التفسير الواضح - ج ٢

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ٢

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٨٨٤

لهم : لقد جئتمونا فرادى مجيئا كمجيئكم وقت أن خلقناكم أول مرة حفاة عراة وبلا ولى ولا نصير ، ولا شفيع معين (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ) [سورة الأنعام آية ٩٤] بل ، إضراب انتقال من حديث إلى حديث ، زعمتم أن لن نجعل لكم موعدا نجازيكم بأعمالكم فيه ، وهذا خطاب لمنكري البعث للتقريع والتوبيخ والتأنيب.

ووضع الكتاب ، والمراد به : الصحائف التي تكتب فيها أعمال الإنسان من خير وشر ، فترى المجرمين الذين ارتكبوا السيئات خائفين وجلين مما فيه ويقولون : يا ويلتنا داعين أنفسهم بالويل والهلاك : ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها؟!! ووجدوا ما عملوا حاضرا مكتوبا فيه ، ولا يظلم ربك أحدا ، إذ مبدأ الثواب والعقاب مما يقتضيه العدل الإلهى ، وعدم الظلم حتى يعطى المحسن جزاءه كاملا ، ويأخذ المسيء جزاءه غير ناقص.

توجيهات إلهيّة

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (٥٠) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (٥١) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (٥٢) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (٥٣))

٤٢١

المفردات :

(فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) فخرج عما أمره به. (عَضُداً) أى : عونا لي.

(مَوْبِقاً) أى : حاجزا فهو اسم مكان ، وقيل : موبقا أى : مهلكا لهم.

المعنى :

واذكر وقت أن قلنا للملائكة : اسجدوا لآدم والمراد ذكر ما حصل في الوقت لا نفس الوقت.

وقصة السجود لآدم قد مرت بنا مرارا ، وإنما كان تكريرها ليقف الإنسان على ما حصل لأبيه آدم ، وموقف إبليس منه ، وكيف كان سبب التعب له وخروجه من الجنة ولا يزال هو مصدر الفسوق والعصيان لأنه أقسم ليغوينهم أجمعين ، وكان له ذلك إلا العباد المخلصون فليس له سلطان عليهم.

أمر الله الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا طائعين لأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ولا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ، أما إبليس اللعين فكان من الجن فلم يعمل مثل ما عملوا ، وقال كيف أسجد له؟ وأنا خير منه ، وترتب على كونه من الجن أنه فسق عن أمر ربه وخرج عن حدود ما أمر به.

وهذه الآية تثبت أن إبليس من الجن ، وفي آية أخرى الإشارة إلى أنه من الملائكة ، وليس فيهم تعارض إذ قد يطلق على الملائكة أنهم جن من حيث استتارهم والله ـ سبحانه وتعالى ـ يعجب ممن يطيع إبليس وجنده في الكفر والمعاصي بعد أن علم موقفه من أبينا آدم ، وما هو عازم عليه بالنسبة لنا ، أفتتخذونه وذريته وأعوانه أولياء تقتدون بهم ، وتسمعون لهم يا عجبا لكم ثم عجبا ، أفتتخذون أولياء من دون الله ، وهو لكم عدو من قديم ، بئس للظالمين الذين يضعون الأمور في غير موضعها الذين يستبدلون طاعة الشيطان بدل طاعة الرحمن بئس البدل بدلا لهم.

ما أشهدت هؤلاء الشركاء الذين وسوس لكم إبليس في شأنهم حتى اتخذتموهم شركاء ، ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ، ولا أشهدتهم خلق أنفسهم ، ولو كانوا شركاء لشهدوا ذلك ، إذن فليسوا لي شركاء أبدا.

٤٢٢

وما كنت متخذ الضالين من الشركاء والشياطين عضدا لي وعونا في خلق شيء.

واذكروا يوم يقول المولى لهم تأنيبا : نادوا شركائى الذين زعمتم أنهم شركاء ، وقد فعل المشركون ما أمروا به ، ودعوهم فلم يستجيبوا لهم في شيء فضلا عن أنهم لم ينفعوهم في شيء ، وجعلنا بينهم مكانا سحيقا بعيد الغور ، وهذا يصح إذا أردنا بالشركاء عيسى وعزير والملائكة ، وإذا أريد بالشركاء الأصنام والأوثان فقد جعلنا بينهم حاجزا وصلتهم بهم هلاكا لهم وأى هلاك ، ورأى المجرمون النار واقعة بين أيديهم فأيقنوا أنهم مخالطوها بالوقوع فيها ، ولم يجدوا عنها معدلا ، ولا مكانا يتحولون فيها ، لأن النار قد أحاطت بهم من كل جانب ..

