التفسير الواضح - ج ٢

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ٢

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٨٨٤

عليهم أعمالهم وذنوبهم ، وهو ناقد بصير ، وكفى به بذنوب عباده خبيرا بصيرا. وقد علمنا أن كل شيء في الكون مفصل تفصيلا محكما سواء كان في أمور الدين أو الدنيا ، وكل إنسان له عمل مقدر له لا ينفك عنه ، وهو ملاق حتما جزاء عمله يوم القيامة. وسيقرأ كتابه الذي سجل فيه عمله وإن كل نفس بما كسبت رهينة ، وأن ليس للإنسان إلا سعيه فقط ، ولا يعذب ربك أحدا إلا بعد إرسال الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة وأنه لا فرق بين الفرد والجماعة فالأمة التي تأمر بالطاعات ثم تخرج عن حدودها يدمرها ربك تدميرا. كل هذا يدفع العاقل منا إلى العمل الصالح النافع له في الدنيا والآخرة.

من أراد العاجلة ومن أراد الباقية

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (٢١))

المفردات :

(الْعاجِلَةَ) المراد الدنيا (مَدْحُوراً) مطرودا من رحمة الله (مَشْكُوراً) مثابا عليه (نُمِدُّ) نعطى هؤلاء وهؤلاء من الفريقين (مَحْظُوراً) ممنوعا ...

وهذا حكم آخر من أحكام الله ، وقضاء من أقضيته ، بعد ما مضى من أحكام

٣٦١

المعنى :

من كانت الدنيا أكبر همه ، واتجه بنفسه إلى العاجلة الفانية ، وأرادها بكل جوارحه ، وخصها بكل أعماله ، من كان هكذا عجل الله فيها ما يشاء ويريد ، عجل لمن يريده منهم لا لكل من أحبها ، فترى أن القرآن الكريم قيد التعجيل بأمرين : أولا : يعجل الله بما يشاؤه هو لا بما يحبه العبد ، والثاني : يعجل الله لمن يشاء لا لكل من أراد الدنيا.

ألست ترى كثيرا ممن يحبون الدنيا ويريدون العاجلة ـ وهم القوم الماديون الذين يحبون المال حبّا جمّا ويأكلون التراث أكلا لما ـ يتمنون ما يتمنون ، ولا يعطون إلا بعضا من أمانيهم ، وترى كثيرا منهم يتمنون ذلك البعض. ولا يعطون شيئا أبدا فقد جمعوا بين فقر الدنيا وفقر الآخرة.

هؤلاء الماديون المحبون للدنيا بكل جوارحهم تراهم في الدنيا كما وصف القرآن وفي الآخرة لهم جهنم يصلونها مذمومين من الله والملائكة والناس أجمعين ، ومطرودين من رحمة الله.

أما الصنف الثاني ، وهو من لم يجعل الدنيا أكبر همه بل كان قصده المهم الآخرة ، أرادها ، وسعى لها سعيها المناسب لما لها من فضل وثواب ، والحال أنه مؤمن بالله واثق فيه مصدق به وبكتبه ويومه الآخر فأولئك البعيدون في درجات الكمال والجلال كان سعيهم مشكورا.

يا أخى انظر إلى هؤلاء الذين يريدون بعملهم الآخرة ، ولا يبالون بشيء بعدها فإن أوتوا حظا من الدنيا شكروا ربهم ، وإن منعوا منه رضوا وصبروا معتقدين أن ما هم فيه خير وأبقى.

غنى النفس ما استغنت غنى

وفقر النفس ما عمرت شقاء

انظر إلى السعى المشكور والعمل المأجور ، وقد تقدمه ثلاث إن تحققت فاز صاحبها وشكره ربه.

(أ) قصد الآخرة والاتجاه إليه في كل عمل حتى يكون رائده ثواب الآخرة لا متاع الدنيا.

٣٦٢

(ب) العمل لها عملا يناسبها عملا تاما كاملا خاليا من الرياء والسمعة والغرض الحقير.

(ج) الإيمان العميق بعد الفهم الدقيق ، والإخلاص الوثيق.

فتلك سفن التجارة ، ومركب السعادة وما عدا هذا فمتاع زائل ، وعرض حائل لا غنى فيه ولا خير.

كل واحد ممن يريد الدنيا. وكل واحد ممن يريد الآخرة نمد له في الرزق ونعطيه وكل ميسر له عمل الخير وعمل الشر ، ولم يبق إلا الاختيار والتوفيق والقدرة الصالحة ، وما كان عطاء ربك ممنوعا.

انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض في الرزق ومتاع الدنيا ، وللآخرة وما فيها من نعيم مقيم ، وعطاء جزيل أكبر درجات وأكبر تفضيلا.

روى أن قوما من العرب فيهم الأشراف والعامة وقفوا بباب عمر فأذن لبلال وصهيب فشق على أبى سفيان وأمثاله من أشراف قريش وملوك العرب فقال سهيل : ذلك عمر إنما أوتينا من قبلنا ، إنهم دعوا ودعينا يعنى إلى الإسلام فأسرعوا وأبطأنا ، وهذا باب عمر!! فكيف التفاوت في الآخرة ، ولئن حسدتموهم على باب عمر. فما أعده الله لهم في الجنة أكثر وأعظم.

دعائم المجتمع الإسلامى

(لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (٢٢) وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (٢٤) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ

٣٦٣

فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (٢٥) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (٢٧) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٣٠) وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (٣١) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (٣٢) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (٣٣) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (٣٤) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٣٥) وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (٣٦) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ

٣٦٤

الْجِبالَ طُولاً (٣٧) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (٣٩) أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (٤٠) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤١))

المفردات :

(فَتَقْعُدَ) يجوز أن تكون على معناها الأصلى ، وهي كناية عن عدم القدرة على تحصيل الخيرات ، وقيل هي بمعنى : تصير مأخوذ من قولهم : شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها حربة أى : صارت كأنها حربة (أُفٍ) لفظ يدل على التضجر والاستثقال (وَلا تَنْهَرْهُما) النهر الزجر والغلظة يقال : نهره وانتهره إذا استقبله بكلام يزجره (جَناحَ الذُّلِ) قالوا : إن خفض الجناح للذل كناية عن حسن الرعاية والعناية مأخوذ من أن الطائر يخفض جناحه على أولاده عند تربيتها والعناية بها ، أو هو كناية في التواضع وترك التعالي وذلك أن الطائر يخفض جناحه عند النزول وينشر جناحه عند الطيران (وَلا تُبَذِّرْ) التبذير تفريق المال كيفما كان كما يفرق البذر كيفما كان من غير تعمد لمواقعه (قَوْلاً مَيْسُوراً) قولا حسنا ووعيدا جميلا (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) كناية عن البخل وعدم الإنفاق ، كما أن بسط اليد بحيث لا يعلق بها شيء كناية عن الإسراف (خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) أى : خوف الفقر (خِطْأً) أى خطأ (وَلا تَقْفُ) لا تتبع مالا تعلم مأخوذ من قولك قفوت فلانا إذا أتبعت أثره (مَرَحاً) المرح هو شدة الفرح ويلزمه التكبر والخيلاء في المشي ، وتجاوز الإنسان قدره غالبا (أَفَأَصْفاكُمْ) أى : أفاختاركم وخصكم.

٣٦٥

المعنى :

هذا قبس من نور الذكر الحكيم. يرسل فيملأ القلوب إيمانا واعترافا بأن ذلك القرآن من عند الله لا من عند محمد.

نعم ذلك بعض ما أوحى إلى ذلك النبي من الحكمة والموعظة الحسنة. وهذه الآيات تدلنا على أن محمد بن عبد الله ذلك الإنسان الذي نشأ في بيئة جاهلية بكل معاني الكلمة ، بيئة ، كل همها فتك وقتل وتخريب وإغارة وزنا وخمر ، ووأد البنات مخافة الفقر أو العار لا يمكن أن يكون من عنده هذا النور ، وهذا السمو في الخلق إذ فاقد الشيء لا يعطيه.

أهذه البيئة تخرج مثل ذلك النبي الذي يدعو في هذه الآيات إلى كل خير وبر ، وينهى عن كل إثم وشر؟!! (ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ) ولكنها المعجزة الباقية على أن هذا القرآن من عند الله لا من محمد وإلا فمن علمه ذلك؟ ومن عرفه الأسس والدعائم التي تبنى مجتمعا صالحا طيبا ، فلو اجتمع فلاسفة الأخلاق في القرن العشرين ليبنوا مجتمعا صالحا أتراهم يوصون بهذه الدعائم؟!!

هذه الآيات بدئت بالنهى عن الشرك ثم بالأمر بالإحسان إلى الوالدين إلى آخر ما فيها من معان سامية ثم اختتمت كذلك بإثبات أن ذلك وحى من عند الله بالنهى عن الشرك ، وبيان الجور في حكمهم أن لله البنات ولهم البنين ، وفي النهاية الكلام على القرآن الكريم.

