التفسير الواضح - ج ٢

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ٢

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٨٨٤

فلما أهلك الله فرعون سأل موسى ربه الكتاب فأمره أن يصوم ثلاثين يوما ثم زيدت إلى أربعين يوما (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) [سورة الأعراف آية ١٤٢].

وكان لمخالطة بنى إسرائيل للمصريين وهم عبدة الأوثان أثر كبير في نفوسهم فكانوا يقولون لموسى بعد خروجهم من مصر : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) [سورة الأعراف آية ١٣٨] ولهذا أمكن لرجل منهم أن يؤثر فيهم فعبدوا العجل بعد مفارقة موسى لهم للميقات.

ولما ذهب موسى لميقات ربه ، استخلف على القوم أخاه هارون ، وكان موسى على رأس سبعين نقيبا ذاهبين معه للميقات (كما مر في سورة الأعراف).

ولكن موسى تعجل من بينهم شوقا لربه فقيل له ما أعجلك عن قومك؟ وما الذي حملك على العجلة حتى تركت النقباء وخرجت من بينهم ، فأجاب موسى : هم أولاء على أثرى وفي عقبى ، وهم بالقرب ينتظرون عودتى إليهم على أنى عجلت إليك يا رب لترضى بمسارعتى للقائك ، وامتثال أمرك.

قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ : فإنا قد فتنا قومك واختبرناهم من بعدك ، وهم الذين تركهم مع هارون ـ وأضلهم السامري ، ودعاهم إلى الضلالة والكفر حيث قال لهم ـ وقد تأخر موسى عن الميعاد عشر ليالي : إنما تخلف موسى عن الميعاد الذي بينكم وبينه لما معكم من الحلي وهي حرام عليكم. وأمرهم بإلقائها في النار ، وكان منها العجل على ما سيأتى :

فرجع موسى إلى قومه غضبان شديد الغضب والحزن لما صار إليه حال بعضهم وهو عبادة العجل ، وقد قلت إن جهل الإسرائيليين ومخالطتهم لعبدة الأوثان سهل عليهم قبول خداع السامري.

قال موسى : يا قوم. ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا؟ حيث قال : وإنى لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ، وقد وعدهم بالثواب الجزيل إذا عملوا بما في التوراة التي سينزلها على موسى إذا ذهب للميقات.

أوعدكم ذلك فطال عليكم العهد ، وضقتم ذرعا بطول الزمن؟!!

أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم؟ أى أردتم أن تفعلوا فعلا يكون سببا

٥٠١

في حلول الغضب عليكم والعذاب من ربكم؟! فأخلفتم موعدي ، ولم تقيموا على عهدي قالوا يا موسى : ما أخلفنا موعدك بملكنا الصواب والرأى الحسن بل أخطأنا ولم نملك أنفسنا وكنا مضطرين إلى الخطأ الذي وقعنا فيه.

ولكنا حملنا أثقالا من زينة القوم أى المصريين ، وذلك أنهم أخذوا حلى بعض المصريين بحجة أن لهم عيدا أو اجتماعا ، وقيل ، لما غرق فرعون أخذوا زينته فهم حملوا أثقالا من زينة القوم ، فقذفناها كما أشار ـ بذلك السامري ـ إلى النار. فمثل ذلك القذف قذفها السامري فأخرج لهم بعد أن أذاب الذهب في النار صورة عجل له جسد ، وله خوار وصوت كصوت العجل الحي.

أكان حقيقة هذا العجل من جسد وروح وله خوار؟ أو هو عجل جسد فقط وله صوت نشأ من وضع خاص في تركيبه إذا مر به الريح صار له صوت يمكن أن يكون هذا وذاك والله أعلم.

والشيخ النجار يرى أن السامري أمكنه بالحيلة أن يحضر لهم عجلا حقيقيا لم يروه قبل هذا ، وكان أخذ الذهب منهم وإلقاؤه في النار حيلة منه فقد عمل عمل الدجالين.

ولما أخرج لهم عجلا له جسد وله صوت قال ومن معه : يا بنى إسرائيل هذا إلهكم وإله موسى الذي ذهب ليطلبه ولكنه نسى مكانه فضل طريقه ، أو هو إلهكم ولكن موسى نسى أن يخبركم به.

ويقول الله لهم : أفلا يعتبرون ويتفكرون في أن هذا العجل لا يرجع لهم قولا ولا يرد عليهم بكلمة ، ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا .. فيكف يكون إلها؟!!

ولقد قال لهم هارون محذرا إياهم من عبادة العجل ، يا قوم إنما فتنتم وابتليتم به ، وإن ربكم الرحمن ـ سبحانه وتعالى ـ فاتبعوني ولا تتبعوا طرق الشيطان وكلام السامري ، وأطيعوا أمرى فإنى ناصح لكم شفيق بكم قالوا : لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى ، ولن نزال مقيمين على عبادته حتى يعود أخوكم موسى.

