التفسير الواضح - ج ٢

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ٢

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٨٨٤

المفردات :

(تَحْوِيلاً) المراد : تحويله من حال إلى حال ، أو من مكان إلى مكان (الْوَسِيلَةَ) القربى بالطاعة والعبادة (مَحْذُوراً) مخوفا (أَحاطَ) المراد أنهم في قبضته وتحت قدرته.

وهذا رد على من عبد غير الله ـ سبحانه وتعالى ـ من العقلاء كالملائكة وعيسى وعزير ومناقشة لهم في عقائدهم.

المعنى :

قل لهؤلاء المشركين الذين يعبدون من دون الله شركاء ، وزعموا أنهم آلهة من دونه قل لهم : ادعو الذين زعمتم أنهم من دون الله شركاء فهل يجيبونكم؟ إنهم لا يستجيبون فهم لا يملكون كشف الضر عنكم ، ولا تحويله من مكان إلى مكان ، بل لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ، أولئك الذين عبدتموهم من دون الله كعزير والمسيح يدعون ربهم يبتغون الوسيلة إليه والقربى منه بالطاعة ، ويخصونه بالعبادات وهم أقرب إلى الله وأولى به لأنهم عباده الأطهار المخلصون من ملائكة وأنبياء وهم يرجون رحمته ، ويخافون عذابه ، إن عذاب ربك كان محذورا ، إذ هو حقيق بأن يحذره العباد من الملائكة والأنبياء وغيرهم فكيف أنتم؟!

ثم بين ـ سبحانه وتعالى ـ مآل الدنيا وأهلها فقال : وما من قرية كانت من قرى الكفار إلا نحن مهلكوها بالموت أو معذبوها عذابا شديدا يستأصلهم ، وهذا الحكم عام ثابت ، كان ذلك في الكتاب مسطورا.

كان أهل مكة سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا ، وأن ينحى عنهم جبال مكة فأتاه جبريل فقال. إن شئت كان ما سأله قومك. ولكنهم إن لم يؤمنوا لم يمهلوا ، وإن شئت استأنيت بهم فأنزل الله هذه الآية (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ).

وما منعنا من إرسال الآيات واستجابة طلباتهم التي سألوها إلا تكذيب الأولين فإننا إن أرسلناها وكذب بها هؤلاء عوجلوا ، ولم يمهلوا كما هو سنة الله ـ سبحانه ـ مع

٣٨١

الأمم ، والمعنى : ما تركنا إرسالها لشيء من الأشياء إلا لتكذيب الأولين فإنهم إن كذبوا بعدها حل بهم ما حل بغيرهم من الأمم السابقة ، وقد أراد الله أن يؤخر عذاب من أرسل لهم محمد إلى يوم القيامة ، واذكروا أنا آتينا قوم ثمود الناقة كما طلبوا وكذبوا ، بعدها عقروها فأخذتهم الصيحة ، وجعلنا آية الناقة مبصرة ذات أبصار يدركها الناس ، وإنما خصت بالذكر دون غيرها لأن آثار هلاك ثمود قريبة منهم وفي طريقهم ، وما نرسل بالآيات إلا تخويفا للناس وإنذارا لهم ، فكأن الآية مقدمة لعذاب الاستئصال ، وأما أنت يا محمد فثق بالنصر وأن الله معك وناصرك واذكر وقت أن قلنا لك : إن ربك أحاط بالناس علما وقدرة فهم في قبضته وتحت قدرته ، فإلى أين يذهبون! وما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس ، أما الرؤيا التي رآها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقيل إنها : بشر الله له بانتصاره على قريش في بدر وغيرها ، وأنه سيهزم الجمع ، ويولون الدبر ، ولذلك كان يقول النبي وهو في العريش مع أبى بكر قبل بدء المعركة : اللهم إنى أسألك عهدك ووعدك ، ولعل الله أراه مصارع القوم في منامه فكان يقول ، هذا مصرع فلان ، وذاك مصرع فلان تسامعت قريش بذلك وبما رأى في منامه فكانوا يضحكون ويسخرون ، ويستعجلون العذاب ، وحين يقول الله. إن شجرة الزقوم طعام الأثيم ، وأنها في النار قالوا : إن محمدا يزعم أن نار جهنم نار وقودها الناس والحجارة ثم يقول : ينبت فيها الشجر. فهذه الرؤيا بالنصر للنبي ، والشجرة الملعونة كانت فتنة للناس بعضهم آمن بهذا وبعضهم كفر.

