التفسير الواضح - ج ٢

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ٢

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٨٨٤

ومن ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه سكرا وخمرا ، وتتخذون رزقا حسنا في مطعمكم ومأكلكم ، فثمر النخيل والعنب وما شاكلهما يتخذ منه عصير الخمر ، ومادة الأكل والرزق الحسن.

يقولون إن هذه أول آية نزلت في تحريم الخمر ، وقد نزلت بمكة لأن السورة مكية ، وتحريم الخمر في المدينة ، وقد سأل بعضهم كيف تكون هذه أول آية في تحريم الخمر؟ ولأنها أول آية في تحريم الخمر التي امتدت جذورها وتأصلت عند العرب كانت الإشارة فيها للتحريم إشارة بعيدة الغور ، حيث كانت ثمرات النخيل والعنب سكرا ورزقا حسنا فوصف الرزق منها بأنه حسن وترك السكر دليل على أنه ليس بحسن ، وفي هذا إشارة إلى خلو ذلك من الخير والحسن ، وفي الآيات التالية لتحريم الخمر أبان خطرها وضررها ، والآية الكريمة التي معنا دلالة على قدرة الله وعظمته إن في ذلك لآية لقوم يعقلون.

وأوحى ربك إلى النحل ، وجعل من غريزتها وطبعها ذلك. أوحى لها أن اتخذى من الجبال وكواها بيوتا ، وكذلك من الشجر وجوفه ، ومما يعرش ابن آدم ، ويصنع لك ويهيأ من الخلايا على النظام القديم والحديث وقد أوحى الله لها وألهمها أن كلى من رحيق كل الثمرات ، يا سبحان الله هذا الكون وحدة لا يتجزأ ، ولا يمكن أن يكون نظامه مصادفة ، بل لا بد له من إله مدبر عالم حكيم قوى قادر ، هذه النحلة التي ألهمت تأكل من كل الثمرات ، وتدخل في أكمام الأزهار تبحث عن الغذاء هي التي تنقل على أجنحتها تلقيح الأزهار من الذكر إلى الأنثى من حيث لا تشعر ، ويظهر أن لكل كائن في الوجود رسالة يؤديها علم بها أو لم يعلم ، أوحى لها أن كلى من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك مذللة طائعة.

يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه هو العسل.

يا سبحان الله!! لقد صدق من قال : ورق التوت : يأكله الدود فيخرج منه الحرير ، ويأكله الظبى فيخرج منه المسك ، ويأكله النحل فيخرج منه العسل ، ويأكله المعز فيخرج منه الروث.

هذا العسل فيه شفاء للناس ، نعم فيه شفاء لكثير من الأدواء ، ولقد حدثنا أستاذنا الدكتور محمد جعفر عن فوائده الطبية بما به عرفنا أن فيه شفاء لكثير من أمراض الناس.

٣٢١

إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون ويتعظون.

من عجائب قدرة الله وآياته ووجدانيته

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠) وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٧١) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧٤))

المفردات :

(أَرْذَلِ الْعُمُرِ) أردؤه (يَجْحَدُونَ) يكفرون (حَفَدَةً) جمع حافد وهو المسرع في الخدمة المسارع في الطاعة ولذا قيل الحفدة هم الأعوان والخدم ، والرأى أنهم أولاد البنين.

٣٢٢

المعنى :

هذا لون آخر من ألوان صنعه الباهر ، ومظهر من مظاهر قدرته وألوهيته في الإنسان ، وما يتصل به بعد بيان ذلك في المطر والنبات والحيوان.

والله خلقكم يا بنى آدم ، ولم تكونوا شيئا ثم يتوفاكم عند انقضاء آجالكم ، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر وأردئه (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ. ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) (١). (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً) (٢) فمن يكبر في السن حتى يبلغ أرذل العمر يفقد قوة إحساسه وشعوره العام ، بل ويصبح كالطفل من ناحية إدراكه ورغبته في تحقيق ما تصبو إليه نفسه ، ولقد صدق الله حيث علل بلوغه أرذل العمر بقوله : (لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً) من العلم لا كثيرا ولا قليلا بعد علم كان قد حصل له ، أما تحديد أرذل العمر فذلك موكول إلى ظروف الإنسان ، وإن كان الغالب أن يكون بعد الخامسة والستين.

وهذا حكم غالبى ففي الحديث ما معناه : «خير الناس من طال عمره وحسن عمله ، وشر الناس من طال عمره وساء عمله».