فلما رجع موسى قال وهو في غاية الحسرة والألم : يا هارون ما منعك أن تتبعني في شدة النكير على المخالف والقسوة على العاصي؟ أى هلا قاتلتهم إذ قد علمت أنى لو كنت بينهم لقاتلتهم في ذلك قتالا عنيفا.

٥٠٢

أفعصيت أمرى؟ وكان أمره له (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) [سورة الأعراف آية ١٤٢].

ويصح أن يكون المعنى أفعصيت أمرى لك بالقيام لله ومنابذة من خالف دينه ، وأقمت بين هؤلاء الذين اتخذوا العجل إلها!!

قال معتذرا. يا ابن أمى لا تأخذ بشعر رأسى ولا بلحيتي وقد كان موسى فعل ذلك من شدة الغضب ، وإنى خشيت أن تقول فرقت بين بنى إسرائيل لو قاتلت ولم ترقب وتنتظر قولي ، اجتهد هارون فرأى أن طريق المسالمة خير من القتال ، وفي موضع آخر اعتذر بقوله. (إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي) [سورة الأعراف آية ١٥٠].

ثم توجه موسى إلى خطاب السامري فقال. ما خطبك يا سامرى!! ما حالك وما الذي دهاك حتى تعمل هذا؟!!

قال بصرت بما لم يبصروا به ، وعلمت ما لم يعلموا فقبضت قبضة من أثر الرسول ـ وهو جبريل ـ فما وضعتها على شيء إلا دبت فيه الحياة ، ولما رأيت بنى إسرائيل يطلبون منك أن تجعل لهم إلها كما لهؤلاء الذين يعكفون على الأصنام آلهة زينت لي نفسي ذلك وعملت لهم إلها عجلا جسدا لها خوار كالذي يعبده المصريون.

ويروى الشيخ النجار في كتابه قصص الأنبياء ص ٢٢٤ أما قول السامري (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها) فمعناها على ما اخترت أنه قبض قبضة من أثر الرسول أى تعاليمة وأحكام التوحيد التي جاء بها الرسول ـ وهو موسى ـ فنبذتها أى ألقيتها وأهملتها (وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) وهذا رأى لا ضير فيه وفي كتب أهل الكتاب من اليهود والنصارى أن الذي صنع العجل هو هارون أخو موسى ، وهو كذب وافتراء يضيفونه إلى سلسلة الأكاذيب التي ينسبون فيها إلى رسل الله أحط الأعمال وأحقرها.

قال موسى للسامري. اذهب فإن جزاءك في الدنيا أن حالك تصل إلى أن تقول لغيرك لا مساس فأنت تنفر من الناس وتعيش منبوذا مطرودا وذلك جزاء الظالمين.

أما في الآخرة فإن لك موعدا هو يوم القيامة لن تخلفه أنت ، ولن تمكن من خلفه والله لا يخلف الميعاد. فهو حاصل قطعا وستأخذ فيه جزاءك الأوفى.

وأما هذا الإله الباطل فحكمه الإحراق وأن يذرى في الماء.

٥٠٣

إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو. ولا معبود بحق سواه ، العالم بخلقه ، الخبير بشأنهم الذي وسع كل شيء علما .. ترى أن قصة موسى بدئت بالتوحيد الخالص وانتهت به كذلك كانت رسالة كل نبي.

المعرضون عن القرآن يوم القيامة

(كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (٩٩) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (١٠٠) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (١٠١) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (١٠٢) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (١٠٣) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (١٠٤) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (١٠٦) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (١٠٧) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (١٠٨) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (١٠٩) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (١١٠) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (١١١) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (١١٢) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا

٥٠٤

وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (١١٣) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (١١٤))

المفردات :

(ذِكْراً) هو القرآن الكريم (وِزْراً) إثما عظيما وحملا ثقيلا (يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) الصور : شيء كالبوق ينفخ فيه مرة فيموت الكل ثم ينفخ فيه أخرى فيحيا الكل وتأتى الناس أفواجا (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ)(زُرْقاً) المراد : تسوء خلقتهم بزرقة عيونهم وسواد وجوههم (يَتَخافَتُونَ) يتسارون (يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) المراد : يفتتها كالرمل ثم تذروها الرياح (قاعاً صَفْصَفاً) القاع المستوي من الأرض المكشوف ، والصفصف المستوي الأملس. والمعنى يكاد يكون واحدا (عِوَجاً) أى : اعوجاجا وتعوجا (وَلا أَمْتاً) أى : تلالا صغيرة (عِوَجَ لَهُ) لا معدل لهم عنه (خَشَعَتِ) ذلت وسكنت (هَمْساً) صوتا خفيا (هَضْماً) انتقاصا من حقه.

