التفسير الواضح - ج ٢

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ٢

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٨٨٤

من آثار بعثة الرسل عليهم‌السلام

(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (٦٣))

المفردات :

(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ) جاء عقبهم (خَلْفٌ) وفي اللغة يقال لعقب الخير خلف ولعقب الشر خلف (غَيًّا) الغي الشر ، والخير هو للرشاد ، قال المرقش شاعر عربي قديم.

فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره

ومن يغولا يعدم على الغي لائما

(مَأْتِيًّا) مفعولا منجزا (لَغْواً) اللغو فضول الكلام الذي يلغى ولا طائل تحته.

هذه نهاية الناس بعد ما ترسل لهم الرسل مبشرين ومنذرين.

المعنى :

فخلف من بعد الرسل والأنبياء خلف ، وجاء عقبهم جماعة أضاعوا الصلاة ولم يقيموها كاملة تامة الأركان والشروط ، بل أضاعوها وتركوها بالمرة ، واتبعوا شهوات نفوسهم ، وما تشتهيه أبدانهم من المحرمات كالخمر والزنى والربا وفعل المنكر ، فهؤلاء

٤٦١

سوف يلقون جزاء غيهم ولا يلقون إلا شرا لا خير فيه ، إلا من تاب ، وآمن وعمل صالحا يرضى الله فأولئك يدخلون الجنة ، ولا يظلمون شيئا مما عملوه قبل التوبة وبعدها.

وهذا حكم عام يدخل فيه الناس جميعا من اليهود والنصارى والمسلمين وغيرهم يدخلون الجنة ، جنات عدن وهي نوع من الجنة ، وفيها الإقامة والمكث وهي التي وعد الرحمن بها عباده متلبسين بالغيب فآمنوا بها وعملوا لها فاستحقوا نعيمها ، إنه كان وعده بالجنة مفعولا وحاصلا حتما ، ومن وعد الجنة فإنه يأتيها ، لا يسمعون فيها لغوا أبدا ، وممن يسمعون اللغو؟ أمن المؤمنين؟ أم من الملائكة؟!! لكن سلام بعضهم لبعض ، وسلام الملائكة عليهم موجود ، فهم لا يسمعون ما يؤلهم وإنما يسمعون ما يسرهم.

ولهم رزقهم حسب ما يطلبون ، والمعتدل من الناس إنما يطلب الأكل بكرة وعشيا أما النهم الحيواني فهو يأكل متى شاء ، وسكان الجنة قوم معتدلون متوسطون في طلبهم.

تلك الجنة التي نورثها لعبادنا الأتقياء ونحفظها عليهم كما يحفظ المال للوارث ، فهم أصحاب حق ـ لما قدموا من العمل ـ في هذا النعيم كما أن الوارث صاحب حق في مال مورثه ، والله أعلم.

الأمر كله بيد الله

(وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥))

٤٦٢

المفردات :

(نَتَنَزَّلُ) النزول على مهل (نَسِيًّا) ناسيا (سَمِيًّا) شريكا له في الاسم أو في المسمى بمعنى ليس له مثيل ولا شبيه.

سبب النزول. روى أن جبريل احتبس أربعين يوما ، وقيل خمسة عشر يوما ، وذلك حين سئل الرسول عن قصة أصحاب الكهف ، والروح ، وذي القرنين ، فلم يدر بما يجيب ، ورجا أن يوحى إليه فيه فتأخر الوحى فشق ذلك عليه مشقة شديدة ، وقال المشركون. ودعه ربه وقلاه فلما نزل جبريل ـ عليه‌السلام ـ قال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. أبطأت حتى ساء ظني واشتقت إليك! قال إنى كنت أشوق ، ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت ، وإذا حبست احتبست وأنزل ـ سبحانه ـ هذه الآية وسورة الضحى.

المعنى :

يقول الله ـ سبحانه وتعالى ـ حكاية على لسان جبريل حين استبطأه النبي ، وما ننزل إلا بأمر ربك فليس نزولنا وقتا بعد وقت عن أمرنا ، وإنما هو بأمر ربك على حسب الحكمة! وما يراه صوابا ، ثم أكد هذا بقوله : له ما بين أيدينا من الجهات والأماكن ، وما خلفنا منها ، وما بين ذلك مما نحن فيه ، فلا نملك أن ننتقل من جهة إلى أخرى ، ومن مكان إلى مكان إلا بأمر المليك ومشيئته ـ سبحانه وتعالى ـ فهو الحافظ العالم المحيط القادر المقتدر الذي لا يجوز عليه الغفلة والنسيان وما ربك ناسيا لشيء أبدا ، بل هو المحيط بكل شيء لا تخفى عليه خافية ، ولا يعزب عنه مثقال ذرة ، رب السموات والأرض ، وما بينهما فكيف نقدم على فعل إلا بعد أمره وإذنه على حسب حكمته ، وما كان ربك ناسيا لك ، وما ودعك ربك وما قلاك.