وقيل الرؤيا هي الإسراء وقد كانت فتنة للناس آمن بها البعض وكفر بها البعض وبه تعلق من يقول كان الإسراء في المنام ومن قال إن الإسراء كان في اليقظة ، قال هي رؤية بالبصر ، وسماها رؤيا بناء على قول المكذبين.

ونحن نخوفهم بعذاب الدنيا والآخرة فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا. فكيف يؤمن قوم هذه حالهم بإرسال ما يقترحونه من الآيات.

٣٨٢

أصل الداء

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (٦١) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (٦٢) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (٦٣) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (٦٤) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (٦٥))

المفردات :

(أَرَأَيْتَكَ) أى : أخبرنى (لَأَحْتَنِكَنَ) لأستأصلنهم بالأعوان إلا قليلا يقال : احتنك الجراد الأرض إذا جرد ما عليها أكلا بالحنك موفورا (اسْتَفْزِزْ) كاملا استخف يقال أفزه واستفزه أزعجه واستخفه (وَأَجْلِبْ) من الحلبة والصياح أى : صح عليهم ، والمراد : أجمع عليهم كل ما تقدر عليه من مكايدك (غُرُوراً) باطلا.

المعنى :

لما ذكر القرآن الشرك والمشركين وناقشهم وألزمهم الحجة أخذ يبين لهم أصل الداء والسبب الحقيقي لعلهم يتعظون وهو أن إبليس اللعين أخذ على عاتقه إغواءهم والوسوسة

٣٨٣

لهم مع بيان موقفه من آدم أبى البشر ، ولقد ذكرت هذه القصة في القرآن سبع مرات بأشكال مختلفة. وصور متباينة تتناسب مع الغرض العام في السورة والغرض الخاص المناسب للسابق واللاحق من الآيات. لهذا سنختصر في سردها.

وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم سجودا رمزيا للامتثال ولإظهار المحبة ومكانة بنى آدم لا سجود عبادة وخضوع فسجدوا جميعا إلا إبليس أبى واستكبر وقال : أأسجد لمن خلقته من طين ، وأنا خلقت من نار فأنا خير منه فكيف أسجد له. قال : أخبرنى عن هذا الذي فضلته على! لم فضلته وقد خلقتني من نار وخلقته من طين! تالله لئن أخرتنى إلى يوم القيامة لأستولين عليهم بالإغواء والإضلال جميعا إلا قليلا منهم ، وهم عبادك المخلصون.

قال الله له : اذهب فامض لشأنك الذي أخذته لنفسك فمن تبعك منهم وأطاعك فإن جهنم مأواكم وجزاؤكم جميعا أنت ومن اتبعك جزاء موفورا.

واستفزز من استطعت منهم بصوتك واستخفه وادعه بكل ما تستطيع من قوة وإغراء ، وأجمع عليهم خيلك وفرسانك ، ورجالك ، وهذا تمثيل ، والمراد أجمع لهم مكايدك وما تقدر عليه ، ولا تدخر وسعا في إغوائهم ، وشاركهم في الأموال حتى يتصرفوا بما يخالف وجه الشرع من سرقة وغصب إلى غش وخديعة ، أو أخذ بالربا ، وشاركهم في الأولاد عن طريق الزنى ، وتسميتهم بأسماء غير شرعية ، وعدم احترام الحقوق الشرعية في الزواج والطلاق والرضا وغيره وعدهم بكل ما تعد به من زخرف القول وباطله.

وما يعدهم الشيطان إلا غرورا باطلا ، وتزيينا كاذبا ، وإظهارا للباطل في صورة الحق.

إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ولا قوة إلا من اتبعك ، وكفى بربك وكيلا يتوكلون عليه فهو الذي يدفع عنهم كيد الشيطان ويعصمهم من إغوائه.

ومن هنا نعلم أن الناس صنفان : صنف مؤمن تقى إذا مسه الشيطان تذكر نفسه وما حمل من أمانة ، وما عليه من حساب ، واستعاذ بالله فإذا هو مبصر محاسب نفسه وهؤلاء هم العباد الذين ليس للشيطان عليهم سبيل.

والصنف الثاني : هو العاصي الذي يتولاه الشيطان ، ويستولى عليه مستعينا بالمال والدنيا والنفس الأمارة بالسوء.

٣٨٤

من نعم الله علينا

(رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٦٦) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (٦٧) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (٦٨) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (٦٩) وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (٧٠))

المفردات :

(يُزْجِي) يسوق ويدفع والمراد يسير (الضُّرُّ) أى : الشدة وخوف الغرق (يَخْسِفَ) الخسف أن تنهار الأرض بالشيء (حاصِباً) المراد ريح شديدة حاصبة وهي التي ترمى بالحصى الصغيرة (قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ) القاصف هي الريح الشديدة التي تكسر كل ما يصادفها أو هي الريح الشديدة الصوت (تَبِيعاً) أى : تابعا ثائرا يطالبنا بما فعلنا.