المعنى :

مثل القصص ذلك الذي قصصناه عليك من خبر موسى وفرعون. نقص عليك من أنباء ما قد سبقك من أخبار الأمم الماضية ففي القصص عبرة وعظة ، ودرس وتسلية ، وإحاطة بأخبار الناس وأحوالهم فالزمن يوم مكرر والناس هم الناس وإن اختلفت الأزمان وتغيرت الأحوال.

وآتيناك من لدنا قرآنا هو ذكر لك ولقومك وشرف لك وأى شرف؟ ، وفي القرآن ذكر للرحمن ، وذكرى وموعظة للإنسان.

من أعرض عن القرآن وذكره ، وما فيه فإنه يحمل يوم القيامة حملا ثقيلا من الآثام

٥٠٥

والأوزار خالدين فيه ماكثين في عذابه ، وساء لهم يوم القيامة حملا ، وبئس الحمل حملهم يوم القيامة.

يوم ينفخ في الصور النفخة الثانية بدليل ذكر الحشر بعدها ، ونحشر المجرمين الظالمين وهم المشركون زرق العيون سود الوجوه (عَلَيْها غَبَرَةٌ* تَرْهَقُها قَتَرَةٌ* أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) [عبس الآيات ٤٠ ـ ٤١ ـ ٤٢] نحشرهم عطاشا خائفين مضطربين ، يتسارون بينهم قائلين. ما لبثتم إلا عشرا من الليالي أو من الساعات فهم لشدة ما يرون ولهول ما يصادفون يستقصرون مدة الدنيا أو مدة ما كانوا في القبر ، أو مدة ما بين النفختين ، نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم وأصدقهم نظرا ما لبثنا إلا يوما واحدا لا عشرا ، والأمثلية نسبية فلا يمنع أنه على الباطل مثلهم.

ويسألونك عن الجبال ماذا تكون يوم القيامة؟ استعظاما لها سألوا عنها النبي فأمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول لهم : فقل ينسفها ربي نسفا قال بعضهم : يقلعها من أصولها ، ثم يصيرها رملا دقيقا ، ثم يصير كالصوف المندوف ، ثم تكون هباء منثورا .. فيذر أماكنها أرضا مستوية مكشوفة لا نبات فيها ولا بناء وهي صفصف أى : مواضعها أرض ملساء مستوية لا شيء فيها ، لا ترى فيها عوجا ولا ميلا ، ولا تلالا صغيرة ، والمعنى أن الجبال ذهبت وبقيت مواضعها أرضا مستوية مكشوفة معتدلة لا شيء عليها.

يومئذ يتبعون الداعي وهو إسرافيل الذي ينفخ في الصور ، لا معدل لهم عن ابتاعه! ولا ينحرفون عن طلبه بل يسرعون إليه ولا يحيدون عنه ، وخشعت الأصوات وسكنت فلا تسمع إلا صوتا خافتا ، ولا تسمع إلا وقع الأقدام فقط إذ كل امرئ له شأن يغنيه عن كلام أخيه ، ويومئذ لا تنفع الشفاعة أحدا إلا شفاعة من أذن له الرحمن ورضى له قولا ، إذ الله ـ سبحانه وتعالى ـ هو المالك المتصرف في الخلق جميعا العالم ما بين أيديهم من أحوال القيامة ، وما خلفهم من أمور الدنيا ولا أحد يحيط به علما .. وعنت الوجوه وذلت الرقاب ، وخضعت النفوس للحي القيوم على كل نفس بما كسبت القائم بتدبير الخلق جميعا ، الدائم الذي لا يزول ولا يحول ولا يبيد ، وقد خاب من حمل ظلما وشركا.

ومن يعمل من الصالحات الباقيات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا نقصا لثوابه ولا هضما لحق من حقوقه (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) [سورة الأنبياء آية ٤٧].

٥٠٦

ومثل ذلك الإنزال أنزلناه أى : القرآن حالة كونه قرآنا بلسان عربي غير ذي عوج لأنه نزل على العرب فكان بلغتهم التي يفهمونها على معجزته كانت من ناحية البلاغة العربية التي أعجزت فحول العرب مجتمعين فلا يبقى عذر لعربي لا يؤمن بالقرآن لأنه بلغته فيمكن الحكم عليه ، وأما غير العرب فإذا رأوا عجز العرب عن الإتيان بمثله مع التحدي لهم آمنوا بأنه من عند الله. على أن في القرآن نواحي إعجاز أخرى في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والعلوم. فمن ينظر إلى كلامه في الشجر والنبات يؤمن أنه لا يمكن لمخلوق في القرن السادس الميلادى أن يأتى بهذا ، ويقولون : إن ملاحا انجليزيا نظر في كلام القرآن عن البحار والسفن فآمن أنه من عند الله ولا شك ، وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا ، وصرفنا فيه من الوعيد ، وكررناه ، وسقناه على أشكال وألوان مختلفة لعلهم يتقون الله ويخافون عقابه ، ولا شك أن كثرة الكلام في الثواب والعقاب يحدث هذا ، ألا ترى إلى فن الإعلان اليوم ، وأنه يعتمد على كثرة العرض والحديث عن الشيء في ألوان مختلفة.