وقيل : هو حكاية لقول المتقين حين يدخلون الجنة على معنى ، وما ننزل الجنة إلا بأمر ربك حيث يمن علينا بالثواب ، وهو المالك لرقابنا المتصرف في أمورنا ، وما كان ربك ناسيا لأعمالنا التي قدمناها في الدنيا ، وكيف يجوز النسيان على رب السموات والأرض وما بينهما؟!!

ثم يقول لرسوله : وحين عرفت ربك بهذا الوصف العالي وهو الموصوف بكل جميل

٤٦٣

المنزه عن كل قبيح فاعبده ، وأقبل على العمل الصالح يثبك كما أثاب غيرك من المتقين الأبرار ، واصطبر للعبادة ففيها الشدائد ، ولكن لها ثوابها هل تعلم له سميا سمى باسم الله أو اسم الرحمن ، هل تعلم له من يشاركه في مسماه ويشبهه في شيء. تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ، ولما انتفى المشارك لله استحق أن يكون هو المعبود بحق دون سواه ، وأنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، والاستفهام في الآية للإنكار ، والمراد بنفي العلم هنا نفى الشريك على أبلغ وجه.

المنكرون للبعث وجزاؤهم

(وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (٧٢))

المفردات :

(جِثِيًّا) جمع جاث والمراد أنهم بركوا على ركبهم يقال : جثا يجثو إذا جلس على ركبته (شِيعَةٍ) فرقة تشيعت لشخص أو لمبدأ (عِتِيًّا) عصيانا يقال عتا يعتو عتوا أى : صار عاتيا عاصيا (صِلِيًّا) دخولا يقول صلّى النار يصلى دخلها.

٤٦٤

المعنى :

ويقول بعض أفراد الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا : وأبعث للحساب؟!! إن هذا لعجيب!! نعم يقول الكفار منكرين مستبعدين الحياة للبعث والثواب : أحقا أنا سنخرج أحياء بعد أن متنا ، وتمكن فينا الموت والهلاك؟! والمراد الخروج من القبر أو حال الفناء ، وانظر يا أخى إلى تصوير القرآن لإنكارهم الشديد وأنه منصب على ما بعد الموت ، وهو كون الحياة منكرة ، ولذا قال : أإذا ما مت لسوف أخرج حيا؟ فهو كقولك أحين تمت عليك نعمة فلان تسيء إليه؟؟ ويقول الله ـ سبحانه وتعالى ـ في الرد على هؤلاء :

أيقول الكافر ذلك ولا يتذكر أنا خلقناه من قبل ، ولم يك شيئا؟!! أيقول الكافر ذلك ولا يتذكر نشأته الأولى ، حتى لا ينكر إعادته للبعث فإن الأولى أعجب وأغرب ، وأدل على قدرة الله حيث خلقه ، ولم يك شيئا أبدا فقد خلقه من غير مثال يحتذيه ولا نظام سابق يعيده ويحييه ، وأما الحياة الثانية فقد تقدمت نظيرتها ، وكل ما فيها إعادة تأليف أجزاء تبعثرت ، وتركيبها كما كانت فالإعادة أهون بالنسبة للأولى ، وإن كان البدء والإعادة سواء عند الله ـ سبحانه وتعالى ـ.

فوربك يا محمد لنحشرنهم والشياطين ، إنه قسم من الله برب محمد فهو تشريف له وأى تشريف؟

والله أقسم ليحشرنهم جميعا بعد بعثهم من قبورهم ، ومعهم الشياطين التي هي سبب إغوائهم وضلالهم ليأخذ الكل جزاءه غير منقوص وليروا بأنفسهم أن الشيطان أضلهم وأعمى أبصارهم وسيتنصل منهم (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) [سورة إبراهيم آية ٢٢].

ثم بعد هذا لنحضرنهم جميعا حول جهنم جاثمين على ركبهم غير قادرين على الوقوف على أرجلهم من شدة الهول (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً) [سورة الجاثية آية ٢٨].

وهل الضمير هنا في قوله (لَنُحْضِرَنَّهُمْ) للعموم أو للكفار فقط؟ وهذا سيظهر عند الكلام على قوله : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها).

