التفسير الواضح - ج ٢

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ٢

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٨٨٤

المفردات :

(تُسِيمُونَ) ترعون ، والسائمة التي ترعى (وَما ذَرَأَ لَكُمْ) أى : وسخر ما خلق لكم ، ومن ذرأ أخذت الذرية وهي تشمل الثقلين إلا أن العرب تركت همزها (أَلْوانُهُ) أشكاله ومناظره (مَواخِرَ) جواري فيه تذهب وتجيء مقبلة ومدبرة بالريح وأصل المخر شق الماء عن يمين وشمال (رَواسِيَ) جبالا ثابتة (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) خوف أن تضطرب يمينا وشمالا بكم من ماد يميد إذا تحرك ومال (وَعَلاماتٍ) هي معالم الطرق بالنهار.

المعنى :

لما ذكر الله ـ سبحانه وتعالى ـ ما أنعم به علينا من الأنعام والدواب شرع في ذكر نعمته علينا في المطر والنبات ، وما يتبع ذلك من ذكر السماء ونجومها والبحار وسفنها.

هو الذي أنزل من السماء ماء عذبا فراتا لكم منه شراب تسيغونه ليس ملحا بل هو النمير الصافي إذ أصله بخار تكاثف في الجو ثم حمله الريح إلى حيث شاء ثم نزل مطرا شرب منه الحيوان ونبت بسببه شجر وزرع ، فيه تسام الدواب وترعى (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ).

ينبت لكم ربكم به الزرع بجميع أصنافه وأشكاله ، وينبت لكم به الزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات الأخرى التي لم يعرفها العرب المخاطبون بهذا الكلام أولا ، إن في ذلك لآية ودلالة على وحدانية الله وقدرته لقوم يتفكرون ، نعم إن في عملية المطر وخروجه من ماء البحر الملح ثم صعوده إلى السماء ونزوله منها حيث شاء ثم إنبات الزرع والشجر المختلف الأشكال والألوان بسببه مع أن الماء واحد والأرض واحدة ، إن في ذلك كله لآيات ودلائل لقوم يتفكرون ..

هو الذي سخر لكم الليل والنهار يتعاقبان ، الليل للسكون والهدوء والنوم والراحة ، والنهار للحركة وكسب الرزق ، وسخر الشمس والقمر كل في فلك يسبحون ذللها للنور والضياء ، والحياة والدفء والحرارة ولتعلموا عدد السنين والحساب بمسير الشمس

٣٠١

والقمر ، والنجوم مسخرات بأمره لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر ، إن ذلك لآيات لقوم يستعملون عقولهم في فهم حقائق الكون الذي هم فيه.

هو الذي سخر لكم ما خلق في الأرض جميعا على اختلاف أشكاله وألوانه (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) (١) إن في ذلك لآية لقوم يتذكرون ويتدبرون ، وهو الله ـ سبحانه وتعالى ـ الذي سخر البحر وذلله وجعله خاضعا وهو صاحب قوة وبطش فجعلنا نحده بالجسور والقناطر ، ونركبه ، ونتخذه طريقا لنقل أنفسنا ومتاعنا إلى حيث نشاء ، وجعل فيه ـ سبحانه ـ السمك ولحمه الطري والحلية من اللؤلؤ والمرجان ، ومكننا من كل ذلك ونرى السفن الكبيرة الثقيلة محمولة على ظهر البحر وتشق الماء شقا ، وتمخر عبابه وهي كالبلد المتنقل ، سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا ، ولتستخرجوا منه حلية تلبسونها ، ولتبتغوا من فضله بالتجارة والرحلات والأسفار ، وقد من الله علينا بذلك لننتفع ولعلنا نقوم بواجب الشكر علينا.

هو الذي ألقى في الأرض رواسى من الجبال الشامخات لئلا تميد بكم الأرض وتضطرب عند دورانها وتحركها ، وجعل لكم فيها أنهارا كنهر النيل والفرات والمسيسبى وغيرها وجعلها سبلا وطرقا لربط أجزاء الأرض ولنقل التجارة والمصالح ، وجعلها علامات وحدودا ، وفي الأرض علامات أخرى وحدود من أنهار وجبال وآكام ، وفي السماء نجوم نهتدي بها في الظلمات وسبحان الله عما يشركون.

