التفسير الواضح - ج ٢

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ٢

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٨٨٤

عاقبه من يكفر بالنعمة

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١١٧))

المفردات :

(فَأَذاقَهَا) شبه إدراكهم الضرر والألم بتذوقهم طعم المر (الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ) تقدم تفسيرها في سورة المائدة ..

٣٤١

المعنى :

هذا مثل ضربه الله لكل قرية فيها جماعة من الناس مجتمعين.

وضرب الله مثلا قرية مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان ، جعل القرية التي هذه حالها مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم بالنعم فأبطرتهم النعمة وكفروا وتولوا ، فأنزل الله عليهم نقمته ، وبدل نعمتهم سوءا وسرورهم ألما وحزنا ، وقد ضربها الله مثلا لكل قرية خصوصا مكة.

وانظروا إلى وصف الله أهل القرية بالأمن والطمأنينة فلا يزعجهم خوف ، ولا قلق ثم بالرزق الرغد الواسع الكثير ، ومع هذا قدم نعمة الأمن على نعمة الرزق لعل الناس يعتبرون بهذا ، وأن السيادة في الهدوء والطمأنينة ، هذه القرية التي غمرها الله بفيض من عنده ، ولكنها لما كفرت بأنعم الله ولم تقابل النعمة بالشكر بل قابلتها بالكفر أذاقها الله عاقبة عملها ذوقا عميقا يشبه تذوقهم طعم المر أو أشد.

أما لباس الجوع فاستعارة في لفظ لباس حيث شبه ما يعترى الإنسان الجائع الخائف باللباس لظهور الأثر عليه.

أهل هذه القرية جاءهم رسولهم فكذبوه فأخذهم العذاب ، وهم ظالمون لأنفسهم ، وما ظلمهم ربهم أبدا.

وأما أنتم يا أهل مكة فينطبق عليكم المثل تماما ، فلقد جاءكم رسول من جنسكم يعرفكم وتعرفونه ، وقد أمركم بما ينفعكم فكذبتم فأصابكم العذاب وأنتم ظالمون.

وإذا كان الأمر كذلك فاتركوا ما أنتم عليه من أعمال الجاهلية وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا هنيئا مريئا ، واشكروا نعمة الله عليكم إن كنتم إياه وحده تعبدون ، ولا تحرموا شيئا مما أحله الله لكم ، إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ، وما ذبح على اسم غير اسمه ـ تعالى ـ وأما ما حرمتموه أنتم على أنفسكم من البحيرة والسائبة والوصيلة (انظر تفسيرها في سورة المائدة آية ١٠٤) فشيء لا يلتفت إليه أصلا ..

فمن كان مضطرا لا باغيا ولا معتديا فلا مانع من أكله بقدر إزالة ضرورته فإن الله غفور ستار رحيم بخلقه كريم.

٣٤٢

لما عدد عليهم محرمات الله ، نهاهم عن تحريمهم وتحليلهم بأهوائهم وجهالاتهم دون اتباع شرع الله فقال : ما معناه :

ولا تقولوا القول الكذب لما تصفه ألسنتكم بالحل والحرمة في قولكم ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا من غير استناد في ذلك الوصف إلى وحى من الله أو قياس أو سند شرعي لا تقولوا القول الكذب. هذا حلال وهذا حرام.

والمعنى لا تحرموا ولا تحللوا لأجل قول تنطق به ألسنتكم كذبا وزورا ، ويجول في أفواهكم بلا حجة ولا بينة.

لا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب وتختلقوه إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون أبدا.

وما تراهم فيه في الدنيا فعرض زائل وعارية مستردة ، ومتاع قليل ، ولهم في الآخرة عذاب أليم جدا يصغر بجانبه كل متاع قليل في الدنيا.

نقاش المشركين في معتقداتهم

(وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٩) إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ

٣٤٣

(١٢٢) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤))

المفردات :

(أُمَّةً) لها معان كثيرة والمراد بالأمة هنا الرجل الجامع للخير ، والذي يعلم الناس الخير (قانِتاً) مطيعا (اجْتَباهُ) اختاره ، واصطفاه (حَسَنَةً) المراد نعمة الولد أو الثناء أو الحسن أو النبوة (حَنِيفاً) مائلا عن الشرك والباطل.

المعنى :

ما لكم أيها العرب تحرمون وتحلون من عند أنفسكم؟ بدون الرجوع إلى دين حق أو شرع من الله ، ولا يصح لكم أن تقلدوا اليهود فيما حرم عليهم فعلى الذين هادوا وحدهم حرمنا ما قصصنا عليك من قبل في سورة الأنعام وكان التحريم بسبب ظلم ارتكبوه ، وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ..