٤٦٥

ثم بعد هذا لننزعن من كل شيعة الذي هو أشد على الرحمن عصيانا وفسوقا ، والمعنى نختار من كل طائفة من طوائف الغي والفساد أعصاهم فأعصاهم فإذا اجتمعوا في غل واحد طرحناهم في الحجيم على الترتيب نقدم أولاهم بالعذاب فالذي بعده وهكذا.

ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بجهنم صليا ودخولا ، ومن هذه الآية وأشباهها نعلم أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ جعل لأئمة الكفر وقادة الضلال عذابا أشد ، ودركا أسفل في النار (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) [النحل ٨٨] (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) [العنكبوت ١٣].

وإن منكم من أحد إلا واردها ، كان على ربك حتما مقضيا ، وفي هذه الآية الحكم بورود جميع الخلق على النار ، ومن هنا اختلف المفسرون في معنى الورود. فهل هو الدخول بالفعل؟ أو هو المرور عليها من غير دخول؟ قيل الناس جميعا يدخلونها فأما المؤمنون فتكون عليهم بردا وسلاما ، وروى في تلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن ذلك فقال. إذا دخل أهل الجنة الجنة قال بعضهم لبعض أليس قد وعدنا ربنا أن نرد النار فيقال لهم قد وردتموها وهي جامدة ، وأما قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) (١) فالمراد أنهم مبعدون عن عذابها ، ولعل الحكمة في الورود بهذا المعنى ليروا ما أعد للكافرين والعصاة ، وما أعد لهم فيزدادوا فرحا وسرورا ، وليمتلئ قلب الكافر حسرة وندما على ما فرط منه.

ويجوز أن يراد بالورود الجثو حولها فقط من غير دخول فيها ، أو الورود بمعنى المرور على الصراط أما المؤمنون فينجون وأما الكافرون فيسقطون ، ويرشح هذا أن قول العرب «وردت القافلة البلد» لا يلزم منه دخولها (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) (٢) ولعل الرأى الأول أرجح وهو تفسير الورود بالدخول لقوله تعالى. (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) حيث لم يقل وندخل الظالمين ، ولتظاهر السنة الشريفة على هذا المعنى.

وهذا كله إذا أريد العموم في قوله (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) أى : من الناس جميعا فإن أريد الكافرون فقط فلا خلاف في معنى الورود.

__________________

(١) سورة الأنبياء الآية ١٠١.

(٢) سورة القصص الآية ٢٣.

٤٦٦

حجة واهية

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (٧٤) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (٧٥) وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (٧٦) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٧٨) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (٨٠))

المفردات :

(نَدِيًّا) الندى والنادي مجلس القوم ، ومنه دار الندوة (قَرْنٍ) المراد من أمة وجماعة ، وفي الكشاف وكل أهل عصر قرن لمن بعدهم لأنه يتقدم بهم ، كقرن البقرة (أَثاثاً) الأثاث متاع البيت ، وقيل ، المال مطلقا وفيه معنى الكثرة رئيا منظرا حسنا (فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ) المراد يمد له الرحمن مدا حتى يطول غروره (مَرَدًّا) أى : مرجعا وعاقبة.

وهذه جناية أخرى من جنايات المشركين المتعددة وبعض أعمالهم المخزية.

٤٦٧

المعنى :

وإذا تتلى على هؤلاء الكفار الذين تقدم الكلام عليهم في قوله : (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) إلى قوله : (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) وإذا تتلى عليهم آياتنا حالة كونها بينات المعنى واضحات الحجة قال الذين كفروا لأجل الذين آمنوا. وفي شأنهم. أى : الفريقين خير مقاما وأحسن نديا؟ ويحتمل أن الكافرين قالوا مخاطبين المؤمنين : أى الفريقين ـ فريق المؤمنين وفريق الكافرين ـ خير إقامة وأحسن ناديا ومجلسا!!

وذلك أن زعماء الكفر كانوا ينظرون لأنفسهم. وقد جهلوا كل شيء إلا ظاهرا من الحياة الدنيا فيرون أنفسهم في غنى وسعة ، والمؤمنون في شظف من العيش وقلة في العدد فيقولون. لو كان هؤلاء على حق ونحن على باطل كما يدعون لكان العكس. ولكانوا هم أكثر مالا وأعز نفرا ، وغرضهم من ذلك زعزعة المسلمين في عقائدهم موهمين بعضهم أن من كان كثير المال كان على الحق والصواب ، ومن الأسف أن بعض جهلة الأغنياء من المسلمين يفهم هذا ، ويقول به.

فيرد الله ويقول ما معناه : وكثير من الأمم السابقة كانوا أحسن أثاثا ومنظرا منكم وأكثر عددا وعدة أهلكناهم لما كفروا بالله.