وهذا بيان لكمال قدرته ، وتذكير ببعض النعم حملا لنا على الإيمان الكامل به.

٣٨٥

المعنى :

ربكم الذي يستحق وحده العبادة هو الذي يسير لكم السفن في البحر ، ويدفعها بقوة الريح وتيار الماء أو قوة البخار ، يسير الفلك تمخر عباب الماء حاملة الناس والتجارة لتبتغوا من فضل الله ورزقه ، إنه كان بكم رحيما منعما بدقائق النعم وجليلها.

وأنتم أيها الكافرون المشركون أمركم عجيب ، إذا مسكم الضر ، واضطرب بكم البحر وعدا على سفنكم هوج الرياح فانخلع قلبكم من خوف الغرق المحقق ، إذا حصل هذا ضل من تدعونه من الآلهة إلا الله ، وذهب عن خاطركم ، ولم يدر بخلدكم ذكر واحد منهم فإنكم لا تذكرون سواه ، وقيل المعنى : ضل ولم يهتد لإنقاذكم أحد غيره من سائر المدعوين.

فلما نجاكم إلى ساحل السلامة واستجاب دعاءكم أعرضتم وكفرتم وصرتم تدعون غيره يا عجبا لكم!! في الشدة تذكرونه وحده ، وفي غيرها تدعون معه غيره ، ولا غرابة فخلق الإنسان كفورا بربه جحود النعمة ، وهذا يتحقق في أكثر الأفراد.

ها أنتم أولاء نجوتم الآن وكشف عنكم ربكم الضر الذي أصابكم ، ولكن أنجوتم فآمنتم أن يخسف بكم جانب البر فحملكم ذلك الأمان الصادر عن الغرور الكاذب على الإعراض والكفر.

نعم أمر المشركين عجيب يتضرعون إلى الله في البحر فإذا نجاهم منه أعرضوا وكفروا ، ألم يعلموا بأن الله قادر على أن يخسف بهم البر ، ويدك عليهم جانبه فيصبحوا أثرا بعد عين؟.

أفأمنتم وقد نجاكم من البحر وصرتم في البر أن يرسل عليكم ريحا حاصبا تصيبكم بالحصباء؟ فأنتم تحت قبضته في كل مكان في البر والبحر ، وإن لم يصبكم من أسفل أصابكم إن أراد من فوقكم (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) [سورة الأنعام آية ٦٥] لا تجدون لكم وكيلا يدافع عنكم.

بل أأنتم وقد نجوتم الآن من البحر أن يعيدكم فيه تارة أخرى؟ ، بأن يهيئ لكم أسباب ركوبه مرة ثانية فيرسل عليكم وأنتم في السفن من الريح شديد فتكسر كل ما

٣٨٦

يقابلها فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم بسبب هذا تبيعا علينا يطلب الثأر منا (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها. وَلا يَخافُ عُقْباها) [الشمس ١٤ و ١٥] وهذا تهديد شديد لا يصح إلا ممن رفع السماء فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها سبحانه وتعالى.

ولقد كرمنا بنى آدم بالعقل والتفكير فسخرنا له كل شيء في الكون كالماء والهواء والأثير ، وكرمه بأن خلق له كل ما في السموات والأرض وكرمه في خلقه السوى وقامته المرفوعة ، وكرمه بالتكليف وإرسال الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ خاصة محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وها هي ذي بعض أنواع التكريم فقد حمله ربه في البر على الدابة والسيارة والدراجة والقطار وفي البحر على السفن ، وفي الجو بالطائرة والقلاع الجوية.

وإنما لم تذكر لأنه كان يخاطب العرب الذين لا يمكنهم تصور هذا ، ورزقناهم من الطيبات في المأكل والملبس ، وفضلنا بنى آدم على كثير ممن خلقنا تفضيلا الله أعلم به.

وهنا بحث العلماء بحوثا كثيرة في تفضيل بنى آدم على الملائكة واختلفوا اختلافا كثيرا ، وليس في الآية دليل لواحد منهم.