ولا تيأسوا أيها المشركون من رحمة الله فإن تبتم قبل الله عملكم وأثابكم وغفر لكم : ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة أى : جاهلين غير عارفين بالله ـ تعالى ـ وعقابه غير متدبرين للعاقبة لغلبة الشهوة عليهم ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا أنفسهم ، وعملوا صالحا إن ربك من بعدها لغفور رحيم.

وأنتم أيها العرب تدعون أنكم على ملة أبيكم إبراهيم ، ولكنكم كاذبون في دعواكم لأن إبراهيم كان أمة وحده جامعا لخصال الخير ، عالما معلما ، فيه من صفات الكمال والخلق ما يوازى ما عند أمة من الناس ، وكان مطيعا لله مائلا عن الشرك وعبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن ، ولم يك من المشركين ، شاكرا لأنعم الله عليه ، اختاره واجتباه ربه ، وهداه إلى صراط مستقيم معتدل لا عوج فيه.

٣٤٤

ثم أوحينا إليك يا محمد أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا ، فما جئت به ليس بعيدا عن شرع إبراهيم بل أنتما متفقان في الدعوة إلى التوحيد والخلق الطيب أما الفروع فلكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا يوافق بيئة كل نبي ووضعه.

إنما جعل إثم السبت ووباله وهو المسخ على الذين اختلفوا فيه وقد اختلف اليهود في السبت فبعضهم عظمه وامتثل أمر الله في تحريم الصيد وبعضهم خالف ذلك ، وروى أنهم اختلفوا في تعظيم يوم السبت وقد كان موسى أمرهم بتعظيم يوم الجمعة.

وإن ربكم ليحكم بينهم يوم القيامة فيما اختلفوا فيه وسيجازى المحسن على إحسانه والمسيئ على إساءته.

منهاج الوعاظ والدعاة

(ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨))

هذه تذكرة الدعاة والمرشدين ، وقانون سنه لهم رب العالمين.

المعنى :

كل خير في الوجود لا بد له من دعاة ومحامين يدافعون عنه ، ويشرحون حقيقته ،

٣٤٥

ويبينون أغراضه ومراميه إذ الحق وحده لا يستوي قائما أمام أعاصير الدنيا ، وألا عيب الشيطان ، وغرائز الإنسان الفطرية التي تدعوه إلى التحلل ، أرأيت إلى النظام الإسلامى في الدعوة والوعظ والخطابة في كل جمعة مرة أو مرتين ، وفي كل عام في الأعياد والمواسم والحج مثلا ، ولكن يجب على الدعاة أن يقتفوا أثر زعيمهم الحبيب المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن يمتثلوا أمر الله فهم به أولى وأحق ، وما أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك إلا لعظم الغاية وشرف المقصد.

ادع إلى سبيل ربك كل من يصادفك فدعوة الإسلام عامة والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرسل إلى الناس كافة ولكن ادع بالحكمة والمقالة المحكمة التي تصيب المحز ، وتحرك النفس ، وتستولى على القلب فتنزع أعراق السوء وتقلع جذور العادات السيئة الموروثة ، ادع إليه بالحكمة ، والموعظة الحسنة التي تستحسنها العقول السليمة ، وتألفها الطباع المستقيمة ، وإن صادفت في طريقك أشياء فجادل بالتي هي أحسن ، ولا تسب الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ، وإياك أن تصادم قوما في معتقداتهم الباطلة قبل أن تهيء نفوسهم وعقولهم لقبول كلامك وإلا كنت داعيا للفرقة والفساد.

واعلم أن من النفوس نفوسا لا تلين بوعظ ، ولا تستجيب لعقل ، وهؤلاء قوم أضلهم الله فأعمى أبصارهم ، وهو أعلم بهم ، فإذا صادفك شيء من هذا فكل الأمر لله ، ولا عليك شيء أبدا ، إن عليك إلا البلاغ والزمن كفيل بتحقيق ما تطلب.

ولا بد من وقوع الخطوة الثانية خطوة العمل والنزاع العملي بعد النقاش الكلامى.

وإن عاقبتم غيركم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم بلا زيادة في الأذى ، بمعنى لو سمح الزمان ومكنكم من أعدائكم الذين أذاقوكم ألوان الشدائد فخذوا منهم القصاص وعاقبوهم بمثل ما عاقبوكم ولا تزيدوا.

