التفسير الواضح - ج ٢

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ٢

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٨٨٤

كل آية نزلت في حادثة خاصة يفهم سبب نزولها ، ويوقف على سرها ، ونزلناه تنزيلا كاملا لا عوج فيه ولا نقص.

قل يا محمد : آمنوا به أو لا تؤمنوا ، وهذا أمر ، بالإعراض عنهم واحتقارهم حتى لا يكترث بهم. وهم إن لم يؤمنوا بالقرآن وهم أهل جاهلية وشرك فإن خيرا منهم وفضل وهم أهل الكتاب والعلماء منهم الذين عرفوا الوحى والنبوة قد آمنوا به وصدقوه فهذا عبد الله بن سلام ، وتميم الداري وغيرهم ، هؤلاء إذا يتلى عليهم القرآن يخرون سجدا لله تعظيما لأمره ولإنجاز ما وعد في الكتب المنزلة التي بشرت ببعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ويقولون سبحان ربنا. إن كان وعد ربنا لمفعولا ، ويخرون ساجدين على وجوههم في حالة البكاء ، ويزيدهم سماع القرآن اطمئنانا في القلب وخشوعا. وهكذا كل مؤمن صادق في إيمانه.

بما ذا ندعو الله

(قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (١١١))

المعنى :

سمع المشركون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقول : يا الله يا رحمن ، فقالوا : هذا ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلهين! فأنزل الله هذه الآيات.

قل لهم : ادعوا الله ، أو ادعوا الرحمن ، أى هذين الاسمين دعوتم وذكرتم فهو حسن ، فله الأسماء الحسنى أى : فلله الأسماء الحسنى فإذا حسنت أسماؤه كلها المأثورة حسن هذان الاسمان منها وهما يفيدان التحميد والتقديس والتعظيم.

٤٠١

ومن الصواب أن نتبع الطريقة المثلى في الدعاء وهي الحد الوسط بين الجهر في الصوت والإسرار والإخفات فيه وخاصة في الصلاة بحيث تصلى فتسمع نفسك ولا تؤذى غيرك ، وقيل المعنى : اجهر في صلاة الجهر ، واخفت في صلاة الإخفات وهي صلاة الظهر والعصر ، وابتغ بين ذلك أى : بين الجهر والسر سبيلا وسطا.

وقل : الحمد لله والثناء بالجميل على الفعل الجميل لله ـ سبحانه ـ الذي لم يتخذ ولدا فهو ليس محتاجا إليه ، واتخاذ الولد من صفات الحوادث وهو منزه عنها ، ولم يكن له شريك في الملك لأنه غير محتاج إليه ، ولو كان فيهما آلهة غير الله لفسدتا ، ولم يكن له ولى من الذل ، أى : لم يكن له ناصر من الذل ومانع له منه ، ولم يوال أحدا من أجل الذل إذ هو القادر المقتدر الخالق صاحب النعم ـ جل جلاله ـ.

وكبره تكبيرا وعظمه تعظيما يتناسب مع جلاله وقدسيته ، والله أكبر ولله الحمد.

٤٠٢

سورة الكهف

قال القرطبي : وهي مكية في قول جميع المفسرين وقال الكشاف مكية إلا بعض آيات فيها ، والرأى الأول هو الصحيح ، وعدد آياتها عشر ومائة.

وتراها تكلمت عن القرآن الكريم وأثره ، ثم ذكرت قصة أصحاب الكهف وما فيها من عبر. وأتبعتها توجيهات نافعة : ثم سبق مثل عملي المغتر بالدنيا والمغرور بها مع تذكير الناس بيوم القيامة وفي خلال ذلك حكم وآيات ، وتوجيهات وإنذارات ثم بعد ذلك كانت قصة موسى مع الخضر ، وإجابتهم عن الروح وعن ذي القرنين ، وما أروع ختام هذه السورة بالكلام على المؤمنين وكلمات الله لا تنفد.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً (٤) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (٥) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (٨))

٤٠٣

المفردات :

(عِوَجاً) العوج والعوج عدم الاستقامة والمراد نفى الاختلاف والتناقض عن ألفاظه ومعانيه. (قَيِّماً) مستقيما لا ميل فيه أبدا. (باخِعٌ نَفْسَكَ) البخع : الجهد والإضعاف. (أَسَفاً) الأسف : شدة الغيظ. (صَعِيداً جُرُزاً) الصعيد : المستوي من الأرض. والجزر : أرض لا نبات فيها ، ومنه قيل سيف جراز ، أى : يستأصل المقاتلين.