قل لهم يا محمد. من كان في الضلالة سادرا ، وفي العماية سائرا حيث يقول هذا القول المخزى (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) يمده الله ويملى له في العمر مدا حتى يطول اغتراره فيكون ذلك أشد لعقابه.

ونظيره قوله ـ تعالى ـ (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) (١) (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (٢) وهذا غاية في التهديد ، وقيل هو دعاء من النبي عليهم بذلك حتى إذا رأوا ما يوعدون من العذاب في الدنيا بالقتل والأسر وظهور الدين الحق وهم كارهون أو يظلمهم يوم القيامة بعذابه اللافح وحسابه الشديد عن ذلك يرون من هو شر مكانا وأضعف جندا.

وخلاصة الكلام أن الله يمد لمن هو في الضلالة حتى يرى واحدا من اثنين إما عذاب الدنيا وإما عذاب يوم القيامة فإذا رأى ذلك علم من هو شر مكانا ومن هو أضعف

__________________

(١) سورة آل عمران الآية ١٧٨.

(٢) سورة الأنعام الآية ١١٠.

٤٦٨

جندا بمعنى أنهم يرون أنفسهم أنهم شر مكانا لا خير مكانا ، وأضعف جندا لا أقوى ولا أحسن من فريق المؤمنين وإيراد فعل التفضيل تهكم بهم.

ونظير هذه الآية (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً) [سورة الكهف آية ٤٣] هذا حالهم. أما حال المؤمنين فيقول الله فيهم :

ويزيد الله الذين اهتدوا وآمنوا هدى وتوفيقا إذ الخير يجر بعضه ، والباقيات الصالحات من أعمال الخير ، وذكر الله وتسبيحه عند ربك خير ثوابا ، وخير عاقبة ومآلا.

ثم أردف الله ـ سبحانه وتعالى ـ بهذا مقالة أولئك المفتخرين المغرورين بالمال والولد على سبيل التعجب والإنكار لهم.

ولهذه قصة خلاصتها كما رواها الأئمة عن خباب ـ وكان قينا أى : حدادا وصائغا ، قال. كان على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه فقال لي : لن أقضيك حتى تكفر بمحمد قال فقلت له. لن أكفر به حتى تموت ثم تبعث قال. وإنى لمبعوث من بعد الموت؟!! وإذا بعثت فسوف أقضيك إذا رجعت إلى مالي وولدي (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) [سورة الكهف آية ٣٦] فنزلت هذه الآية.

أفرأيت الذي كفر بآياتنا كلها أو بعضها وقال. والله لأوتين مالا وولدا ، والمعنى أخبرنى بقصة هذا الكافر عقب حديث أولئك المغرورين بمالهم وجاههم.

أنظرت فرأيت الذي كفر بآياتنا كلها أو بعضها وقال. والله لأوتين مالا وولدا يوم القيامة عند البعث ، انظر إلى مقالته وتألّيه على الله مع كفره وجحوده ثم يجيب الله عنه ويرد عليه.

أطلع على الغيب حتى أنه في الجنة؟ أم اتخذ عند الرحمن عهدا بدخول الجنة وأنه سيكون صاحب يسار فيها؟ ولا سبيل إلى العلم إلا بإحدى الوسيلتين إما الاطلاع على الغيب ، أو أخذ العهد.

وفي قوله : أطلع على الغيب؟! إشارة إلى أن الغيب أمر صعب أعلى من الجبل الأشم وأمنع منه منالا إذ هو غيب رب السماء والأرض الذي لا يطلع على غيبه أحد إلا من ارتضى من رسول.

٤٦٩

كلا كلمة ردع وزجر لم ترد في النصف الأول من القرآن.

سنكتب ما يقول ونجازيه عليه ، ونمد له من العذاب مدا مكان ما يطلبه من المدد بالمال والولد جزاء عمله.

ونرثه جزاء ما يقول ويعمل فهو يستحقه استحقاق الوارث لمال الموروث وسيأتينا فردا خاليا من كل شيء (لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ) [سورة الأنعام آية ٩٤].

هؤلاء هم المشركون

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٤) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٥) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٦) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٨٧))

المفردات :

(عِزًّا) أنصارا وأعوانا لهم (ضِدًّا) أعداء لهم (أَزًّا) الأز والهز والاستفزاز كلها تفيد التحريك والتهيج والإزعاج (وَفْداً) جمع وافد كصحب جمع صاحب والوافد من خرج في أمر خطير أو لمقابلة ملك أو أمير (وِرْداً) الورد القوم يردون الماء وهم عطشى ، والمراد أنهم حفاة عطاش كالإبل ؛ والورد نفس الماء.

