التفسير الواضح - ج ٢

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ٢

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٨٨٤

المفردات :

(امْكُثُوا) أقيموا في مكانكم (آنَسْتُ ناراً) أبصرت نارا والإيناس الإبصار البين الذي لا لبس فيه ومنه إنسان العين لأنه يبصر الأشياء ويتبينها (بِقَبَسٍ) القبس النار المقتبسة (الْمُقَدَّسِ) المطهر (طُوىً) اسم الوادي (أُخْفِيها) من الأضداد أى أكاد أظهرهما أو أسترهما فهي تدل على معنيين متضادين (فَتَرْدى) فتهلك.

المعنى :

فلما قضى موسى الأجل الذي ضربه بينه وبين صهره الشيخ الكبير بمدين قيل : هو شعيب وقيل : غيره والله أعلم.

فلما قضى الأجل واستأذن في السفر إلى مصر خرج هو وامرأته وغنمه فلما وافى وادي طوى ، وهو بالجانب الغربي من الطور ولد له في ليلة باردة مظلمة شاتية ، وقد ضل الطريق ، فأراد نارا ليدفئ بها امرأته التي ولدت فقدح زنده فلم يخرج نارا فبينما هو في أشد الحاجة إلى النار أبصر على يسار الطريق من جانب الطور نارا فقال لأهله : امكثوا وأقيموا في مكانكم لا تبرحوه إنى آنست نارا : وأبصرت ما يؤنسنا على سبيل الجزم ، وأما إتيان قبس منها أو وجدان هداية للطريق عندها فأمر مشكوك فيه ولذا قال. لعلى آتيكم منها بشعلة من النار المقتبسة منها ، أو أجد على النار هاديا يهديني إلى الطريق الحق الموصل إلى ما نريد.

فلما أتاها وجدها نارا بيضاء صافية ، مشتعلة في شجرة خضراء يانعة ، أنكرها وتوجس خيفة منها ، فلما أتاها بهذا الشكل نودي من قبل الرب ـ سبحانه وتعالى ـ : إنى أنا ربك.

ولعل نداءه عند النار بعيدا عن أهله وماله ، وقد ضل الطريق المألوف للناس إشارة إلى ما يجب أن يكون عليه الأنبياء والدعاة إلى الله من تجردهم من الدنيا وأهلها وتنكبهم الطرق المألوفة عندهم.

ونودي من قبل الله أن يا موسى فارتاع لهذا النداء وشك في مصدره. فقال الله له على سبيل التوكيد. إنى أنا ربك الذي خلقك وسواك وعدلك ، ورباك في بيت

٤٨١

عدوك ولحظك بعنايته ورعايته إلى هذا الوقت فاخلع نعليك احتراما وتقديسا ، وإجلالا وتعظيما إنك بالوادي المقدس المطهر الذي يقال له طوى.

وأنا اخترتك يا موسى ، واصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي ، فاستمع إلى كل ما يوحى إليك ، وخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين.

إننى أنا الله لا إله إلا أنا ، ولا معبود بحق سواي ، فاعبدني مخلصا لوجهي ، وأقم الصلاة لتذكرني بها ، أو لأذكرك في علين بها ، واعلم أن الساعة آتية لا محالة ، أكاد أخفيها فلا أقول هي آتية لفرط إرادتى خفاءها ، ولا ما في الإخبار بإتيانها ـ مع تعميمه وقتها ـ من المصلحة لما أخبرت به ، وهذا معنى جميل ، ذكره الزمخشري والقرطبي وغيرهما ، ويؤيده أن كل لفظ في الآية أدى معناه الموضوع له. قال اللغويون : «كدت أفعل» معناه عند العرب قاربت الفعل ولم أفعل ، «وما كدت أفعل» معناه فعلت بعد إبطاء. وعلى هذا فمعنى الآية إن الساعة آتية لا شك فيها وقاربت أن أخفيها ولكني لم أفعل لقولي سابقا إنها آتية ، فهي آتية في وقت الله أعلم به ، والله أخفى الساعة أى : القيامة ، والساعة التي يموت فيها الإنسان ، ليعمل الإنسان بجد ولا يؤخر التوبة لحظة ، ودائما يترقب الموت في كل لحظة ، ولو عرف الإنسان الساعة لوقفت الحياة وما عمرت الدنيا.

وبعضهم يرى أن المعنى : إن الساعة آتية أكاد أظهرها وقوله : لتجزى كل نفس بما عملت متعلق بآتية ، ويؤيد هذا قراءة أخفيها واللغة لا تمنع ، ذلك وهناك من يرى أن الآية هكذا ، إن الساعة آتية أكاد بمعنى أن الساعة آتية أكاد آتى بها ثم يبدأ كلاما جديدا بقوله أخفيها وأكتمها لتجزى كل نفس بما تسعى ، وهذا المعنى حسن وليس فيه إلا حذف خبر «أكاد» وله نظير في كلام العرب ، قال الضابئ البرجمي :

هممت ولم أفعل وكدت وليتني

تركت على عثمان تبكى حلائله

فالشاعر العربي حذف أى : وكدت أفعل ، ولكني لم أفعل ، وعثمان هو عثمان بن عفان الخليفة الثالث ـ رضى الله عنه ـ.

فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها ولا يمنعك من الإيمان بها والتصديق لها من لا يؤمن بها ، واتبع هواه ، إنك إن فعلت ذلك تهلك ، وفي هذه إشارة إلى أن كل داعية

٤٨٢

للخير لا بد من وجود من يعوقه ويكفر به وبرسالته ، ويعمل على إخفاء نوره ولكن لا يعوقه ذلك ، والله متم نوره ولو كره المبطلون.

بعثة موسى ـ عليه‌السلام ـ وما طلبه من ربه

(وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (١٧) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (١٨) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (١٩) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (٢٠) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (٢١) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٢٤) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (٣٥))

المفردات :

(أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) التوكؤ التحامل على شيء ، وهو بمعنى الاتكاء والمراد أعتمد عليها (وَأَهُشُ) يقال هش الورق يهشه إذا خبطه ليسقط والمراد أسقط بها الورق على غنمي لتأكل (مَآرِبُ) جميع مأربة وهي الحاجة (جَناحِكَ) جنبك (طَغى) جاوز

٤٨٣

الحد (عُقْدَةً مِنْ لِسانِي) العقدة اللكنة في اللسان (وَزِيراً) مأخوذ من الوزر لأن الوزير ملجأ الرئيس ومستشاره في الرأى أو من الوزير لأنه يحمل عن الرئيس بعض العبء أو من المآزرة لأنه يعينه في الحكم (أَزْرِي) أى : قوتي والمراد قوتي به.

المعنى :

قد أتاك حديث موسى إذ ناداه ربه بالوادي المقدس طوى وقال إنى أنا ربك إلخ الآية ثم قال له : وما تلك بيمينك يا موسى؟ ما هذه التي بيمينك يا موسى؟ سأله عما في يمينه ـ وهو العالم بكل شيء ـ ليلفت نظره إلى العصا وحقيقتها ، ليدرك عظمة الله وقوته حيث يقلبها إلى حية تسعى!! وفي هذا تربية لموسى حتى لا يستبعد على الله شيئا بعد ذلك.

قال موسى مجيبا لربه مطنبا في كلامه لأن المقام يقتضى من التطويل ـ ليتلذذ بخطاب الرب ـ سبحانه وتعالى ـ :

هي عصاي ثم أخذ يسرد بعض منافعها فقال : أعتمد عليها في سيرى ، وأسقط الورق بها على غنمي ، ولي بعد ذلك مآرب وحوائج أخرى فيها ، وللعصا وفوائدها عقدت فصول في الأدب العربي ممتعة كالذي عقد في البيان والتبيين للجاحظ وغيره.

قال الله له : ألقها يا موسى فألقاها فإذا هي حية تسعى على الأرض ، وثعبان يلتهم الحجارة وكل شيء ، وكأنها جان من شدة الحركة وسرعة المشي.

ولما رأى موسى ذلك الأمر العجيب الهائل ملكه الفزع ، وتولاه ما يملك البشر من الخوف والجزع قال له ربه : يا موسى ، أقبل عليها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى فأخذها ووضع يده بين فكيها فعادت كما كانت ، والله على كل شيء قدير.

واضمم يا موسى يدك إلى جنبك. أدخل يدك فيه تخرج بيضاء كالشمس من غير برص بها ـ وكان ـ عليه‌السلام ـ رجلا جعدا طوالا ـ فأدخل موسى يده في جيبه ثم أخرجها بيضاء كالثلج ثم ردها في جيبه فعادت كما كانت على لونها.

فذلك برهانان من ربك لتعلم بهما قدرة الله وتصريفه للأمور ، فعلنا هذا لنريك الآية الكبرى حالة كونها من آياتنا. وهل الآية الكبرى هي العصا أو اليد؟ قولان

٤٨٤

والظاهر والله أعلم أنها اليد لأن العصا انقلابها حية كانت تشبه السحر ، وحاول السحرة إبطالها ، وأما اليد فلم يحاول أحد إبطالها ومعارضتها.

بعد هذا اذهب إلى فرعون إنه طغى ، وجاوز الحد في الإشراك بالله وتعذيب بنى إسرائيل.

قال موسى وقد صدع بالأمر : رب اشرح لي صدري ، افتح لي قلبي حتى أكون حليما صبورا حمولا ، يستقبل ما عساه يرد عليه من الشدائد بصدر رحب ، وقلب ثابت.