المعنى :

الحمد لله والشكر له ، والثناء لله ـ سبحانه ـ علم الله عباده كيف يحمدونه على نعمه الجليلة ، التي تفضل بها عليهم فهو الذي أنزل على عبده وحبيبه سيد الأنبياء وإمامهم وخاتمهم ، أنزل عليه القرآن المكتوب في الصحائف ، والمسجل في ضمير الزمن ، والمحفوظ في القلوب والمنقول إلينا عن طريق التواتر (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) ولم يجعل له عوجا في لفظه ومعناه ، ولم يكن فيه اختلاف في أى ناحية من نواحيه (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) وهو القيم والمستقيم على الحق والعدل ، الداعي إلى الخير والهدى ، وهو القيم على مصالح العباد في الدنيا والآخرة والقيم على الكتب السابقة والمهيمن عليها.

وها هو ذا التفصيل لما أجمل في قوله ـ تعالى ـ (قَيِّماً) لينذر الكفار والعصاة بأسا شديدا وعذابا أليما من لدنه ، وليبشر المؤمنين العاملين الصالحات ، فكان إيمانهم مصحوبا بالعمل بعيدا عن العجز والكسل يبشرهم بأن لهم أجرا حسنا هو الجنة ماكثين فيها مكثا دائما إلى ما شاء الله ، وكرر الإنذار مرة ثانية للتأكيد فقال ، ولينذر الذين قالوا : اتخذ الله ولدا كاليهود في عزير ، والنصارى في المسيح ، وكفار قريش في قولهم : الملائكة بنات الله ، ما لهم بالولد واتخاذ الله له علم أصلا ولا لآبائهم كذلك علم به ، بل هو محض افتراء واختلاق ، على أنه ليس مما يعلم إما للجهل بالطريق الموصل إليه ، وإما لأنه في نفسه مجال لا يستقيم تعلق العلم به.

كبرت المقالة كلمة تخرج من أفواههم ، أى : ما أكبرها كلمة تخرج من أفواههم والمراد بالكلمة قولهم إن الله اتخذ ولدا ، وهم ما يقولون إلا كذبا وزورا.

٤٠٤

(فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا) وقد مضى بحث في لعل عند قوله ـ تعالى ـ في سورة هود (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ) والمعنى : فلعلك قاتلها ومهلكها لأنهم لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا عليهم وحزنا شديدا على شركهم وتوليهم عنك. وفي الكشاف : شبهه وإياهم ـ حين تولوا عنه ولم يؤمنوا به ، وما تداخله من الوجد ، والأسف على توليهم ـ برجل فارقته أحبته وأعزته فهو يتساقط حسرات على آثارهم ويبخع نفسه وجدا عليهم وتلهفا على فراقهم.

إنا جعلنا ما على الأرض من حيوان ونبات وجماد زينة لها والله جعل كل ما عليها زينة لها ، ومصلحة لنا (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) ، وجعل هذا ليبلوكم فيظهر من هو أحسن عملا ممن هو أسوأ عملا ، والمراد أن الله يعاملهم معاملة من يختبرهم ليعرف حالهم ، والله ـ سبحانه ـ بعد هذا جاعل ما عليها من هذه الزينة ترابا لا نبات فيه ولا حياة ، إذ هو القادر على كل شيء يحيى الأرض بعد موتها ، ويميتها بعد حياتها.

قصة أهل الكهف

(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (١٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣) وَرَبَطْنا

٤٠٥

عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً (١٥) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً (١٦) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (١٧) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (١٨) وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ

٤٠٦

بِكُمْ أَحَداً (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (٢٠) وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (٢١) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (٢٢) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (٢٤) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (٢٥) قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (٢٦)

٤٠٧

المفردات :

(الْكَهْفِ) الغار الواسع في الجبل. (الرَّقِيمِ) هو اسم كلبهم ، وقيل : هو اسم الوادي. (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ) المراد أنمناهم نوما ثقيلا بحيث لا يسمعون.