وهذا النسق القرآنى يرشدنا إلى خطر الشرك بالله وأن هذه الأوامر والنواهي مما يتطلبه الدين ويحث عليه ، وتبين لنا أن القرآن الكريم قد صرفه الله على أحسن وجه وأكمله ليذكروا ، ولكن ما يزيدهم ذلك إلا نفورا واستكبارا.

والمناسبة بين هذه الآيات والتي قبلها ظاهرة حيث تكلم القرآن على من أراد الآخرة وسعى لها سعيا وهو مؤمن ، ثم أردف ذلك ببيان السعى الموصل للآخرة بالتفصيل ، مع الكلام على الشرك المحبط للأعمال ، وهاكم الآيات بالتفصيل.

٣٦٦

التوحيد :

(لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً. وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ...).

والخطاب في الظاهر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لبيان أهمية الخبر وخطورته وهو لكل مخاطب لكل أحد ، والمعنى : لا تجعل مع الله الذي خلقك ورزقك إلها آخر على أية صورة وبأى شكل فهو وحده الذي يجب أن يعبد ، إنك إن اتخذت إلها آخر تكن مذموما من الله والملائكة والناس أجمعين ومخذولا من الله حيث عبدت غيره ومن الشريك لأنه لا يملك نفعا ولا ضررا ، وقد قضى ربك ، وحكم حكما لا نقض فيه ولا رجوع أن لا تعبدوا إلا الله وحده لا شريك له. إذ هو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير.

الإحسان إلى الوالدين :

(... وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً. وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً).

وقضى ربك بأن تحسنوا إلى الوالدين إحسانا كاملا في المعاملة ، إحسانا ليس بعده إحسان إذ يجتمع فيهما كل أسباب المودة والعطف ، فمن قرابة قريبة ، إلى صلة وشيجة وجوار كريم ، وعطف سابغ ، وحنان أبوى سليم ، ولا عجب فهما أول من يعطف عليك عطفا غرزيا وأنت في أشد الحاجة إليه ، فمن المروءة أن ترد الجميل لا أقول بأحسن منه فليس هناك جميل يوازى عملهما ، ولهذا ترى القرآن الكريم يجمع بين الأمر بعبادة الله والأمر بالإحسان إليهما وفي آية أخرى يقول. (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) ولا غرابة فوالداك هما اللذان كونا الظاهر من جسمك ، والله الذي خلقك وسواك ونفخ فيك من روحه. اعبده وحده ولا تشرك به شيئا واحسن إلى والديك إحسانا يكافئ ما قدماه لك ، وهذا الأمر بالإحسان عام في كل حال ، ووضعه هنا دليل على أنه من دعائم الدين وأصوله ، وهناك أوضاع خاصة تقتضي التنصيص عليها بخصوصها مثلا :

٣٦٧

إن يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما كلمة ضجر أو تألم ، والكبر ملازم للضعف والعجز والحاجة إلى المعين والناصر الذي يتغاضى عن العيب والأذى (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً).

وليس النهى عن التضجر والتألم خاصا بحالة الكبر بل في كل حال خصوصا التي يتهاون فيها الولد بأبيه لضعفه وعجزه عن الكسب.

وقل لهما قولا لينا لطيفا ، مع حفظ الكرامة ، والأدب والحياء. واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ، وهذه كناية عن حسن رعايتهما ، وتدبير أمرهما فكأنه قال : واضممها إلى نفسك كما فعلا بك وأنت صغير وتواضع لهما ، وألن جانبك معهما ، واخفض لهما الجناح الذليل من أجل فرط الشفقة بهما ، والعطف عليهما إذ هما في حاجة إلى عطف من كان أفقر خلق الله إلى عطفهما.

ولا تكتف بهذا بل قل رب ارحمهما ، وتجاوز عن سيئاتهما فإنهما ربياني صغيرا.

وأنت ترى أن الله بالغ في التوصية بالوالدين مبالغة تقشعر منها جلود العاقين.

وفي السنة الكريمة قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الجنّة تحت أقدام الأمّهات» وقوله : «أتانى جبريل فقال : يا محمد ، رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليك قل : آمين. فقلت : آمين ثم قال : رغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان ثم خرج فلم يغفر له قل : آمين. فقلت : آمين. ثم قال : رغم أنف رجل أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة قل : آمين. فقلت : آمين».

(رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً) وهذا تذييل يعلمنا أن العبرة بالقلب ، وما فيه ، فإن بدرت منه بادرة لم تكن مقصودة منه فالله أعلم به ، ولا يعاقبه عليه ما دامت نيته حسنة وهو من الصالحين ، وإذا تبتم إلى الله وندمتم على ما فعلتم فاعلموا أن الله غفور للأوابين رحيم بهم.

حق ذوى القربى والمساكين وابن السبيل :

(وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) والخطاب في ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٣٦٨

تهييجا وإلهابا لغيره من الأمة والخطاب لكل من هو صالح لذلك ، وحق ذوى القرابة هو صلة الرحم التي أمر الله بها مرارا ، وهل الأمر للوجوب أو الندب وهل تجب للوالد فقط أولهما ولغيرهما من الأقارب كالأخوات وبنى الأعمام.

فعند أبى حنيفة الأمر للوجوب فيجب على الموسر مواساة أقاربه إذا كانوا محارم كالأخ والأخت ، والوالد من باب أولى ، وعند الشافعى ـ رضي الله عنه ـ الأمر للندب ولا تجب إلا نفقة الأصول والفروع دون غيرهما من الأقارب.

والذي ينبغي الاعتماد عليه وجوب صلتهم بما تبلغ إليه القدرة ، والتعاطف أمر قلبي لا يغرسه قانون.

أما حق المساكين وابن السبيل فهو من الصدقة الواجبة أو المندوبة. والأقربون أولى بالمعروف.

ولما أمر بما أمر به ها هنا نهى عن التبذير حتى نكون وسطا فلا إفراط ولا تفريط.

التبذير :

(وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً* إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً).

الإسلام دين ودولة ، وعقيدة وعمل ، وفكرة ونظام ، واجتماع وعمران ولا أدل على ذلك من نهيه عن التبذير وحثه على الاقتصاد ، ولقد كان أسلوب القرآن. ووصفه المبذرين بأنهم إخوان الشياطين أسلوبا لاذعا وتصويرا عمليا أبرز في صورة بشعة حيث كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لنعم ربه كفورا ، وهكذا المبذرون كفروا بنعمة ربهم وفرقوا المال في غير موضعه ، وأسرفوا فيه إسرافا مذموما لمجاوزتهم الحد المستحسن شرعا ، والآية تفيد أن المبذر مماثل للشيطان والشيطان كفور لربه فالمبذر كفور لربه جاحد لنعمته.

وإن أعرضت عن ذوى القربى والمساكين وابن السبيل لضيق يد ولفقد مال ترجو أن يفتح الله به عليك فقل لهم قولا ميسورا سهلا لينا كالوعد الجميل ، والاعتذار المقبول.

٣٦٩

القصد في الإنفاق :

(وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً).

وهذا أمر بالقصد في الإنفاق والتوسط في المعيشة على سبيل التمثيل ، وذلك أن البخيل وقد امتنع عن الإنفاق يشبه رجلا يده مغلولة إلى عنقه فلا يقدر على التصرف بحال ، والمسرف الذي يضيع ماله شمالا ويمينا بغير حساب يشبه رجلا يبسط يده كل البسط حتى لم يبق في كفه شيء.

حقيقة كل فضيلة وسط بين رذيلتين فالتقتير مذموم ، والإسراف مذموم ، والتوسط بينهما محمود شرعا وعقلا ، ولا شك أن البخيل الممسك ملوم من الله والناس ، والمسرف المبذر محسور نادم على ما فرط منه منقطع لا شيء معه.

يا أخى انظر إلى تعاليم القرآن وهديه وإلى السر في ارتقاء الأمم الغربية أفرادا أو جماعات في الاقتصاد والمال ، فهل كان نظام الإسلام يقصر دون أحدث النظم الاقتصادية؟! إن ربك يبسط الرزق ويوسعه لمن يشاء بقطع النظر عن عقله وأصله ، ويقدر الرزق ويقتره على من يشاء من خلقه وهو أعلم بهم (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) [سورة الشورى آية ٢٧].

ولعل فائدة التذييل بهذه الآية بعد الأمر بالقصد ، أننا مأمورون بالقصد لأنه حكمة ، وأما الغنى والفقر فأمر مرجعه إلى الله فقط.

تحريم وأد البنات :

(وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً).