ولئن صبرتم على المكروه. ووكلتم الأمر لله فهو خير لكم أيها الصابرون فالصبر خير كله ودعوا الأمر لله.

والصبر!! نعم الصبر هو مطية النجاح ، وسلاح المؤمن بل هو سلاح كل من يريد النصر ، ولا بد منه لكل مسلم أراد أن ينجح في حياته الخاصة والعامة.

٣٤٦

ولقد أثبتت التجارب أن النجاح وليد الصبر فمن صبر نجا ونجح ، ومن تعجل هلك وخسر ، وما صبرك إلا بالله وتوفيقه.

ولا تحزن يا محمد عليهم فالأمر موكول لله ، وهكذا أراد الله ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة.

ولا تك في ضيق وألم مما يمكرون ، ودعهم لمن خلقهم.

إن الله معك وناصرك وحافظك لأن الله مع الذين اتقوا ، وأنت إمامهم ، والذين هم محسنون في عملهم ، وأنت زعيمهم.

وفقنا الله وهدانا إلى الخير والصواب ، وإلى اتباع نصائح القرآن.

٣٤٧
٣٤٨

سورة الإسراء

كلها مكية وقد جزم البيضاوي في تفسيره بذلك ، وقيل : كلها إلا آيات (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ ..) فإنها نزلت حين جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد ثقيف ، وحين قالت اليهود : ليست هذه ـ أى المدينة ـ بأرض الأنبياء ، (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ) و (إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ) فهذه الآيات الثلاث مدنية ، ويظهر والله أعلم أن الأصح رأى البيضاوي ، وعدد آياتها مائة وإحدى عشرة آية. وتسمى سورة بنى إسرائيل.

وهذه السورة عالجت العقيدة الإسلامية في شتى مظاهرها ، فتراها تكلمت عن الرسول ورسالته ، والقرآن وهدايته ؛ وموقف القوم منه ، ثم عن الإنسان وسلوكه وأسس المجتمع الإسلامى السليم ، وامتازت بتنزيه الله عما يقوله المشركون ، وفي ثنايا ذلك كله قصص عن بنى إسرائيل ، وذكرت طرفا من قصة آدم ، وابتدأت الكلام عن الإسراء.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١) وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣))

٣٤٩

المفردات :

(سُبْحانَ) أصل المادة مأخوذة من قولهم سبح في الماء أو الأرض أى : أبعد وتوغل ، ومنه فرس سبوح أى تبعد بصاحبها ففي المادة معنى البعد ، والتنزيه فيه بعد عن النقائص ، وبعد عن صفات العجز ، ولذا قالوا : إن (سُبْحانَ) علم على التنزيه والتقديس والتسبيح ، ولا يستعمل إلا في الذات الأقدس ـ سبحانه وتعالى ـ (أَسْرى) وسرى لغتان في السير ليلا.

المعنى :

سبحان الله أسرى بعبده محمد من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وما أبعد الذي له هذه القدرة القادرة. ما أبعده عن النقائص والسوء ذاتا وفعلا وحكما ، واعجبوا أيها المخاطبون من قدرة الله على هذا الأمر الغريب!! وآمنوا بهذا المجد العالي وهذا الشرف السامي للحبيب المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

سبحانه وتعالى ، وتقديسا له وتنزيها عن كل نقص لأنه الذي أسرى بعبده في جزء من الليل بسيط من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى بالشام الذي باركنا فيه بنزول الأنبياء حوله ، وباركنا فكان فيه الماء والخضرة والزرع والضرع. سرينا به لنريه بعض آياتنا ، وما زاغ البصر في ذلك وما طغى ، ولقد رأى من آيات ربه الكبرى ولا عجب في ذلك كله أنه ـ سبحانه ـ هو السميع لكل قول ، البصير بكل نفس ، الذي يضع الأمور في مواضعها حسب الحكمة ، ووفقا للحق والعدل ، وهو أعلم بخلقه وسيجازى من يؤمن بالإسراء ومن يكفر بها إذ هو السميع البصير.

هذا هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من نسل إسماعيل ، وهذا الشرف السامي للعرب ولأمة محمد في كل زمان ومكان ، شرف الإسراء ولقيا الله ، وإمامة الأنبياء جميعا ، وأما ولد إسحاق أخى إسماعيل وهم بنو إسرائيل الذين يدعون أنهم شعب الله المختار ، وأنهم نسل الأنبياء والمرسلين ، وأنه لا يكون نبي من غيرهم فقد تكلم القرآن الكريم عليهم بعد هذا الفخار العظيم الذي كان لمحمد وأمته حتى توضع الأمور في نصابها وحتى تعرف كل أمة قدرها.