إنذار وتخويف

(وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (٥٤) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (٥٥) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (٥٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (٥٧) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ

٤٢٣

الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (٥٨) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (٥٩))

المفردات :

(قُبُلاً) جمع قبيل والمراد أنواعا أو عيانا. (لِيُدْحِضُوا) ليزيلوه ويبطلوه مأخوذ من إدحاض القدم أى : عند إزالتها عن مكانها. (مَوْئِلاً) أى : منجى وملجأ من قولهم وأل إذا نجا ووأل إليه إذا لجأ إليه.

المعنى :

هذا القرآن هدى للناس ، وبينات من الهدى والفرقان. صرف الله معانيه الجليلة وأغراضه السامية التي تدعو إلى الإيمان بالله وبرسوله ، والتي تشبه في الغرابة والحسن والجمال والروعة المثل الذي يهز القلوب ، ويحرك النفوس صرفه وكرره للناس ولمصلحتهم ، ولكنهم لم يتقبلوه بالقبول الحسن ، وكان الإنسان أكثر الأشياء جدلا وخصومة. ومماراة في الحق ، يعنى أن جدل الإنسان أكثر من جدل كل مجادل (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) [سورة النحل آية ٤].

وما منع الناس ، أى : أهل مكة من أن يؤمنوا وقت أن جاءهم الهدى والنور من القرآن ، وما منعهم من أن يستغفروا ربهم من أجل الكفر والمعاصي ، ما منعهم عن الإيمان والاستغفار مانع أبدا في الواقع حيث جاءهم نور القرآن وتفصيله الآيات البينات.

ولكن طلبهم إتيان سنة الأولين لهم وهي عذاب الاستئصال بإلحاحهم في طلب آيات أخرى ، أو يأتيهم عذاب يوم القيامة أنواعا مختلفة إذ ماتوا ، أو يأتيهم العذاب معاينة ومقابلة هو السبب في عدم إيمانهم ، وليس في القرآن ما يدعو إلى الكفر ، وإن كان الإنسان مجبولا على حب الجدل المفرط ، وقيل المعنى : إنهم لا يؤمنون ولا يستغفرون إلا عند نزول عذاب الاستئصال بهم أو عذاب الآخرة.

٤٢٤

وما نرسل المرسلين إلى الأمم إلا حالة كونهم مبشرين المؤمنين بالثواب ، ومنذرين الكفار والعصاة بالعقاب ، هذه هي مهمة الرسل مع أممهم ، ويجادل الكفار بالباطل حيث يقترحون الآيات بعد ظهور المعجزات ، ويقولون للرسل : (ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) [سورة المؤمنون آية ٢٤].

واتخذوا آيات ربهم ، وما أنذروا به من القوارع الناعية عليهم العقاب والعذاب ، اتخذوها هزؤا.

ولا أحد أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها عنادا واستكبارا ، ولم يتدبرها ، ونسى ما قدمت يداه مما عمل في الكفر والمعاصي المجادلة بالباطل والاستهزاء بالحق ، وعدم التفكر في العواقب ، ومن كان كذلك فهو أظلم من كل ظالم ، وقد كان حسدهم وتكبرهم ، وتمسكهم بالتقاليد الباطلة وحبهم للرياسة الكاذبة ، والعرض الفاني بمثابة الأكنة والحواجز على قلوبهم : وإسنادهم إلى الله قوله : (جَعَلْنا) للدلالة على ثبوتها ودوامها عندهم.

إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفهموه فهما دقيقا عميقا ، وجعلنا في آذانهم وقرا وصمما عن سماع الحق وتدبره ، وهؤلاء لن يكون منهم اهتداء أبدا ، وإن تدعهم إلى الهدى بكافة الطرق فلن يهتدوا إذا أبدا.

وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذ الناس بما كسبوا من المعاصي التي منها مجادلتهم بالباطل وإعراضهم عن الآيات ، وعدم مبالاتهم بعمل السيئات.

لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب في الدنيا ولكن الله أراد غير ذلك. بل لهم موعد حدده الله في يوم بدر مثلا لن يحيدوا عنه ولن يجدوا من دونه ملجأ يلجئون إليه.

وهذه هي القرى التي كانت فيها عاد ، وثمود ، ومدين ، وقوم لوط ، أهلكناهم لما ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي ، وجعلنا لهلاكهم موعدا لا محيد عنه فاعتبروا يا أولى الألباب ولا تغتروا يا أهل مكة بتأخير العذاب ..

٤٢٥

قصة موسى مع الخضر

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (٦٠) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (٦١) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (٦٢) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (٦٣) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (٦٤) فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (٦٥) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (٦٦) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (٦٨) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (٦٩) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (٧٠) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (٧١) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ

٤٢٦

لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٢) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (٧٣) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (٧٤) قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٥) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (٧٦) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (٧٧) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٧٨))

المفردات :

(لِفَتاهُ) هو يوشع بن نون ، وموسى هو نبي بنى إسرائيل بن عمران ـ عليه‌السلام. (لا أَبْرَحُ) لا أزال سائرا. (مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) والبحران البحر الأسود والبحر الأبيض ، وقيل : هما بحر الأردن وبحر القلزم. وقيل غير ذلك والله أعلم.

(حُقُباً) جمع حقبة وهي زمان من الدهر غير محدود. (سَرَباً) السرب كالنفق الذي يتخذه الضب ونحوه في الأرض وهو كالكوة المحفورة في الأرض. (قَصَصاً) أى : قاصين الأثر متتبعين السير. (رُشْداً) وقرئ رشدا وهو الوقوف على الخبر وإصابة الصواب. (خُبْراً) علما بالشيء ، والخبير العالم بالخفايا. (أَمْراً) عظيما يقال أمر أمر ابن فلان إذ عظم واشتد. (تُرْهِقْنِي) لا تكلفني عسرا. (نُكْراً) أى : ينكره الشرع والعقل. (يُضَيِّفُوهُما) يعطوهما حق الضيافة. (يَنْقَضَ) أى : يسقط بسرعة. (فَأَقامَهُ) فسواه وعدله.

٤٢٧

لما سأل اليهود النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قصة أصحاب الكهف ، وقالوا لقريش : إن أخبركم بها فهو نبي مرسل وإلا فلا. ذكر صلى‌الله‌عليه‌وسلم قصة موسى والخضر تنبيها على أن النبي لا يلزمه أن يكون عالما بجميع القصص والأخبار ، وقد يؤخر الفاضل عن المفضول وهذه القصة رويت في أحاديث كثيرة ، وأتمها وأكملها ما روى عن ابن عباس عن طريق سعيد بن جبير ، وهي ثابتة في الصحيحين.

قال ابن عباس ما معناه : حدثنا أبى بن كعب أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : إن موسى قام خطيبا في بنى إسرائيل فسئل : أى الناس أعلم؟ فقال أنا فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه فأوحى الله إليه ، إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك ، قال موسى يا رب فكيف لي به قال : تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو هناك ، فأخذ حوتا فجعله في مكتل. ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع ابن نون حتى أتيا صخرة ، ووضعا رءوسهما فناما ، واضطرب الحوت وسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا ، فصار المار عليه مثل الطلق وكأنه دخل في كوة الحائط.

فلما استيقظ نسى صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كانا من الغد ، قال موسى لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا وتعبا فقال له فتاه : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة بالأمس فإنى نسيت الحوت ، وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره ، واتخذ طريقه في البحر اتخاذا أثار عجب الناس. نعم كان للحوت في البحر سرب ، ولموسى وفتاه عجب ومراد فتى موسى بقوله (أرأيت؟) تعجب موسى ـ عليه‌السلام ـ مما اعتراه هناك من النسيان.

فقال موسى : ذلك ما كنا نبغى ونطلب ، وهذا طلبنا ، فارتدا على آثارهما قاصين الأثر متتبعين سيرهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل مسجى بثوبه فسلم عليه موسى. فقال الخضر : وأنى بأرضك السلام؟

قال موسى : أنا موسى. قال : موسى نبي إسرائيل؟ قال : نعم. قال : أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا. قال : إنك لن تستطيع معى صبرا إذ كيف تصبر على شيء يخالف ظاهره شريعتك. قال موسى : ستجدني إن شاء الله صابرا غير عاص لك أمرا. فقال له الخضر : فإن اتبعتنى فلا تسألنى عن شيء وعن سره حتى أحدث لك منه كرا فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت بهما سفينة فكلموهم أن يحملوهم

٤٢٨

فحملوهم فلما ركبا في السفينة فوجئوا بقلع لوح من السفينة فقال له موسى : ما هذا قوم حملونا بغير أجر تعمد إلى سفينتهم فتخرقها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا عظيما في الجرم.