ويسر لي أمرى الذي أردته لي حتى يكون سهلا ، لا صعوبة فيه تعوقنى ، ولا شدة فيه تؤودنى.

واحلل عقدة من لساني ، وقد كان في لسانه رثّة لما روى أنه نتف شعرة من ذقن فرعون وهو صغير فغضب ، وتوجس منه شرا فقالت امرأته : إنه صغير لا يدرى شيئا فأتت له بجمرة وبلحة فوضع الجمرة على لسانه فكان فيه رتة ولكنة.

ويقول الشيخ النجار ، إنه يحتمل أن تكون اللكنة ناشئة من عدم رضاعته وهو صغير مدة أثرت عليه ، وتلك عادة معروفة في الأطفال أو أن موسى حينما مكث في مدين عشر سنين تغير لسانه ونسى لهجة المصريين فطلب أن يكون معه هارون ليترجم له ويساعده على التفاهم ، وكان لسان هارون مصريا لمخالطته المصريين وعبريا لأنه إسرائيلى فيمكنه التفاهم مع موسى بطلاقة ، ومع المصريين كذلك.

واجعل لي وزيرا من أهلى هارون أخى ، اشدد به أزرى ، وأشركه في أمرى ليتحمل معى تلك الأمانة (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً* وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً* إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً).

بعض الألطاف التي صادفت موسى

قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (٣٦) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (٣٧)

٤٨٥

إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٩) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (٤٠) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١))

المفردات :

(سُؤْلَكَ) مسئولك أى : مطلوبك (مَنَنَّا) المن : الإحسان والإفضال (التَّابُوتِ) صندوق من الخشب (فَاقْذِفِيهِ) فألقيه واطرحيه (فِي الْيَمِ) البحر والمراد نهر النيل (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) ولتربى وأنا مراعيك ومراقبك (فُتُوناً) اختبرناك اختبارا حتى تصلح للنبوة والرسالة (عَلى قَدَرٍ) على وعد وأمر مقتضى به (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) اصطنعتك لوحيي ورسالتي (وَلا تَنِيا) تضعفا في أمر الرسالة ، والونى : الضعف والفتور والكلال والإعياء.

مر ببني إسرائيل فترة عصيبة ، وهم في مصر تحت حكم فرعون ، فأخذ يقتل أبناءهم ويستحي نساءهم ، ويذيقهم العذاب ألوانا.

في أثناء تلك العاصفة الهوجاء ولد لرجل من بنى إسرائيل يقال له عمران من زوجته (يوكابد) ولد فلما ولدته خبأته عن عيون من يطلبه من أعوان فرعون وجنوده لقتله فمكث عندها ثلاثة أشهر فلما خافت افتضاح أمرها أعلمها الله وعلمها عن طريق الوحى بنبي ، أو ملك ، أو إلهام أن تصنع له ما يشبه الصندوق وتطليه بالزفت والقطران ، وتلقيه في اليم ففعلت ، ووكلت لأخته مريم أن تتبع أثره ، وتعلم خبره.

٤٨٦

وكان الله ـ تعالى ـ قد أعلمها أنه راده إليها ، وجاعله من المرسلين فلم تزل أخته تراقبه حتى علمت أنه التقط وأدخل دار فرعون ، وأن عين زوجة فرعون ، قد وقعت عليه فألقى الله عليها محبته. فأحبته ليكون قرة عينها وعين فرعون ، راجية أن ينفعها أو يتخذاه ولدا ، وهذا تدبير من الله لموسى وأمه لأنه سيعود إليها لتكون مرضعته وتتقاضى على ذلك أجرا وهي آمنة مطمئنة. يا سبحان الله ينشأ موسى في بيت فرعون عدوه وعدو ربه!!

وكانت عناية الله تلحظه فلم يقبل ثدي امرأة أبدا إلا ثدي أمه.

وسيأتى في سورة القصص مزيد بيان لهذا : وإنما ذكرها ها هنا باختصار على أنه من نعم الله على موسى.

المعنى :

لما سأل موسى ربه أن يشرح له صدره ، وييسر له أمره وأجاب سؤله وأتاه طلبته (مطلوبه) ومرغوبه أخذ يسرد ما من به على موسى فقال :

ولقد مننا عليك وأحسنا مرة أخرى إذ أوحينا إلى أمك ، وألهمناها أمرا لا سبيل إليه إلا بالوحي إذ فيه مصلحة دينية توجب أن يعتنى به فهو أمر عظيم جدير بأن يوحى به من الله.

أوحينا إليها أن تصنع صندوقا محكما ، وتضع فيه موسى ، وأن تقذفه وتلقيه في نهر النيل ، ولما كانت إرادة الله حاصلة صار كأن اليم يعقل وقد أمره الله بأن يلقيه إلى الساحل الذي فيه فرعون وامرأته ، فبينما هو جالس على رأس بركة بالساحل إذ بالصندوق فأمر به فأخرج ففتح فإذا صبي أصبح الناس وجها ، فأحبه عدو الله حبا شديدا لا يتمالك أن يصبر عنه هو وزوجته ، وذلك معنى قوله : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) أى : أحبه الله وحببه إلى خلقه وبالأخص فرعون وزوجته آسية.