وآتينا موسى الكليم نبي بنى إسرائيل الكتاب : التوراة ، وجعلناه هدى وهداية لعلهم يهتدون ، ولئلا يتخذوا من دوني وكيلا يفوضون إليه أمرهم ، ويعاملونه معاملة الإله.

٣٥٠

يا ذرية من حملناهم مع نوح ، وأنجيناهم من الغرق ، وهديناهم إلى الحق والخير أنتم أولى الناس بالتوحيد الخالص والسير على سنن الأنبياء والمرسلين ، وها هو ذا نوح أبوكم ـ عليه‌السلام ـ كان عبدا شكورا فاقتفوا أثره ، واتبعوا سنته.

وفي تعبير القرآن الكريم (بِعَبْدِهِ) بدل حبيبه مثلا أو بدل اسمه. إشارة دقيقة : إذ حادثة الإسراء والمعراج معجزة خارقة قد تؤثر على بعض النفوس الضعيفة فتضع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غير موضعه كما وضعت النصارى المسيح فقيل : عبده أى : الخاضع لعزه وسلطانه حتى توضع الأمور في نصابها ، على أن وصف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعبودية منتهى الكمال والسمو له.

وفي قوله : (لَيْلاً) وقد تحير فيها المفسرون فإن الإسراء لا يكون إلا ليلا فما فائدة ذكرها؟! ولقد أجابوا على ذلك بأنه لفظ مفرد منكر سيق لبيان أن الإسراء كان في جزء من الليل. ولم يكن من مكة إلى المسجد الأقصى الذي يقع في أيام وليال طوال إلا في جزء من الليل بسيط.

ويقول أستاذنا مصطفى صادق الرافعي في وحى القلم ص ٣٢ في الإسراء والمعراج : والحكمة ـ في ذكر ليلا في الآية ـ هي الإشارة إلى أن القصة قصة النجم الإنسانى العظيم الذي تحول من إنسانيته إلى نوره السماوي في المعجزة ، ويتمم هذه العجيبة أن آيات المعراج لم تجيء إلا سورة «والنجم ...».

قصة الإسراء والمعراج :

وخلاصتها : كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم مضطجعا فأتاه جبريل فأخرجه من المسجد فأركبه البراق فأتى بيت المقدس ، ثم دخل المسجد هناك واجتمع بالأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ ، وصلّى بهم إماما ؛ ثم عرج به إلى السموات فاستحقها جبريل واحدة واحدة فرأى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من آيات ربه الكبرى ما رأى ، وهكذا صعد في سماء بعد سماء إلى سدرة المنتهى فغشيها من أمر الله ما غشيها ، فرأى صلى‌الله‌عليه‌وسلم مظهر الجمال الأزلى ، ثم زج به في النور فأوحى الله إليه ما أوحى ، وكلفه هو وأمته بالصلاة في ذلك المكان المقدس ؛ فكانت الصلاة هي العبادة الوحيدة التي أوجبها الله بنفسه بلا واسطة.

٣٥١

تلك خلاصة خالصة أما وشيها وطرازها فباب عجيب من الرموز الفلسفية العميقة التي لا يقف عليها إلا كل من صفت نفسه وزكت روحه ، ومن هذه الرموز قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فجاءني جبريل بإناء من خمر وآخر من لبن فأخذت اللّبن فقال جبريل : أخذت الفطرة» ، أوليس دين الإسلام دين الفطرة؟!!

ولقد رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذه الرحلة الإلهية العلوية رموزا تشير إلى مجتمع عال نظيف خال من الربا والزنى والسرقة والقتل مع تحلى أصحابه بالجهاد والصدق وحسن الاقتصاد ، وسرعة القيام إلى الصلاة.

أليس في إمامة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للأنبياء جميعا إشارة إلى كمال رسالته ، وأنهم جميعا سبقوه مبشرين به ، وأن من لم يؤمن فما آمن بنبيه فدينه جمع المحاسن كلها ، وكان وسطا بين مادية اليهود وروحانية النصارى ، وكانت أمته وسطا عدولا شهودا على الأمم السابقة ، وقد جمع صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوة موسى ، وزهد عيسى ، وجدل إبراهيم ، وصبر أيوب ، وما امتاز به كل نبي.