بعض مشاهد يوم القيامة

(يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢) وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣) وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ

٣٨٧

الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (٧٥) وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (٧٦) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (٧٧))

المفردات :

(بِإِمامِهِمْ) المراد من يتقدمهم وينسبون إليه ، وقيل كتاب أعمالهم (فَتِيلاً) مقدار الخيط الذي في شق النواة الطولى (تَرْكَنُ) تميل إليهم (ضِعْفَ الْحَياةِ) المراد ضعف عذاب غيرك في الدنيا (خِلافَكَ) بعدك.

المعنى :

اذكروا أيها الناس يوم ندعو كل جماعة بإمامهم وقائدهم فيقال مثلا يا أمة موسى يا أمة عيسى. يا أمة محمد ، يا أمة فرعون : يا أمة نمرود ، ويا أتباع فلان وفلان من رؤساء الكفر وزعماء الشرك.

وقيل المعنى يقال لهم : يا أهل التوراة ، ويا أهل الإنجيل ، ويا أهل القرآن ما ذا عملتم في كتابكم؟! وقيل المراد بإمامهم : كتاب أعمالهم نظرا إلى قوله تعالى وكل شيء أحصيناه في إمام مبين.

فإذا نودي الناس يوم القيامة ، فمن أوتى كتابه الذي فيه أعماله بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم فرحين مسرورين قائلين لإخوانهم : هلموا اقرءوا كتابنا ، وهم لا يظلمون فتيلا ولا يضيع عليهم مثقال ذرة من أعمالهم.

وأما الصنف الثاني : وهو من يؤتى كتابه بشماله ، فأولئك يصدمون من هول الموقف ويقفون حيارى ، وهؤلاء قد عبر عنهم القرآن بقوله : ومن كان في هذه الدنيا

٣٨٨

أعمى القلب والبصيرة ، ولم يهتد إلى طريق الحق والنور فهو في الآخرة أعمى لا يهتدى إلى طريق النجاح والفلاح بل هو في الآخرة أضل سبيلا.

وروى أن قبيلة ثقيف وكانت تسكن الطائف قالت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا ندخل في أمرك حتى تعطينا خصالا نفتخر بها على العرب فلا يكون علينا زكاة ، ولا جهاد ، ولا صلاة ، وأن كل ربا علينا فهو موضوع ، وكل ربا لنا فهو لنا فإن قالت العرب لم فعلت ذلك؟ فقل : إن الله أمرنى .. وطمع القوم أن يعطيهم النبي ما طلبوا فأنزل الله (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) .. الآية.

وإن هموا وقاربوا أن يفتنوك عن الذي أوحى إليك. ويستنزلونك عن طريق الحق الذي ارتضاه لك ربك لتفترى عليه غيره ، وتبدل فيه ، إنك لو فعلت ذلك بأى صورة لاتخذوك خليلا ، ولكنك تخرج من ولاية الله ، وتطرد من رحمته.

ولو لا أن ثبتناك وعصمناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا ، إنك لو فعلت ذلك لأذقناك ضعف عذاب الحياة ، وضعف عذاب الموت.

وفي قوله ـ سبحانه ـ : كدت ، شيئا قليلا ، ثم مضاعفة العذاب في الدنيا والآخرة دليل على أن جرم العظيم عظيم.

وفيها إشارة إلى أن التهاون في شأن الدين وأحكامه خطر وأى خطر!!! وعليه عذاب مضاعف في الدنيا والآخرة ، فيا ويلنا مادمنا نتهاون في شأن الدين وحكمه. وعلى المؤمنين جميعا إذا قرءوا هذه الآيات أن يملؤوا قلوبهم خشية وخوفا وتصلبا في دين الله ولقد صدق رسول الله في قوله : «اللهمّ لا تكلني إلى نفسي طرفة عين».

وإن كاد أهل مكة ليزعجونك بعداوتهم ، ويستفزونك من أرضها ليخرجوك منها ، إنهم إن فعلوا ذلك وأخرجوك كرها لا يبقون بعدك إلا قليلا.

وقيل : نزلت في يهود المدينة حينما قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حسدا وزورا ، يا أبا القاسم إن الأنبياء إنما بعثوا بالشام فلو خرجت إليها لآمنا بك واتبعناك ، وهذا مما يؤيد أن هذه الآيات مدنية.

واعلموا أن كل قوم أخرجوا رسولهم من بلادهم فسنة الله أن يهلكهم ولا تجد لسنته تحويلا وخروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة كان بأمر الله.