لعل الناس يتقون أو يحدث لهم ذكرا ووعظا وخوفا وتقوى.

وإذا كان الله صاحب هذا القرآن الكامل المعجز فتعالى الله ـ سبحانه وتعالى ـ الملك الحق.

ولا تعجل يا محمد بالقرآن وتلاوته ، وكان النبي لشدة حرصه على القرآن يتابع جبريل فيه بسرعة فقيل له. لا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) [سورة القيامة الآيتان ١٦ و ١٧] وقل ربي زدني علما ، وإذا كان هذا حال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فما لنا لا نحرص على القرآن الحرص المناسب لنا؟؟

قصة السجود لآدم

(وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى

٥٠٧

(١١٦) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (١٢٠) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (١٢٧))

المفردات :

(عَهِدْنا) العهد من الله للناس كل أمر أو نهى منه ، والعهد الذي كان من الله لآدم هو أمره الذي حرم عليه الأكل من الشجرة (فَنَسِيَ) النسيان له معان : منها هو ضد التذكر ، أو هو بمعنى السهو ويظهر أن هذين المعنيين ليسا معنا ، وقيل : هو

٥٠٨

بمعنى عدم الاهتمام بالشيء وجعله في زاوية النسيان وعليه قوله : (نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ).

(عَزْماً) العزم التصميم على العمل ، وانعقاد الضمير عليه (فَتَشْقى) فتتعب (وَلا تَعْرى) من العرى ضد اللباس (وَلا تَضْحى) ولا تظهر للشمس فتجد حرها (فَوَسْوَسَ) الوسوسة : الصوت الخفى المكرر ، والمراد : ما نجده من الخواطر (شَجَرَةِ الْخُلْدِ) المراد شجرة الحنطة (مُلْكٍ لا يَبْلى) لا ينفذ (سَوْآتُهُما) المراد عوراتهما (طَفِقا يَخْصِفانِ) أخذ يجعلان ورقة فوق ورقة (فَغَوى) أى : فشد عليه عيشه بنزوله الدنيا (ضَنْكاً) أى : شديدة متعبة (أَسْرَفَ) انهمك في اقتراف الشهوات.

قصة آدم أبى البشر ذكرت في القرآن عدة مرات ، وفي سور مختلفة ، وبأساليب متباينة ، وكانت جديرة بذلك لما فيها من الأسرار والإشارات ، ولما في ذكرها من التذكير والعظات ، لو كانوا يعقلون.

المعنى :

وبالله لقد عهدنا إلى آدم من قبل وجود هؤلاء الناس ، عهدنا إليه ووصيناه بألا يقرب هذه الشجرة ، وأمرناه ألا يأكل منها فنسي هذا الأمر ولم يهتم به فلم يكن في بؤرة شعوره ، وذلك بوسوسة إبليس له ، ولم نجد له عزما وتصميما إذ هو ناس لا محالة.

إذن يمكن أن نفهم من هذه الآية أن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يعرفنا أن النسيان وعدم العزم هما سببا هبوط المرء إلى درجة العصيان ؛ أما التذكرة وقوة العزم فهما سبب الصعود إلى الخير والرشد.

واذكر إذ قلنا للملائكة : اسجدوا لآدم تحية وإجلال لا سجود عبادة وتأليه حتى يعرف أبناؤه تكريم الله لهم فيقوموا بواجب الشكر ورد الجميل فسجدوا جميعا إلا إبليس الذي كان معهم وقت الأمر ، وإن كان من الجن كما هو ظاهر الآية (كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) [سورة الكهف آية ٥٠].

٥٠٩

فقلنا : يا آدم أما وقد عصى إبليس ربه ولم يسجد لك حسدا أو غرورا منه فاعلم أنه عدو لك ، ولزوجك ، وإياك طاعته ، واحذر من وسوسته وتزيينه الباطل في صورة الحق.

إن هذا عدو لكما فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى وتتعب ، إنك يا آدم فيها لا تجوع أبدا ، ولا تعرى أبدا ، ولا تظمأ من العطش ، ولا تظهر في الشمس فتجد حرها ولهيبها ـ فأنت في الجنة متمتعا بنعم الله التي لا تحصى.

ومع هذا التذكير لآدم ، والتحذير له من إبليس.

