التفسير الواضح - ج ٢

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ٢

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٨٨٤

فيها قد أعدت لهم إعدادا كاملا وهيئت لهم كما يهيأ المنزل للنزيل والضيف ، حالة كونهم فيها خالدون ومقيمون إلى ما شاء الله وهم لا يبغون عنها تحويلا ، ولا تتجه نفوسهم ، إلى أحسن منها لأنها جمعت كل حسن ، وحازت كل وصف ، فتبارك الله أحسن الخالقين ، وذلك فضل ربك وعطاؤه.

كمال علمه واحاطته بكل شيء

قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (١٠٩) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (١١٠)

المفردات :

(مِداداً) المداد ما يكتب به. وسمى بذلك لإمداده الكاتب ، وفيه معنى زيادة ومجيء الشيء بعد الشيء (لَنَفِدَ الْبَحْرُ) لفرغ البحر وانتهى (مَدَداً) أى : زيادة.

سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أصحاب الكهف والرقيم ، وعن الروح وعن ذي القرنين ، وأوحى الله إليه بالإجابة عن هذه الأسئلة التي قصد بها إحراجه وفي ختام السورة تعرض القرآن لبيان علمه ـ سبحانه ـ المحيط بكل شيء الذي لا يتناهى عند حد لبيان قدرته وتكوينه مع بيان موقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه بشر أوحى إليه وهنا يتطامن الإنسان أمام علم الله وقدرته.

والمهم ليس كثرة السؤال وإنما العمل للقاء رب الأرباب مع البعد عن نواحي الإشراك.

المعنى :

قل لهم يا محمد : لو كان البحر مدادا يكتب به وكتبت كلمات علم الله به لنفد

٤٤١

البحر وفرغ ، ولم تنفد كلمات الله العليم الخبير العزيز الحكيم ، لو لم تجيء بمثله مددا وزيادة ، ولو جئنا بمثله مددا وزيادة ، إذ لا حصر لكلمات الله لأنها تابعة لمعلوماته وهي غير متناهية عند حد ، (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (١) وتذييل هذه الآية التي تشبه آياتنا تماما بقوله تعالى (عَزِيزٌ حَكِيمٌ) يشير إلى أن المراد بكلمات الله كلماته التكوينية التي هي قوله للشيء كن فيكون أى التي بها الإيجاد والخلق ، وإيجاد الله وخلقه للأشياء لا حد له أبدا ولا نهاية له أصلا إذ هو الخالق دائم الإيجاد في الدنيا كما ترى ، وفي الآخرة ليتم نعيم المؤمنين ، وعذاب الكافرين الذين هم فيه خالدون ومداد البحر مهما كان فهو محدود ، وله نهاية والله أعلم بكتابه.

قل لهم : إنما أنا بشر مثلكم تماما لا علم لي بشيء أبدا لم أحضر عند معلم ، ولم أقرأ كتابا ولم أجلس لإنسان يهديني لهذا الذي أجبتكم به ، ولكن أوحى إلى ، وعلمني ربي من لدنه علما ، ومما أوحى إلى أنما إلهكم إله واحد ، لا شريك له فانظروا إلى مصيركم! فمن كان يرجوا لقاء ربه ويحبه ويؤمن به حقا فليعمل عملا صالحا ينفعه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، وعليه ألا يشرك بعبادة ربه أحدا كائنا ما كان.

__________________

(١) سورة لقمان الآية ٢٧.

٤٤٢

سورة مريم

وهي مكية كلها على القول الصحيح ، نزلت بعد فاطر ، وعدد آياتها ثمان وتسعون آية. وتهدف إلى تقرير مبدأ التوحيد لله ونفى الشريك والولد عنه وإثبات البعث ، وتتخذ القصص مادة لذلك ، ثم تعرض لبعض المشاهد يوم القيامة ، ومناقشة المنكرين للبعث.

قصة زكريا

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦) يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ

٤٤٣

تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١)

المفردات :

(كهيعص) تقرأ هكذا : كاف. ها. يا. عاين. صاد. مع إدغام نون عاين في الصاد (خَفِيًّا) لا جهر فيه (وَهَنَ الْعَظْمُ) يقال وهن العظيم يهن إذا ضعف (اشْتَعَلَ) المراد انتشر انتشارا يشبه اشتعال النار (الْمَوالِيَ) هم في هذا الموضع الأقارب الذين يرثون من بنى العم ونحوهم.