٣٨٩

إرشادات ومواعظ

(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (٧٩) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (٨١) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (٨٢) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (٨٣) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (٨٤) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٥))

المفردات :

(لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) المراد : من زوال الشمس عن كبد السماء ، وقيل : إنه غروبها (إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) وغسق الليل : اجتماع الظلمة وسواد الليل (فَتَهَجَّدْ) الهجود : النوم بالليل ، والتهجد : ترك الهجود كالتأثم والتحرج في ترك الإثم والحرج (نافِلَةً لَكَ) النافلة : الزيادة ومنه النوافل للسنن الزائدة عن الواجب (وَزَهَقَ

٣٩٠

الْباطِلُ) بطل واضمحل (وَنَأى بِجانِبِهِ) النأى : البعد. والمراد لوى عنه عطفه ، أى : جانبه وولاه ظهره ، وهو تأكيد للإعراض (شاكِلَتِهِ) طريقته.

تقدم ذكر المعاد والجزاء وبعض الإلهيات ، وهنا ذكر أشرف الطاعات وهي الصلاة وبعض التعليمات الإلهية مع بيان شرف القرآن وسمو الروح ، وهذا هو العلاج لثبات المسلم على الطريق الحق.

المعنى :

يا أيها النبي أقم الصلاة ، وأت بها مقومة تامة الأركان مستوفية الشروط والآداب فهي عماد الدين ، وصلة العبد بخالقه. والأمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر لأمته ، وإنما خص به لمكانة المأمور بها وهي الصلاة.

أقم الصلاة من دلوك الشمس ـ وهو زوالها عن كبد السماء ـ إلى غسق الليل واجتماع الظلمة ولعل السر في التعبير باللام بدل من قوله دلوك : الإشارة إلى أن الوقت سبب في إقامة الصلاة ، وشرط فيها.

وأقم قرآن الفجر والمراد صلاة الصبح ، إن قرآن الفجر كان مشهودا من الملائكة حرس الليل وحرس النهار ، ومن يوفق لصلاة الفجر ، والتعبد في السحر والتهجد في الليل يدرك السر ويشعر بأنها صلاة مشهودة ، ودرجة مرفوعة ، وفقنا الله لها.

وبعض الليل فتهجد بالقرآن والصلاة نافلة زائدة عن الفرائض المطلوبة ، عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا. وعسى من الكريم إطماع محقق الوقوع ، والمقام المحمود والمكان المرموق والمركز المعلوم المعد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقام الشفاعة التي يتخلى عنها كل نبي ورسول ، قائلا للخلق : عنى عنى اذهبوا إلى غيرى. ويقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنا لها : فيشفع للخلق جميعا حين يضيق بهم الأمر. وتدنو الشمس من الرءوس ، ويتمنون الانصراف ولو إلى النار ، وقيل المقام المحمود غير ذلك.

وقل يا محمد : رب أدخلنى مدخل صدق الذي وعدتني به ، وأخرجنى مخرج صدق وإضافة المدخل والمخرج إلى الصدق لأجل المبالغة ، والآية تشمل كل مدخل للنبي وكل

٣٩١

مخرج ، كدخوله المدينة ، وخروجه من مكة مثلا ، واجعل لي في هذا سلطانا وحجة قوية.

وقل يا محمد : جاء الحق وزهق الباطل وقد قالها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين كسر الأصنام وهو يفتح مكة.

والمراد بالحق : الإسلام أو كل ما هو حق. والمراد بالباطل : الشرك أو كل متناف مع الحق ، إن الباطل شأنه الزهوق ، وعدم الثبات.

واعلموا أن القرآن هدى وشفاء لما في الصدور ورحمة وخير للمؤمنين. وهو الوسيلة إلى الله والدواء والعلاج من كل داء فالله يقول : وننزل من القرآن ما هو شفاء من كل داء نفسي ورسمي وشفاء من كل مرض ، وعلاج للأمة والفرد ورحمة للمؤمنين وقد كان رحمة وأى رحمة فهو الذي أخرج العرب الجاهلين الحفاة العراة إلى أمة ذات علم وحضارة وعز وسلطان ، قهرت الأكاسرة والقياصرة ، فهو الرحمة للناس جميعا خاصة المؤمنين وهو السبيل لاكتساب الدين والدنيا.

هذا مع المؤمن الذي يتوجه إليه بقلب خال من الكبر والحسد والبغضاء وحب الرياسة أما مع هذه الأمراض فلا يزيد الظالمين أصحابها إلا خسارا وعتوا واستكبارا.

وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض عن ذكر الله متكبرا.؟ ونأى بجانبه وولى ظهره ، وتلك عادة المتكبرين ، وإذا مسه الشر من فقر أو مرض كان شديد اليأس قانطا من رحمة الله ، إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.

قل كل يعمل على شاكلته ؛ وطريقته التي جبل عليها فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا ، وأقوم طريقا وهو يجازى كلا على قدر عمله وإخلاصه ..