وسوس له الشيطان وزين له العصيان ، وقال له : يا آدم أقسم ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكون ملكين أو تكونا من الخالدين ، وقاسمهما إنى لكما لمن الناصحين :

يا آدم هل أدلك على شجرة إن أكلت منها كنت من الخالدين ، وكان لك ملك لا يبلى ولا يفنى ، أتى آدم من جهة إثارة غريزتين هما غريزة حب البقاء ، وغريزة الملك فأزلهما الشيطان ، وضحك عليهما بكذبه وتغريره. فأكلا من الشجرة المحرمة. عند ذلك بدت لهما عوراتهما ، وأخذ يستران العورة ، ويخيطان عليها من ورق الشجر وعصى آدم ربه ففسد عيشه وتبدل حاله لحكمة الله يعلمها ، وقيل إن المراد في بدت لهما عوراتهما : ظهور الغريزة الجنسية عندهما.

ثم بعد ذلك اجتباه ربه واصطفاه فتاب عليه لما ندم على ما فرط منه ، وهداه إلى سواء السبيل (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ) [سورة البقرة آية ٣٧].

خرج آدم وحواء من الجنة لما أكلا من الشجرة ، وأمرهما أن يهبطا إلى الأرض فقال : اهبطا أنتم والشيطان الذي أغواكم من الجنة إلى الأرض بعضكم لبعض عدو فاحذروا يا أبناء آدم هذا العدو اللدود لكم.

فإما يأتينكم منى هدى على لسان الرسل فمن اهتدى واتبع وسلك سبيل الخير وابتعد عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ، ولن تراه في الدنيا يضل ، ولن تراه يشقى أبدا بل هو في سعادة أبدية إن أعطى المال شكر وإن حرم منه صبر فهو سعيد راض ، قنوع ، محتسب فائز إن شاء الله.

٥١٠

ومن أعرض عن ذكرى وسلك سبيل الغواية والشيطان ، فإن له معيشة ضنكا ، معيشة تعب وألم فهو دائما في تعب ونصب إن أعطى مالا هو مستقله ويطلب المزيد منه مهما كان ، وإن حرم منه فهو غير راض عن ربه فهو في الحالين في عيشة تعسة وحياة منغصة.

أما يوم القيامة فسيحشره أعمى عن درجات السعادة ، وأعمى عن طرق النجاة فسيتردى في جهنم وبئس القرار.

قال : ربّ لم حشرتني أعمى؟ وقد كنت بصيرا ، قال : ليس العمى الذي أنت فيه الآن عمى البصر ، ولم تكن في الدنيا بصير القلب بل كنت أعمى البصيرة أتتك آياتنا على لسان رسلنا فنسيتها ، وأهملتها ، ولم تر بقلبك فيها نورا ولا هداية ، وكذلك اليوم تنسى وتهمل في عذاب النار.

ومثل ذلك نجزى من أسرف على نفسه ، وانهمك في الشهوات ؛ والبعد عن آيات القرآن ولم يؤمن بها الإيمان الصحيح.

وأقسم لعذاب الآخرة وأهوالها أشد وأنكى من عذاب الدنيا ، لأنه دائم لا ينقطع وهم فيها خالدون.

عبر ونصائح

(أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (١٢٨) وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (١٣٠) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا

٥١١

لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣١) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (١٣٢) وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٣٣) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (١٣٤) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (١٣٥))

المفردات :

(أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) هدى كاهتدى بمعنى تبين (الْقُرُونِ) الأمم (آناءِ) جمع إنى بمعنى وقت (وَلا تَمُدَّنَ) المراد : لا تطل نظرهما بطريق الرغبة والميل (أَزْواجاً) أصنافا (زَهْرَةَ الْحَياةِ) زينتها وبهجتها (بَيِّنَةُ) بيان ما في الكتب السابقة (نَذِلَ) بعذاب الدنيا ، (وَنَخْزى) بعذاب الآخرة (مُتَرَبِّصٌ) منتظر ما يؤول إليه الأمر.

المعنى :

أغفل هؤلاء المكذبون للنبي الكافرون برسالته فلم يتبين لهم خبر من أهلكناهم من الأمم السابقة؟ حالة كونهم يمشون في مساكنهم التي أصبحت خاوية على عروشها وحتى لم يبق من عاد وثمود ، وأصحاب الأيكة وقوم لوط أثر ولا عين (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا) [سورة النمل آية ٥٢].

إن في ذلك لآيات واضحات ولكن لأولى النهى والعقل (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [سورة الحج آية ٤٦].

٥١٢

ولو لا كلمة سبقت من ربك بتأخير العذاب عنهم ، وأجل مضروب ومسمى عند الله لكان إهلاكهم لأجل تكذيبهم لك لازما لهم فورا ، ولهذا فاصبر على ما يقولون ، وسبح بحمد ربك ، وصل لربك حامدا له ومستغفرا قبل طلوع الشمس كصلاة الفجر وقبل الغروب كصلاة الظهر والعصر وبعض الليل فسبحه فيه عند صلاة المغرب والعشاء وفي قيام الليل ، وعليك بالصلاة خصوصا عند أطراف النهار وعند طلوع الشمس وعند الغروب لعلك أيها المخاطب ترضى بالجزاء الوافر.