ولتربى ويحسن إليك وأنا مراعيك ومراقبك كما يرعى الرجل الشيء العزيز لديه بعينه إذ تمشى أختك في أثرك فتراك قد امتنعت عن المرضعات كلها. فتقول لهم في ثوب الناصح : أفلا أدلكم على مرضع له فيقول لها : هاتها فأحضرت له أمه فأرضعته ، وهذا معنى قوله تعالى : (فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ).

٤٨٧

وكان موسى وهو فتى ابن اثنتي عشرة سنة وقد امتلأ قلبه غيظا وحنقا على معاملة المصريين لبني إسرائيل ، رأى رجلا مصريا يقتتل مع إسرائيلى فاستغاثه الذي من شيعته على الذي هو من عدوه فوكزه موسى وضربه فقضى عليه وقتله ، فلما علم فرعون بذلك أراد قتل موسى في المصرى فأخبره رجل مؤمن من آل فرعون بذلك ، ففر هاربا لا يلوى على شيء حتى وصل إلى مدين ، وأقام هناك عشر سنين ، وهذا معنى قوله تعالى (وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِ) قتلت نفسا فنجاك الله من الغم في الآخرة بالتوبة والندم وفي الدنيا بالفرار إلى مدين فنجوت من الحبس والقتل والتعذيب (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) اختبرناك اختبارات حتى صلحت للقيام بالرسالة ولا غرابة فأنت تصنع وتخلق لهذا ، وتربى وتنشأ لتحمل الرسالة لبني إسرائيل.

فلبثت سنين في أهل مدين هي عشرة وقيل أكثر.

ثم جئت على قدر يا موسى ، ثم جئت على وعد وزمن محدد قد قدره الله وقضاه فلم تتقدم لحظة ولم تتأخر ، (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) [سورة الرعد آية ٨].

اصطنعتك لنفسي ، واخترتك لوحيي ورسالتي ، وعلى هذا اذهب أنت وأخوك بآياتى ، ولا تضعفا في ذكرى فإنى معكما أسمع وأرى.

دعوة موسى لفرعون ، ومحاجته له

(اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (٤٢) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (٤٤) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (٤٥) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (٤٦) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ

٤٨٨

الْهُدى (٤٧) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٤٨) قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (٥٢) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (٥٣) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (٥٤) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (٥٥) وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (٥٦))

المفردات :

(لَيِّناً) سهلا لا خشونة فيه ولا شدة (يَفْرُطَ عَلَيْنا) أى : يعالجنا بالعقوبة ويعاملنا معاملة المتقدم في الذنب ، والمادة تدل على التقدم والإسراف ولذا قيل اليوم السابق فارط ، ولمن أسرف فرط وأفرط (خَلْقَهُ) صورته وشكله (فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) فما حالها وما شأنها؟ (لا يَضِلُ) لا يخطئ (مَهْداً) كالفراش في الشكل والمعنى (لِأُولِي النُّهى) لأولى العقل.

موسى وهارون ـ عليهما‌السلام ـ أرسلا إلى قومهما بني إسرائيل قصدا وإلى فرعون وملئه تبعا ليخلصا بني إسرائيل من حكم فرعون وظلمه ، ويدخلوهم في شريعة الحق ـ سبحانه وتعالى ـ.

٤٨٩

المعنى :

اذهب يا موسى أنت وأخوك إلى فرعون وملئه إنه طغى وجاوز الحد المعقول في الشرك بالله ، وتعذيب بني إسرائيل : اذهبا إليه فقولا له قولا لينا لا خشونة فيه ، وجادلاه بالتي هي أحسن فهو رجل مغرور كافر معاند لعله يتذكر أو يخشى.

قالا : يا ربنا ، إننا نخاف أن يفرط علينا ، ويبادرنا بالعقوبة ويطغى ، والخوف من الظالم الجبار لا ينافي التوكل على الواحد القهار ، والأخذ بالأسباب والمسالك ، على أن الخوف من طبيعة البشر.

قال الله لهما : لا تخافا من شيء إننى معكما أسمع كل شيء يسمع ، وأبصر كل شيء يبصر ، وأرى كل شيء يرى ، نهاهما الله عن الخوف من فرعون لأنه معهما بالمعونة والنصر وهو يعلم بكل ما يحصل لهما ، وليس بغافل عنهما.

ثم أمرهما بإتيانه الذي هو عبارة عن الوصول إليه بعد أمرهما بالذهاب إليه فلا تكرار.