وهي تشير إشارة صريحة إلى أن هذا النبي قد سمت روحه الكريمة سموا طغى على الناحية المادية فيه حتى صار نورا إلهيا ونجما سماويا ألم يشق جبريل صدره الكريم ويغسله من أدران المادة؟!! ألم يقل الله (لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) فهذه العبارة نص على ارتفاع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوق الزمان والمكان والحجاب والحواس ، ومرجع ذلك كله إلى قدرة الله لا قدرته هو بخلاف ما لو كانت العبارة ليرى من آيات ربّه فإنها تفيد أن الرؤيا في حدود القدرة البشرية ، وتحويل فعل الرؤيا من صيغة إلى صيغة دليل على تحويل الرائي وهو المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من شكل إلى شكل ومن حال إلى حال فسبحان من هذا كلامه.

أيها المسلمون ..

لا تألفوا العجز والكسل. وفي أول دينكم تسخير الطبيعة.

لا تركنوا إلى الجهل. وأول آية نزلت على نبيكم (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ...)

لا ترتموا في أحضان الراحة وفي صدر تاريخكم صنع المعجزة الكبرى.

٣٥٢

كيف لا تحملون النور إلى العالم :!! ونبيكم هو الكائن الروحي العظيم ، والنور الإلهى الأعظم!!

كيف لا تحملون القرآن بينكم؟!! وهو التبيان لكل شيء ، والنور لكل حي ، والشفاء والرحمة ، والهدى والنور للناس أجمعين!!

ولست أدرى كيف يختلفون في الإسراء؟! وهل كانت بالجسد والروح أو بالروح فقط!!! ولو كانت بالروح فقط لما آمن بها بعض الناس وكفر البعض إذ كان إنسان يرى في منامه ما يستحيل عليه في يقظته ، وفي العلم الذي أوقفنا على سرعة الضوء ، والصوت واختراق الهواء الأرضى مما يؤيد ذلك.

خلاصة لتاريخ بنى إسرائيل

(وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (٨) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ

٣٥٣

الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٠) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (١١))

المفردات :

(وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) أوحينا إليهم (وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً) لتستكبرن على الله ولتستعلن على الناس بالبغي والظلم مجاوزين الحدود (أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) أصحاب قوة وبطش في الحروب (فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ) في القاموس الجوس بالجيم طلب الشيء باستقصاء مع التردد خلال الديار والبيوت ففي اللفظ معنى للتفتيش والتنقيب خلال الديار أى : وسطها (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ) المراد ثم رددنا لكم الدولة والغلبة عليهم (أَكْثَرَ نَفِيراً) النفير من ينفر مع الرجل من عشيرته ، وقيل : جمع نفر وهم المجتمعون للذهاب إلى العدو (وَلِيُتَبِّرُوا) أى : يهلكوا (ما عَلَوْا) أى : مدة علوهم واستكبارهم ، وقيل المراد : البلاد التي علوها وغلبوا أهلها (حَصِيراً) سجنا ومحبسا إذا الحصر والحصير فيه معنى المنع والحبس.

وهذا امتداد للكلام على بنى إسرائيل ، وبيان لتاريخهم وما ينتظرون من بيان بعض الحكم النافعة.

المعنى :

وأوحينا إلى بنى إسرائيل في التوراة وحيا مقضيا أى : مقطوعا بحصوله بأنهم يفسدون في الأرض مرتين.

وأقسمنا لتفسدن في أرض الشام وبيت المقدس أو في كل أرض تحلون فيها لتفسدن مرتين ، ولتفسدن نفوسكم بمخالفة ما شرعه لكم ربكم في التوراة ، لتفسدن مرتين : أما أولاهما : فبمخالفة التوراة وقتل بعض الأنبياء ، والثانية ـ بقتل زكريا وقيل : بقتل يحيى ، والعزم على قتل عيسى ابن مريم ؛ وقيل : غير ذلك.

٣٥٤

ولتعلن وتتجاوزن حدود الشرع والعقل بالبغي والظلم والتعالي على الناس والكبر.

فإذا جاء وعد أولاهما ، وحان وقت العقاب الموعود به في الدنيا على المرة الأولى بعثنا عليكم عبادا من عبيدنا أولى بأس وقوة ، أصحاب عدة في الحروب وعدد ، وهؤلاء القوم الذين أغاروا عليكم قد جاسوا خلال الديار ، وفتشوا البلاد ، ونقبوا عليكم ليستأصلوكم بالقتل والتشريد ، وهكذا كل أمة تفسد في الأرض بالبغي والظلم ، حتى تفسد نفوس أبنائها وتطغى لا بد من أن يرسل الله عليها من يذلها ويذيقها سوء العذاب جزاء فسادها ، ولو كان المؤدب لها من الكفار المشركين (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) ، وهذا قضاء محتوم ، وسنة لا تتخلف ، ووعد محقق ، وكان وعد ربك مفعولا حتما.