هذا هو الخلاق المنعم فأين الشركاء؟!

(أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١) إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢٩.

٣٠٢

فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣))

المعنى :

هذا خلق الله فأرونى. ماذا خلق الذين من دونه؟ أرونى ماذا خلقوا من الأرض؟ أم لهم شركاء في السماء؟!!

عجبا لكم أيها المشركون. أفمن يخلق مما تقدم كمن لا يخلق؟ أعميتم فلا تذكرون وتتعظون؟

ما تقدم من أنواع الخلق بعض نعم الله علينا وهذا في الواقع قطرة من بحر ، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها أبدا. ولا تطيقوا حصرها ، فكيف بأداء شكرها والقيام بحقها؟ ومع هذا فالله هو الغفور الرحيم بكم ، فأنت مهما عملت لله فعملك لا يوازى نعمة واحدة من نعمه ، ولعلك تدرك السر في ختم الآية بالمغفرة والرحمة.

الله خلق جميع الخلق ما نعلم وما لا نعلم ، وهو صاحب النعم التي لا تحصى ولا تحصر ، وهو الغفور الرحيم ، والله يعلم ما تسرون وما تعلنون إذ هو عالم الغيب والشهادة اللطيف الخبير.

والذين تدعونهم من دون الله آلهة. وشركاء لله ، لا يخلقون شيئا بل هم يخلقون ، وهم أموات غير أحياء أى : هم أجساد ميتة. لا حياة فيها أصلا ، فزيادة (غير أحياء) لبيان أنها ليست كبعض الأجساد التي تموت بعد ثبوت الحياة لها ، بل لا حياة لهذه أصلا فكيف يعبدونها وهم أفضل لأنهم أحياء ، وهم أموات ، إن هذا لعجيب!!

وهؤلاء الأصنام لا تشعر في أى وقت يبعث عبدتهم من الكفار ، وهذا ضرب من التهكم بهم عظيم إذ شعور الجماد بالأمور الظاهرة والمحسوسة مستحيل فكيف بالأمور الخفية التي لا يعلمها إلا الله؟!!

٣٠٣

إلهكم أيها الناس إله واحد لا إله إلا هو المعبود بحق إذ هو وحده الخالق المدبر لهذا الكون ، وهو فاطر السموات والأرض فكيف يعبد غيره من المخلوقات بل من الأحجار والأوثان والجمادات؟!!

وإذا كان هو الحق لا شك فيه ، فما سبب هذا الشرك؟

الذين لا يؤمنون بالآخرة وما فيها ، ولا يؤمنون بالوحدانية ، قلوبهم منكرة لا يؤثر فيها وعظ ، لا ينفع معها تذكير ، والحال أنهم مستكبرون عن الحق متعالون على الصواب ، دائبون على الكفر والجحود ، حقا إن ربك يعلم ما يسرون وما يعلنون ، وهو مجازيهم على أفعالهم ، إنه لا يحب المستكبرين أبدا ، ألست معى أن سبب الكفر هو غلق القلوب وختمها بالخاتم حتى لا يدخلها نور؟ وهؤلاء لا يسمعون وإن كانت لهم آذان ، ولا يبصرون وإن كانت لهم عين ، ولا يفقهون وإن كان لهم قلب ، وذلك أن روحهم خبيثة مظلمة بداء الكبر والتكبر ، ولقد كان امتناع وليهم إبليس عن امتثال أمر ربه لسبب واحد هو التكبر (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [ص ٧٦] (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) [الإسراء ٦١] ولقد صدق الله : (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ) [غافر ٥٦].

المستكبرون وجزاؤهم

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٢٥) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٦)

٣٠٤

ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩))

المفردات :

(أَساطِيرُ) أباطيل وترهات القدماء (أَوْزارَهُمْ) ذنوبهم (الْقَواعِدِ) الأسس التي عليها البناء (تُشَاقُّونَ) تعادون أنبيائى بسببهم (الْخِزْيَ) الهوان والذل (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ) المراد استسلموا وأقروا لله بالربوبية.