مهلا بنى عمنا موالينا

لا تنشروا بيننا ما كان مدفونا

(عاقِراً) المرأة التي لا تلد (رَضِيًّا) مرضيا عندك ، ومرضيا عنه في الدنيا وراضيا بقضاء الله وقدره (سَمِيًّا) قيل لم نسم أحدا قبله بيحيى ، وقيل لم نجعل له مثلا ولا نظيرا مأخوذ هذا المعنى من المساماة والسمو (عِتِيًّا) يقال عتا الشيخ يعتو عتيا إذا انتهى سنه وكبر ، وشيخ عاتا إذا صار إلى حال اليبس وجفاف العظم والعصب.

المعنى :

لقد افتتحت السورة بهذه الأحرف الخمسة المقطعة. والله أعلم بها. هذا ذكر رحمة الله بعبده زكريا ، وكان نبيا عظيما من أنبياء بني إسرائيل ، وفي صحيح البخاري : كان نجارا يأكل من عمل يده ، والمراد بذكر الرحمة بلوغها وإصابتها ، وإجابته لدعائه وقت أن دعا ربه نداء خفيا مستترا لأنه أبعد عن الرياء.

وفيه طلب الولد وهو عجوز ، وقد يلام على ذلك من قومه ، وعلى العموم فالرحمة الربانية تعبق رائحتها في جو هذه السورة.

قال زكريا : يا رب إنى وهن العظم منى ، وضعفت وخارت قواي ، وذكر العظم لأنه عمود البدن وقوامه وأساس بنائه فإذا وهن تداعى البدن ، وتساقطت قوته ،

٤٤٤

واشتعل الرأس منى شيبا بمعنى اضطرم المشيب في سواد رأسى ، وانتشر بياض الشعر في سواده كما ينتشر شعاع النار في الهشيم فيضطرم لهيبا ، وهذا التركيب فيه استعارة من أبدع الاستعارات وأحسنها ، ولم أكن بدعائك يا ربي شقيا وخائبا في وقت من الأوقات بل كلما دعوتك استجبت لي ، وهذا من أكبر النعم عليه.

نرى زكريا ـ عليه‌السلام ـ جمع في دعائه بين إظهار الخضوع والذلة والضعف ثم ذكر النعم عليه من ربه فيستحب لمن يدعو أن يفعل مثله.

وإنى خفت الموالي من ورائي خفت على عصبتي وأبناء عمى من أن يضيعوا الدين فطلبت ولدا يقوم عليه ويحرسه ، ولا يعقل أنه خاف منهم أن يرثوه فهذا حال لا يليق بأمثاله.

وكانت امرأته ـ أخت حنة أم مريم ـ عاقرا لا تلد وإذا كان الأمر كذلك فهب لي من لدنك وليا يرثني ، ويرث من آل يعقوب النبوة والعلم والمحافظة على الدين والدعوة إليه ، واجعله يا رب راضيا مرضيا عنه في الدنيا والآخرة وقد أجيب إلى ما سأل في دعائه فقيل له :

يا زكريا إنّا نبشّرك بغلام اسمه يحيى (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ* فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) سورة آل عمران الآيتان ٣٨ و ٣٩] .. لم يجعل له من قبل سميا فلم يسم أحد قبله بهذا الاسم ، وقيل لم نجعل له سميا وشبيها وهذا المعنى يؤيده قول الله (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) [سورة مريم آية ٦٥] أى شبيها.

وهذا زكريا : وقد فرح فرحا شديدا حين أجيب إلى سؤاله ، يتعجب ويسأله عن كيفية الولادة مع أن امرأته عاقر لا تلد ، وهو كبير في السن وضعيف في البنية ، وليس سؤال استبعاد على القدرة.

قال رب كيف يكون لي ولد؟!! وكانت امرأتى عاقرا ، وقد بلغت من الكبر عتيا.

قال الله ـ سبحانه ـ أو قال الملك المبلغ : الأمر كذلك من خلق غلام منكما وأنتما على حالكما.

٤٤٥

قال ربك : هو علىّ هين أى : خلق غلام منكما وأنتما بهذا الوضع علىّ هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا قبل خلقك ، ولا غرابة في ذلك فهذا آدم أبو البشر خلق ولم يك شيئا.

قال : رب اجعل لي آية تدل على حمل امرأتى قال : آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال وأنت سوىّ الخلقة ليس بك مانع يمنعك من الكلام ، قال المفسرون : إن نفسه تاقت إلى سرعة الأمر فسأل الله آية يستدل بها على قرب ما من به عليه ، وقد أجيب ليعلم وقت العلوق.