هذا الدرس القاسي الذي تلقاه بنزول إسرائيل على يد المغير ، قيل : هو بختنصر وقيل : هو جالوت ، وقيل : جند من بابل أو فارس ، والله أعلم بذلك ، وليس القرآن كتاب تاريخ حتى تلزمه ببيان الشخص أو الجماعة بالضبط مع تحديد المكان والزمان ، ولكن القرآن جاء للعبرة والعظة ، والنظرة العليا التي هي أسمى من هذا وذاك ، لعل الناس يعتبرون بالحوادث.

هذا الدرس القاسي الذي تلقوه أثمر معهم فثابوا لرشدهم ، ورجعوا عن غيهم وتمسكوا بكتابهم ودينهم فكانت النتيجة كما قال الله.

ثم رددنا لكم يا بني إسرائيل الكرة عليهم ، وأعدنا لكم الدولة والغلبة عليهم (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) أو أمدكم الله بالأموال والبنين وأمدكم بالسلاح والرجال المخلصين وجعلكم أكثر نفيرا مما كنتم عليه ، وهكذا سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا.

إن أحسنتم العمل أحسنتم لأنفسكم لأن نتيجة العمل وثوابه لكم ، وإن أسأتم العمل بالفساد والبغي فلأنفسكم فقط ، كل نفس بما كسبت رهينة (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى * لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) فإذا جاء وعد المرة الآخرة ، وحان موعد العقاب فيها بعثنا عليكم رجالا ليذيقوكم سوء العذاب وليجزوكم بالقتل والسبي حزنا تظهر علاماته في وجوهكم ، وليدخلوا المسجد الأقصى كما دخلوه في أول مرة للتخريب والتدمير وإحراق التوراة ، وهتك المقدسات عندكم ، وليهلكوا ما علوه وغلبوكم عليه من الأرض والزروع والثمار هلاكا شديدا.

٣٥٥

وقد كان جالوت هو الذي سلط عليهم في أول مرة ثم لما قتل داود جالوت رد عليهم ملكهم ودالت الدولة لهم مدة من الزمن حتى فسدوا وظلموا وقتلوا زكريا وقيل يحيى فأرسل الله لهم بختنصر فأذاقهم الخسف والعذاب للمرة الثانية وقيل غير ذلك كما مر.

وكان هذا الدرس من الله تأديبا لكم وتهذيبا ، عسى ربكم يا بني إسرائيل أن يرحمكم بهذا ، وإن عدتم للمرة الثالثة عدنا إلى عقوبتكم بأشد مما مضى.

إن عادت العقرب عدنا لها

بالنعل والنعل لها حاضرة

وقد عادوا للمرة الثالثة فكذبوا محمدا وافتروا الباطل عنادا وجحودا وهم أدرى الناس به ، بل ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم أو أشد. فعاقبهم الله على ذلك بقتل بنى قريظة وإجلاء بنى النضير وضرب الجزية عليهم.

هذا في الدنيا. أما في الآخرة فقد جعل الله لهم جهنم محبسا وحصيرا لا يفلت منهم أحد أبدا.

وما لكم يا بني إسرائيل المعاصرين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مالكم لا تؤمنون؟ وأنتم تعلمون أن هذا القرآن المنزل على محمد يهدى للتي هي أقوم ، ويدعو إلى الصراط المستقيم. أليس يدعو إلى البر والخير ، والتعاون والتساند. ويأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ، وعدم الشرك والبعد عن الزنى والقتل والزور والبهتان وأكل مال اليتيم والتطفيف في الكيل والميزان والتعامل بالربا والقسوة في المعاملة إلى آخر ما هو معروف؟!!

(وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) إن هذا القرآن يهدى الناس إلى الطريقة المثلى ، ويدعو إلى خيرى الدنيا والآخرة ويبشر المؤمنين العاملين الخير والصلاح بأن لهم أجرا كبيرا في الدنيا والآخرة وأن الذين لا يؤمنون ولا يعملون الخير أعد لهم ربهم عذاب جهنم وبئس المصير.

ويدعو الإنسان ربه بالشر ـ عند غضبه ـ على نفسه وأهله وماله كما يدعوه لهم بالخير وكان الإنسان عجولا أى : خلق وفي غريزته حب العجلة والسرعة ، لهذا جنح كثير من المفسرين ، وبعضهم فسر الإنسان بالكافر خاصة ودعاؤه الشر هو استعجاله العذاب استهزاء وكفرا بالنبي ، والعذاب آتيه لا محالة ...