المعنى :

الذين لا يؤمنون بالآخرة ، قلوبهم منكرة ، وهم مستكبرون ، وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم؟ : أى شيء أنزله ربكم؟ ومن هو السائل؟ هل هو الوافد عليهم أو هو واحد من المسلمين أو هو النضر بن الحارث؟ وقال هذا تهكما قالوا في الجواب عن السؤال : ما تدعون نزوله عليكم أيها المسلمون إن هو إلا أساطير الأولين وأباطيل المتقدمين.

قالوا هذه المقالة لكي يحملوا أوزارهم وذنوبهم كاملة غير منقوصة يوم القيامة وليحملوا أوزار من يضلونهم ويتبعونهم في ذلك بغير علم ، وهم العوام فمن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ، ألا ساء ما يحملون! وبئس شيئا يحملونه هذا.

٣٠٥

ولا غرابة في ذلك فها هي ذي حال من تقدمهم من الأمم يحكيها الحق ـ تبارك وتعالى ـ بقوله : قد مكر الذين من قبلهم ، وفعلوا المكايد لدين الله ، واحتالوا بكافة الطرق (أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) (١) هؤلاء الماكرون قديما قد أتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم ، وهذا تمثيل والمعنى : أهلكهم الله فكانوا بمنزلة من سقط عليه بنيانه ، وأحبط الله أعمالهم ، وأبطل كيدهم ، وانظر إلى السر في قوله تعالى : من فوقهم والسقف لا يكون إلا من فوق. السر هو تأكيد سقوط السقف ، وهلاكهم تحته بسببه ، وأتاهم العذاب من كل مكان ومن حيث لا يشعرون ، فاعتبروا يا أهل مكة ، هذا عذابهم في الدنيا .. أما في الآخرة فها هو ذا.

ثم يوم القيامة يخزيهم ويذلهم ، ويقول بواسطة الملائكة لهم تأنيبا وتهذيبا : أين شركائى؟ أين آلهتكم التي عبدتموها من دوني؟ أين الذين كنتم تشاقون فيهم رسلي ، وتعادونهم؟!!

قال الذين أوتوا العلم من الملائكة والمؤمنين : إن الخزي اليوم والهوان ، والذل والحسرة والسوء على الكافرين وحدهم.

الذين تتوفاهم الملائكة حالة كونهم ظالمي أنفسهم بالكفر والمعاصي ، لما حضرهم الموت وبدا لهم ما كانوا ينكرون ألقوا السلم واستسلموا لقضاء الله ، وتيقنوا أن قول الرسل حق ، وأنه لا إله إلا الله ، وقالوا لسوء تقديرهم وظنّا منهم أن ذلك ينفع : ما كنا نعمل سوءا ، فيرد الله عليهم بلى : قد عملتم السوء كله إن الله عليم بما كنتم تعلمون ...

فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس المثوى والمآب مثوى المستكبرين (إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ) .. [سورة الصافات آية ٣٥].

المتقون وجزاؤهم

(وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي

__________________

(١) سورة التوبة الآية ٣٢.

٣٠٦

هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢))

هذه مقالة المؤمنين واعتقادهم في المنزل عليهم وهو القرآن إثر مقالة المشركين والمستكبرين عليه. ليظهر الفرق واضحا بين الاثنين.

المعنى :

وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم؟ والسائل هم الوافدون على المسلمين في المواسم والأسواق ، وذلك أن رسل العرب كانت تأتى إلى مكة فإذا صادفت مشركا قال في شأن محمد والقرآن : هذا ساحر. كاذب. شاعر وما أنزل عليه أساطير الأولين ، وإذا صادفت مؤمنا قال : ما حكاه القرآن ها هنا. قال المتقون في جوابهم : أنزل ربكم خيرا ، وانظر يا أخى في الجوابين جواب المشركين (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ). وجواب المسلمين (قالُوا خَيْراً) ولعل التخريج كما ذكر القرطبي أن المشركين لم يؤمنوا بالتنزيل وقالوا أساطير الأولين بالرفع والمؤمنون آمنوا بالنزول المستمر فقالوا : أنزل خيرا وهذا أساسه الإعراب في الآية.