(أَمَداً) أى : غاية. (نَبَأَهُمْ) خبرهم صاحب الشأن والخطر. (شَطَطاً) القول الشطط : هو الخارج عن حد المعقول المفرط في الظلم. (مِرْفَقاً) المرفق ما يرفق به وينتفع. (تَزاوَرُ) أصله تتزاور أى : تتمايل مأخوذ من الزور أى : الميل وشهادة الزور فيها ميل عن الحق. (تَقْرِضُهُمْ) أى : تقطعهم ولا تقربهم ومنها القطيعة. (فَجْوَةٍ مِنْهُ) أى : متسع من الكهف. (بِالْوَصِيدِ) بالفناء وهو موضع الباب من الكهف. (بِوَرِقِكُمْ) الورق الفضة مضروبة للنقد أو غير مضروبة أى :

معدة للنقد أو غير معدة. (فَلا تُمارِ فِيهِمْ) أى لا تجادل أهل الكتاب في شأنهم.

المعنى :

سأل القوم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قصة أصحاب الكهف متعجبين ممتحنين ، وسألوه عن الروح ، وعن ذي القرنين ، فقال الله مجيبا عن أصحاب الكهف.

أحسبت يا محمد أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا آية عجبا من بين آياتنا؟! لا تظن ذلك ، فآياتنا كلها عجيبة وغريبة ، فإن من يقدر على جعل كل ما على الأرض زينة لهم ينتفعون به ثم يجعله ترابا بين عشية أو ضحاها كأن لم تغن بالأمس قادر على كل شيء كالبعث وغيره فلا تستبعد أن يحفظ بقدرته طائفة من الناس زمانا معلوما ، وإن كانت قصتهم خارقة للعادة ، فإن آيات الله ـ سبحانه ـ دائما كذلك.

واذكر وقت أن صار الفتية إلى الكهف وجعله مأوى لهم ، فقالوا متجهين إلى الله وحده : ربنا آتنا من عندك رحمة واسعة ، وانشر علينا من ظلال فضلك ما تغمرنا ، وهيئ لنا من أمرنا الذي فارقنا عليه الكفار ما به تكون المصلحة لنا ونكون راشدين غير ضالين.

وهكذا حال المؤمنين الموفقين حينما تشتد عليهم الأمور وتتحزب يكون الله هو الملجأ الوحيد يطلبون منه العون والمدد ، ويسألونه الهدى والرشد.

٤٠٨

وقد شملهم ربك بالعطف فضرب على آذانهم في الكهف سنين معدودة ، والمعنى : أنامهم نوما ثقيلا حتى كأنهم وراء حجاب مضروب لا يسمع منه صوت.

ثم بعثهم ربك ، وأيقظهم من النوم ليظهر معلومه ـ سبحانه ـ عن أى الحزبين أحصى للبثهم أمدا وغاية ، وقد جعل علمه أى الحزبين أحصى؟ غاية وعلة للبحث إذ سيظهر عجزهم ، ويفضون أمرهم ، ويحاولون أن يتعرفوا حالهم فيزدادوا يقينا على يقينهم ، وهذا لطف بالمؤمنين في زمانهم ، وآية بينة للكافرين.

وهذه خلاصة للقصة بالإجمال وهاك التفصيل.

نحن نقص عليك خبرهم المهم ذا الشأن والخطر ، أما حواشى الأخبار وتوافهها فلا يتجه لها القرآن ، نقصه قصصا متلبسا بالحق لا زور فيه ولا بهتان ومن أصدق من الله حديثا؟

إنهم فتية آمنوا بربهم إيمانا صادقا خاليا من ضروب الشرك وآثامه ، وزادهم هدى ، وربط على قلوبهم ، وقواها حتى لم يعد فيها مكان للشك والنفاق إذ قاموا مجاهرين قائلين ، ربنا رب السموات والأرض وما فيهن ، لن نعبد من دونه إلها إننا إن عبدنا غيره ، وقلنا به لقد قلنا قولا ذا شطط ، متجاوزين حدود العقل والدين : هؤلاء قومنا البعيدون في درجات الجهل والحماقة اتخذوا آلهة متجاوزين بها الله فاطر السموات والأرض من غير علم ولا دليل.

هلا يأتون على ألوهيتهم بسلطان بين ، وحجة ظاهرة! لا حجة لهم أبدا ولكنه الشرك والتقليد الأعمى.

فلا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا وزورا باتخاذ الشركاء والآلهة.