٣٥٦

ألا يصح أن نفهم الآية على أن الإنسان قد يدعو ربه ، ويلح في طلب شيء هو في الواقع شر ولكنه يظنه خيرا فيدعو ربه له كما يدعوه للخير ، وذلك ناشئ من العجلة وعدم التأنى ، في الفهم والتأكد فيه ، وكان الإنسان عجولا ، ألم نطلب المال والجاه ونلح في طلبنا وندعو لله فيه وقد يكون في تحقيق ما طلبنا حتفنا وهلاكنا؟!! ولو أمعنا النظر ولم نتعجل ما ألحفنا في طلبنا ، ولا غرابة فخلق الإنسان عجولا.

بقي شيء آخر ما السر في وضع هذه الآية هنا؟

أليس فيها إشارة إلى أن هؤلاء اليهود في موقفهم من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكفرهم به طلبا للدنيا ، واستجابة لدعاء الشر قد آثروا العاجلة على الباقية ولو أمعنوا النظر ودققوا الفهم ما عملوا شيئا من هذا!!! فهم دعوا الشر وطلبوه في الواقع ونفس الأمر كدعائهم الخير ، وما دفعهم إلى ذلك إلا حب العاجلة ، وإيثار الفانية على الباقية والعجلة في إدراك الأمور.

من نعم الله علينا

(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (١٢) وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (١٥) وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها

٣٥٧

فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧))

المفردات :

(آيَتَيْنِ) علامتين دالتين على القدرة (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ).

أى : جعلنا آية الليل ممحوة لا نور فيها (عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) يقول العلامة الشوكانى في كتابه فتح القدير في تفسير الآية : «والفرق بين العدد والحساب أن العدد إحصاء ما له كمية بتكرير أمثاله كالسنة المكونة من ٣٦٥ يوما ، والحساب إحصاء ماله كمية بتكرير أمثاله من حيث يتحصل بطائفة معينة منها حد معين منه له اسم خاص ؛ فالسنة مثلا إن نظرنا لها من ناحية أنها أيام فقط فذلك العدد ، وإن نظرنا لها من حيث تكونها من شهور اثنى عشر وكل شهر ثلاثون يوما مثلا وكل يوم أربع وعشرون ساعة فذلك هو الحساب» (طائِرَهُ) عمله المقدر له ولعل السر في ذلك أن العرب كانوا يتشاءمون ويتباشرون بالطير عند طيرانه فكانوا يستدلون بالطير على الخير والشر والسعادة والشقاوة وكانت لهم علوم ومعارف في ذلك قال شاعرهم :

خبير بنو لهب فلا تك ملغيا

مقالة لهبى إذا الطير مرت

ولما كثر منهم ذلك سموا نفس الخير والشر بالطائر تسمية للشيء باسم لازمه وقال أبو عبيدة عن علماء اللغة : الطائر عند العرب : الحظ والمقدر للشخص من عمر ورزق وسعادة وشقاوة كأن طائرا يطير إليه من وكر الأزل ، وظلمات عالم الغيب طيرانا لا نهاية له ، ولا غاية إلى أن ينتهى إلى ذلك الشخص في وقته المقدر من غير خلاص ولا مناص ، وقوله تعالى : في عنقه كناية عن لزوم ذلك له لزوم القلادة للعنق إن كان خيرا أو الغل للعنق إن كان شرا (وِزْرَ) الوزر الحمل والثقل والمراد الإثم (مُتْرَفِيها) متنعميها وأترفته النعمة أطغته.

وهذا سيل آخر من بيان نعمه وفضله وفيه بيان لهداية القرآن وبشارته.

٣٥٨

المعنى :

يقول الحق ـ تبارك وتعالى ـ ، وجعلنا الليل والنهار آيتين دالتين على قدرتنا وبديع صنعنا وأحكام نظامنا ، وذلك لما فيهما من الظلام الدامس والنور الساطع ، وما فيهما من تعاقب واختلاف (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) وانظر إلى الليل وهدوئه العميق وقمره المنير ، ونجمه الذابل وقد سكن الكون فيه وهدأت الطبيعة. ثم انظر إلى النهار وما فيه من حركة وضجيج. وذهاب ومجيء ، وإلى الشمس وضحاها والنهار إذا جلاها ، والليل إذا يغشاها والسماء وما بناها. إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون.