فخرج على قومه من المحراب «وهو مصلاه واشتقاقه من الحرب كأن صاحبه يحارب النفس والشيطان» فأوحى إليهم أن سبحوا وصلوا في الصباح والمساء. فتلك أوقات يقبل الله فيها على عباده لأنهم يقبلون عليه وقد هدأ الكون وسكن الناس وصفت النفوس ، وخلت من مشاغل الدنيا وضجيج الحياة.

يحيى عليه‌السلام

(يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥))

المفردات :

(بِقُوَّةٍ) بجد ونشاط (الْحُكْمَ) الحكمة (وَحَناناً) الحنان المحبة في شفقة وميل مأخوذ من حنين الناقة على ولدها (وَزَكاةً) وطهارة ونماء وبركة (وَبَرًّا) أى : بارّا محسنا لهما.

٤٤٦

المعنى :

ولد لزكريا مولود فبلغ المبلغ الذي يجوز أن يخاطب فيه فقال الله له : يا يحيى خذ التوراة ، وقم بكل ما فيها كما ينبغي. فأقدم على الأمر فامتثله ، وعلى النهى فابتعد عنه كل ذلك بجد ونشاط ، وعزيمة واجتهاد.

وآتيناه الحكم أى الحكمة وفهم الكتاب وهو التوراة التي يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأخبار ، وهو صبي حديث السن أما تحديد سنه وقتئذ فالله أعلم به.

آتيناه الحكم ، وآتيناه حنانا يتحنن به على الناس ، ويتعطف به عليهم من عندنا ، وزكاة وبركة له ، وطهرا ونماء فيه.

وكان يحيى تقيا متجنبا المعاصي مطيعا لله وكان بارا بوالديه محسنا لهما ، ولم يكن في وقت من الأوقات متكبرا ولا عاصيا لوالديه أو لله.

وسلام عليه وأمان يوم ولد ، ويوم يموت ، ويوم يبعث حيا ، وهذه الأوقات الثلاثة أوقات شديدة على الإنسان ، ما أحوجه فيها إلى السلام والأمان من رب الأرباب.

انظروا يا شباب إلى خلق شباب أهل النبوة ، والبيوت الطاهرة ، والسلالة الشريفة خذوا يحيى في شبابه مثلا لكم تقتدون به ، حكمة وعطفا ، وزكاة وطهرا وشفقة وتقوى وبرا بالوالدين وإحسانا ، وما كان جبارا في الأرض ، ولا مفسدا وما كان عاصيا ولا مذنبا فسلام عليه وعلى والديه ، ورحمة الله وبركاته إنها ذرية بعضها من بعض.

قصة ولادة عيسى ابن مريم

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي

٤٤٧

أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي

٤٤٨

جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣))

المفردات :

(انْتَبَذَتْ) النبد الرح والرمي والرماد ابتعدت وتنحت عن أهلها (مَكاناً شَرْقِيًّا) مكانا جهة الشرق (حِجاباً) ساترا (رُوحَنا) المراد جبريل وهو روح القدس ، والدين يحيا به ويوجبه من الكتب (سَوِيًّا) مستوى الخلقة نامها (بَغِيًّا) المرأة البغي هي الزانية التي تبغى الرجال (مَقْضِيًّا) محكوما به نافذا (قَصِيًّا) بعيدا عن الأعين (فَأَجاءَهَا) اضطرها (الْمَخاضُ) مقدمة الولادة (إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ) وهو ساقها اليابس (نَسْياً) النسى الشيء الحقير الذي من شأنه أن ينسى (مَنْسِيًّا) وقع عليه النسيان بالفعل (سَرِيًّا) قيل هو النهر كان جافا فامتلأ ماء ، وقيل : هو عيسى والسرى الشريف العظيم من القوم (جَنِيًّا) أى مجنيا في حينه (وَقَرِّي عَيْناً) المراد اهدئى ولا تحزني ، والمسرور بارد القلب ساكنه فالمادة مأخوذة من القرى أى البرد (صَوْماً) سكوتا (مُبارَكاً) ناميا في الخير ثابتا على الحق (الْمَهْدِ) شيء يتخذ لتنويم الصبى.

المعنى :

واذكر يا محمد في القرآن مريم البتول وخبرها الصحيح الذي يتضمن ولادتها لعيسى ابنها عبد الله ورسوله إلى بني إسرائيل ، ونفى الولد عن الله ـ سبحانه وتعالى ـ.

نشأت مريم بنت عمران في بيت كريم ونسب شريف ، ونشأت عفيفة طاهرة فلما شبت وترعرعت تحت عناية الله ورعايته ، وبلغت مبلغ النساء كان منها أن انتبذت أهلها ، وجلست وحدها في خلوة للعبادة أو لقضاء بعض حاجاتها وكان ذلك في مكان جهة الشرق (ومن هنا اتخذ المسيحيون قبلتهم ناحية الشرق).