قال الخضر : ألم أقل إنك لن تستطيع صبرا على. قال موسى : لا تؤاخذني بنسياني ، ولا تكلفني أمرا عسيرا على.

ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان فقتله. فقال موسى : أتقتل نفسا زاكية طيبة لم تأثم بغير نفس ، أى : بغير قصاص لقد جئت شيئا منكرا. قال الخضر : ألم أقل لك إنك لن تستطيع صبرا على عملي وزيادة (لك) لزيادة التأنيب على عدم الصبر.

قال موسى : إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني فقد أعذرتنى حيث خالفتك ثلاث مرات وهذا كلام النادم ندما شديدا.

فانطلقا حتى إذ أتيا أهل قرية وطلبوا منهم طعاما بأسلوب الضيافة فأبوا أن يعطوهما شيئا.

فوجدوا فيها جدارا ، أثر السقوط فيه ظاهرة حتى أشبه إرادة السقوط بسرعة هذا الجدار قد أقامه الخضر وعدله قال موسى منكرا : لو شئت لاتخذت عليه أجرا يكفى لطعامنا.

قال الخضر : هذا الإنكار هو فراق اتصالنا ونهاية اجتماعنا وسأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا ، وأخبرك بالواقع الذي دفعنى إلى العمل وإن خالفت الظاهر الذي تعرفه يا موسى .. ومن هذه القصة نفهم ما يجب أن يكون عليه المتعلم بالنسبة إلى أستاذه وكيف يسافر ويتأدب معه إلى آخر ما فيها.

٤٢٩
٤٣٠

جواز ارتكاب أخف الضررين

(أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (٧٩) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (٨٠) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (٨١) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٨٢))

المفردات :

(لِمَساكِينَ) المسكين : من يملك شيئا لا يكفيه ، والفقير أسوأ حالا منه (وَراءَهُمْ مَلِكٌ) أمامهم ملك والمراد بورائهم : أنه غائب عنهم وإن كان أمامهم ، ويصح أن يكون المراد خلفهم على الأصل (يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً) يكلفهما بسبب حبهما له تجاوزا عن حدود الدين ، وكفرا بالله (زَكاةً) طهارة (رُحْماً) رحمة وحنانا (يَبْلُغا أَشُدَّهُما) أن يصلا إلى كمال عقلهما ورأيهما وتمام رجولتهما ..

٤٣١

وهذا تفسير للمسائل الثلاث التي حصلت من الخضر بحضور موسى ، عليهما‌السلام ، ولم يستطع صبرا عليهما لأنها تخالف شريعته في الظاهر.

ومن هنا نعرف أن الشرائع كلها مبنية على الظواهر العامة ، والله وحده هو الذي يتولى السرائر ، وهذا هو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «أمرت أن أحكم بالظّاهر» وفي حديث آخر يقوله لمن تعجل في الحكم وقتل من شهد الشهادتين : «وهلّا شققت عن قلبه»!!

فموسى نبي صاحب شريعة يحكم بالظاهر على أن إفساد السفينة ، وقتل الغلام تصرف في حق الغير على جهة الإفساد من غير سبب ظاهر ، وإقامة الجدار فيه تحمل تعب ومشقة من غير سبب ظاهر ولهذا اعترض على صاحبه الخضر ، وكرر الاعتراض.

أما الخضر فعالم علمه الله من لدنه علما ببواطن الأمور ، وأوقفه على بعض الأسرار الخفية التي تبيح مخالفة الظاهر ، ولذا كانت مرتبة الخضر العلمية فوق مرتبة موسى في هذه المسائل ، والعلم ببواطن الأمور مرده إلى قوة النفس وصفائها وإشراقها والوحى هو الأستاذ الأول في ذلك ، ويظهر ـ والله أعلم ـ أن الخضر نبي.