أما علاج تكذيب المكذبين ، وعناد المشركين ، وإيلام الكفار للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه بالصبر والسلوان فهذا أمر ظاهر المعنى بين الحكمة ؛ وأما العلاج بالتسبيح والاستغفار ؛ والصلاة والتكبير فهذا دليل على تأثير الروح في النطاق الجسمى إذ الصلاة والتسبيح غذاء للروح قوى ، وإذا قويت الروح كان الإحساس بالتعب الجسمى ، وبالألم البدني قليلا بل يكاد ينعدم ، ولقد كنا نقرأ حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقول لفاطمة ابنته : وقد شكت له ما تجد من مشقة (الرحا) حين تديرها لطحن طعامها وطعام بنيها ما معناه : إذا أويت إلى فراشك فقولي : (سبحان الله والحمد لله. والله أكبر ثلاثا وثلاثين) قالت فاطمة : فلم أجد بعد ذلك ما كنت أجد من مشقة أو أذى.

فما علاقة التعب الجسماني بالتسبيح والتحميد والتكبير؟!! ولكن ظهر أن هذا للروح والروح إذا قويت لم يشعر الجسم بالتعب ، ولقد صدق الله حيث يقول : (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها) الآية.

وهذا إرشاد آخر ، ونصح للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونحن أولى به باتباعه ، ولا تطيلن النظر إلى ما متعنا به أصنافا من الناس ، فتلك زهرة الحياة الدنيا وزينتها وبهجتها ، والمعنى : لا تنظر متعجبا طالبا مثله فإنما أعطيناهم لنفتنهم فيه ونبلوهم به ، ورحمة ربك في الآخرة خير من هذا كله وأبقى.

وليست الآية تأمرنا بالكسل وعدم العمل ، ولكنها تنهانا فقط عن أن نتمنى مثل ما في يد الكفار والعصاة من حطام الدنيا الفاني ، والواجب أننا لا نجعل الدنيا أكبر همنا ، ونترك الآخرة بالمرة بل نعمل للآخرة مؤثرين رضاء الله وطاعته ولا ننسى نصيبنا

٥١٣

من الدنيا ولا نحزن على فواتها ، ولا نفرح لمجيئها «اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنّك تموت غدا».

وهاك نصحا آخر : وأمر أهلك من أقاربك وأصحابك وأصدقائك بالصلاة ، وحببهم فيها ، وعلمهم الصبر عليها ، واستعينوا بها على قضاء حوائجكم ، وفك أزماتكم «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا حزبه أمر ـ أى : وقع في شدة ـ هم إلى الصلاة» حديث شريف.

كانوا يكثرون من اقتراح الآيات على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأنهم لم يقنعوا بما في يد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المعجزات. وخصوصا القرآن الكريم المعجزة الباقية.

وقالوا عنادا وكفرا : لو لا يأتينا بآية من ربه كالعصا والناقة مثلا!! أعموا ولم يأتهم بيان ما في الكتب السابقة ، ولقد جاءهم هذا كله في القرآن المهيمن على الكتب السابقة المصدق لها ، وفيها أن الأقوام السابقة طلبوا آيات فأجيبوا بها ولم يؤمنوا لها فأهلكهم ربهم بعذاب من عنده.

وكيف يطلبون الآية بعد هذا القرآن الجامع الشامل الذي فصل كل شيء تفصيلا وما فرط في شيء أبدا ، بل فيه كل الصحف السابقة وزيادة.

ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبل نزوله على يد المصطفى لقالوا : لو لا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونؤمن بها من قبل أن نذل في الدنيا ونعذب في الآخرة : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [سورة النساء آية ١٦٥].

قل لهم كل منا ومنكم متربص ومنتظر ما يؤول إليه الأمر ، وعند ذلك فستعلمون من أصحاب الصراط السوى والطريق المستقيم ، ومن هو على الهدى ومن هو على الضلال؟!!! ولقد علموا نهاية أمرهم ، وعاقبة كفرهم ..

٥١٤

سورة الأنبياء

مكية عند الجميع ، وهي مائة واثنتا عشرة آية ، وسميت بذلك لذكر قصص الأنبياء فيها وهي كغيرها من السور المكية ، تهدف إلى إثبات عقيدة الإسلام في نفوس المشركين فتراها تعرض لأقوالهم ، وترد عليهم مهددة منذرة ، وتلفت الأنظار للكون وما فيه حتى يستدل بذلك على خالقه ، ثم تعرض لقصص بعض الأنبياء للعبرة والعظة ، وهي في البدء والنهاية تصور بعض مشاهد يوم القيامة بأسلوب قوى مؤثر.