والله فضل بعضكم على بعض في الرزق ، ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليتخذ بعضكم بعضا سخريا ، ولم يترك الله الغنى يعبث بماله حيث شاء ، بل جعل للفقير في ماله حقا معلوما ، وللدولة ممثلة في الحاكم المسلم حق آخر تبعا لظروف الدولة العامة.

ومع هذا فما الذين فضلهم الله بسعة الرزق على غيرهم برادي رزقهم ـ الذي أعطاه الله لهم بلا سبب ـ فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم من عبيدهم وإمائهم فالمالكون والمملوكون في الرزق سواء عند الله إذ هم أنفقوا من مال جعلهم الله خلفاء عليه.

ومعنى الآية بالتوضيح أن الله فضل بعضا على بعض في الرزق ، وأوجب على الغنى أن يعطى الفقير ، وعلى المالك أن يعطى المملوك ، ومع هذا فلم يعط غنى فقيرا ولم يرد مالك على مملوك رزقا حتى يتساوى معه ، وإنما يردون عليهم شيئا يسيرا ، وندرا قليلا في بعض الأحيان.

وهذا مثل ضربه الله للناس بمعنى : إذا كنتم لم ترضوا أن يكون خدمكم معكم

__________________

(١) سورة التين الآيتان ٤ و ٥.

(٢) سورة الروم الآية ٥٤.

٣٢٣

بل والفقير من جلدتكم وعصبتكم يكون معكم سواء في الرزق الذي رزقكم إياه الله فكيف تجعلون عبيدي معى سواء؟! وتجعلونهم لي شركاء في الألوهية ، وأنتم وخدمكم سواء في البشرية وأنتم تنفقون مما جعلكم خلفاء فيه ، ومع هذا ما رضيتم بالتساوي ، فكيف تسوون بين الخالق البارئ فاطر السموات والأرض وهذه الأصنام والأوثان؟!

أتشركون به فتجحدون نعمته عليكم التي ذكر جزء منها في هذه السورة؟! والله جعل لكم من أنفسكم وجنسكم أزواجا لكم تسكنون إليهم ، وجعل بينكم مودة ورحمة ، وجعل لكم منهم بنين وحفدة.

ورزقكم من الطيبات التي تستطيبونها في الدنيا ؛ أعموا؟ فبالباطل من الشركاء والأصنام يؤمنون به وحده ، وبنعمة الله البينة السابقة التي لا تعد ولا تحصى هم يجحدون ويكفرون؟! ويعبدون من دون الله أشياء لا تملك لهم رزقا أى رزق من السموات والأرض ، ولا يستطيعون هذا أبدا ، وانظر إلى الجمع بين نفى الملك ، ونفى الاستطاعة ، وإذا كان الأمر كذلك فلا تضربوا لله الأمثال والأشباه والنظائر فلله المثل الأعلى ، وهو لا يشبه أحدا من خلقه أيا كان ، واعلموا أن البحث في كنه ذات لله إشراك ، والوقوف عند ما أجمله الله إدراك.

وقد كانوا يقولون ، إن الملوك تخدمهم الأكابر ، والأكابر تخدمهم العبيد فهؤلاء أصنام نتخذهم قربى وواسطة إلى الله العلى الكبير ، وهذا خطأ فاحش ، وفهم سقيم وقياس الخلق على الخالق.

ليس بينك وبين الله حجاب ، وليس له وزير ولا حاجب بل هو أقرب إلينا من حبل الوريد ، وهو الذي يقول : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة ١٨٦].

إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون شيئا فاسمعوا وأطيعوا يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى ...

٣٢٤

مثل الأصنام والأوثان

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٧٥) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧) وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩))

المفردات :

(أَبْكَمُ) الأبكم من ولد أخرس ، وقيل : الذي لا يسمع ولا يبصر (كَلٌ) ثقل على وليه وقرابته ، ووبال على صاحبه وابن عمه ، ولذا يسمى اليتيم كلا لثقله

٣٢٥

على من يكفله (كَلَمْحِ الْبَصَرِ) اللمح النظر بسرعة (مُسَخَّراتٍ) مذللات لأمر الله تعالى (جَوِّ السَّماءِ) الجو هو ذلك الفضاء اللانهائى المحيط بالأرض.