٤٧٠

المعنى :

ويقول ـ سبحانه وتعالى ـ عجبا لمن كفر بآيات الله يتمنى عليه الأمانى ويتألى على الله ـ سبحانه ـ قد كفروا واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم أنصارا يوم القيامة وأعوانا ، يشفعون لهم ويقربونهم زلفى إلى الله.

كلا!! سيكفرون بعبادتهم ، ويتخلون من كفرهم (ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) (١) (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) [سورة النحل آية ٨٦].

ويجوز أن يكون المعنى كلا سيكفرون بعبادة الآلهة وينكرون ذلك ويقولون كذبا وبهتانا : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) (٢) ويكونون عليهم أضداد وأعداء لأنهم حصب جهنم التي فيها يعذب الكفار.

لا تعجب يا محمد من أولئك الكفرة العتاة القساة المغرورين بالمال والولد ، لا تعجب من فعلهم .. ألم تر أنا أرسلنا الشياطين عليهم؟ وخلينا بينهم وبينهم؟ ولو شاء ربك ما فعلوا (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) (٣) (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) (٤) وإذا كان ذلك كذلك فلا تعجل لهم ، ولا تستعجل عذابهم فليس بينك وبين عذابهم إلا أيام محصورة ، وساعات معدودة ، وكل آت قريب.

واذكر يوم حشر المتقين وتجمعهم إلى الرحمن وافدين ويساق المجرمون إلى جهنم وردا عطاشا حفاة عراة أفرادا أو جماعات وانظر إلى تكريم المتقين حيث يحشرون وفودا مكرمة مطهرة مشرقة وإلى المجرمين وهم يساقون كالأنعام إلى الماء عطاشا حفاة وهناك يساقون إلى جهنم وبئس القرار.

لا يملك أحد الشفاعة من مؤمن وكفار إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ، وهم الذين عهد لهم ربهم بهذا ، أما الآلهة التي يظنون أنها عزهم ، وأنها ستشفع لهم فتلك أمان باطلة ، وحجة واهية ، وهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا فكيف يكونون مع غيرهم؟!!

__________________

(١) القصص الآية ٦٣.

(٢) الأنعام الآية ٢٣.

(٣) الإسراء الآية ٦٤.

(٤) الحجر الآية ٤٢.

٤٧١

فرية اتخاذ الولد

(وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (٩٥))

المفردات :

(إِدًّا) الإد والإداة الداهية والأمر الفظيع والمراد أتيتم منكرا عظيما (يَتَفَطَّرْنَ) يتشققن (تَنْشَقُّ الْأَرْضُ) تتصدع (تَخِرُّ الْجِبالُ) تسقط وتهد (هَدًّا) أى شديدا له صوت.

انظر إلى نهاية السورة وقد عادت إلى نفى الولد هو المقصود الأول.

المعنى :

وهذه ثالثة الأثافى ، وداهية الدواهي وهي قولهم إن شاء الله اتخذ ولدا ، لقد جاءوا شيئا إدا ، وارتكبوا جرما فظيعا تئود من حمله الجبال الرواسي ، وتكاد السموات يتشققن من هوله ، وتتصدع الأرض من وقعه ، وتسقط الجبال سقوطا شديدا من دعواهم اتخذ الله ولدا ، يقول الله. كدت أفعل ذلك بالسموات والأرض والجبال لو لا حلمي وعفوي من شدة الغضب ، وقيل : هذا تصور وتمثيل لاستعظام الجرم وأثره في الدين وهدمه لأركانه. وما ينبغي للرحمن ولا يصح أن يتخذ ولدا عن طريق الولادة إذ هذا يقتضى

٤٧٢

أن يكون الوالد للولد هو نفسه ولدا لوالده فكيف يكون هذا مع الله الرحمن المنعم بجلائل النعم ودقائقها؟ غير المحتاج لغيره المخالف للحوادث في كل شيء.

روى البخاري عن أبى هريرة قال. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. «يقول الله ـ تبارك وتعالى ـ كذّبنى ابن آدم ، ولم يكن له ذلك ، وشتمني ولم يكن له ذلك ، فأمّا تكذيبه إيّاى فقوله : ليس يعيدني كما بدأنى ، وليس أوّل الخلق بأهون علىّ من إعادته ، وأمّا شتمه إيّاى فقوله اتّخذ الله ولدا وأنا الأحد الصّمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد».

وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا كما قالت اليهود : عزير ابن الله ، وكما قالت النصارى : المسيح ابن الله ، وكما قال المشركون : الملائكة بنات الله!!