فمحونا آية الليل ، والمعنى : محونا آية هي الليل كما نقول دخلت مدينة القاهرة أى مدينة هي القاهرة ، ومحوناها أى : جعلناها ممحوة الضوء والحركة لأنها كانت مضيئة ثم محيت (وفي هذا إشارة إلى هدوء الليل وسكونه) ؛ وجعلنا آية هي النهار مبصرة أى : يبصر فيها الرائي وينظر إلى ما حوله فيحس به ويتحرك تبعا لذلك ، وهكذا تنبعث الحياة والحركة ، ويولد النشاط والعمل لتبتغوا بذلك فضلا من ربكم ورزقا ، فالرزق تابع للحركة والسعى والعمل والله الموفق.

ولتعلموا باختلاف الجديدين وهما الليل والنهار عدد السنين ، والحساب ، فلو كان الليل والنهار لا يختلفان في شيء أبدا من حركة وسكون ونور وظلام وطول وقصر وبرد ودفء لما تيسر معرفة السنين وحسابها ، انظر إلى القطبين وما جاورهما هل يصلحان للحياة؟ كلا!!!.

وكل شيء مما تفتقرون إليه في شئون دينكم ودنياكم فصلناه تفصيلا وبيناه تبيينا عن طريق الإجمال أو التفصيل ، لئلا يكون للناس على الله حجة ، فيهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حي عن بينة ، وكل إنسان ألزمناه طائره من حظه المقدر وعمله الذي سيعمله في عنقه فلا يمكنه الانفلات منه بل هو أمر محتوم ، وقضاء معلوم وكل ميسر لما خلق له ، وليس معنى هذا نفى الاختيار الذي هو مناط الثواب والعقاب.

ونخرج له يوم القيامة كتابا بين يديه يلقاه منشورا أمامه ، كتابا لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، وقد وجد الكل ما عمله حاضرا ، ولا يظلم ربك أحدا ،

٣٥٩

ويقال له : اقرأ يا هذا كتابك ، وكفى بنفسك في هذا اليوم عليك حسيبا وشهيدا أى : محاسبا وشاهدا.

وإذا كان الأمر كذلك فمن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه فقط لأن ثواب عمله له ، ومن ضل في عمله فإنما يضل على نفسه فقط ، فكل شخص محاسب عن نفسه مجزى بطاعته ، معاقب على معصيته ، ثم أكد هذا بقوله ، ولا تزر وازرة وزر أخرى أى : ولا تحمل نفس حاملة للوزر وزر نفس أخرى حتى تخلصها من وزرها ، وتأخذ به الأولى ، وقد كانوا يقولون ، نحن لا نعذب في شيء وإن كان هناك عقاب فهو على آبائنا ، إذ نحن مقلدوهم فقط ، فرد الله عليهم أبلغ رد وآكده.

وما كنا معذبين أحدا من الناس حتى نبعث رسولا يهديهم ، ويدعوهم إلى الخير ، ويحذرهم من الشر ، وهذه الآيات تحثنا على العمل وتدفعنا إلى الجد وعدم الكسل ، وإذا أردنا أن نهلك قرية من القرى ـ وقد دنا وقت إهلاك أهلها ولم يبق من زمان إمهالها إلا قليل أمرنا مترفيها بالطاعات ففسقوا عن أمر ربهم ، وخرجوا من طاعته.

والأمر للجميع مترفا كان أو غير مترف ، وغنيا كان أو فقيرا ، ولكن لما كان الأمراء والأغنياء هم القادة وغيرهم تبع ، والعامة شأنها التقليد دائما ، قيل :

أمرنا المترفين الأغنياء حتى كأن الفقراء غير مأمورين.

(وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) [سورة إبراهيم آية ٢١].

وقيل إن المعنى : أمرنا مترفيها أى : جعلناهم كثرة يعيثون في الأرض فسادا. وللزمخشري في كشافه رأى في قوله : أمرنا مترفيها خلاصته : أن هذا الأمر مجازى لا حقيقى ، ووجهه أنه صب عليهم النعمة صبّا فجعلوها ذريعة إلى المعاصي واتباع الشهوات فكأنهم مأمورون بالفسق لتسبب النعمة في ذلك ، والنعمة أعطيت للشكر لا الكفر. فلما كفروا وفسقوا حقت عليهم كلمة العذاب فدمرهم تدميرا وفي قراءة أمرنا مترفيها أى : جعلنا أغنياءها حكامها وقادتها ، وفي الأمم الضعيفة الجاهلة يكون هؤلاء الأمراء الأغنياء مصدر الشقاء والهلاك للأمة كلها.

وكثيرا ما أهلكنا أمما من بعد نوح لما بغوا وعصوا ، والله ـ جل جلاله ـ يحصى

٣٦٠