ولقد كانت اليهود تكثر من سؤال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الروح وحقيقتها ، الروح التي بها يحيا الجسم ويتحرك.

والقرآن يرشدهم إلى ما هو خير لهم وأجدى عليهم فليس هو كتاب علم تحدد فيه الحقائق العلمية الدقيقة ، وإنما هو كتاب هداية وإرشاد يبحث الأشياء بحثا يتفق مع المصلحة الدينية العامة ، على أن حقيقة الضوء والظلام والكهرباء لم تعرف إلى الآن ، وإنما عرفناها بآثارها وشواهدها.

٣٩٢

ولذلك يقول الله آمرا نبيه قل يا محمد : الروح من أمر ربي وشأنه ، ومما استأثر الله بعلمه ، وما أوتيتم من العلم إلا قليلا بالنسبة إلى علوم الله.

وقيل المعنى : إن الروح من أمره أى : جزء منه ـ سبحانه وتعالى ـ لا يعرف تحديدها إلا هو ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [سورة الحجر آية ٢٩] وقوله : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) [سورة الفجر الآيتان ٢٧ و ٢٨] على أن بحث حقيقة الروح لا يفيدنا في شيء أبدا.

القرآن هو المعجزة الباقية

(وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٨٩) وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ

٣٩٣

لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (٩٣))

المفردات :

(ظَهِيراً) معينا. (فَتُفَجِّرَ) تجريها بقوة. (يَنْبُوعاً) الينبوع العين التي لا تنضب. (كِسَفاً) جمع كسفة وهي القطعة من الشيء. (قَبِيلاً) معاينة ومقابلة. (مِنْ زُخْرُفٍ) من زينة والمراد من ذهب.

المعنى :

لقد أوتينا من العلم قليلا ، ولو شاء ربك لذهب بهذا القليل فعدنا إلى ظلام الجهل ، وحماقة الجاهلية فمصدر العلم في كل ناحية هو القرآن الذي أوحى إليك ، ولئن شاء ربك لأذهبه ، ومحاه من الصدور والمصاحف ، فلم يترك له أثرا ، وبقيت كما كنت من قبل لا تدرى ما الكتاب ولا الإيمان.

ثم لا تجد لك بعد الذهاب به من يتوكل علينا باسترداده وإعادته محفوظا إلا برحمة ربك فيرده عليك ، فرحمة ربك مصدر الخير كله ، وهذا امتنان من الله ببقاء القرآن محفوظا بعد المنة العظيمة في تنزيله ، إن فضله كان عليك كبيرا.

ومن الحقائق المعروفة أن العلوم التي نشأت عند المسلمين ، والحضارة العلمية في الشرق كله من نبع القرآن وفيضه ، فعلوم اللغة والشريعة وأصول الفقه وعلوم القرآن نشأت للمحافظة على القرآن الكريم ، وكان لهذا أثر عميق في الاتجاه العلمي العام.

هذا القرآن وهو المعجزة ، والحجة الدائمة التي تحدى بها الله العرب كلها فعجزوا على الإتيان بمثله ، وهم أهل فصاحة وبلاغة ، والنبي واحد منهم وهو أمى لم يقرأ ولم يكتب ، وفيهم الشعراء والخطباء ، وقادة البلاغة والبيان فحيث عجزوا فغيرهم من باب أولى ، تحداهم به بأسلوب لاذع ، مع الحكم عليهم بالعجز والقصور ولو اجتمع الإنس والجن ، وتعاون الكل وبذلوا النفس والنفيس.

٣٩٤

ولقد ثبت بما لا يقبل الشك عجزهم فثبت أن القرآن هو المعجزة الباقية وأنه من عند الله.

ولقد صرف الله للناس في هذا القرآن ، وقلب فيه الأمور كلها على وجوهها بألوان شتى وعبادات مختلفة تارة بالإيجاز وأخرى بالإطناب موفيا الغرض من أمر ونهى ، ووعظ وإرشاد وقصص وأخبار ، وحكم وتشريع ومع هذا يأبى أكثر الناس إلا كفورا وجحودا.

لم يقنعوا بالقرآن معجزة وهم أدرى الناس بحقيقتها لأنها أتت فيما برعوا فيه ، وطلبوا معجزة غيرها. ولو جاءت كما طلبوا لقالوا : إنما سحرت أبصارنا وسكرت.