وبينما هي في خلوتها إذ بجبريل روح القدس يتمثل لها بشرا سويا تام الخلقة مستوى الخلق لم ينقص منه شيء في رجولته.

٤٤٩

فلما رأته على هذا الوضع قد اخترق عليها حجابها. ظنت به سوءا أو أنه يريد بها شرا فقالت له إنى أعوذ بالرحمن منك وألتجئ إلى الله أن يقيني شرك ، ما كنت يا هذا رجلا نقيا.

وهذا دليل على عفافها وورعها حيث تعوذت بالله من تلك الصورة الجميلة الفاتنة وكان تمثيله بتلك الصورة ابتلاء من الله لها وسبرا لعفتها. قال جبريل لها : إنما أنا رسول ربك الذي تستعيذين به ، جئت لأهب لك غلاما زكيا طاهرا.

قالت مريم : أنى يكون لي غلام؟ والحال أنى لم يمسني بشر في زواج شرعي ولم أك بغيا من البغايا!!

وسؤالها هذا لم يكن عن استبعاد لقدرة الله ، ولكن أرادت متعجبة كيف يكون هذا الولد؟ هل هو من قبل زوج تتزوجه في المستقبل أم يخلقه الله ابتداء؟

قال الملك : الأمر كذلك (والمشار إليه أنى يكون لي غلام؟) قال الله : هو على هين وقد خلقناه على هذا الوضع لنجعله آية للناس حيث يستدلون بخلقه على كمال القدرة ، وتمام العظمة لله ـ سبحانه وتعالى ـ.

وكان رحمة منا للخلق ، وهكذا كل نبي يهدى الناس إلى الخير ، ويرشدهم إلى الصراط المستقيم ، وكان ذلك المذكور أمرا مقضيا ومقدرا من الله.

اطمأنت مريم إلى كلامه فدنا منها ، ونفخ في جيب درعها أى نفخ في فتحة قميصها من أعلى ، ووصلت النفخة إلى بطنها ، وتنحت عن أهلها قاصدة مكانا قصيا بعيدا فألجأها المخاض متجهة إلى جذع النخلة لتستر به ، وتعتمد عليه عند الولادة قالت : يا ليتني مت قبل هذا الحادث ، وكنت شيئا منسيا ، تراها تمنت الموت خوفا من أن يظن بها السوء في دينها ، أو يقع أحد بسبها في البهتان.

فناداها جبريل من تحتها إذا كانت هي على مكان مرتفع وقيل الذي ناداها هو عيسى الوليد ، ناداها بألا تحزني ولا تتألمى.

فهذه آية الله الدالة على أن الأمر خارق للعادة ، وأن لله في خلقه شؤونا. فها هو ذا قد جعل لك ربك تحتك نهرا يفيض بالماء بعد أن كان جافا ، وحركي جذع النخلة

٤٥٠

اليابسة تتساقط عليك رطبا جنيا شهيا ، أليست هذه أمارات الرضا؟ ودليلا على أن الله معك ولن ينساك يا مريم ، فكلي من الرطب واشربى من النهر وقرى عينا ، واهدئى بالا ، واطمأني نفسا فالله معك ، وحافظك من الناس ، فإن رأيت من الناس أحدا فيه أمارة الاعتراض عليك فلا تكلميه ، وقولي : إنى نذرت للرحمن صوما وسكوتا عن الكلام فلن أكلم اليوم إنسانا بل سألكم الملائكة ، وأناجى ربي ـ سبحانه وتعالى ـ.

ولما اطمأنت مريم ـ عليها‌السلام ـ بما رأت من الآيات ، وفرغت من نفاسها أتت بعيسى تحمله إلى أهل بيتها ، فلما رأوا الولد معها حزنوا ، وكانوا أهل بيت صالحين (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) [سورة آل عمران الآيتان ٣٣ و ٣٤].

قالوا منكرين : يا مريم لقد جئت شيئا فريا وعجيبا ونادرا في بيئتنا وبيتنا فليس هذا من عوائدنا وعادتنا .. يا مريم ما كان أبوك امرأ سوء بل كان رجلا صالحا ، وعبدا قانتا ، وما كانت أمك بغيا فمن أين يأتى لك هذا السوء؟! وفي هذا دليل على أثر الوراثة والبيئة.

فأشارت إلى الوليد الصغير أن تكلم قالوا متعجبين منكرين ذلك : كيف نكلم من كان في المهد صبيا؟! اعتبروا هذا استهزاء بهم وجناية زيادة على جنايتها الأولى.