وكيف يكون ذلك؟ وكل من في السموات من إنسان أو ملك يأتى الرحمن عبدا ذليلا خاضعا لقوته وجبروته (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) (١) أى : صاغرين ، وهذا يتنافى مع اتخاذ الولد إذ الولد قطعة من أبيه وهو عبد صار حرا بمجرد الشراء على أن الله ليس في حاجة إلى الولد ، وله من في السموات والأرض كلهم ملكا وخلقا وعبيدا ، وهو العالم بكل شيء المحيط بكل كائن في الكون ، القادر لا تحد قدرته بحد القائل في كتابه لقد أحصاهم جميعا ، وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا خالصا مجردا من كل شيء فهل يعقل أن يكون لمثل هذا ولد؟ أو يكون معه ولد فإن الولد شريك أبيه وصنوه ، وخليفته من بعده ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. وخير ما يختتم به هذا الموضوع سورة التوحيد والإخلاص (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ* اللهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) وانظر يا أخى إلى التوحيد الخالص البريء في الإسلام ، والتوحيد الصريح الذي لم يدع شكا عند أحد سبحان من هذا كلامه!!!

ختام السورة

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ

__________________

(١) سورة النمل آية ٨٧.

٤٧٣

الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (٩٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (٩٨))

المفردات :

(وُدًّا) محبة (لُدًّا) ألداء في الخصومة أشداء في الجدل بالباطل (رِكْزاً) صوتا خفيا.

المعنى :

ما مضى من الكفار ، ومن أعمالهم السيئة ، لا شك أنه يجعلهم مبغوضين مبعدين ، أما المؤمنون العاملون الخير الصالح فسيجعل لهم الرحمن المنعم بالنعم كلها ودا ومحبة في القلوب.

فإنما يسرنا القرآن بلسانك العربي حتى صار مفهوما يفهمه الخاص والعام فهو كالبحر يغترف منه كل على قدر طاقته (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (١) يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين فيعرفوا جزاء عملهم ، وما أعد لهم ، وتنذر به قوما ألداء أشداء في الخصومة والجدل وهم المشركون ، وكل عدو للدين ، فخذ حذرك واجمع أمرك ، وليعلم من يأتى بعدك أن مهمة الوعظ والتبشير بالدين والإنذار به ليست مهمة سهلة هينة إنما أنت تحارب في ميادين مع قوم شهد الله لهم بأنهم ألداء أقوياء لتتذرع بالصبر ، ولتتجمل بالخلق الطيب ، وكن مثلا عاليا في الأدب وحسن الجدل ، واستعد لهذا بتكوين نفسك علميا مع الإحاطة والفهم للبيئة التي تعيش فيها ، ودراسة أحوال من تخاطبهم دراسة دقيقة. عند ذلك يمكنك أن تعرض القرآن عرضا حسنا يستفيد منه الكل.

وأما القوة المادية التي هي في جانب الكفار فلا يهمك منها شيء أبدا ، واعلم أن كثيرا من الأمم السابقة أهلكها ربك وكانوا أكثر من هؤلاء قوة وعددا وأكثر مالا وولدا فهل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم صوتا؟!!

__________________

(١) سورة القمر الآية ٤٠.

٤٧٤

وفي قوله ـ تعالى ـ (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) حديث شريف عن أبى هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا أحبّ الله عبدا نادى جبريل إنّى قد أحببت فلانا فأحبّه فينادى في السّماء ثم تنزل له المحبّة في الأرض» فذلك قوله تعالى : (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) وإذا أبغض الله عبدا نادى جبريل إنّى أبغضت فلانا فينادى في السّماء ثم تنزل له البغضاء في الأرض».

والمحبة التي وعدها الله المؤمنين إنما تكون في قلوب الصالحين المتقين وعند الملائكة المقربين ، وإلا فالمؤمن من قد يكون مكروها من الفاسق والكافر.

٤٧٥

سورة طه

هي مكية وعدد آياتها خمس وثلاثون ومائة آية ؛ وهذه السورة تحدد موقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه رسول فقط ، وليس عليه إلا البلاغ ، والله معه لن يتركه وتلك سنته مع الأنبياء والمؤمنين فهذا موسى ومن آمن معه ؛ مع التذكير بيوم القيامة والتعرض لقصة آدم ليتعظ أبناؤه ويعرفوا موقفهم من الشيطان.