وقد جرى الخضر على أن المسائل الثلاث فيها تعارض بين ضررين : ضرر بسيط ، وضرر جسيم ، ففعل الأول دفعا للثاني ، والذي علمه ذلك هو رب العالمين العليم الخبير وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، وليس لنا الآن أن ندعى العلم ببواطن الأمور التي تخالف الشرع ، فتلك مرتبة مردها إلى قوة النفس ونزول الوحى!! ولسنا من أهلها.

المعنى :

أما السفينة التي خرقتها. وأنكرت علىّ ذلك يا أخى. فقد كانت لمساكين محتاجين يعملون في البحر للتجارة وصيد الأسماك وهي مرتزقهم في الحياة ، وكان لهم ملك جبار ظالم نهم يأخذ لنفسه كل سفينة صالحة ، ويغتصبها غصبا من أهلها بدون الرجوع إلى حق أو قانون.

فأردت أن أعيبها عيبا بسيطا حتى لا يستولى عليها الملك الظالم ، وتبقى للمساكين فأنا لم أعمل سوءا ، وإنما ارتكبت أخف الضررين وأحسن الأمرين بالنسبة لهما.

٤٣٢

وأما الغلام الذي قتلته ، واعترضت علىّ بأنى قتلت نفسا زكية طيبة بغير ذنب ولا جريرة فأنت معذور في هذا ، ولكن اعلم أنى قتلته لأن الله أطلعنى على مستقبله ، وأنه إذ بلغ فسيقع في المنكرات ، ويؤذى الأفراد والجماعات وسيتعصب له أبواه وهما مؤمنان ، ويدفعان شر الناس عنه ، ويكذبانهم ، وهذا يسبب لهما الفسوق والعصيان ويجرهما إلى الكفر والطغيان ، وهما المؤمنان الصالحان ، ولكن حب الولد غريزة. فخشينا أن يكلفهما عسرا ، ويدفعهما إلى الطغيان والكفر فقتلته رجاء أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وطهارة ، وأقرب رحمة وعطفا بأبويه.

فأنا لم أعمل سوءا ، وإنما ارتكبت أخف الضررين فقتله ضرر وبقاؤه أضر ، ودرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة.

وأما الجدار الذي أقمته ، وتعبت فيه ، بلا سبب ظاهر فها هي ذي قصته : إنه لغلامين يتيمين في المدينة ، وتحته كنز لهما ، وكان أبوهما صالحا ، وصلاح الآباء ينفع الأبناء إلى حد محدود ، فأراد ربك الكريم الذي تعهدك وأنت رضيع وقد ألقتك أمك في البحر ، أراد ربك أن يحفظ لهما الكنز حتى يكبرا ، ويتقلدا أمرهما فأمرنى بإقامة الجدار إذ لو سقط لضاع الكنز ، فكان ذلك رحمة من الله وعطفا ، وهو الرحيم الودود.

وما فعلت ذلك كله عن أمرى واجتهادي ، ولكنه الوحى من الله والتوفيق منه إلى ذلك ، وذلك تأويل وتفسير ما لم تستطع عليه صبرا.

قصة ذي القرنين

وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (٨٣) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ

٤٣٣

وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (٨٦) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (٨٧) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (٨٨) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٨٩) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (٩٠) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (٩١) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (٩٣) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (٩٦) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (٩٧) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨)

المفردات :

(ذِكْراً) ما به تتذكرون وتتعظون (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) السبب في الأصل الحبل تم استعمل في كل ما يتوصل به إلى المقصود (عَيْنٍ حَمِئَةٍ) عين ذات طين

٤٣٤

أسود (نُكْراً) أى : منكرا شديدا (الْحُسْنى) أى : الجنة (سِتْراً) أى :حاجزا يسترهم (سَدًّا) هو ما يسد به (خَرْجاً) أى خراجا والخراج يشمل الضريبة وغيرها (بِقُوَّةٍ) بعدد قوى من الرجال الصناع (رَدْماً) الردم كالسد إلا أنه أكبر منه وأمتن (ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) ما جعلني فيه مكينا من كثرة المال واليسار (زُبَرَ الْحَدِيدِ) أى : قطع الحديد (بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) هما جانبا الجبل (قِطْراً) أى : نحاسا مذابا (أَنْ يَظْهَرُوهُ) يعلوه ويصعدوا عليه (نَقْباً) أى : خرقا (دَكَّاءَ) مستويا بالأرض.