المعنى :

ضرب الله مثلا للأصنام المعبودة وهي لا تنفع ولا تضر ، والله الواحد الخالق البارئ فاطر السموات والأرض ، واهب الوجود ، والمنعم بكل شيء موجود ، ضرب الله مثلا : عبدا مملوكا لمالكه ، وهو لا يقدر على شيء أبدا ، فلا ينفع نفسه ولا غيره ، وحرا رزقناه منا رزقا حسنا ، وأعطيناه مالا وفيرا ، فهو ينفق المال سرا وجهرا في جهات الخير والبر ، هل يستوي هذا الذي لا خير فيه مع هذا الحر الغنى المنفق في وجوه البر والخير؟ هل يستوي الضار مع النافع؟!

لا يستوي هذا وذاك أيضا! ، ومن يسوى بين الصنم من حجارة أو خشب الذي لا يدفع عن نفسه الذباب وبين المولى القدير ـ جل جلاله ـ وتباركت أسماؤه صاحب اليد والنعم ، وله ملك السموات والأرض ، يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء.

الحمد لله ، والثناء بالجميل والشكر الجزيل لله الواحد القهار المنعم بجلائل النعم ، والمتفضل بجلائلها ، لا مانع لما أعطى. ولا معطى لما منع ، هو المستحق وحده للحمد والثناء لا إله إلا هو ، بل أكثرهم لا يعلمون الحق فيتبعوه ، ويعرفوا المنعم عليهم بالنعم الجليلة فيخصوه وحده بالتقديس والتنزيه.

ثم ضرب الله ـ سبحانه ـ مثلا ثانيا لنفسه ولما يفيض على عباده من النعم الدينية والدنيوية ، وللأصنام التي هي أموات بل لم تسبق لها الحياة وهي لا تضر ولا تنفع فقال.

وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم عيى مفحم ، مقطوع اللسان أخرس ، لا يقدر على شيء أبدا لعدم فهمه ، وعدم قدرته على النطق ، لا يقوم بحاجته ، ولا يؤدى عمله وهو كل على مولاه ، وثقل على قرابته ، هذا الإنسان الأبكم الذي لا يقدر على تحصيل شيء أبدا ، وهو كل على مولاه ، أينما يوجهه إلى أى جهة أخرى لا يأت بخير قط لأنه لا يفهم ولا يعقل ما يقال له.

٣٢٦

هل يستوي هذا الذي وصفناه هو والذي يأمر بالعدل ، ويسير بالعدل ، ويحكم بالعدل ، ويأمر بالعدل ، وينطق ويفهم ويتصرف على أتم وجه وأكمله؟!

وهو في نفسه على صراط مستقيم ، ودين قويم ، وسيرة صالحة لا إفراط فيها ولا تفريط.

وحاصل الوصفين في المثل الثاني أن الأول لا يستحق شيئا ، والثاني يستحق أكمل وصف ، والمقصود الاستدلال بعدم تساوى هذين الموصوفين على امتناع التساوي بينه وبين ما يجعلونه شريكا له.

ولما فرغ من ذكر المثلين أخذ يتحدث عن نفسه فقال :

ولله وحده ـ سبحانه ـ غيب السموات والأرض ، يختص بذلك لا يشاركه أحد من خلقه ، وما أمر الساعة التي هي محط الأنظار ، ومحل البحث والجدل بين المنكرين وبين الذين يؤمنون بالبعث ويوم الساعة ، إلا كلمح البصر ، أو غمضة العين ، أو هو أقرب. وهذا مثل في وصف سرعة القدرة على الإتيان بها لأن الله إذا أراد شيئا قال له كن فيكون ، إن الله على كل شيء قدير.

والله أخرجكم من بطون أمهاتكم ، لا تعلمون شيئا ، وجعل لكم طرق العلم ، وسبل الإدراك وهي السمع والبصر والفؤاد ، لتدركوا البيئة التي أنتم فيها ، وتقفوا على أسرارها ، والله خلق كل هذا لكي تصرفوا كل حاسة فيما خلقت له ، ولعلكم بهذا تشكرون ربكم الذي أنعم عليكم بهذه النعم ، ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ومذللات للطيران في أرجاء الفضاء ، ما يمسكهن وهن طائرات إلا الله ، ألم يروا إلى الطائر يطير في الجو باسطا جناحيه أو قابضهما ما الذي حمله في الهواء وهو جسم ثقيل؟ ومن الذي خلق في الطائر حب الطيران؟ وذلّله وعلمه كيف يطير الله ـ سبحانه وتعالى ـ ..