القرآن ومن أنزله

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(طه (١) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (٣) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (٤) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (٦) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (٧) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (٨))

المفردات :

(طه) هو اسم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل : اسم من أسمائه تعالى أقسم به ، وقيل : أصله طأ الأرض فالهاء ضمير الأرض والهمزة من طأ خففت ألفا ، وقال بعضهم في تصرفها الألف حذفت للأمر وهذه الهاء للسكت ، والرأى الأول أرجح لموافقته رسم المصحف وسياق المعنى (تَذْكِرَةً) تذكيرا (الْعُلى) جمع العليا مؤنث الأرض (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) راجع تفسيرها في ج ٨ ص.

٤٧٦

روى ابن إسحاق في كتب السيرة أن عمر قبل إسلامه كان شديد العداوة للإسلام وقد خرج في يوم متوشحا سيفه يريد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلقيه نعيم بن عبد الله فقال أين تريد يا عمر؟ فقال : أريد محمدا الصابئ ، الذي فرق أمر قريش وسفه أحلامها ، وعاب دينها ، وسبب آلهتها فأقتله ، فقال له نعيم : والله قد غرتك نفسك من نفسك يا عمر ، أترى بنى عبد مناف تاركيك تمشى على الأرض ، وقد قتلت محمدا؟! أفلا ترجع إلى أهلك فتقيم أمرهم؟! فقال : وأى أهل بيتي؟ قال : ختنك (زوج أختك) وابن عمك سعيد بن زيد ، وأختك فاطمة بنت الخطاب فقد والله أسلما وتابعا محمدا على دينه فعليك بهما ، قال : فرجع عمر عامدا إلى أخته وختنه ، وعندهما خباب بن الأرت معه صحيفة فيها أول سورة «طه» يقرئهما إياها ، فلما سمعوا صوت عمر تغيب خباب في مخدع لهما ، وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها ، وقد سمع عمر قراءة خباب فلما دخل قال : ما هذه الهينمة ـ الكلام الخفى الذي لا يفهم ـ التي سمعت؟ قالا له أسمعت شيئا؟! قال : بل والله لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدا على دينه. وبطش بختنه سعيد بن زيد فقامت إليه أخته فاطمة لتكفه عن زوجها فضربها فشجها فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه : نعم قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله فاصنع ما بدا لك ، ولما رأى عمر ما صنع ندم وارعوى وقال لأخته : أعطنى هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرأونها آنفا ، أنظر ما هذا الذي جاء به محمد. فقالت له أخته : إنا نخشاك عليها ، قال لها : لا تخافي وحلف لها بآلهته ليردنها إذا قرأها فلما قال ذلك طمعت في إسلامه فقالت له : يا أخى إنك نجس على شركك وإنه لا يمسها إلا الطاهر فقام عمر ، واغتسل فأعطته الصحيفة وفيها «طه» فلما قرأ منها صدرا قال ما أحسن هذا الكلام وأكرمه! فلما سمع خباب خرج إليه فقال له : والله يا عمر والله إنى لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه فإنى سمعته أمس وهو يقول «اللهمّ أيّد الإسلام بأبى الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطّاب» فالله الله يا عمر فقال له عمر ، دلني يا خباب على محمد حتى آتيه ، فأسلم ورضى الله عنه.

المعنى :

يقول الله ـ تبارك وتعالى ـ : يا طه ، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى وتتعب ، وذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان شديد الحرص على إيمان قريش. وكان يلقى في سبيل هذا ألما وتعبا

٤٧٧

شديدين حتى قال بعض الكفار له ، ما أنزل عليك القرآن إلا لتشقى ، وقال له النضر ابن الحارث وأبو جهل بن هشام ، إنك يا محمد شقي لأنك تركت دين آبائك وأجدادك ، وقد كان يقوم بالليل حتى تتورم قدماه فقيل له ، يا طه ما أنزل عليك القرآن لتتعب بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم ، وتحسرك على أن يؤمنوا (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ) أو لتتعب بكثرة العبادة. ما عليك إلا أن تبلغ وتذكر ، ولم يكتب عليك أن تحملهم على الإيمان فالقرآن ما نزل إلا تذكرة وموعظة لمن يخشى ومن هنا تعرف السر في فساد بعض القلوب ، وأنها لا تتذكر بالقرآن ، السر هو أن عنصر الخشية مفقود عندهم ، الخشية من الله ومن حسابه ، والخوف من الضمير ومن تأنيبه ؛ والمجتمع الإنساني ولومه ، فالقرآن تذكرة وشفاء وهدى ونور لمن يخشى الله من الناس ، ومن له قلب فيه شيء من الخوف.

أما النفوس الميتة ، والقلوب التي هي كالحجارة أو أشد قسوة فأصحابها صم بكم لا يعقلون!!

هذا هو القرآن الكريم. أما صاحبه والذي أنزله فهذا خبره.

