤاله حيث قالوا : إنا وجدنا آباءنا لها عابدين!!.

ما أقبح الجهل! وما أتعس الجهلاء!! ليس في أصنامهم وأوثانهم من خير أبدا ، وليس فيها فضل أبدا ، وليس معها مقتض للعبادة والتقديس إلا أن آباءهم لها عابدون؟

وأنهم على آثارهم مقتدون : يا للعار! ويا للشنار!! وما أعظم كيد الشيطان حين استدرجهم إلى تقليد آبائهم في عبادة التماثيل ، وهم معتقدون أنهم على شيء ، ويجادلون بالباطل أهل الحق! ألا لعنة الله على الضالين المقلدين.

وأما إبراهيم فقال لهم : لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين ، وفي العبارة من التأكيد ما لا يخفى حيث قال : «أنتم» وقال «في ضلال» ... نعم أنتم وآباؤكم منخرطون في سلك ، ومجتمعون في شمل واحد حيث عبدتم حجرا أو خشبة ، وسندكم في عبادته هوى متبع وشيطان مطاع.

أما هم فحينما صدموا بهذا الرد الشديد ، والحجة التي قرعت أسماعهم ، وملأت نفوسهم ألما وحزنا قالوا متعجبين : أجئتنا بالخير والحق الصريح أم أنت من اللاعبين الهازلين؟! وهكذا المغرور المخدوع حينما يجابه بالحقائق الناصعة يستبعد أن ما عليه هو وأبوه ضلال وخطأ ، فيتعجب لذلك.

قال إبراهيم : ربكم الذي يستحق العبادة والتقديس وتعفير الوجه له بالتراب ، رب السموات والأرض الذي فطرهن ، وخلقهن على مثال عجيب ووضع دقيق وأنا على

٥٤٠