وإذ اعتزلتموهم يا أهل الكهف ، وفارقتموهم في الاعتقاد ، واعتزلتم عبادتهم وما عبدتم إلا الله الواحد القهار فأووا إلى الكهف ، لتعتزلوهم جسميا بعد فراقهم روحيا ، إن تأووا إليه ينشر لكم ربكم من رحمته في الدارين ، ويهيئ لكم ويصلح من أمركم الذي أنتم بصدده من الفرار بالدين مرفقا ترتفقون به ، وتنتفعون.

هذا حالهم قبل دخولهم في الكهف. أما بعد الدخول فيه فيقول الله :

٤٠٩

وترى يا محمد أو كل واحد يصلح للخطاب الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم وليس المراد الإخبار بوقوع الرؤية تحقيقا بل الإخبار بكون الكهف في مكان بحيث لو رأيته ترى الشمس إذا طلعت تتزاور وتنتحى مائلة عن كهفهم جهة اليمين ، وإذا غربت تراها عند الغروب تقرضهم وتبتعد عنهم متجهة جهة الشمال ، وهم في فجوة ومتسع من الكهف معرض لإصابته من الشمس ، لو لا أن صرفتها عنهم القدرة ، ذلك من آيات الله العجيبة الدالة على كمال العلم والقدرة.

ومن يهديه الله إلى الخير فهو المهتدى حقا الموافق إلى الصالح في الدنيا والآخرة ، كأمثال الفتية أصحاب الكهف ، ومن يضلل ويسلك سبل الشر فلن تجد له وليا مرشدا يهديه إلى الخير وطرق الصلاح في الدنيا والآخرة كأمثال الكفرة المنكرين للبعث .. وهؤلاء الفتية كنت تراهم في الكهف فتحسبهم أيقاظا لم يبل منهم جسد ، ولم تظهر لهم رائحة كريهة كأنهم أحياء نائمون في القيلولة ، ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال ، وكلبهم الذي كان معهم باسط ذراعيه بموضع الباب من الكهف ، لو اطلعت عليهم وهم بهذا الوضع لوليت منهم وهربت من منظرهم هروبا ولملئت منهم رعبا وفزعا. وكما أنمناهم وحفظنا أجسادهم من البلى ـ وكان ذلك آية على قدرتنا ـ بعثناهم من نومهم ليسأل بعضهم بعضا فترتب عليه ظهور الحكم الجليلة التي من أجلها أنامهم الله هذه المدة ، ولهذا جعل التساؤل علة للبعث.

قال قائل منهم : كم لبثتم في نومكم؟ قال بعضهم. لبثنا يوما أو بعض يوم ، قيل إنهم دخلوا الكهف من الصباح واستيقظوا في آخر النهار ولذا قالوا : يوما فلما رأوا الشمس لم تغب قالوا : أو بعض يوم. وقال بعض منهم لما رأوا حالتهم العامة متغيرة : ربكم أعلم بما مكثتم! ولكن امضوا إلى المهم فابعثوا أحدكم بقطعة من الفضة إلى المدينة ليحضر طعاما لنا ، وإذا كان كذلك فلينظر أى أهلها أزكى طعاما وأحسن سعرا فليأتنا بشيء نقتات به ، وليتلطف في الطلب حتى لا يغبن ، ولا يشعرن بكم أحد من المدينة فإنهم إن اطلعوا عليكم يقتلوكم شر قتلة بالرجم أو يعيدوكم في ملتهم وطريقهم الجائر ، ولن تفلحوا إذا دخلتم معهم أبدا.

وكما أنمناهم في الغار ، وبعثناهم أعثرنا وأطلعنا الناس عليهم ليعلموا أن وعد الله حق ، وسمى الإعلام إعثارا لأن من كان غافلا عن الشيء فعثر به نظر إليه وعرفه فكان الإعثار سببا في العلم ، وفي الإعثار ما يفيد.

٤١٠

وكذلك أطلعنا الناس عليهم ليعلموا أن وعد الله بالبعث حق. فقد كان هناك من ينكر البعث فأراهم الله هذه الآية تثبيتا للمؤمنين ، وحجة على الكافرين ، وليعلموا أن الساعة لا ريب فيها فإن من شاهد حال أهل الكهف علم صحة ما وعد الله به من البعث.

أطلعناهم عليهم وقت أن كانوا يتنازعون أمرهم فيما بينهم بين مثبت للبعث ومؤمن به ، وبين منكر له وكافر به.