من نعم الله علينا

(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ

٣٢٧

وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٨٠) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (٨٣))

المفردات :

(سَكَناً) أى : تسكنون فيها وتهدءون (تَسْتَخِفُّونَها) يصير خفيفا عليكم حملها (ظَعْنِكُمْ) الظعن سير أهل البادية للانتجاع وللانتقال من موضع إلى آخر (أَثاثاً) الأثاث متاع البيت ، وفيه معنى الكثرة ، ومنه شعر أثيث أى كثير (أَكْناناً) جمع ـ كن وهو الغار يتحصن فيه الإنسان من المطر ، ويأوى إليه من وهج الشمس وضوضاء الناس (سَرابِيلَ) جمع سربال وهو القميص أو كل ما يلبس.

هذا امتداد لبيان نعم الله على خلقه ، وتعداد آيات الله على عبيده بعد ما ثبت أن آلهتهم لا تضر ولا تنفع ، وفي هذا تنفير من الشرك وغرس لبذور التوحيد ، وكشف لمظاهر قدرة الله ونعمه علينا.

المعنى :

والله جعل لكم من بيوتكم التي تأوون إليها سكنا وراحة ، فيها تسكنون ، وبها تهدءون ، وجعل لكم من جلود الأنعام إبلها وبقرها وغنمها بيوتا يتخذها المسافر ويأوى إليها ، وتكون خفيفة في حملها ونقلها يوم سفركم وانتقالكم ويوم إقامتكم.

٣٢٨

وجعل من أصوافها وأوبارها وأشعارها ـ فللغنم الصوف ، وللجمال الوبر ، وللمعز الشعر ـ جعل من الصوف والوبر والشعر أثاثا لبيوتكم ، وجعل لكم فيها متاعا تتمتعون به إلى حد وزمن الله يعلمه ، ملابسنا اليوم وأثاثنا في المنازل قد يكون غير هذه الأشياء ، والله جعل لكم مما خلق من الأنعام والبيوت والجبال ظلالا تستظلون بها من وهج الشمس ، وزمهرير البرد.

والله جعل لكم من الجبال أكنانا ومغارات تأوون إليها من العدو أو خوفا من الشمس أو من زحمة الناس ، وجعل لكم سرابيل ولباسا تلبسونها فتقيكم الحر والبرد ، وسرابيل تقيكم بأسكم في الحرب والشدائد ولقد لبس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لباس الحرب ودروعها ولأمتها استعدادا للقاء العدو ، والله يفعل ما يشاء.

مثل ذلك الإتمام البالغ نهايته يتم عليكم نعمته في الدنيا والآخرة للدين والدنيا رجاء أن تسلموا لله وتنقادوا لصاحب هذه النعم وتتركوا عبادة الأوثان والأصنام واتباع الهوى والشيطان.

فإن تولوا وأعرضوا عنك يا محمد. فلا عليك شيء أبدا إنما عليك البلاغ المبين ، وعلينا الحساب والجزاء.

هؤلاء الناس يعرفون نعمة الله بلسانهم فإذا سألتهم من صاحبها؟ قالوا : هو الله ، ثم ينكرونها بأفعالهم وعبادتهم غير الله.

وأكثرهم الكافرون الجاحدون وأقلهم المؤمنون الصادقون.

مشهد من مشاهد يوم القيامة

(وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ

٣٢٩

قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (٨٦) وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩))

المفردات :

(يُسْتَعْتَبُونَ) أصل العتب من عتب عليه يعتب إذا وجد عليه وأنكر عليه فعله وأعتبه أزال عتبة وترك ما كان يغضب عليه لأجله ، واستعتبه استرضاه ، والاسم العتبى وهو رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضى العاتب ، ومنه في الحديث «لك العتبى يا ربّ حتى ترضى» وقول النابغة الشاعر الجاهلى يعتذر للنعمان ابن المنذر.

فإن كنت مظلوما فعبدا ظلمته

وإن كنت ذا عتبى فمثلك يعتب

والمراد أنهم لا يقبل منهم عتاب ، ولا يكلفون بأعمال ترضى ربهم في الآخرة (السَّلَمَ) الاستسلام والانقياد لعذابه (تِبْياناً) بيانا كاملا بكل شيء.

بعد بيان آيات الله التي ترشدنا إلى التوحيد الخالص ونعمه على الناس وبيان أن منهم المؤمنين وأكثرهم الكافرون أخذ يتكلم عن مشاهد يوم القيامة لعل فيها عبرة وعظة.