المشركون ودعواهم والرد عليهم

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ

٥١٥

(٦) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠))

المفردات :

(غَفْلَةٍ) غفل عن الشيء من باب دخل ، وغفلة أيضا وأغفله عنه غيره وقد تستعمل فيمن تركه إهمالا وإعراضا كما هنا ، ومنه قيل أرض غفل أى لا علم بها ورجل غفل لم يجرب الأمور (مُعْرِضُونَ) من أعرض عنه بمعنى أضرب وولى عنه (لاهِيَةً) ساهية. معرضة. متشاغلة عن التأمل والتفهم (النَّجْوَى) التناجي والتسار في القول (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ) أتتبعونه (أَضْغاثُ أَحْلامٍ) هي الرؤيا الكاذبة ، التي لا يكون لها تأويل ، والأضغاث ، جمع ضغث والأصل فيه يطلق على قبضة من حشيش مختلط رطبها بيابسها والرؤيا الكاذبة مختلطة غير منتظمة فلا تأويل لها (افْتَراهُ) اختلقه من تلقاء نفسه (الْمُسْرِفِينَ) المبالغين في الكفر والظلم.

المعنى :

لقد صدق عامر بن ربيعة حين جاءه رجل ، كان أكرم مثواه في يوم ، وقال له أى لعامر : إنى استقطعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واديا ؛ ما في العرب واد أفضل منه ، وقد أردت أن أقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك فقال عامر : لا حاجة لي في قطعتك ، نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ).

٥١٦

افتتح الله هذه السورة بما يوقف الأطماع ، ويحدد الاتجاه ، وبما يوقفنا على ما كان عليه المشركون المشار إليهم في الآية ، وإن كان لفظ الآية يتناول الناس جميعا.

اقترب للناس زمان حسابهم ، وقرب الوقت الذي فيه يحاسبون على أعمالهم ، والحال أنهم في غفلة ، وهم معرضون عن الذكر الحكيم.

يا للعجب! يقترب الحساب ، والناس عنه غافلون ، وله ناسون وتاركون ، شغلتهم أموالهم وأهلوهم ، وهم معرضون ومضربون عما فيه خيرهم ، وبه سعادتهم في الدنيا والآخرة إن هذا لعجيب!!

هذا أمر في الناس جميعا ، وداء أصاب العالم أجمع ، ولكن الأوصاف الآتية تجعلنا نتجه بالكلام ناحية المشركين المعاصرين للنبي خاصة فهم الذين لا يأتيهم ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون.

نعم ما يأتيهم ذكر وقرآن من ربهم محدث يتلوه جبريل على النبي سورة بعد سورة وآية بعد آية ، فالقرآن نزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منجما تبعا للحوادث ، والقرآن أى : هذا الصوت الذي يسمع بالأذن ، والحروف التي ترى بالعين هو حادث بلا شك ، وأما القرآن بمعنى كلام الله ـ سبحانه ـ النفسي فهو قديم قدم باقى الصفات القدسية.

وقيل : الذكر هو ما يذكرهم به المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويعظهم به ، وكونه من ربهم فهو موافق لقوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) [سورة النجم آية ٣] ولا شك أن ذكره ووعظه حادث (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ) [سورة الغاشية آية ٢١].

ما يأتيهم من ذكر ربهم محدث في حال من الأحوال إلا في حال استماعهم وهم يلعبون ويلهون.

لاهية قلوبهم ، ومعرضة عن ذكر الله ، متشاغلة بالدنيا وزخرفها الكاذب عن الدين وعن ذكر الله الذي به تطمئن القلوب ، وتهدأ النفوس.

وأسروا النجوى ، وهل النجوى تكون في غير السر؟ إنها لا تكون إلا سرا ، والمراد أنهم كتموا التناجي قاصدين ، وبالغوا في إخفائه ليبحثوا عما يطفئون به نور الله ، ويبطلون به رسالة رسول الله! ولكن هيهات لهم ذلك!

٥١٧

وأسروا النجوى وقال الظالمون منهم : ما هذا إلا بشر مثلكم فكيف يكون رسولا إليكم؟ وهو لا يتميز في شيء عنكم.

أفتأتون السحر؟ ومحمد لم يأت إلا بالسحر فكيف تجيئون إليه وتتبعونه؟ والحال أنكم تبصرون الأمور على حقيقتها ، ولستم غفلا.

ولكن الله أطلع رسوله على ما تناجوا به ، وقالوه في السر العميق ، وأمره أن يقول لهم : ربي يعلم القول مطلقا سواء جهرتم به أو أسررتم ، وسواء كان في السماء أم في الأرض فإنه يعلم السر وأخفى ، وهو السميع لكل ما يسمع العليم بطوايا النفوس وخطرات القلوب.