ولما اطلعوا عليهم ، وظهر أمرهم وعرف الناس أن في قدرة الله أن يحيى الخلق بعد موتهم أماتهم الله فقال بعضهم : ابنوا عليهم بنيانا يمنع الناس عنهم ، ربهم أعلم بشأنهم.

وقال الذين غلبوا على أمرهم من المؤمنين لنتخذن عليهم مسجدا للصلاة ، والذين غلبوا على أمرهم قيل هم المسلمون ، أو هم الملك وأعوانه الله أعلم.

وقد اختلف المعاصرون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عددهم. فسيقولون هم ثلاثة رابعهم كلبهم ويقول جماعة أخرى : هم خمسة سادسهم كلبهم ، وهم في هذا يقذفون بالغيب على غير هدى ظنا منهم. لا يقين معه.

ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم ، قل يا محمد لهم ، ربي أعلم بعددهم ما يعلمه إلا قليل وأكثرهم علم أهل الكتاب على ظن وتخمين.

وفي الكشاف : فما هذه الواو الداخلة على الجملة الثالثة (سبعة وثامنهم كلبهم) ولم دخلت عليهم دون الجملتين الأوليين؟ والجواب هي الواو التي تدخل لتأكيد اتصال ما بعدها بما قبلها وللدلالة على أن الذين قالوا سبعة وثامنهم كلبهم قالوه عن ثبات وعلم وطمأنينة لم يرجموا بالظن كما فعل غيرهم.

وأصحاب هذا الرأى مؤمنون قالوه مستندين إلى الوحى بدليل عدم سبكه في سلك الرجم بالغيب وتغير النظم بزيادة الواو.

إذا قد عرفت جهل أصحاب الرأيين الأوليين فلا تمار فيهم ولا تجادلهم إلا جدالا ظاهرا لا عمق فيه ، ولا تستفت في شأنهم أحدا منهم.

ولا تقولن لأجل شيء تعزم على فعله إنى فاعله غدا ، لا تقولن ذلك في حال من

٤١١

الأحوال إلا في حال ملابسته بمشيئة الله ـ تعالى ـ على الوجه المعتاد على معنى سأفعل ذلك غدا إن شاء الله.

روى أن الآية نزلت حين قالت اليهود لقريش سلوه عن الروح ، وعن أصحاب الكهف وذي القرنين. فقال : ائتوني غدا أخبركم ولم يستثن فأبطأ عليه الوحى حتى شق عليه وكذبته قريش.

واذكر ربك إذا نسيت ، اذكره بقلبك ولسانك ذكرا دائما ، وتوجه إليه وقل : عسى أن يهديني ربي لأقرب من نبأ أصحاب الكهف. والمعنى : اذكر ربك وقل لعله يؤتينى من البينات والحجج الدالة على صدق نبوتي ما هو أعظم من ذلك وأقرب رشدا من نبأ أصحاب الكهف ، وقد فعل ذلك حيث قص عليه قصص الأنبياء.

فإذا نسيت شيئا فاذكر ربك عسى أن يهديك لشيء آخر بدل المنسى أو أقرب منه. ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين ، وازدادوا تسعا.

قل يا محمد : (اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا) والحق ما أخبرك به لا ما يقولونه إذ له وحده غيب السموات والأرض وهو العالم بكل شيء.

أبصر به وأسمع على معنى ما أبصره بخلقه ، وما أسمعه لما يدور في صدورهم فأمره في إدراك المسموعات والمبصرات على خلاف ما تعهدون فهو اللطيف الخبير.

وما لهم من ولى يتولى أمرهم ، ولا يشرك ربك في حكمه وقضائه أحدا.

توجيهات إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٧) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ

٤١٢

يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (٢٨) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (٢٩) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (٣٠) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (٣١))

المفردات :

(مُلْتَحَداً) ملتجأ تلجأ إليه. (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ) أى : لا تتجاوز عيناك عنهم. (فُرُطاً) متجاوزا حدا الاعتدال مأخوذ من قولهم فرس فرط إذ تقدم الخيل وتجاوزها. (سُرادِقُها) فسطاطها ، أو ما يمد في صحن الدار. (كَالْمُهْلِ) وهو المذاب من عناصر الأرض بواسطة النار كالحديد المذاب مثلا. (سُنْدُسٍ) ما رقّ من الديباج (وَإِسْتَبْرَقٍ) الإستبرق الغليظ منه.