وقالوا : لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض عيونا تفيض بالماء فإننا في صحراء مجدبة قاحلة ، أو تكون لك أنت ـ إن لم تأت بعيون لنا ـ جنة من نخيل وأعناب وغيرهما فتجرى فيها الأنهار بقوة حتى يتم زرعها وتؤتى ثمرها كاملا ، أو تسقط السماء علينا قطعا كما زعمت (إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ) [سورة سبأ آية ٩].

أو تأتى بالله والملائكة معاينة لنا ومتقابلين معنا فيحدثونا بأنك رسول من عند الله أو يكون لك بيت من زخرف من ذهب فإنا عرفناك يتيما فقيرا.

ألم يكن عند الله إلا يتيم أبى طالب يجعله رسولا! أو تعرج إلى السماء ، ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا من السماء كتابا نقرؤه يفيد أنك رسول من عند الله.

قل لهم متعجبا منزها الله ، سبحان ربي!!

هل كنت إلا بشرا رسولا فقط ، ولست أقدر على إجابة طلبكم ، والله ـ سبحانه ـ هو القادر وقد أيدنى بمعجزة القرآن ، وهي المعجزة الباقية الخالدة.

شبهتهم في الرسالة والرد عليها

(وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤) قُلْ لَوْ كانَ

٣٩٥

فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (٩٥) قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٩٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (٩٧) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (٩٩) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (١٠٠))

المفردات :

(خَبَتْ) سكن لهبها. (سَعِيراً) نارا ملتهبة شديدة. (وَرُفاتاً) تقدم شرحها (قَتُوراً) بخيلا ممسكا.

المعنى :

من الناس من ختم الله على قلوبهم ، وعلى سمعهم ، وجعل على أبصارهم غشاوة

٣٩٦

فهم لا يطيقون أبدا الإقرار بأن الله يرسل رسولا من البشر ويقولون إذا كان ولا بد من رسول فليكن من الملائكة ، ولقد زاد عنادهم وكفرهم أن الرسول محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتيم من فقراء قريش!! (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف ٣١].

نعم ما منعهم من الإيمان بالله ورسوله وقت أن جاءهم الهدى الذي يخرجهم من الظلمات والجهالات إلى نور الحق والعرفان ، ما منعهم من ذلك إلا اعتقادهم أن الرسول لا يكون بشرا حيث قالوا منكرين : أبعث الله بشرا رسولا؟ فليس طلبهم الآيات السابقة إلا عنادا وتكذيبا ، فلا تظن أن إجابتهم خير أبدا.

قل لهم لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين ساكتين يعيشون مع الناس ويتفاهمون معهم ويتلون عليهم آيات الله ، وتعرف الناس أخبارهم وأحوالهم قبل النبوة لو كان في طبيعة الملك ذلك لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا ، إذ لا يعقل أن يدين الإنسان لمن لا يعرف عنه شيئا ، ومن ليس بينه اتصال وألفة حتى يتم التفاهم ولقد صدق الله حيث يقول في سورة الأنعام (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ. وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) [سورة الأنعام الآيتان ٨ و ٩].

قل لهم : كفى بالله شهيدا وحكما بيني وبينكم فإن كنت أتقول عليه ما يلبسون وأفترى عليه الكذب فيجازينى على ذلك (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) [الأنعام ٢١].

وإن كنتم تكفرون بالله الذي خلقكم. ولا تؤمنون برسوله الذي أرسل لكم ، ومعه المعجزة الباقية الخالدة التي تقول بلسان الحال : صدق عبدى في كل ما يبلغه عنى : فسيحاسبكم ربكم على ذلك ويجازيكم أشد الجزاء إنه بعباده خبير بصير.

وأنت يا محمد فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ، وأعلم أنه من يهديه الله إلى الخير فهو المهدى الموفق لأن نفسه ميالة إلى ذلك ، ومن يضلله الله فلن تجد له أولياء من دون الله يتولون أمره ويدافعون عنه ، وهم يوم القيامة محشرون يمشون على وجوههم. (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ) (١) والذي أقدرهم على المشي على الأرجل يقدرهم على المشي على وجوههم مرغمين ، نحشرهم عميا لا يرون ما ينفع وبكما

__________________

(١) سورة القمر الآية ٤٨.

٣٩٧

لا يتكلمون بما يفيدهم ، ولا يسمعون ما يلذ لهم (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) مأواهم جهنم التي وقودها الناس والحجارة كلما أكلت جلودهم ولحومهم وعظامهم وأفنتها وسكن لهيبها بدلوا جلودا ولحما وعظما غيرها فرجعت ملتهبة شديدة الالتهاب ، وكانوا يستبعدون إعادة الحياة بعد الممات فكان جزاؤهم النار أن تعاد أجسامهم مرة ثانية ليذوقوا ويعرفوا قدرة الملك الجبار.