هذا هو السؤال الثالث الذي سأله اليهود للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بمكة بواسطة بعض المشركين ، وذو القرنين الذي سألوا عنه هل هو الإسكندر المقدونى الذي ظهر قبيل الميلاد؟ بهذا قال بعض العلماء محتجا بأن هذا هو الذي بلغ ملكه أقصى المغرب وأقصى المشرق وأقصى الشمال. وقيل : ليس هو بل غيره من اليمن ، ويظهر ـ والله أعلم ـ أنه ليس هذا ولا ذاك وإنما هو عبد صالح أعطاه الله ملكا واسعا عريضا وأعطاه الحكمة والهيبة والعلم النافع ونحن لا نعرف من هؤلاء؟ ولا في أى وقت ظهر ، وسياق القصة ومخاطبة الله له في أوله (إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) وقوله (أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً) ، ويدل على أنه لم يكن الإسكندر المقدونى فإنه لا يمكن أن يصدر منه ما نسبه القرآن إليه مما يدل على التوحيد والإيمان بل كان عبدا صالحا كما قلنا وهل هو نبي أو خوطب على لسان نبي ، الله أعلم ، وعدم ثبوت ذلك تاريخيا ليس يضيرنا في شيء فالتاريخ إلى الآن لا يزال يثبت أشياء كانت مجهولة له والحفريات التي يقوم بها علماء الآثار شاهد صدق على ما قلناه ، على أن الذي ينم به القرآن من قصته أنه سيتلو علينا منه ذكرا لا خبرا تاريخيا!!

المعنى :

ويسألونك عن ذي القرنين ، ولم يكن يعرف العرب من أخباره شيئا أبدا ولكن الله ـ سبحانه ـ أمر نبيه بقوله : (قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً) وعبرا وموعظة إنا مكنا له في الأرض ، وجعلنا له قدرة ومكنة على التصرف فيها ، وآتيناه من أسباب كل شيء أراده في ملكه سببا وطريقا موصلا إليه فأتبع سببا يوصله إليه حتى بلغه.

٤٣٥

وقد أراد بلاد المغرب فأتبع سببا يوصله إليها حتى بلغها ، وكذلك بلاد المشرق ، وبلاد الشمال التي فيها السد.

حتى إذا بلغ مغرب الشمس أى : نهاية الأرض من جهة الغرب وجد الشمس تغرب في عين حمئة ذات ماء وطين أسود ، ولعل ذا القرنين لما بلغ ساحل البحر من جهة المغرب وجد الشمس كذلك في نظره.

وإنى لأذكر لك رأى الإمام الرازي في كتابه الفخر «إنه ثبت بالدليل أن الأرض كرة وأن السماء محيطة بها ، ولا شك أن الشمس في الفلك ، وأيضا قال : ووجد عندها قوما ، ومعلوم أن جلوس قوم في قرب الشمس غير ممكن ، وأيضا الشمس أكبر من الأرض بمرات كثيرة فكيف يعقل دخولها في عين من عيون الأرض؟ إذا ثبت هذا فنقول : تأويل قوله ـ تعالى ـ : (فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) من وجوه ، الأول : لما بلغ موضعها في المغرب ، ولم يبق بعده شيء من العمارات وجد الشمس كأنها تغرب في عين مظلمة وإن لم تكن كذلك في الحقيقة كما أن راكب البحريرى الشمس كأنها تغيب في البحر إذا لم ير الشط وهي في الحقيقة تغيب وراء البحر. هذا هو التأويل الذي ذكره أبو على الجبائي في تفسيره انتهى كلام الفخر ص ٥١١ ج ٥ ثم ذكر تأويلات أخرى غير معقولة وغير مقبولة تمسك القلم عنها وأظن الرأى الذي ذكرناه عن الفخر يتفق مع نظريات العلم الحديث في كثير.

ووجد عندها قوما هاله كفرهم ، وكبر عليه بغيهم وظلمهم قد عاثوا في الأرض الفساد ، وسفكوا الدماء ، وأطاعوا أنفسهم وشياطينهم فاستخار الله في أمرهم فخيره ربه بين أمرين (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) إما أن تختار القتل والإبادة لهم جزاء كفرهم وطغيانهم ، وإما أن تمهلهم وتدعوهم بالحسنى فاختار ذو القرنين الإمهال والدعوة وقال : (أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً* وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى) والمعنى : أنه أقام فيهم مدة ضرب فيها على يد الظالم ، ونصر المظلوم ، واقام العدل ، ودعا إلى الله.