المعنى :

واذكر لهم يا محمد يوم نبعث من كل أمة من الأمم شهيدا عليهم بالإيمان والكفر

٣٣٠

والتبليغ والرسالة. انظر إلى قوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [سورة النساء آية ٤١] ، ثم لا يؤذن لهؤلاء الكفار في الاعتذار والدفاع عن أنفسهم إذ لا حجة لهم ، وإيراد «ثم» يفيد أن منعهم من الكلام والاعتذار أشد عليهم من شهادة الأنبياء والرسل عليهم.

ولا هم يستعتبون إذ لا فائدة من العتاب مع العزم على السخط وعدم الرضا ، ولا هم يسترضون أى : يكلفون أن يرضوا ربهم لأن الآخرة ليست دار تكليف وعمل :

وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم يوم القيامة ـ وقد رأوا بأعينهم ما وعدهم ربهم حقا قالوا : ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوهم ونعبدهم من دونك!! يا حسرتنا على ما فرطنا في جنبك يا رب وهم يقصدون بذلك إحالة الذنب والإثم على هؤلاء الشركاء. وهذا عمل المتخبط المتحير في عمله.

أما الشركاء فألقوا إليهم القول ، وردوا إليهم دعواهم أسوأ رد ، قالوا لهم : إنكم أيها الشركاء ، لكاذبون فيما تزعمون وتدعون ، وتعللون به أنفسكم.

وألقى المشركون إلى الله يومئذ السلم ، واستسلموا لقضاء الله مكرهين وانقادوا لعذابه الشديد ، وضل عنهم ما كانوا يفترونه ويدعونه من أن لله شركاء ستشفع لهم ، وتدفع عنهم السوء.

الذين كفروا ، وصدوا عن سبيل الله وهو طريق الحق والإسلام زدناهم عذابا فوق العذاب ، وألما فوق الألم بما كانوا يفسدون. ويوم نبعث من كل أمة شهيدا يشهد عليهم من أنفسهم إتماما للحجة ، وقطعا للمعذرة ، وتأكيدا لما مضى.

وجئنا بك يا محمد شهيدا على هؤلاء الأنبياء ، فأنت الحكم العدل الذي تقضى بين الأمم وأنبيائها ، وكتابك الذي أنزل عليك هو المهيمن على ما سبقه من الكتب وشاهد على رسالاتهم.

ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ، وكان كتابك فيه البيان الشافي والدواء الناجع الذي لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) [سورة الأنعام آية ٣٨] وهو الهداية للناس ، والراحة والبشرى التامة للمسلمين خاصة.

٣٣١

وفي كتاب الكشاف للزمخشري في تفسير هذه الآية «فإن قلت : كيف كان القرآن تبيانا لكل شيء؟ قلت. المعنى : أنه بين كل شيء من أمور الدين حيث كان نصّا على بعضها أو أحاله على ما فيه باتباع رسول الله وطاعته (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) أو حثا على الإجماع في قوله. من (يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى) وقد رضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأمته ابتاع صحابته والاقتداء بآثارهم في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابى كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ، وقد اجتهدوا وقاسوا وسلكوا طريق القياس والاجتهاد ، فكانت السنة والإجماع والقياس والاجتهاد مستندة إلى تبيان فمن ثم كان القرآن تبيانا لكل شيء.

وهذا القرآن الكريم وروافده من سنة وإجماع وقياس قد بينت لنا النظام الإسلامى الدقيق الشامل لكل نواحي الحياة من دين ودنيا وقيادة وعبادة ، فالنظم الاقتصادية والسياسية والحربية والاجتماعية وغيرها تصلح لكل زمان ومكان موجودة في هذا الفيض الإلهى ، وبأسلوب مرن يتفق مع أحدث النظريات العلمية ، وهذا هو النظام الذي وصفه الإله العليم الخبير بخلقه فهلموا إليه أيها المسلمون وفقكم الله إلى الخير.

أجمع آية للخير والشر

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٩١) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً

٣٣٢

بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٩٤) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٦))

المفردات :

(بِالْعَدْلِ) بالإنصاف ، والتوسط في الأمور ، والمساواة (وَالْإِحْسانِ) إحكام العمل وإتقانه ، ومقابلة الخير بأكثر منه والشر بأقل منه (الْفَحْشاءِ) من الفحش وهو الإفراط في القبح (وَالْمُنْكَرِ) ما أنكره الشرع ، وأباه العقل السليم (وَالْبَغْيِ) التطاول والظلم وتجاوز الحد (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ) نقض اليمين الحنث فيه وعدم الوفاء به (كَفِيلاً) شاهدا ورقيبا (نَقَضَتْ) أفسدت (مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ) أى إحكام له (أَنْكاثاً) جمع نكث بمعنى منكوث وهو المنقوض ، ونكث ونقض بمعنى واحد (دَخَلاً) الدخل الفساد والخديعة (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها) فتسقط بعد ثبوتها على ساحل الأمان.