ذلك جزاءهم بسبب كفرهم ، وقولهم : أإذا كنا عظاما نخرة وصار جسمنا رفاتا ترابا تعود إلينا الحياة؟ ونبعث من جديد لنحاسب على أعمالنا إن هذا لعجيب.

يا عجبا لهم!! أعموا ولم يروا أن الله خلقهم وخلق السموات وما فيها ، والأرضين وما فيها من العجائب قادر على أن يخلق مثلهم (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ) [سورة النازعات الآية ٢٧]. وقد جعل لهم أجلا لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون ، ومع هذا كله فقد أبى الظالمون إلا كفورا وجحودا ، وإنكارا للبعث.

قل لهم : لو تملكون خزائن رحمة الله الرحمن الرحيم لبخلتم بها ، وأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا بخيلا.

ولو سئل الناس التراب لأوشكوا

إذا قيل هاتوا أن يملوا ويمنعوا

فما بالكم تطلبون آيات بعد هذه الآيات! وأنتم لا تقومون بواجب الشكر لله الذي أنعم عليكم بكافة النعم (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) [سورة العاديات آية ٦].

تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ

٣٩٨

يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (١٠٤) وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (١٠٥) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (١٠٦) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (١٠٩))

المفردات :

(مَسْحُوراً) سحرت فاختل عقلك. (بَصائِرَ) المراد بينات مكشوفات.

(مَثْبُوراً) هالكا ، وقيل مصروفا عن الخير ممنوعا منه. (يَسْتَفِزَّهُمْ) يستخفهم ويخرجهم. (لَفِيفاً) مجتمعين مختلطين. (فَرَقْناهُ) المراد جعلنا نزوله مفرقا منجما. (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ) يسقطون على وجوههم خضوعا لله.

روى ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ أن الآيات التسع هي العصا ، واليد ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، والحجر ، والبحر ، والطور الذي نتقه الله على بنى إسرائيل.

٣٩٩

المعنى :

ولقد آتينا موسى حين أرسل إلى فرعون وملئه تسع آيات ناطقات بصدقه ، وأنه رسول الله إليهم لينقذ بنى إسرائيل من طغيانهم ، مع هذا لم يؤمن فرعون وقال : إنى أظنك يا موسى رجلا مسحورا قد سحر عقله واختلط عليه أمره فهو لا يدرى ما يقول.

وإن كنت في شك فسل المؤمنين من بنى إسرائيل عن الآيات وقت أن جاءهم بها موسى فسيخبرونك الخبر الحق ، ويكون ذلك أقوى حيث تتظاهر الأدلة.

ولما أنكر فرعون رسالة موسى مع وجود الآيات التسع ـ وفي هذه إشارة إلى أن طلب قريش تلك الآيات السابقة وإجابتهم لها ليس يدفعهم إلى الإيمان فهذا فرعون وما عمل ـ قال موسى له : لقد علمت يا فرعون ما أنزل هذه الآيات إلا رب السموات والأرض حالة كونها بينات وبصائر تهدى الإنسان النظيف الخالي من عمى القلب تهديه إلى الطريق الحق. ولكنك يا فرعون ما أظنك إلا هالكا ممنوعا من الوصول إلى الخير لأن طبعك يأبى عليك ذلك.

وكان ما كان من أمر فرعون وموسى مما ذكر في غير هذه السورة.

فأراد فرعون بعد هذا أن يخرجهم من أرض مصر مطرودين مبعدين فأغرقه الله هو وجنده ، ونجى موسى ومن معه من بنى إسرائيل ، وأورثهم أرضهم وديارهم وقال الله لهم : اسكنوا الأرض التي أراد فرعون أن يخرجكم منها وهذا جزاء كل جبار عنيد فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم مختلطين. ثم نعطى كل إنسان جزاءه إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

ثم عاد القرآن إلى الكلام عن نفسه فيقول :

وما أنزلنا هذا القرآن إلا بالحكمة والمصلحة العامة النافعة في الدين والدنيا ، وما نزل إلا متلبسا بالحق والخير في الدنيا والآخرة ، وما أرسلناك يا محمد إلا بشيرا ونذيرا وعلى الله الثواب والعقاب.

وقرآنا فرقناه أى : جعلنا نزله مفرقا منجما تبعا للحوادث والظروف لتقرأه على الناس على مكث وتؤدة ليحفظ في الصدور ، وتعيه النفوس ، ويفهم فهما عمليا تطبيقيا إذ

٤٠٠