ولكن الوليد الصغير لم يكن كأمثاله نشأ من أب وأم بل خلقه الله آية عجيبة وخلقة غريبة يؤمن بسببه أناس ، ويكفر آخرون.

قال إنى عبد الله ـ ولست ولدا لله ولا جزءا منه بلى أنا بشر وعبد له ـ آتاني الكتاب وهو الإنجيل. وجعلني نبيا إليكم ، وجعلني مباركا لي في كل شيء ، وثابتا على دين الحق ، وأوصانى بالصلاة والزكاة ما دمت حيا ، وجعلني بارا بوالدتي فقط حيث لم يكن له أب ، ولم يجعلني ربي جبارا عنيدا وشقيا مطرودا.

والسلام من الله العلى القدير ، علىّ يوم ولدت من غير أب ، ويوم أموت ، ويوم أبعث حيا.

٤٥١

القول الحق في عيسى عليه‌السلام

(ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٤٠))

المفردات :

(يَمْتَرُونَ) يشكون ويختلفون (فَوَيْلٌ) أى : فهلاك وعذاب (يَوْمَ الْحَسْرَةِ) هو يوم القيامة.

المعنى :

ذلك الذي مضى وصفه. والكلام عليه ، والحكاية عنه في قوله : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا* وَجَعَلَنِي مُبارَكاً) إلخ الآيات هو عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله إلى بني إسرائيل وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) [سورة النساء آية ١٧١].

هذا هو الحق لا مرية فيه ولا شك (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ

٤٥٢

مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ* الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) [سورة آل عمران آية ٦١].

هذا هو القول الحق ، والحكم العدل ، والقول الصدق الذي فيه يمترون ويختلفون ويتشككون ، نعم هو القول الفاصل الذي أطاح بأقوال اليهود في عيسى وأمه ، (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً) [سورة النساء آية ٥٦]. وأطاح بأقوال النصارى الذين قالوا : ابن الله أو ثالث ثلاثة ، أو هو الله .. يا أهل الكتاب (لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) [سورة النساء آية ١٧١].

ولم تتكلم الأناجيل عن عيسى وهو صبي ، وكيف كانت ولادته ، ولم تذكر حادثة النخلة ، ولا نذرها الصوم ، ولا تأنيب قومها لها ، ولا كلامه في المهد ظنا منهم أن ذلك يشين عيسى ، وينقص قدره وقدر أمه ، والقرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه المنزل من عند الله ، والمهيمن على كتب أهل الكتاب (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) هو الذي ذكر كل هذا.

ولا غرابة إذا لم تذكر الكتب السابقة خصوصا الأناجيل ذلك عن عيسى فالله يقول : (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ).

نعم إنهم يمترون فيه ويختلفون إلى الآن. ولقد جمع الإمبراطور قسطنطين مجمعا من الأساقفة فاختلفوا في عيسى اختلافا كثيرا وقالت كل فرقة قولا ، فبعضهم قال : إنه الإله. وقالت الأخرى : إنه ثالث ثلاثة. وقالت فئة أخرى : إنه ابن الإله. وقال بعضهم : إنه عبد الله ورسوله وكلمته وروح منه.

ترى أن بعض النصارى نظر بعقله القاصر إلى السيد المسيح وأنه جاء من غير أب وخاطب ربه كثيرا بقوله : يا أبت كما حكى الإنجيل لك فقالوا هو ابن الله وما علم أن الله قادر على كل شيء ، وأننا نحكم بمقتضى الأسباب التي نعرفها أنه لا ولد من غير أب ولكن الله ـ سبحانه ـ الذي خلق الأسباب والمسببات قادر على كل شيء ـ سبحانه وتعالى ـ عما يشركون! ما كان الله أن يتخذ ولدا سبحانه. وكيف يتخذ ولدا؟ وهو الغنى عن الولد والوالد والأخ والصاحب إذ له السموات والأرض الحي الدائم الباقي بعد فناء الخلق جميعا ، وهو القادر على كل شيء إذا أراد نفذ المراد ، وإذا

٤٥٣

أراد شيئا حصل بدون إمهال أو تأجيل كالأمر إذا أمر بشيء وقال له : كن فيكون الشيء قطعا.

ومن كان هذا وصفه أيشبه المخلوقات فيكون له ولد ويحتاج إلى شيء حتى يكون له ولد وهل من المخلوقات شيء يماثله حتى يكون إله أو جزء إله. تعالى الله عما يشركون!! وها هو ذا عيسى ـ عليه‌السلام ـ نفسه يقول : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) وكما حكى إنجيل متى عنه في الإصحاح الرابع آية ١٠ قال له يسوع : اذهب يا شيطان لأنه مكتوب للرب إلهك تسجد ، وإياه وحده تعبد ، (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ).