٣٣٣

هذا بيان عملي ، وتفسير لقوله تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) ولا شك أن العدل والإحسان ـ بالمعنى العام ـ ووحدة القلوب بإعطاء ذي القربى ، والبعد عن الفحشاء والمنكر من جميع الأفراد ، والتباعد عن البغي والظلم ، والوفاء بالعهد ، وعدم نقض المعاهدات كل ذلك : دعائم لإخراج مجتمع إسلامى نظيف ، مجتمع قوى عزيز ، مجتمع كان أمل الفلاسفة والمصلحين ، وفي هذا رد على من يفهم الدين على أنه عبادة فقط أنه دين لا دولة أو أنه لا يصلح لكل زمان ..

المعنى :

إن الله يأمر فيما أنزله عليك يا محمد بالعدل والإنصاف والتوسط بلا إفراط ولا تفريط ، أليست كلمة العدل مع وجازتها قد جمعت كل حق وعدل وفضل وواجب في الدين والدنيا.

ويأمر بالإحسان والإتمام والكمال ، وعبادة الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك .. يا سبحان الله تربية إلهية ، وتأديب رباني وغرس المراقبة لله في القلوب ، وهذا خير للناس عظيم.

وبإيتاء ذي القرى ... والعطاء مطلقا شيء ندبه الدين وحببه إلينا خصوصا مع الأقارب فهو يثل السخائم ، ويجمع القلوب ، وينزع الضغائن ويظهرنا صفا واحدا كالبنيان المرصوص ، والقريب له أمل خاص فإن لم تعطه مع حاجته كان شرا عليك.

وينهى عن الفحشاء ، والفحش كل ما فيه تجاوز لحدود الله المحدودة ومعالمه المرسومة فمن تجاوزها هلك ، وباء بالخسران المبين.

أما المنكر فهو ما أنكره العقل السليم والطبع المستقيم والدين الحنيف فكيف تأتيه ، وفيه بلاء عظيم وخطر جسيم؟! يعظكم ربكم بهذا رجاء أن تتذكروا وتثوبوا إلى رشدكم ، وترجعوا عن غيكم. إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون.

وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا ، وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ، وعهد الله عام شامل جامع لكل عهد بينك وبين ربك أو بينك وبين نفسك أو بينك وبين غيرك

٣٣٤

كل ذلك عهد الله إن عهده كان مسئولا ، ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وتأكدها وليس النهى خاصا باليمين المؤكدة. بل كل يمين وإنما المؤكدة إثمها أعظم وهذا التعظيم مخصوص بما ثبت في الصحيحين من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الّذى هو خير وليكفّر عن يمينه».

وكيف تنقضونها؟ وقد جعلتم الله عليكم كفيلا ، وشاهدا وحفيظا ، وإن الله يعلم ما تفعلون.

ثم أكد وجوب الوفاء وتحريم النقض فقال :

ولا تكونوا فيما تفعلون من النقض كالتي نقضت وأفسدت ما غزلته من بعد قوة وإحكام وعمل وإجهاد ، نقضته أنكاثا ونقضا شديدا ، بل ولا تنقضوا أيمانكم متخذيها دخلا وفسادا بسبب أن تكون أمة هي أربى وأزيد من جماعة أخرى.

والمعنى لا تتخذوا الأيمان دخلا وخديعة للناس بسبب أن تكون جماعة أقوى من جماعة فتنقضوا اليمين لمصلحة تافهة حقيرة.

إنما يبلوكم الله بهذا ، وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون ومن بلائه للناس أن جعلهم مختلفين ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ، ولو شاء ربك لجعلهم أمة واحدة لا اختلاف فيها أبدا ، ولكن لحكمة هو يعلمها يضل من يشاء ممن رأى في سابق علمه أنه لو ترك ونفسه لما فعل إلا الضلال والبهتان ، ويهدى من يشاء ممن اطلع عليه في سابق الأزل فرآه يميل إلى الخير ولو ترك وشأنه لما فعل إلا الخير.