من عادات الجاهلية التي جاء الإسلام يحاربها بأقوى الأسلحة ويصورها للناس بأبشع صورة وأد البنات أى : قتلهم خشية الفقر أو منعا للعار الذي يلحق بهم بسببهم وقد يقتلونهم خشية فقرهم كما هنا ولذلك قال : نحن نرزقهم وإياكم لأنه خاطب الموسرين

٣٧٠

منهم ، وقد يقتلونهم من إملاق حاصل فقال لهم كما في سورة الأنعام : (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) لأنه خاطب الفقراء.

إن قتلهم من الفقر أو العار كان خطئا كبيرا وإثما عظيما.

تحريم الزنى :

(وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً).

الزنى عادة تتنافى مع مبادئ الإنسانية الأولى ، لم يقره شرع أبدا ولم يؤيده قانون ، فيه هتك الأعراض ، واختلاط الأنساب ، وقضاء على الحرمات ، وتقويض دعائم الاجتماع والعمران ، وما شاع الزنى في قوم إلا ابتلاهم الله بالأمراض والأوجاع ، وسلط عليهم الفقر والذل والهوان ، ولقد صدق الرسول حيث يقول : «بشّر الزّانى بالفقر ولو بعد حين». «ومن زنى يزنى فيه ولو بجدار بيته».

(الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [سورة النور آية ٣] ، ولا غرابة إذ يقول الله فيه (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً).

أين دستور الإسلام ، الذي حرم الزنى بهذا الوصف ، من دساتير الغرب التي تبيحه مادامت الزانية بلغت السن وكانت راضية؟! كأن عرضها ملك لها ، وكأن اختلاط الأنساب لا يهم في شيء أبدا ،! فسبحان من هذا كلامه! ولعلكم تتعظون يا أيها الناس!

تحريم القتل :

(وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً).

القتل اعتداء على خلق الله ، وانتهاك لحرمة الله ـ سبحانه وتعالى ـ الله يبنى والقاتل الأثيم يهدم ويعتدى ، والإنسان ليس ملكا لنفسه وحده إنما هو ملك للمجتمع والدولة ، ولذلك حرم الانتحار وحرم قتل النفس إلا بالحق ، فمن قتل نفسه فهو آثم بقتله نفسه ،

٣٧١

ومن قتل غيره فهو معتد أثيم ، ولا يباح إلا بحق من حقوق ثلاث ، فمن قتل مسلما بلا قصاص ، ومن زنى وهو محصن ، ومن ارتد عن الإسلام ، كل أولئك دمهم مهدور ، ومن قتل مظلوما أى : لم يكن يستحق القتل ، وكانت نفسه محرمة فقد جعلنا لوليه الذي يستحق المطالبة بدمه سلطانا على القاتل في القصاص منه فلا يسرف في القتل ، ولا يقتل غير القاتل كعادة الجاهلين الذين كانوا يقتلون الجماعة في الواحد لأنه شرف عظيم في نظرهم ، فهذا مهلهل بن أبى ربيعة يقول حين قتل بجير بن الحارث ابن عباد : بؤ بشسع نعل كليب أخى أى : أنت تساوى نعل كليب ولا يكفيني في كليب إلا قتل آل مرة جميعا ... لا تسرف في القتل يا ولى الدم إنك منصور من الله ومن عامة المسلمين حيث أوجب لك القصاص في القتل.

تحريم أكل مال اليتيم :

(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ).

يربى الإسلام نفوسنا تربية إسلامية عالية ، ويغرس فينا المثل العالية ، وها هو ذا يحرم علينا أكل مال اليتيم لأنه ضعيف مسكين لا حول له ولا قوة ، نهانا عن أن نقترب من مال اليتيم إلا بالطريقة الحسنى تعود على اليتيم بالفائدة فليس الاعتداء على ماله بأى شكل حتى يبلغ أشده ، ويكتمل عقله ورشده فينطبق عليه القانون العام الذي يشمل جميع المسلمين.

الوفاء بالعهد :

(وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) الوفاء بالعهد فضيلة من الفضائل الإسلامية العليا ، وخلف الوعد رذيلة من الرذائل وصفة من صفات المنافقين ، وللأسف الشديد نجد الوفاء بالوعد عند الغربيين الذين لم يحثهم دينهم عليها ، ونحن فينا خلف الوعد كأنه غريزة من الغرائز ، والعهد أمر عام يشمل ما بينك وبين الله والناس ونفسك.