وصفوا رسول الله بأنه ساحر وأن ما يقوله سحر ، إذ خفى عليهم سببه ، مع أنه يبهر العقول ، ويأتى بالأعاجيب .. ثم أضربوا عن ذلك ووصفوه بأنه أضغاث أحلام مفتراة ، لا نسق فيها ولا نظام ، ولا أساس لها ولا تأويل ، ثم نظروا إلى القرآن وإلى ما قالوه فيه فعدلوا عن الحكم الأول والثاني وقالوا : لا : بل قد افتراه واختلقه من عند نفسه ، وإنه كاذب في دعواه أنه من عند الله.

ثم أضربوا عن ذلك ، وقالوا : بل هو شاعر يؤثر ببليغ كلامه فيفرق بين المرء وأخيه ، وأمه وأبيه.

أليس في هذا الاضطراب والتردد ، والتلون وتغيير الحكم دليل على أنهم جاهلون بحقيقة ما جاء به ، أو عرفوه ولكنهم في حماقة المغلوب ويأس المهزوم رموه بالسحر تارة. والكذب وغيره تارة أخرى.

ثم انتقلوا إلى ناحية أخرى فقالوا : إن لم يكن كذلك فليأتنا بآية غير القرآن كما أرسل موسى بالعصا ، وصالح بالناقة ، ولقد كان سؤالهم هذا سؤال تعنت ، ويعلم الله أنهم لا يؤمنون ولو نزل عليهم ما طلبوا (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) [سورة الأنعام آية ١١١].

اقترحوا الآيات التي لا يقع معها إمهال فقال الله مجيبا لهم :

ما آمنت قبلهم قرية من القرى بعد إجابتهم إلى ما اقترحوا ، وقد أهلكناهم بسبب

٥١٨

اقتراحهم قبل هؤلاء فكيف نعطيهم ما يطلبون؟! وسنة الله لا تتغير أبدا فكيف يؤمن هؤلاء؟ أهم غير الأمم فهم يؤمنون؟!!

وما لهم ينكرون لقصر عقلهم أن الرسول لا يكون بشرا؟ وما أرسلنا قبلك في زمن من الأزمان إلا رجالا من البشر يوحى إليهم (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) [سورة الكهف آية ١١٠]. أيها الناس : إن شككتم في أن الرسل بشر فاسألوا أهل الذكر من اليهود والنصارى فهم لا ينكرون ذلك أبدا إن كنتم لا تعلمون ، وفي هذا تسجيل عليهم بالجهل وعدم المعرفة.

وقد كانوا ينكرون على الرسول عوارض البشرية ، وخصائص الإنسانية (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ)؟ [سورة الفرقان آية ٧] ؛ فيرد الله عليهم بقوله : وما جعلنا الرسل ذوى جسد لا يأكلون الطعام ، وما جعلناهم خالدين فالرسول بشر يأكل ويشرب وينام ، ويأتى النساء إلا أن الله اصطفاه واختاره لرسالته وأنزل عليه دستوره وكتابه الذي يخرج أمته من الظلمات إلى النور.

وكان للرسل مع ربهم وعد صريح بنجاتهم ومن آمن معهم ، وهلاك الكفار والعصاة من قومهم واقرأ إن شئت قصص الأنبياء في سورة هود.

ثم صدقناهم في الوعد ونجيناهم ومن نشاء من المؤمنين بهم ، وأهلكنا المسرفين المكذبين ، وتلك عاقبة الظالمين.

لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم ، وشرفكم (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) (١) وفيه ذكر أمور دنياكم ودينكم وأحكام شرعكم ، وجزاء أعمالكم أفلا تعقلون؟!! وتتدبرون أمركم ...

إنذار وتهديد

(وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢)

__________________

(١) سورة الزخرف الآية ٤٤.

٥١٩

لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (٢٠))

المفردات :

(قَصَمْنا) القصم : الكسر الشديد ، وهو أفظع مع الفصم الذي هو الكسر من غير إبانه (يَرْكُضُونَ) الركض : ضرب الدابة بالرجل ، ومنه قوله : (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) وركضت الفرس برجلي استحثثته ليعدو ، والمراد أنهم يهربون ويسرعون (إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ) إلى نعمكم التي كانت سبب بطركم ، المترف المتنعم يقال أترف على فلان أى : وسع عليه في معاشه ، وعليه (وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أى : وسعنا عليهم (حَصِيداً) محصودين كما يحصد الزرع بالمنجل (خامِدِينَ) ميتين (نَقْذِفُ) نرمي ، (فَيَدْمَغُهُ) المراد : يقهره ويهلكه ، وأصل الدمغ : شج الرأس حتى الدماغ ، ومنه الدامغة (زاهِقٌ) ، هالك ، وتالف (يَسْتَحْسِرُونَ) ، يعيون ويتعبون (لا يَفْتُرُونَ) : لا يضعفون.

٥٢٠