... كانوا يقولون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ائت بقرآن غير هذا أو بدله فنزل.

(وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ ..) الآية.

وكانوا يقولون : نح عن مجلسك هؤلاء الموالي أمثال صهيب ، وعمار ، وخباب ،

٤١٣

وياسر وغيرهم حتى نجالسك فنزل : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ) الآية ثم ذكر جزاء المؤمن ولو كان فقيرا وجزاء الكافر ولو كان غنيا.

المعنى :

واتل ما أوحى إليك من كتاب ربك الذي أنزل عليك ولا تسمع لما يهذون به من طلب التغيير والتبديل ، إذ لا مبدل لكلمات ربك ولا يقدر أحد على ذلك ، وإنما الله وحده القادر على التبديل والنسخ (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) [سورة النحل آية ١٠١] وإنك إن بدلت يا محمد فلن تجد من دون الله ملتجأ تلتجئ إليه.

ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى من الفقراء ، واصبر نفسك معهم واحبسها على مجالستهم ، ولا تسمع لقول الكفار فقديما قيل لنوح : (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) [سورة الشعراء آية ١١١] فهذا غرور الكفر ووسوسة الشيطان.

هؤلاء الموالي الذين يدعون ربهم ، ويعبدونه في كل وقت ، يريدون وجهه ورضاه هم أحباب الله وأولياؤه ، ولا تعد عيناك عنهم فتجاوزهم إلى غيرهم من الأغنياء ، وإياك أن تنبو عينك عنهم وتعلو ، تريد زينة الحياة الدنيا الظاهرة في لباس الأغنياء والأشراف ، ولا تطع أبدا من وجدنا قلبه غافلا عن ذكرنا ، واتبع هواه وأسلم نفسه لشيطانه. وكان أمره متجاوزا الحق والعدل حيث ترك صراط الله المستقيم وشرعه القويم.

وقل لهؤلاء الذين يطلبون منك البعد عن الفقراء لفقرهم : الحق جاء من ربكم واضحا ظاهرا فمن شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر ، أما من كفر فإنا أعتدنا وهيأنا له نارا أحاط بهم سرادقها ، ولقد شبه الله ما يحيط بالظالمين الكافرين من النار بالسرادق المضروب على الشخص ، فهل يفلت من السرادق المضروب؟!!

وإن يستغيثوا وهم في نار جهنم يغاثوا بماء لشدة العطش ولكن بماء كالمهل ، يغاثون بشراب من الحديد والرصاص المذاب من قوة النار ، هذا الشراب يشوى الوجوه بئس الشراب شرابهم ، وساءت جهنم مرتفقا ، ولا ارتفاق فيها ولكنها المشاكلة ، أما من تريدون أن يصرف النبي عنهم وجهه فأولئك المؤمنون الذين يقول الله فيهم وفي أمثالهم :

إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلن يضيع الله أجر من أحسن عملا ، أولئك لهم جنات عدن تجرى من تحتهم الأنهار ، وهم يحلون في الجنة بأساور من ذهب وقد كانوا

٤١٤

محرومين منها في الدنيا ويلبسون ثيابا خضرا من الديباج الرقيق والغليظ حالة كونهم متكئين فيها على الأرائك شأن الملوك والعظماء نعم الثواب الذي ذكر لهم هنا وفي غير هذه الآية ، وحسنت الجنة مرتفقا لهم وأى مرتفق؟!!

مثل للمعتز بالدنيا المغرور بها

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (٣٢) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (٣٣) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (٣٤) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (٣٥) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (٣٦) قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٣٧) لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (٣٨) وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (٣٩) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (٤١)

٤١٥

وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (٤٢) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (٤٣) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (٤٤))

المفردات :

(جَنَّتَيْنِ) بستانين. (حَفَفْناهُما بِنَخْلٍ) جعلنا النخل محيطة بهما. (وَلَمْ تَظْلِمْ) لم تنقص من أكلها. (وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً) أجرينا وشققنا وسطهما.