أما أهل الكتاب فاختلفوا فيما بينهم كما رأيت بين إفراط وتفريط في شأن عيسى وأمه ولم تنجح إلا طائفة آمنت بعيسى على أنه نبي مرسل ، وهو بشر خلق من غير أب ليكون آية للناس.

أما غيرها فويل وهلاك للكافرين منهم الذين ألهوا المسيح أو ذموه ورموا أمه بالزنى ويل لهم حيث يشهدون يوم القيامة ذلك اليوم العظيم الهول.

ما أسمعهم وما أبصرهم يوم يأتون ، وقد كانوا قبل ذلك لا يسمعون ولكن فات الأوان (قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [سورة المؤمنون الآيتان ٩٩ و ١٠٠].

وأنذرهم يا محمد يوم الحسرة وقد قضى الأمر وهم غافلون لا يؤمنون ، وأعلمهم أن الله يرث الأرض ومن عليها ، وإليه يرجع الأمر كله.

قصة إبراهيم مع أبيه

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢) يا أَبَتِ

٤٥٤

إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥) قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٥٠))

المفردات :

(صِدِّيقاً) مبالغا في الصدق والتصديق (سَوِيًّا) مستقيما (عَصِيًّا) كثير العصيان (وَلِيًّا) ناصرا وقرينا له (حَفِيًّا) حفى به حفاة فهو حفى به أى : مبالغ في إكرامه وإلطافه والعناية به (مَلِيًّا) أى : زمنا طويلا (لِسانَ صِدْقٍ) المراد ثناء حسنا وسيرة عطرة.

لقد مضت قصة عيسى التي نفى فيها القرآن أكذوبة الولد ، وها هي ذي قصة إبراهيم أبو إسماعيل الذي ينتسب إليه العرب ويدعون أنهم على دينه وأنهم سدنة بيته ، وفيها نفى الشرك ودحض عبادة الأوثان.

٤٥٥

المعنى :

واذكر يا محمد في الكتاب المنزل عليك إبراهيم الخليل ، واتل عليهم نبأه وقت أن جادل أباه آزر ، وقال له. يا أبت لم تعبد حجرا لا يسمع ، ولا يبصر ، ولا يغنى عنك شيئا من الغناء؟!!

وانظر إلى أبينا الخليل إبراهيم وهو يخاطب أباه متلطفا بقوله : يا أبت!! ويستفهم منه عن السر في تلك العبادة فإن المعبود لو كان حيا يسمع ويبصر وينفع ويضر في شيء ، وهو مع ذلك مخلوق لكانت عبادته دليلا على قصر العقل وسوء الرأى وفساد الطبع .. ولو كان من أشرف الخلق كالأنبياء والملائكة (وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) وذلك أن العبادة غاية في التعظيم ، ومنتهى التقديس ولا يكون ذلك لمخلوق أبدا أيا كان وضعه. فما بالك لو كان المعبود حجرا لا يسمع عبادتك ، ولا يبصر قربانك ، ولا يغنى عنك شيئا من الغناء؟! وفي الاستفهام عن السبب لفت للنظر عميق يبعث على الشك والبحث.

يا أبت إنى قد جاءني من العلم شيء لم يأتك فاتبعنى أهدك الصراط المستقيم ، والسبيل الحق ، وانظر إلى الخليل ـ صلوات الله عليه ـ لم يصف أباه بالجهل ، ولا نفسه بالعلم الكامل فإن ذلك ينفر الناس ، ويمنع الجليس من الائتناس ، بل قال إنى أعطيت شيئا من العلم قليلا ، ولم تعطه ، ولا ضير عليك في شيء إن اتبعت ابنك حتى يهديك إلى الصراط المستقيم ، يا أبت هب أننا سائران في الطريق وأنا على علم به أفلا يكون من الخير أن تتبعني حتى تصل إلى بر السلامة ، وأنت أبى على كل حال وأنا ابنك البار .. وهذا جذب لأبيه ليصل إلى الحق بطرق سديدة ، يشككه في اعتقاده ثم يلمح له بأن الخير في اتباعه وترك ما هو عليه.

وانظر إلى أبى الأنبياء وهو يقول لأبيه : يا أبت لا تعبد الشيطان ، إن الشيطان كان للرحمن كثير العصيان.