ولتسألن عما كنتم تعملون ، وأما ربك فلا يسأل عما يفعل ـ سبحانه وتعالى ـ ، ويظهر والله أعلم أن القرآن أعاد النهى عن اتخاذ الأيمان دخلا لأنها أيمان خاصة في البيعة مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدليل المبالغة في قوله فتزل قدم بعد ثبوتها ، ولا تتخذوا أيمانكم فسادا وخديعة بينكم ثم تنقضوها فتزل قدم بعد ثبوتها ورسوخها ، وهذه استعارة للمستقيم الحال يقع في شر عظيم وبلاء كثير كمن تزل قدمه فيقع في الخطر ، وتذوقوا العذاب السيئ الشديد بما صددتم عن سبيل الله فإن الذي يبايع ويدخل في الدين ثم يخرج منه كان دخوله وخروجه مشجعا لغيره وداعيا للفساد ومزلزلا لعقائد العامة ، ولكم عند ذلك عذاب عظيم.

٣٣٥

ولا تشتروا بعهد الله وأيمانه ثمنا قليلا وعرضا تافها بسيطا حيث تنقضونه إن ما عند الله خير جزاء وأحسن ثوابا إن كنتم تعلمون.

ما عندكم ينفد قطعا فكل آت قريب وكل شيء هالك وما يصادفنا ينتهى بانتهاء وقته وما عند الله باق لأنه هو الذي ينفع ثوابه ، ويدخر جزاءه ولنجزين الذين صبروا في الله وجاهدوا فيه حق جهاده أجرهم بأحسن جزاء وأكرم مثوبة بسبب ما كانوا يعملون (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها).

من آداب القرآن وتوجيهه

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧) فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ

٣٣٦

الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٠٥))

المفردات :

(سُلْطانٌ) تسلط وقوة (بَدَّلْنا آيَةً) رفعنا آية وجعلنا موضعها غيرها (رُوحُ الْقُدُسِ) أى : جبريل (يُلْحِدُونَ) يميلون إليه ويشيرون (أَعْجَمِيٌ) العجمة في لسان العرب الإخفاء وضدها البيان ، ورجل أعجم وامرأة عجماء أى : لا يفصح.

المعنى :

من عمل عملا صالحا سواء كان ذكرا أو أنثى أو بأى صفة كانت وهو مؤمن بالله واليوم الآخر ومصدق بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلنحيينه حياة طيبه كريمة حياة فيها سعادة ونعيم ، وقناعة وغنى عن الغير ، حياة فيها توفيق واتجاه إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ ، لا ضنك فيها ولا تعب : يقول عبد الله التستري : «الحياة الطيبة هي أن ينزع عن البعد تدبيره ويرد تدبيره إلى الحق» وقيل هي الاستغناء عن الخلق والافتقار إلى الحق هي كما يقول القرآن بأبلغ عبارة : حياة طيبة : هذا في الدنيا وأما في الآخرة فلنجزينهم أجرهم كاملا بأحسن ما كانوا يعملون.

ومعنى الاستعاذة بالله اللجوء إليه لجوءا صحيحا حتى يطرد من قبله الشيطان الرجيم ووسوسته له ، وحتى يكون قلبه مخلصا وعمله لله.

إنه ليس للشيطان سلطان ولا قوة على المؤمنين المتوكلين إنما سلطانه وقوته على الذين يتولونه والذين رسخ في نفوسهم حب المادة وحب الدنيا والذين هم بربهم يشركون ، وهذا كقوله تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ). [الحجر ٤٢]

٣٣٧

وفي الآية الآتية شبهة واهية للمشركين ... وإذا بدلنا آية مكان آية ورفعنا آية وجعلنا مكانها آية أخرى ، أو أنزلنا حكما وجعلنا مكانه آخر لحكمة الله أعلم بها ، وهو أعلم بما ينزله من القرآن.

قال هؤلاء المشركون : إنما أنت مفتر كاذب ، بل أكثرهم لا يعلمون ، راجع بحث النسخ في القرآن في آية (ما ننسخ) جزء ثان.

قل لهم يا محمد : أنزله روح القدس جبريل من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا ونزله هدى وبشرى للمسلمين.