(يُحاوِرُهُ) يراجعه في الكلام. (نَفَراً) المراد خدما وأتباعا ، وقيل هم الأولاد لأنهم ينفرون مع أبيهم ساعة القتال. (مُنْقَلَباً) مرجعا وعاقبة. (سَوَّاكَ) صيرك وعدلك حتى صرت رجلا. (حُسْباناً) المراد مقدارا قدره الله عليها. ووقع في حسابه. (زَلَقاً) أى : أرضا جرداء ملساء لا نبات فيها ولا حيوان ولا بناء تزل فيها الأقدام لملاستها. (غَوْراً) أى : غائر لا تناله يد. (الْوَلايَةُ) النصرة ، وبكسر الواو : السلطان.

وهذا مثل ضربه الله للكافر والمؤمن حيث يعصى الأول مع تقلبه في النعم ويطيع الآخر مع مكابدة الفقر والمشقة ، والأول غارق في الدنيا معتز بها مغرور بها والثاني يفهمها على حقيقتها فهي طريق وممر للآخرة ، والمثل بهذا الوضع متصل بقوله ـ تعالى : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) الآية.

المعنى :

واضرب للفريقين الكافر والمؤمن مثلا : رجلين مقدرين أو حقيقيين ، والعبرة بالعظة المفهومة من المثل ، هما من بنى إسرائيل أخوان أو صديقان أو شريكان أحدهما كافر مغرور بدنياه والثاني موحد بالله ، وقد آل أمرهما إلى ما حكاه القرآن عنهما لعل الناس يعتبرون ويتعظون ، وإنا لنرى كثيرا من المسلمين يقولون مثل مقالة الكفار في الدنيا

٤١٦

بلسان الحال لا بلسان المقال فاعتبروا يا أولى الأبصار واضرب لهم رجلين مثلا هذا بيانه : جعلنا لأحدهما وهو الكفار بستانين من الكروم المتنوعة ، وجعلنا النخل محيطة بهما ، وجعلنا وسطها زروعا حتى يجمعا بين القوت والفاكهة وهما بهذا الوضع لهما الشكل الأنيق ، والوضع السليم.

كلتا الجنتين آتت أكلها كاملا غير منقوص شيئا ، وقد فجر الله وسط كل حديقة نهرا على حدة ليسقيها بلا تعب ومشقة ، ويزيدهما بهاء وروعة ، وكان لهذا الكافر ثمر ومال من غيرهما إذ كان من الأثرياء الكبار.

فقال يوما لصاحبه : وهو يحاوره ويجادله شأن كل غنى مغرور مع مؤمن فقير صالح ، وقد روى أنهم أخوان ورثا مالا أما الكافر فاستغله في أرض ودار وزوجة وخدم وحشم وأما المؤمن فأنفق نصيبه في سبيل الله.

يا أخى : أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا وأكثر خدما وولدا ، ودخل مع صاحبه جنته الواسعة العريضة ، الجنة ذات الجناحين الجنة التي ليس له غيرها إذ هي متاعه في الدنيا وليس له في الآخرة من نصيب ، دخلها وهو ظالم لنفسه معجب بما أوتى ، مفتخر به كافر بالنعمة ، معرض بذلك نفسه لسخط الله وهو أفحش أنواع الظلم : وماذا قال؟

قال لطول أمله وشدة حرصه ، وتمام عقله ، وكثرة غروره بها قال : ما أظن أن تبيد وتفنى هذه الجنة أبدا ، وما أظن الساعة قائمة فيما سيأتى ، وأقسم لئن رجعت إلى ربي على سبيل الفرض ، أو كما يزعم صاحبنا المؤمن لأجدن جنة خيرا من هذه الجنة مرجعا وعافية ، وأقسم لقد سمعنا من جهلتنا المنتسبين للإسلام مثل هذا القول «غنى الدنيا غنى الآخرة» فهم لسوء فهمهم يظنون أن اليسار والغنى إنما يعطى في الدنيا لاستحقاقه ذلك (إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً).

وما علم هذا المغرور أن الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة وإلا ما سقى الكافر منها جرعة ماء ، وإن الإنسان قد يعطى استدراجا.

وماذا قال له أخوه المؤمن؟ قال وهو يحاوره : يا أيها الإنسان : أكفرت بالذي خلق أباك الأول من تراب ثم خلقك أنت من نطفة ثم سواك فعدلك رجلا سويا؟! أبعد هذا تقول : ما أظن الساعة قائمة (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) الآية من سورة الحج.

٤١٧

لكن هو الله ربي وحده لا شريك له ، له الحكم وإليه ترجعون.