آزر أبو إبراهيم كان يعبد الأصنام ، وما كان يعبد الشيطان ، إلا أن عبادتها لا يمكن أن تصدر عن عقل أو عاطفة أو غريزة ، ولكنها تنشأ عن وسوسة الشيطان وإغوائه فكانت عبادتها عبادة له ، وطاعة لإغوائه! والشيطان هو ما تعرفون ، عدو أبيكم آدم ،

٤٥٦

وعدوكم يا بنى آدم جميعا ، لا يريد لكم إلا كل شر ، ولا يزين لكم إلا كل إثم وبهتان وهو قد عصى ربكم في السجود لآدم ، وعصاه في كل ما أمره به ، أمن الخير أن يطاع هذا الشيطان ، ويسمع لإغوائه في عبادة الأصنام ، وترك عبادة الرحمن؟!

وها هو ذا إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ يحذر أباه سوء العاقبة ، وينذره بالشر الوبيل فيقول : يا أبت إنى أخاف أن يصيبك عذاب من الرحمن ربك وخالقك فتكون بذلك للشيطان قرينا في النار ، وتكون بهذا وليا له وناصرا.

وفي ذكر الخوف من العذاب والمس له دون الإصابة به ، وتنكير العذاب المفيد للتقليل أدب جم ، وتلطف كريم ليس غريبا على إبراهيم خليل الرحمن.

أما إجابة الكافر الغليظ القلب الجاف فكانت على صورة بشعة حيث قال : أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم؟ لئن لم تنته عن تعرضك للآلهة لأرجمنك وأشتمنك فاحذرنى واهجرني زمنا طويلا ، وابتعد عنى وأنت سالم البدن والعرض.

انظر إلى آزر ، وقد قابل استعطاف إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وتلطفه في إرشاده بالفظاظة حيث ناداه باسمه بدل قوله : يا بنى وبدأ الكلام بقوله : أراغب ، للإشارة إلى أن الرغبة عن الآلهة أمر يهمه أكثر من غيره.

وصدره بهمزة الاستفهام المفيدة للإنكار والتعجب وجعلها مسلطة على الرغبة للإشارة إلى أن نفس الرغبة مما ينبغي أن تكون ، وأن الآلهة ما ينبغي أن يرغب عنها عاقل ، ثم بعد هذا هدده بالرجم باللسان أو بالحجارة إن لم يكف عن التعرض لذكر الآلهة بالسوء.

قال إبراهيم إزاء ذلك : مقالة المؤمن الكامل سلام عليك سلام توديع وترك (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) [سورة القصص الآية ٥٥] ومع هذا كله فأنت أبى سأستغفر لك ربي ، وأدعو لك بالهداية والتوفيق ، إنه كان بي حفيا بارا لطيفا ، وهو لن يضيعني في سفري ، ولن ينساني أبدا ، وقد كان كذلك.

استغفار إبراهيم لأبيه : الثابت أن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ استغفر لأبيه مدة طويلة قيل حتى مات (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) [سورة الشعراء آية ٨٦] ، (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) [سورة إبراهيم آية ٤١].

٤٥٧

وقد استغفر المسلمون لقرابتهم من المشركين في ابتداء الإسلام اقتداء بإبراهيم ـ عليه‌السلام ـ حتى أنزل لله (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ* وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) [سورة التوبة الآيتان ١١٣ و ١١٤] (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ) [الممتحنة ٤] فامتنع المسلمون بعد نزول هذه الآيات عن الاستغفار للكفار على أن الاستغفار لهم وهم أحياء بمعنى طلب الهداية والتوفيق لهم في حياتهم شيء لا غبار عليه كما مر في تفسير آيات التوبة ، والممنوع هو الاستغفار لهم بعد موتهم .. وعلى ذلك فقول بعض الناس : المرحوم فلان وهو ممن نعلم أنه مات على غير الإسلام ليس بسديد.

فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله أكمل عليه النعمة ، وألبسه ثوب العافية ووهب له إسحاق وأبيه يعقوب ، وجعل كل واحد منهما نبيا ، ووهبنا لهم بعض رحمتنا وجعلنا لهم ثناء صادقا وسيرة طيبة ، فكل الأديان والأنبياء من سلالتهما ، وكل الأديان تحترم إبراهيم ، وإسحاق ويعقوب وذريتهم.

والعرب يدعون أنهم على دين إبراهيم ، وهم من سلالته ، فذكرت لهم قصته وموقفه من أبيه وقومه ليعتبروا ويتعظوا.