فقولا له : إنا رسولا ربك أرسلنا إليك ، فأتياه وقالا له ذلك ، وأمرهما أن يقولا : فأرسل معنا بني إسرائيل ، ولا تحجزهم وخل عنهم ، ولا تعذبهم ، وقد كانوا في عذاب أليم ، وتعب شديد كما مضى ، وقد جئناك يا فرعون بآية دالة على صدقنا ، وقيل إن فرعون قال : ما هي؟ فأدخل موسى يده في جيبه ثم أخرجها بيضاء ، لها شعاع مثل شعاع الشمس ، فعجب منها ، ولم يره العصا إلا يوم الزينة.

والسلام من سخط الله وعذابه حاصل لمن اتبع الهدى وليس تحية لأن المقام ليس مقام تحية.

ولما فرغ موسى مما قال ـ وذكر لفرعون أنه يريد إطلاق بني إسرائيل ليعبدوا ربهم في البرية ، وفرعون ملك جبار تدين له الأمة المصرية وتذعن لقداسته ، وقد رأى من موسى أمرا لا يقره ولا يرضاه حيث قال له : إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل وهو يقول للناس أنا ربكم الأعلى ، ويستذل الإسرائيليين ويستعبدهم في أغراضه ـ أخذ يجادل موسى ويحاجه.

ولما علم موسى وهارون عدم إيمانه ، وتماديه في الباطل قالا له : إنا قد أوحى إلينا

٤٩٠

من ربنا أن العذاب والنكال ، والهلاك والدمار في الدنيا والآخرة واقع لا محال على من كذب وتولى ، وكذب بالوحدانية وأعرض عن رسول الله ولم يصدقه.

وكان في جداله يقول : فمن ربكما يا موسى؟ قالا : ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه وصورته وشكله ، الذي يناسب المنفعة المطلوبة منه كاليد للبطش والرجل للسير والعين للنظر ، والثدي واختلاف شكله وعدده للرضاع وهكذا.

ثم هدى كل نفس لما يطلب منها ، وما توفق إليه.

قال فرعون : فما بال القرون الأولى؟ التي انقرضت قبلكما ولم يقروا بالوحدانية.

أجابا : إنها في علم الغيب ، والله وحده يعلم ما عملوا وجزاءهم ، وهم في كتاب محفوظ ، لا يطلع عليه أحد.

والله لا يضل أبدا ؛ ولا يخطئ أبدا ، ولا ينسى أبدا ـ سبحانه وتعالى ـ ، وهو الذي جعل لكم الأرض مهادا ، وسلكها سبلا فجاجا ، وجعلها كالفراش المبسوط وهي في الواقع كالكرة المكورة.

وأنزل من السماء ماء فأخرج به أزواجا وضروبا من نبات مختلفة.

كلوا وارعوا أنعامكم ، وتمتعوا بخيراتكم إن في ذلك لآيات لأولى النهى.

من الأرض خلقناكم وفيها نعيدكم ؛ ومنها نخرجكم مرة أخرى للثواب والعقاب تراه وصف الرب ـ سبحانه وتعالى ـ بما يقطع حجة فرعون ، ويرد كيده في نحره ، ويملأ قلبه خوفا من عالم الغيب ، وفيه تذكير له بأصله وأنه من تراب عائد إليه ، فلا يغتر بدنياه وملكه ، وليعلم أن وراءه يوما لا ينفع فيه مال ولا بنون ، وتلك آيات بينات ولكنها لأولى النهى ، إنما يتذكر من يخشى .. ؛ ولقد أرينا فرعون آياتنا كلها وبصرناه بها ، ولكنه كذب وأبى عنادا واستكبارا (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) (١) (لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) (٢).

__________________

(١) سورة النمل الآية ١٤.

(٢) سورة الإسراء الآية ١٠٢.

٤٩١

موسى والسحرة الذين جمعهم فرعون

(قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (٥٨) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (٦٠) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (٦١) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (٦٢) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (٦٣) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (٦٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (٦٥) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (٦٦) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (٦٧) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (٦٨) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (٦٩) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (٧٠) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ

٤٩٢

لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (٧١) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (٧٣) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (٧٤) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (٧٥) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (٧٦))

المفردات :

(سُوىً) مستويا ووسطا وعدلا بيننا (يَوْمُ الزِّينَةِ) المراد يوم يتزينون فيه بأفخر اللباس ويجتمعون فيه كأنه عيد ويظهر أنه يوم وفاء النيل (كَيْدَهُ) ما يكيد به (وَيْلَكُمْ) هلاككم (فَيُسْحِتَكُمْ) فيبيدكم بعذاب (فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ) تشاوروا وتجاذبوا أطراف الحديث (النَّجْوى) ما يتناجون به سرا (بِطَرِيقَتِكُمُ) بمذهبكم وقيل بأشرافكم وسادتكم (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ) أحكموا أمركم واعزموا عزما أكيدا (صَفًّا) مصطفين (اسْتَعْلى) غلب (فَأَوْجَسَ) أحس وأضمر (تَلْقَفْ) تلتهم وتأكل بسرعة (لَكَبِيرُكُمُ) لأستاذكم ومعلمكم (فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) على جذوعها (لَنْ نُؤْثِرَكَ) لن نختارك (تَزَكَّى) تطهر من دنس الشرك والمعاصي.