يا أخى هلا إذا دخلت جنتك قلت ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، الأمر ما شاء الله لا غير ، روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من رأى شيئا فأعجبه فقال ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضره.

فبدل أن تقول : ما أظن أن تبيد هذه أبدا ، وهذه المقالة لا تصدر إلا من شخص مغرور مأفون يظن أن له قوة وحولا ، وأن الأمر بيده لا بيد الله ، وأنه الزارع الذي أعطى هذا الزرع عن علم وتجربة ، وأن سماده ونظامه هما اللذان أنتجا! ألا بئس ما يفهم الناس في دنياهم!! إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا في هذه الدنيا الفانية فعسى ربي أن يؤتينى خيرا من جنتك وأبقى يوم القيامة.

وأما جنتك فيرسل عليها عذابا مقدرا في حسابه فتصبح أرضا قاحلة ملساء لا شيء فيها أو يصبح ماؤها غائرا لا تدركه الأيدى بأى شكل ولا تستطيع له طلبا فضلا عن إدراكه ، وقد كان فأحيط بثمره وهلك كل ماله فأصبح يقلب كفيه ندما وأسفا على ما ضاع منه ، يعض بنان الندم على ما فرط منه. والحال أنها خاوية على عروشها أى : سقطت الكروم على عروشها الممهدة لها.

ويقول : نادما ليتني لم أشرك بربي أحدا ، ولم تكن له فئة تنصره من دون الله إذ هو القادر وحده على دفع العذاب ، وما كان هو في حد ذاته منتصرا بنفسه.

هناك : وفي هذه الحال التي يؤمن فيها البر والعاجز النصرة من الله وحده ، والسلطان لله وحده ، هو الحق تبارك وتعالى ، خير ثوابا وخير عقبى للعباد المتقين.

مثل الحياة الدنيا

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ

٤١٨

فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (٤٥) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (٤٦))

المفردات :

(هَشِيماً) مهشوما مكسورا. (تَذْرُوهُ الرِّياحُ) تفرقه وتطيره. وهذا مثل آخر للدنيا وبيان لصفتها العجيبة التي هي كالمثل حتى لا يغتر بها المغترون.

المعنى :

واذكر لهم صفة الدنيا التي هي كالمثل في الغرابة وهي كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض ، فنبت الزرع واخضر واختلط بعضه من كثرته وتكاثفه فأصبح ذلك النبات الغض الوارف صاحب الظل الدائم ، والبهجة والمنظر أصبح هشيما تذروه الرياح (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) [سورة يونس آية ٢٤]. ولا غرابة في هذا فالله على كل شيء قدير.

وأما ما كانوا يفتخرون به من مال وبنين فهذا عرض زائل ، ومتاع حائل ، وزينة الدنيا الفانية ، ولعل تقديم المال على البنين لأنه أدخل في باب الزينة من الأولاد.

وليس لأحد أن يفتخر بها حيث كانت لهذا فقط بل الباقيات الصالحات من الأعمال الخيرية خير وأبقى عند ربك إذ ثوابها عائد على صاحبها ، وخير أملا حيث ينال بها صاحبها في الآخرة كل ما كان يؤمله.

٤١٩

من مشاهد يوم القيامة

(وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (٤٧) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (٤٨) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (٤٩))

المفردات :

(وَحَشَرْناهُمْ) الحشر : الجمع لأجل الحساب ، والبعث : إحياؤهم من القبور للحشر. (صَفًّا) مجتمعين غير متفرقين.

المعنى :

واذكر يوم نسير الجبال وهي كالعهن المنفوش بعد أن كانت ساكنة في نظر العين ، وهذه إشارة إلى تبدل الحال ، وتغير الوضع في الدنيا ، وترى الأرض بارزة ليس فيها ما يسترها من جبال وأنهار وشجر وبنيان ، وقد ألقت ما فيها من كنوز ودفائن ، وأخرجت أثقالها ، وبرز ما في جوفها ، وحشرناهم جميعا ، وجمعناهم إلى الموقف من كل مكان. فلم نغادر من الخلائق أحدا ، وعرضوا على ربك صفا واحدا بلا تفرق واختلاف ، وقد شبهوا بالجند حيث يعرضهم القائد ، وهم وقوف منتظرون الأمر قلنا

٤٢٠