وبدا له أن يتجه إلى المشرق فسار غازيا مجاهدا منصورا وأتبع لذلك سببا حتى بلغ مطلع الشمس ، وأقصى العمران من جهة المشرق ، وهناك وجد أقواما تطلع الشمس

٤٣٦

عليهم ، وليس لهم ساتر يسترهم منها جبال أو بيوت أو شجر وهذا يتصور في البلاد الصحراوية. ولعلهم كانوا على نصيب كبير من الجهل والفوضى.

أمر ذي القرنين كذلك كما وصفناه لك ، وهو تعظيم له ولشأنه ، وقد أحطنا بما لديه من الجند وأسباب الظفر والملك خبرا وهذا يفيد كثرة ما لديه.

ثم بدا له أن يتجه إلى الشمال فأتبع سببا لذلك حتى وصل إلى بلاد بين جبلين يقال إنهما بين أرمينيا وأذربيجان ، وقيل غير ذلك .. ويسكن تلك البلاد أقواما لا تكاد تعرف لغتهم إلا بصعوبة ، وقد جاوروا يأجوج ومأجوج قبائل من سكان سهول سيبريا الشمالية وهم قوم مفسدون في الأرض على جانب من الفوضى والبدائية.

أما أصحاب السد فحينما رأوا ذا القرنين ، وما هو عليه من جاه وسلطان ، وما معه من جند وعتاد قالوا له : يا ذا القرنين ، إن يأجوج ومأجوج قوم مفسدون في الأرض ويسعون فيها بالفساد ، قوم كالوحوش أو أشد؟ فهل نجعل لك جعلا على أن تجعل بيننا وبينهم سدّا حتى لا يصلوا إلينا بحال.

ولكن ذا القرنين رجل مطبوع على حب الخير ومفطور على الصالح من الأعمال ومع هذا قد مكنه الله في الأرض ، وأعطاه الكثير من المال والثروة فقد أجابهم إلى سؤالهم ، ورد عطاءهم قائلا : (ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) ثم طلب إليهم أن يعينوه بالرجال والعمال.

فحشدوا له الحديد والنحاس والخشب والوقود حتى وضعوه مكان السد ثم أوقدوا النار فيها وأفرغ على ذلك كله ذائب النحاس مرة بعد مرة حتى استوى بين الجبلين سد منيع.

فما استطاع يأجوج ومأجوج وقبيلهما أن يعلوه ويظهروا عليه لارتفاعه وملاسته وما استطاعوا له نقبا لقوته وسمكه ، وأراح الله منهم شعوبا كانت تتألم منهم كثيرا.

أما ذو القرنين فما إن رأى السد منيعا حصينا حتى هتف قائلا (هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا).

ويمكننا أن نقول إن أقصى المشرق وأقصى المغرب وأقصى الشمال هذا بالنسبة للمعمورة في ذلك الوقت السحيق لا بالنسبة للمعروف في ذلك الوقت ، وليس لنا

٤٣٧

أن نقول أين هذا السد الآن وأين مكانه؟ فتلك أزمان بعيدة موغلة في البعد وقد قال الله فإذا جاء وعد ربي جعله أرضا مستوية فعدم وجوده دليل على أن الوعد جاء ، ولم يعد للسد وجود ، والله أعلم بكتابه.

عاقبة الكفر يوم القيامة

وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (٩٩) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (١٠٠) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (١٠١) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (١٠٢) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (١٠٤) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (١٠٥) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (١٠٦)

المفردات :

(يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) ماج الناس إذا دخل بعضهم في بعض حيارى كموج البحر والمراد أنهم يضطربون ويختلطون (فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي) غطاء الشيء ما يستره من جميع جوانبه ، والمراد بذكر الله آياته الكونية والقرآنية وذكرها تدبرها وتفهم معانيها (نُزُلاً) جعلنا جهنم لهم مهيأة كالنزل الذي يعد ويهيأ للضيف (فَحَبِطَتْ) أصل الحبوط انتفاخ بطن الدابة عند تغذيتها بنوع سام في الكلأ ثم هلاكها وما أشبه العمل

٤٣٨

الضار الذي ينفخ صاحبه ثم يهلك به بالحبوط (وَزْناً) المراد لا نعبأ بهم ، ولا يكون لهم عندنا قدرة.