٤٩٣

المعنى :

ولقد أرينا فرعون المعجزات الدالة على صدق موسى في رسالته ، وأريناه حجج الله الدالة على توحيده ونفى الشركاء له فكذب وعصى ، وأبى ذلك وأعرض قائلا : أجئتنا يا موسى مدعيا الرسالة لربك لتخرجنا من أرضنا بسحرك وحيلتك ، جئت يا موسى بآية توهم الناس أنك صادق لتتغلب علينا وتخرجنا من أرضنا وتزيل ملكنا ، وتجعله لنفسك ، وانظر إلى فرعون وهو يحرض الناس على عصيان موسى ومخالفته ، ومن خلال كلامه نفهم أنه كان واثقا أن موسى على الحق ، وأن النصر في النهاية له ، وقوله بسحرك تعليل مزيف لتغطية الموقف.

وإذا كان الأمر للسحر فلنأتينك بسحر مثله ، فاجعل بيننا وبينك موعدا تحدده زمانا ومكانا ، لا نخلفه نحن ولا أنت ، اجعل مكانا مستويا وسطا بيننا وبينك حتى لا يكون عذر في التخلف. قال موسى : موعدكم يوم الزينة يوم الاحتفال بوفاء النيل وكان عيدا من أعيادهم القومية ، يجتمع الناس فيه من كل حدب وصوب مع السحرة المهرة في المملكة كلها ؛ ولعل اختيار هذا الموعد الذي يجتمع فيه الناس اجتماعا كاملا والوقت ضحى ، وفيه اتساع للمساجلة والمناقشة والحكم ليكون علو كلمة الله وإظهار دينه على ملأ من الناس كثير ، ويكون الحكم على رؤوس الأشهاد في وسط النهار فلا سبيل للإنكار ، وليحدث به كل الناس صغيرهم ، وكبيرهم. وقد كان ذلك.

فتولى فرعون ، وانصرف من ذلك المقام ليهيّئ ما يحتاج إليه ، وليشرف بنفسه على الاستعداد لذلك اليوم الخطير ، فتولى فرعون فجمع كيده وحيله ، وجمع المهرة من السحرة وأتوا مدلين بأنفسهم واثقين من سحرهم طالبين الأجر على ذلك (أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ* قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) (١) وعدهم فرعون بالجزاء المادي والأدبى ليفرغوا طاقتهم وليعملوا جهدهم في التغلب على موسى.

فلما حضروا قال لهم موسى : (وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً) الهلاك لكم إن اختلقتم على الله كذبا وزورا ، إنكم إن فعلتم ذلك فسيسحتكم بعذاب من عنده وسيستأصلكم ويقطع دابركم ، وقد خاب وهلك من افترى على الله أو على رسوله كذبا.

__________________

(١) سورة الشعراء الآيتان ٤١ و ٤٢.

٤٩٤

فلما سمعوا هذا من موسى أخذوا يتجاذبون أطراف الحديث ، ويتشاورون فيما بينهم ، وأسروا نجواهم قائلين : إن غلبنا فسنتبعه ، وقيل إنهم لما سمعوا من موسى قوله : (وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً) وأسروا فيما بينهم بأن هذا ليس بساحر أبدا. وقيل كانت نجواهم هي قولهم إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ، ويذهبا بطريقتكم ومذهبكم الأمثل الحسن ، وقيل يذهب بأشراف قومكم ويهلكهم.

فأجمعوا كيدكم غدا ، وأحكموا أمركم واعزموا عليه ثم ائتوا مصطفين فذلك أدعى إلى تربية المهابة في نفوس النظارة ، وقد أفلح اليوم من استعلى وغلب خصمه ، وكانت له المكانة إلى الأبد.

فلما التقى الصفان ، واجتمع الطرفان قالوا. يا موسى إما أن تلقى أوّلا ، وإما أن نكون نحن الملقين أوّلا.

قال موسى. بل ألقوا أنتم أولا ، أشار بهذا ليفرغوا جهدهم أولا ، ويلقوا بكل أسلحتهم ، فلما ألقوا إذا حبالهم وعصيهم يخيل إلى موسى من سحرهم أنها تسعى ، وذلك أنهم وضعوا فيها مادة الزئبق التي إذا أحست بالحرارة تحركت واضطربت.