كان هنا غلام للفاكه بن المغيرة واسمه جبر وكان نصرانيا فأسلم وكان المشركون إذا سمعوا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما مضى وما هو آت مع أنه أمى لم يقرأ قالوا : إنما يعلمه جبر وهو أعجمى فقال الله تعالى : عجبا لكم لسان الذي تشيرون إليه وتقولون إنه علمه ، لسان أعجمى ولغته أعجمية ، وهذا القرآن الذي نزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عربي مبين.

ولا غرابة في افترائهم فهم دائما غير موفقين إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم ربهم إلى خير أبدا ، ولهم عذاب أليم ، وأما محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا يمكن أن يفترى كذبا ، وهو الصادق الأمين ، الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك البعيدون في درجات الكفر والضلال هم الكاذبون الضالون.

المرتدون عن الإسلام والعياذ بالله

(مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧) أُولئِكَ

٣٣٨

الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٠٩) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١١١))

المفردات :

(شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) فتحه ووسعه والمراد اطمأن صدره له (غَضَبٌ) أشد من اللعن الذي هو الطرد من رحمة الله (اسْتَحَبُّوا) اختاروا وأحبوا (فُتِنُوا) اختبروا بالعذاب. لا يزال الكلام في نقض البيعة والعهد ؛ والردة عن الإسلام نقض البيعة الكبرى.

المعنى :

من كفر بالله ورسوله من بعد إيمانه ، وارتد عن دين الإسلام ـ والعياذ بالله ـ فعليه غضب الله ولعنته ، وله عذاب عظيم ، إلا من أكره على الكفر وكان قلبه مطمئنا بالإيمان ، عامرا باليقين. فليس عليه شيء من العذاب ولكن من شرح بالكفر صدرا ، واطمأن إليه ودخل في غماره راضية نفسه مطمئنا قلبه ، فعليه الغضب من الله وله العذاب العظيم.

ذلك الجزاء الوافي بسبب أن المرتدين استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة ، واختاروا العاجلة وآثروها على الباقية ، وأن الله لا يهدى القوم الكافرين خصوصا هؤلاء الذين

٣٣٩

ذاقوا شيئا من حلاوة الإيمان ثم رجعوا إلى خبث الشرك وسوء الردة أولئك البعيدون في درجات الضلال الذين طبع الله على قلوبهم وختم عليها فلم يهتدوا إلى نور ولا إلى يقين ، وطبع على سمعهم وعلى أبصارهم فلم يدركوا شيئا من الخير والنور الإلهى ، إذ لا شك أن من يؤثر العاجلة على الفانية رجل لا قلب له ولا عقل ، وأولئك هم الغافلون عن مصلحتهم الحقيقية الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم ، حقا لا شك فيه أنهم في الآخرة هم الخاسرون خسارة كاملة وافية.

روى عن ابن عباس قال : أخذ المشركون عمارا وأباه ياسرا ، وأمه سمية وصهيبا وبلالا. وخبابا وسالما ، فعذبوهم ، وربطوا سمية بين بعيرين ووجئ قبلها بحرية وقيل لها : إنك أسلمت من أجل الرجال (وفي رواية إن الذي قال لها وفعل بها هو أبو جهل) وقتلت سمية بسبب ذلك ، وقتل زوجها ياسر فكانا أول قتيلين في الإسلام ومن أجله ، وأما عمار فأعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها فشكا ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كيف تجد قلبك؟ قال مطمئن بالإيمان فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فإن عادوا فعد» ومن هنا قال القرطبي في تفسيره : «أجمع أهل العلم على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل فإنه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان ، ولا تبين منه زوجته ولا يحكم عليه بكفر» وفي الحديث «رفع عن أمّتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» وللفقهاء في حكم المكره أقوال وتفصيلات يحسن الرجوع إليها في كتب الفقه.

ثم إن ربك للذين هاجروا وجاهدوا وصبروا أى : لهم بالمعونة والنصر والتأييد من بعد ما فتنوا وعذبوا ثم جاهدوا وصبروا بعد ذلك إن ربك من بعدها لغفور رحيم. والمعنى في الآية أن من يفتن في دينه فيتكلم بكلمة الكفر مكرها ، وصدره غير منشرح للكفر إذا صلح عمله وجاهد في سبيل الله وصبر على المكاره فالله غفور رحيم به ، وثم التي في الآية لبيان بعد مرتبة من فتن في دينه وصبر ولم ينطق بالكفر عن مرتبة من فتن وكفر مكرها.

واذكر يوم تأتى كل نفس وذات تجادل عن نفسها ، وتوفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون وهذا وصف جامع ليوم القيامة.

٣٤٠