وهذا رجوع إلى الأساس الأول في السورة وهو إثبات البعث.

المعنى :

يقول الحق ـ تبارك وتعالى ـ : وتركنا عبادنا يوم يأتيهم وعدنا الذي وعدناهم بأنا ندك الجبال دكا ، وننسفها عن الأرض نسفا ، فنذرها قاعا صفصفا تركناهم يومئذ يموج بعضهم في بعض كموج البحر مضطربين مختلطين ، وذلك في أول أيام القيامة ، ونفخ في الصور النفخة الأولى فصعق من في السموات والأرض أى : مات وهلك حتى الملك الذي نفخ فيه ثم نفخ فيه أخرى ـ وهي المراد هنا ـ فإذا هم قيام ينظرون ماذا يحل بهم بدليل قوله ـ تعالى ـ (فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً) فإن الفاء تشعر بذلك والمعنى : جمعنا الخلائق بعد تلاشى أبدانهم ومصيرها ترابا جمعا تاما على أكمل صفة وأبدع هيئة. وعرضنا جهنم يومئذ على الكافرين عرضا ، لا يكون ذلك إلا بإبرازها وإظهارها حتى يشاهدوها ، وما فيها ، وفي هذا تنكيل بهم ، وإيلام لهم ، وأى إيلام؟

هم الكافرون الذين كانت أعينهم القلبية في غطاء وساتر عن آياتي التي يشاهدها من له عقل رشيد ، وقلب سليم فيذكر الله بالتوحيد والتمجيد ، وآيات الله تشمل آياته الكونية والقرآنية.

وكانوا لا يستطيعون سمعا لكلام الله ، وكلام رسوله وصدق الله ، (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ). (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ).

أكفروا فحسبوا أن يتخذوا عبادي كالملائكة وبعض الخلق من دوني أولياء؟ فظنوا أنهم ينتفعون بما عبدوه مع إعراضهم عن تدبير آيات الله ، وتعاميهم عن قبول الحق؟! أكافيهم أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء؟! لا يكفيهم هذا ولن ينفعهم كما ظنوا ، ولا غرابة في ذلك لأن الله أعد جهنم للكافرين وهيأها لهم كما يهيأ المنزل للضيف ، وفي هذا استهزاء بهم وأى استهزاء؟

٤٣٩

قل لهم يا محمد : هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وخاب فألهم فيها ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، الذين يعبدون الله على غير الحق فيدخلون في الدين ما ليس فيه ، وهم يحسبون أنهم على الحق وغيرهم على الباطل ، وهؤلاء هم التاركون لكتاب الله وسنة رسوله المفارقون للجماعة.

أولئك الذين كفروا بآيات ربهم التكوينية والتنزيلية وكفروا بلقائه فحبطت أعمالهم ، وبطلت (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً). [الفرقان ٢٣]. (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ* عامِلَةٌ ناصِبَةٌ* تَصْلى ناراً حامِيَةً) [الغاشية ٢ ـ ٤] فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ، وليس لهم قدر ، ولا نعبأ بهم ، وذلك جزاؤهم جهنم بسبب كفرهم واتخاذهم آيات الله ورسله هزوا فلم يؤمنوا بها ... وهكذا يكون مآل كل خارج عن حدود الدين ..

عاقبة الإيمان والعمل الصالح

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (١٠٧) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (١٠٨)

المفردات :

(الْفِرْدَوْسِ) أعلى مكان في الجنة وأوسعه وأفضله ، وقال المبرد : الفردوس ـ فيما سمعت من العرب ـ الشجر الملتف ، والأغلب عليه أن يكون من العنب (حِوَلاً) أى : تحولا.

وهذا هو الإيمان المصحوب بالعمل الصالح ، وعاقبته بعد بيان الكفر والفسوق ونهايته لعل الناس يتعظون.

المعنى :

إن الذين آمنوا إيمانا عميقا بعد فهمهم الدين فهما روحيا خالصا وعملوا الصالحات الباقيات : هؤلاء كانت لهم جنات الفردوس التي هي أعلى مكان في الجنة ، وأرفع مرتبة

٤٤٠