في تلك اللحظة ابتهج فرعون وجنوده وعلية القوم ، وأيقنوا أنهم نجحوا ، وأن السحرة قد فازوا على خصمهم موسى وهارون ، وأنه لا يمكنه أن يأتى بشيء أعظم من سحرهم إذ كل ما في يده عصاه فإذا قلبت حية فهي حية واحدة بين آلاف الحيات.

وفي تلك اللحظة الفاصلة هال موسى ما رأى ، وأوجس في نفسه خيفة مما حصل ، ودار بذهنه فيما عسى أن يكون لو لم يبعث الله له نصر السماء.

ولكن الله ـ سبحانه وتعالى ـ العليم الخبير القوى القادر الذي لا يترك عباده المخلصين وحدهم بل هو معهم وقد قال لهما : (إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى).

وفي هذه اللحظة أمره ربه أن يلقى عصاه التي هي بيمينه فإذا هي حية تسعى ولكنها ليست كحيات السحرة بل أخذت تبتلع حياتهم كلها وتلتهمها بسرعة وخفة.

والله أكبر ظهر الحق وبطل السحر ، وجاء الحق وزهق الباطل ودهش آل فرعون والملأ من قومه بل وكل الناس ؛ وعلم السحرة ـ وهم أدرى الناس بالسحر وطاقته

٤٩٥

ـ أن السحر لا يفعل هذا أبدا وإنما هي القوة الإلهية صنعت هذه المعجزة ، فخروا لله ساجدين ، وآمنوا برب العالمين ، رب موسى وهارون ؛ مفضلين ذلك على الأجر الدنيوي مؤثرين الحق على الباطل ، والباقية على الفانية!!

ماذا يفعل فرعون؟ إنه لموقف جد خطير قد جمع الناس جميعا وجمع السحرة من كل مكان ، وقد أفهم الشعب الذي يقدسه أن نهاية موسى وهارون في ضحى الغد ، يوم يجتمع الناس في وفاء النيل.

ولم يعد موسى وهارون وحدهما بل صار معهما السحرة والعلماء في قومه!! فلا بد أن يختصم الجميع ، ويتهم الكل ، وإن كان مخالفا للعقل والمنطق.

فقال للسحرة سترا لموقفه : إنه لكبيركم وأستاذكم الذي علمكم السحر ولهو أقوى منكم ، وغلب سحره سحركم ، وهو يريد بهذا أن يخرج المسألة عن نطاق المعجزة الإلهية إلى دائرة سحر السحرة.

قال هذا مع علمه أن موسى رحل إلى مدين صغيرا ، وعاد منها قريبا ، ولم يتصل بالسحرة مطلقا فضلا عن كونه أستاذهم ، ولكنه المقهور المغلوب يلتمس لنفسه العذر وإن كان لا يغنى شيئا.

ثم أخذ يتجنى عليهم ويؤنبهم بقوله : آمنتم به قبل أن آذن لكم ، فهم أذنبوا حيث لم يستأذنوا ، وهو لهذا أقسم ليقطعن أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وليصلبنهم على جذوع النخل ، ولتعلمن أيها السحرة أينا أشد عذابا وأقوى؟ وهو إذ يضع نفسه في كفة وموسى في كفة أخرى إنما يستهزئ ويفتخر.

هذا هو فرعون مصر ، وذلك بطشه الشديد ، وتهديده الكثير ، أما الإيمان العميق المبنى على الفهم الدقيق فقد جعل السحرة يقولون : لن نؤثرك يا فرعون ونختارك على ما جاءنا من البينات والهدى لن نفضل نعمتك على ما هدانا الله إليه والذي فطرنا وخلقنا فاقض بما تشاء واحكم بما تريد ، إنما تقضى وتحكم في هذه الحياة الدنيا ، ولن تنال إلا من جسمنا الفاني تقطع منه أو تقتله أما الإيمان واليقين فذلك شيء لن تنال منه. وذلك إنا آمنا بربنا وصدقنا برسالة نبينا رجاء أن يغفر لنا خطايانا ، وما أكرهتنا عليه من السحر ، والله ـ سبحانه ـ خير وأبقى ، والدار الآخرة للذين يتقون ، وكيف

٤٩٦

لا يكون ذلك؟ إنه من يأت ربه مذنبا فله جهنم خالدا فيها لا يموت ولا يحيا ، ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالح من الأعمال فاؤلئك لهم الدرجات العليا ، ولهم جنات عدن تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ، وذلك جزاء من تزكى وتطهر من دنس المعاصي والآثام.

خروج بني إسرائيل من مصر ، ورحيل فرعون لطلبهم

(وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (٧٧) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (٧٩) يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (٨٠) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (٨١) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (٨٢))

المفردات :

(يَبَساً) لا طين فيه ولا ماء (دَرَكاً) إدراكا ولحوقا بهم (فَأَتْبَعَهُمْ) يقال أتبعهم إذا تبعتهم وإذا سبقوك فلحقتهم (الْمَنَّ وَالسَّلْوى) تقدم تفسيرهما في سورة البقرة جزء أول (يَحْلِلْ) يجب (هَوى) سقط في الهاوية.