٣٧٢

الوفاء في الكيل والوزن :

(وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) :. هكذا ديننا الحنيف يحارب فينا المادية والأنانية بكل معانيها ويربى فينا السمو والبعد عن الدنية ، والعدل في كل شيء لذا أمرنا بالوفاء في الكيل إذا بعنا لأحد أو اشترينا منه ، وأمرنا بالعدل والقسطاس المستقيم في كل ما نزنه ذلك خير بلا شك وأحسن عاقبة ، إذ بالتجربة أن التاجر الذي يطفف في الكيل أو الوزن هو المبغوض من الناس أجمعين ، وبالعكس التاجر الصادق هو الكسوب الرابح وللأسف نرى عند التجار الأجانب صدقا في الوعد وكمالا في الكيل والوزن.

تتبّع العورات والقول بالحدس :

(وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً).

يرشدنا ديننا الحنيف إلى أننا لا نتبع في سلوكنا الظن والحدس ولا نقفوا ما ليس لنا به علم فلا يصح أن يقول إنسان ما لا يعلم أو يعمل بما لا علم به ولا يليق بك أن تذم أحدا بما لا تعلم وعلى هذا فشهادة الزور وقول الزور والقذف والتكلم في الناس بالظن وتتبع العورات كل هذا محرم شرعا إن السمع والبصر والفؤاد كل واحد من ذلك كان صاحبه عنه مسئولا فيقال له : لم سمعت ما لا يحل لك سماعه؟ ولم نظرت إلى ما لا يحل لك النظر إليه؟ ولم نويت وعزمت على ما لا يحل لك العزم عليه؟ واعلم أن تتبع العورات واستعمال الظن داء أصاب الشرقيين خاصة المسلمين وهو يدل على ضعف النفس وانغماسها في المادة وعدم صفائها.

النهى عن الكبر والخيلاء :

(وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً. كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً).

الكبر والخيلاء مرضان نفسيان ينشآن من مركب النقص الذي يصاب به بعض الناس. فلا يتكبر ولا يختال رجل كبير النفس واسع العقل أبدا ، ولهذا نهى الإنسان

٣٧٣

عنهما نهيا معللا بقوله : إنك لن تخرق الأرض إذا سرت عليها ولن تبلغ بتطاولك الجبال وهذا تهكم بالمتكبر والمختال.

كل ذلك المتقدم من قوله : لا تجعل مع الله إلها آخر إلى هنا كان سيئه مكروها عند ربك ومبغوضا عند العقلاء من الناس.

ذلك إشارة إلى ما تقدم من قوله : لا تجعل مع الله إلها آخر إلى هنا بعض ما يوحى إليك ربك من الحكمة ، حقّا إنه هو الكلام المحكم الذي لا دخل فيه للفساد أبدا. أليس هذا المجتمع الذي يعيش على هذه النظم مجتمعا فاضلا كريما ذا عزة وقوة وفضل ونبل هو المجتمع الإسلامى الذي يدعو إليه الإسلام وأما نحن وأعمالنا فلسنا حجة على الإسلام في شيء.

ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما من الله والملائكة والناس جميعا مطرودا من رحمة الله وقد كرر هذا النهى للتنبيه على أن التوحيد مبدأ الأمر ومنتهاه فإن من لا قصد له بطل عمله ومن قصد بفعله غير الله ضاع سعيه وخاب ظنه.

ولما أمر بالتوحيد ونهى عن الشرك أتبعه بذكر من أثبت الولد له ـ تعالى ـ خصوصا إذا كان الولد أنثى!! أيكرمكم ربكم فيخصكم بالبنين ويتخذ من الملائكة إناثا له؟ أيعقل هذا إنكم لتقولون قولا عظيم إثمه كبير جرمه (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) فإنكم تكرهون البنات وتحبون الذكور فكيف تقسمون الأولاد هكذا الذكور لكم والإناث لله.

وبعد هذا البيان الجامع لأسس الخير والفلاح يقول الله ممتنا على عباده : ولقد صرفنا في هذا القرآن. وبينا فيه كل شيء ليذّكّروا ولكن ما يزيدهم ذلك إلا عتوا ونفورا واستكبارا في الأرض ومكرا وما كان جزاؤهم في ذلك إلا سعيرا وحميما.

الرد على من يدّعى لله شريكا

(قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (٤٢) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (٤٣) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ

٣٧٤

السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤٤))

لما أثبت الله ـ سبحانه وتعالى ـ خطأهم في ادعائهم أن الملائكة بنات الله. قفّى على ذلك بإبطال التعدد وإثبات الوحدانية لله ، والتنزيه له.