ذكر بعض الأنبياء عليهم‌السلام

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ

٤٥٨

إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (٥٧) أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (٥٨))

المفردات :

(مُخْلَصاً) أى : أخلصه الله واختاره لنفسه ، وقرئ مخلصا أى : أخلص في العبادة وابتعد عن الشرك والرياء (رَسُولاً) هو النبي صاحب الشريعة والكتاب. والنبي من ينبئ عن الله وله وحى وليس له كتاب كيوشع مثلا ويحيى وزكريا فكل رسول نبي ولا عكس (نَجِيًّا) أى : مناجيا ومصاحبا.

وهذه سلالة إبراهيم وذريته ، فخذوهم مثلا عليا لكم أيها المسلمون.

المعنى :

واذكر يا محمد في الكتاب ، واتل عليهم نبأ موسى ـ عليه‌السلام ـ ، إنه كان مخلصا في عبادته بعيدا عن الرياء والسمعة. والشرك بكافة أنواعه ، وقد أخلصه الله لنفسه واجتباه وخلص الله نفسه من الدنس وحب الدنيا ، وكان رسولا نبيا ، وناداه ربه من جانب الجبل المسمى بالطور الجانب ذي اليمن والبركة أو الجانب الواقع في الجهة اليمنى لموسى ـ عليه‌السلام ـ ، وقربناه تقريب تشريف حالة كونه مناجيا للحضرة العلية ، تراه مثل حاله بحال من قربه الملك لمناجاته واصطفاه لمصاحبته ، ولله المثل الأعلى ، وقيل قربه تقريب مكان حتى سمع صريف الأقلام ، وكلام الكبير المتعال ، ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون ، وجعلناه نبيا كما طلب من المولى (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هارُونَ أَخِي) (١) ، (قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ* وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) (٢) (قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) (٣).

__________________

(١) طه الآيتان ٢٩ و ٣٠. ـ

(٢) الشعراء الآيتان ١٢ و ١٣. ـ

(٣) طه الآية ٣٦.

٤٥٩

واذكر في الكتاب إسماعيل بن إبراهيم وأبو النبي الكريم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنه كان صادق الوعد نعم الصادق للوعد وفي وعده (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) [سورة الكهف آية ٦٩] وكل الأنبياء متصفون بصدق الوعد إلا أنها صفة بارزة في إسماعيل وصدق الله (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) [سورة الصافات آية ١٦٤] وكان إسماعيل رسولا نبيا ، وكان يأمر أهله وقومه بالصلاة والزكاة التي كانت مفروضة عليه عند ربه مرضيا عليه.

واذكر في القرآن أو في هذه السورة إدريس إنه كان مبالغا في الصدق وكان نبيا ورفعه الله مكانا عليا ، رفعه الله رفع مكانة وتشريف وهو الظاهر ، وقيل .. رفع مكان أى في السماء كما نطقت السنة الكريمة والله أعلم.

أولئك ـ يا محمد ـ الأنبياء الذين مر ذكرهم عليك في هذه السورة وعددهم عشرة أولهم زكريا وآخرهم إدريس عليهم‌السلام جميعا.

أولئك الذي أنعم الله عليهم واختارهم واجتباهم للنبوة والرسالة وكانوا من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ، ومن ذرية إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ ، ومن ذرية إسرائيل وهو يعقوب بن إسحاق ، وممن هديناهم إلى الخير ، واجتبيناهم ، فهم خيار من خيار من خيار ، وهم شجرة طيبة مباركة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، سلالة كريمة ، وذرية بعضها من بعض ، والله فضلهم خلقا وأصلا ونسبا ، هؤلاء إذا تتلى عليهم آيات الرحمن المنزلة عليهم سقطوا ساجدين باكين بقلوبهم وعيونهم ، وهكذا من خالط قلبه حب الإيمان وأشرب في قلوبهم حب القرآن .. عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اتلوا القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا». وعن صالح المري ـ رضي الله عنه ـ «قرأت القرآن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المنام فقال لي هذه القراءة يا صالح فأين البكاء»؟

ولبعض آيات القرآن إذا قرأتها أو سمعتها سجدة مستحبة تسمى سجدة التلاوة وفي المصحف علامات لها ، ويستحب أن تدعو الله وأنت ساجد فيها فتقول في آية السجدة التي في سورة السجدة. اللهم اجعلنى من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك وأعوذ بك من أن أكون من المستكبرين عن أمرك .. وفي سجدة الإسراء : اللهم اجعلنى من الباكين إليك الخاشعين لك! وفي سجدة سورة مريم أى : في هذه الآيات تقول. اللهم اجعلنى من عبادك المنعم عليهم المهتدين الساجدين لك الباكين عند تلاوة آياتك هذ بعض ما ورد ولا مانع من أن تدعو بما تحب مع الخشوع والخضوع لله منزل القرآن الكريم.

٤٦٠