المعنى :

أذن الله ـ سبحانه وتعالى ـ لموسى أن يخرج من تحت حكم فرعون ، وأن ينقذ

٤٩٧

بنى إسرائيل من عذاب المصريين ، فأوحى إليه بأن أسر بعبادي ليلا حتى لا يراك فرعون وجنده ، فذهبوا حتى وصلوا شاطئ البحر الأحمر الغربي من جهة (السويس) فأمره الله بأن اضرب بعصاك البحر! فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ، وأصبح لهم عدة طرق بقدر أسباطهم الاثنى عشر ، وسار الطريق وسط الماء يابسا لا طين فيه ولا ماء.

فاجعل لهم طريقا في البحر يابسا غير خائفين إدراك فرعون لهم ، ولا أنت تخشى لحوقه لكم.

أما فرعون فلما علم بخروجهم من مصر وكانوا يسكنون في إقليم الشرقية ، أرسل في المدائن يجمع الجند للحاق بهم وإدراكهم قائلا : إن هؤلاء لشرذمة قليلون ، وإنهم لنا لغائظون ، فلحقهم فرعون ومعه جنده وهم يعبرون البحر ، وقد جعل الله لهم طرقا فيه.

فلما أبصر فرعون تلك الطرق سار فيها ظنا منه أنها طرق عامة له أن يسير فيها ، فلما احتواه البحر ونجا موسى ومعه بنو إسرائيل غشيهم من اليم ما غشيهم ، وأصابهم من الهول والخوف والغرق ما أصابهم فكان كالغطاء لهم ، حتى إذا أدركه الغرق قال : آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين ، ولكن هيهات له ذلك ، وقد أضل فرعون قومه وما هداهم إلى خير أبدا بل كان هو الداعية للشر كله ، وما كان مخلصا في إيمانه هذا ، فلما نجا بنو إسرائيل ، وغرق فرعون وجنده على مرأى منهم ، وكان ذلك من النعم عليهم أخذ يعدد نعمه فقال : يا بنى إسرائيل : قد أنجيناكم من عدوكم ، وواعدناكم جانب الطور الأيمن ، بمعنى : وأمرنا موسى أن يأمركم بالخروج معه لنكلمه وأنتم حضور فتسمعوا الكلام فالمواعدة كانت بين موسى وربه ، وإنما خوطبوا بها لأنها كانت من أجلهم ، والأيمن صفة للجانب والمراد يمين الشخص لا يمين الجبل ، وأنزلنا عليكم المن والسلوى ، وهو طعام شهى من صنع الله لا تعب فيه ولا ألم. وقلنا لكم كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تتجاوزوا الحد بالإسراف أو التقتير أو عدم القيام بالشكر ، وإياكم والمعصية فإنها أصل الطغيان.

إنكم إن طغيتم يحل عليكم غضبى ، وينزل بكم عذابي ، ومن يحلل به عذابي ، ويوجب عليه لعلمه السوء فقد هوى في الهاوية وهي قعر جهنم. واعلموا أنى غفار

٤٩٨

رحيم بمن تاب وأناب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ، وفي التعبير بثم إشارة إلى بعد المرتبتين.

اتخاذ بنى إسرائيل إلها يعبدونه

(وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (٨٣) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (٨٤) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (٨٨) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (٨٩) وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (٩١) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلاَّ

٤٩٩

تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (٩٧) إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (٩٨))

المفردات :

(وَما أَعْجَلَكَ) ما الذي حملك على العجلة (عَلى أَثَرِي) المراد هم بالقرب منى (فَتَنَّا قَوْمَكَ) ابتليناهم واختبرناهم (أَسِفاً) الأسف الشديد : الغضب (الْعَهْدُ) الزمان (بِمَلْكِنا) بملكنا أمورنا والصواب منها (أَوْزاراً) أحمالا ثقالا (خُوارٌ) الخوار : صوت البقر (يا سامِرِيُ) رجل منافق محتال اسمه السامري (قَبْضَةً) هي المرة من القبضة التي هي أخذ الشيء بجمع الكف والمراد هنا الشيء المقبوض (سَوَّلَتْ) زينت (لا مِساسَ) أى لا أحد يمسني (لَنَنْسِفَنَّهُ) لنذروه في الرياح والمراد لنلقينه في البحر.

المعنى :

كان موسى قد وعد بنى إسرائيل إذا هلك فرعون أن الله سيعطيه الألواح وفيها الوصايا التي يأخذ بها بنو إسرائيل أنفسهم وأعقابهم من بعدهم أى فيها دستورهم الذي يعيشون عليه.

٥٠٠