المعنى :

قل لهم يا محمد : لو كان مع الله ـ تبارك وتعالى ـ آلهة وشركاء كما تقولون أيها المشركون إذن لابتغوا إلى صاحب العرش سبيلا ولطلبوا طريقا لمقاتلة الله ولتنازعوا على الألوهية. (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [سورة الأنبياء آية ٢٢].

سبحانه وتعالى عن قولهم الإثم واعتقادهم الخطأ سبحانه وتعالى علوا كبيرا مناسبا لمقامه إذ فرق بين الغنى المطلق والفقر المطلق فرق شاسع وبون واسع.

ثم بين ـ سبحانه ـ مظهرا من مظاهر جلال ملكه وعظيم سلطانه وكامل وحدانيته فقال : تسبح له السموات السبع ومن فيها والأرضون السبع ومن فيهن وليس هناك في الوجود شيء إلا يسبح بحمده تسبيحا بلسان الحال ولكنكم أيها المشركون لا تفقهون تسبيحهم كل ما في الكون من إنسان وحيوان وشجر ونبات وجماد وأجرام يدل دلالة قوية على وجود الصانع القادر الواحد المختار فكل شيء يسبح بحمد الله وشكره.

وفي كل شيء له آية

تدل على أنه الواحد

ولكن الذين لا يعرفون لغة الكائنات ودلالة الموجودات لا يفقهون ذلك بل لا يفهمون أصلا.

ومع ذلك إنه هو الحليم بعباده الغفور الذي يغفر عن السيئات ويقبل التوبة من عباده (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) [سورة الأنفال آية ٣٨].

٣٧٥

السر في كفرهم وعنادهم

(وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (٤٦) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٤٧) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٤٨))

المفردات :

(حِجاباً) حاجزا (أَكِنَّةً) جمع كنان وهو الغطاء والستر (وَقْراً) صمما وثقلا في السمع.

المعنى :

وإذا قرأت يا محمد القرآن كله أو أى آية منه جعلنا بينك وبين هؤلاء المشركين الذين لا يعنون بالآخرة حجابا حاجزا وسترا ساترا بحيث لا يبصرون ببصائرهم نور القرآن وهدايته وجعلنا على قلوبهم أكنة وأغطية تحول دون تفهم معاني القرآن وتدبر آياته وأمثاله وجعلنا في آذانهم صمما حتى لا يسمعوا سماع قبول وتدبر.

وهذا تمثيل وتصوير لموقفهم من القرآن وصاحبه وذلك أن حالهم وما نشأوا فيه وبيئتهم وحبهم للرياسة الكاذبة ، وتغلغل الحسد في قلوبهم ، كل ذلك كان بمثابة غطاء

٣٧٦

وحجاب يمنع القلب والبصيرة من أن ترى أو تسمع (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ)؟؟ .. قال الكشاف : ووجه إسناد الفعل إلى ذاته وهو قوله (جَعَلْنا) للدلالة على أنه أمر ثابت فيهم لا يزول عنهم كأنهم مجبولون عليه.

وهم يقولون إن للبدن حواسه التي بها يحس كالأذن والعين وحاسة الشم وحاسة اللمس والذوق ، وللروح حواسه كذلك الباطنية وموضعها القلب وهي المعبر عنها بالبصائر (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج : ٤٦].

فحين ينفى القرآن عنهم حواس السمع والبصر والفؤاد إنما يقصد الحواس الروحية حواس البصيرة القلبية ، وعند ذلك يفهم السر في إعراضهم وكفرهم إذ الحواس معطلة وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده جمحوا ونفروا نفورا ناشئا من أن عقلهم قاصر عن إدراك غير المحسوس المشاهد ، وعقولهم غير مستعدة لإدراك السر الإلهى الأعظم مجردا عن المادة.

نحن أعلم يا محمد بما يستمعون به ، وبهم حين يستمعون إليك ، وسنجازيهم على استهزائهم وكفرهم وقت سماع القرآن إن ربك عليم بما في الصدور. وربك أعلم بما يتناجون به في خلواتهم ، والشيطان معهم إذ يقول هؤلاء الظالمون الذين ظلموا أنفسهم وغيرهم ، إن تتبعون إلا رجلا قد سحر فاختلط عقله ، وزال اعتداله وطاش حكمه.

انظر يا من يتأتى منك النظر كيف ضربوا لك يا محمد الأمثال؟ فقالوا كاهن ، ساحر ، وشاعر ، ومجنون ، فهم قد ضلوا في جميع ذلك عن سواء السبيل فلا يستطيعون طريقا إلى الهدى والحق.