ونزلناه تنزيلا ممن خلق الأرض والسموات العلى ، فهو المقتدر الحكيم الخبير والعليم البصير ..

هو الرحمن المنعم بجلائل النعم ودقائقها ، على العرش استوى والله ـ سبحانه وتعالى ـ ليس بجسم ولا يشبه شيئا من الحوادث فاستواؤه على العرش نؤمن به على أنه بلا كيف ولا انحصار ، وهذا رأى السلف وهو قبول ما جاء في تلك من الكتاب والسنة كقوله تعالى (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [سورة الفتح آية ١٠] من غير تكييف ولا تحريف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل.

أما الخلف فقالوا هذا كلام ليس على حقيقته بل هو مؤول ، المراد بالاستواء الاستيلاء والقهر والتصرف الكامل ، والعرش هو الملك ، لله ما في السموات والأرض وما بينها وما تحت الثرى مما لا تراه العيون ، له كل ذلك مما نعلم ، ومما نعلم ملكا وخلقا وتصريفا ـ سبحانه وتعالى ـ ، وهو عالم الغيب والشهادة المحيط بكل شيء الذي يستوي عنده الجهر بالقول والإسرار به ، بل هو يعلم السر ما هو أخفى منه مما لم تحدث نفسك به ، (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) التي تدل على كمال التقديس وتمام التنزيه.

٤٧٨

ترى أنه وصف صاحب القرآن ومنزله ـ سبحانه وتعالى ـ على عبده ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه خلق الأرض والسموات العلى ، وأنه الرحمن صاحب النعم ، وأنه استوى على العرش وصاحب التصريف في الكون ، وأنه له ما في السموات وما في الأرض ، وما بينهما وما تحت الثرى ، وأنه العالم بكل شيء سواء عنده السر والجهر ، وأنه الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى ـ تبارك وتعالى ـ.

فهل يعقل بعد ذلك أن يدعى محمد ـ وهو المخلوق الضعيف ـ على الله الموصوف بهذه الصفات هذا القرآن؟!! وهل يعقل بعد هذا ألا ينصر الله رسوله ويؤيده ويعصمه من الناس؟!! أبعد هذا يعقل أن يتخذ إنسان صنما من حجر أو خشب شريكا لهذا الباري الموصوف بهذه الصفات.

لذلك كله بادر عمر بن الخطاب لما أراد الله له الخير ـ إلى الإسلام ـ وجاهر به ، وأصبح الساعد القوى المجاهر بالدعوة ، الفاهم لها المستميت في الدفاع عنها ـ رضى الله عنه ـ وعن أصحاب رسول الله أجمعين.

قصة موسى مع فرعون وبنى إسرائيل

قصة من القصص المهمة التي كثر ذكرها في القرآن في عدة سور ومواضع فيه ، وهي إلى حد تشبه السيرة النبوية في كثير من مراحلها ، لذلك عنى القرآن بها وما ذكر هنا في قصة موسى مناسب لما قبله إذ انتهى السياق أولا إلى التوحيد (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) وقد أبانت القصة في أول أمرها التوحيد الكامل حيث خوطب النبي موسى بقوله : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي) وهذا يفيد أن التوحيد أمر مستمر فيما بين الأنبياء يتلقونه كابرا عن كابر ، وأنت ترى أن رسالة موسى بدأت به وختمت كذلك (إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ).

ولعلك تدرك بعض السر في اختلاف القصة الواحدة في القرآن لأنها تساق في كل موضع بما يناسبه بدءا ونهاية.

٤٧٩

ويحسن بمن يريد أن يلم بقصة موسى ـ عليه‌السلام ـ إلماما مرتبا على حسب الطبيعة والواقع أن يقرأ كتاب قصص الأنبياء للشيخ النجار ، وغيره من الكتب التي كتبت في سيدنا موسى ـ عليه‌السلام ـ ، ونحن هنا مقيدون بشرح القرآن على ترتيبه الإلهى الذي لا يعلم سره إلا الله.

والقصة هنا عالجت موضوعات وعناصر أهمها ما يأتى :

موسى بالوادي المقدس بعد قضائه الأجل في مدين ، بعثته وما طلبه من ربه ، بعض الألطاف التي صادفت موسى ، دعوة موسى لفرعون ، ومحاجته له ، موسى والسحرة التي جمعها فرعون ، خروج بنى إسرائيل من مصر وطلب فرعون لهم ، اتخاذ بنى إسرائيل العجل إلها يعبدونه.

موسى بالوادي المقدس

(وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (١٠) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٢) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (١٣) إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (١٤) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (١٥) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (١٦))

٤٨٠