شبهتهم في البعث والرد عليهم

(وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٤٩) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ

٣٧٧

فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (٥١) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (٥٢) وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (٥٣) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (٥٤) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (٥٥))

المفردات :

(رُفاتاً) الرفات : ما بولغ في دقه وتفتيته حتى صار كالتراب وهو اسم لأجزاء ذلك الشيء المفتت ، وقال بعضهم : الرفات التراب بدليل تكرير ذكره في القرآن مع العظام : ترابا وعظاما (فَسَيُنْغِضُونَ) سيحركون إليك رءوسهم تعجبا (يَنْزَغُ) المراد يفسد بينهم بالوسوسة.

لقد سبق الكلام في شأن التوحيد والقرآن والسبب في كفرهم ، وهنا تكلم عن شبههم الباطلة في البعث ، ثم عن البعث مع تحذير المسلمين عاقبة المخالفة لأن الناقد بصير.

المعنى :

نظر المشركون بعقلهم القاصر ، وقلبهم الأعمى إلى نظرية البعث وإعادة الحياة للحساب والثواب والعقاب فقالوا : إذا مات الإنسان جفت عظامه وتناثرت وتفرقت

٣٧٨

أجزاؤه في جوانب العالم ، واختلطت عناصر الجسم بغيرها ، وهب أن إنسانا ابتلعه حوت في البحر وتحول جسمه إلى غذاء له مثلا فكيف يعقل بعد ذلك كله اجتماع أجزاء الجسم ثم عودة الحياة إليها؟!!

وقالوا : أإذا كنا عظاما نخرة ورفاتا مفتتة نبعث؟! ونكون خلقا جديدا له حس وحركة وفيه حياة وإدراك؟!! إن هذا لشيء عجيب! فيرد الله عليهم إن إعادة الحياة إلى الجسم أمر ممكن ، بل هو أهون على الله من خلقه أول مرة ـ وهو أهون بالنسبة إلى إدراكنا وحكمنا وإلا فخلق الجبال والناس جميعا عند الله كخلق ذرة واحدة ـ ولو فرضتم أيها المشركون أن بدن الميت قد صار أبعد شيء عن الحياة بأن صار حجرا أو حديدا أو خلقا آخر مما يكبر في صدوركم وعقولكم كالسماء والأرض فالله قادر على إحيائه وبعثه من جديد.

فسيقولون : من يعيدنا؟ قل لهم : الذي فطركم وخلقكم أول مرة قادر على إعادتكم وإحيائكم للبعث والجزاء فسينغضون إليك رءوسهم ، ويحركونها تعجبا ، ويقولون : متى هذا؟ وفي أى وقت يكون؟ قل لهم : عسى أن يكون قريبا فكل آت قريب ، (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً) [سورة المعارج الآيتان ٦ و ٧].

اذكروا يوم يدعوكم فتستجيبون حامدين طائعين منقادين ، وتظنون عند البعث أنكم ما لبثتم إلا زمنا قليلا لهول ما ترون.

وقل لعبادي المؤمنين يقولوا المقالة التي هي أحسن من غيرها عند محاورة المشركين (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) لأن الشدة في الخطاب تنفر الناس وتجعلهم يعاندون ويستكبرون خصوصا هؤلاء الذين في قلوبهم مرض ، ومعهم الشياطين التي لا تألوا جهدا في إيقاع الفساد والشر فيما بينكم وبين غيركم إن الشيطان ينزغ بينهم ويفسد ، إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا ظاهر العداوة بينها.

ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم ويوفقكم إلى الخير والإسلام أو إن يشأ يعذبكم ولا يهديكم إلى الهدى والنور ، وما أرسلناك يا محمد عليهم وكيلا تحاسب على أعمالهم إن أنت إلا نذير وبشير فقط ، وربك أعلم بمن في السموات ومن في الأرض جميعا علم إحاطة وانكشاف (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)؟ [الملك ١٤].

٣٧٩

ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض ونحن أعلم بخلقنا فموسى كليم الله ، وعيسى كلمته وروح من عنده ، وإبراهيم خليله ، ومحمد حبيبه وخاتم رسله وصاحب الإسراء والمعراج ، ولا تعجبوا من إعطائه القرآن فداود أعطيناه الزبور وفيه أن محمدا خاتم الأنبياء وأن أمته خير الأمم (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) [سورة الأنبياء آية ١٠٥].

مناقشة المشركين في عقائدهم

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (٥٦) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (٥٧) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٥٨) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (٥٩) وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (٦٠))

٣٨٠