للذين أحسنوا في هذه الدنيا بالإيمان والعمل حسنة من النصر والفتح والعز والسلطان ، ولدار الآخرة ونعيمها وما فيها خير وأبقى لهم ، فهم يثابون على عملهم الطيب في الدنيا والآخرة (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أى في الدنيا (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) أى في الآخرة ... ولنعم دار المتقين جنات عدن تجرى من تحتها الأنهار ، لهم فيها ما يشاءون من متاع ونعيم مثل هذا الجزاء العظيم يجزى الله المتقين ، الذين تتوفاهم الملائكة طيبين طاهرين

٣٠٧

من الشرك والعمل السيئ ، وزاكية أعمالهم وأقوالهم ، تقول الملائكة لهم : سلام عليكم من الله ، ادخلوا الجنة بسبب ما كنتم تعملون من عمل ، وذلك كله تفضل من المولى إذ العمل وحده لا يكفى للحديث «لن يدخل أحد منكم الجنّة بعمله ، قالوا : حتّى أنت يا رسول الله! قال : حتّى أنا إلّا أن يتغمّدنى الله برحمته».

عاقبة الكفار

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤))

المعنى :

ما ينتظر هؤلاء الكفار إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم ثم يأخذون جزاءهم ، أو يأتى أمر ربك بالعذاب والنكال لهم في الدنيا ، أو يأتى أمر ربك بحدث القيامة وما فيها من عذاب لهم ، لأنهم تسببوا في لحوق ما ذكر بهم ، وشبهوا بالمنتظرين المتوقعين لحدوثه ، كما فعل هؤلاء فعل الذين من قبلهم ، وكان الجزاء على ذلك واحدا ، وما ظلمهم الله ، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.

كذلك فعل الذين من قبلهم مثل أفعالهم فأصابهم سيئات فعلهم ، وحاق بهم جزاؤه ، وأحاطهم خطر ما كانوا يستهزئون ، فإنهم كانوا يستعجلون العذاب ، ويطلبونه استهزاء بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكفرا ، وظلوا كذلك حتى حاق بهم العذاب ، وأحاط بهم الخطر من كل جانب.

٣٠٨

بعض حججهم الواهية

(وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠))

المفردات :

(اجْتَنِبُوا) اتركوا (الطَّاغُوتَ) كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت ، وقيل الطاغوت : الشيطان والمراد اجتنبوا ما يدعو إليه مما نهى عنه الشرع ، والطاغوت من الطغيان وهو مجاوزة الحد (حَقَّتْ) وجبت وثبتت لإصراره على الكفر.

٣٠٩

المعنى :

لما سدت السبل أمام المشركين ، ولزمتهم الحجج الدامغة ، تهربوا وقالوا : لو شاء الله ما أشركنا ، ولا فعلنا محرما أبدا ، وهم يقصدون بذلك الطعن في الرسالة : قال الشوكانى في كتابه فتح القدير : «ومقصودهم بهذا القول المعلق بالمشيئة الطعن في الرسالة أى : لو كان ما قاله الرسول حقا من المنع من عبادة الله ، والمنع من تحريم ما لم يحرمه الله حاكيا الرسول ذلك عن الله. ولو كان هذا صحيحا لم يقع منا ما يخالف ما أراده الله. فإنه قد شاء ذلك وما شاءه كان وما لم يشأ لم يكن ، فلما وقعت منا العبادة لغيره وتحريم ما لم يحرمه كان ذلك دليلا على أن ذلك المطابق لمراده والموافق لمشيئته ، مع أنهم في الحقيقة لا يعترفون بذلك ، ولا يقرون لكنهم قصدوا بذلك الطعن على الرسل.

وقال المشركون : لو شاء الله ما عبدنا شيئا حال كونه من دون الله أى غيره ، نحن ولا آباؤنا من قبل ، ولا حرمنا شيئا حال كونه دونه أى : دون الله ، والمراد : ما حرمنا شيئا مستقلين بتحريمه.

مثل ذلك الفعل ليس جديدا بل كذلك كذب الذين من قبلهم رسلهم ، ولجئوا إلى مثل هذه الطرق. وجادلوا رسلهم بالباطل ليدحضوا به الحق ، فهل على الرسل إلا البلاغ الواضح الذي يبين الشريعة وأحكامها! وأما علم الله وإرادته ، فشيء آخر ولقد بعثنا في كل أمة رسولا لإقامة الحجة عليهم بأن اعبدوا الله حق العبادة واتركوا كل معبود سواه كالشيطان والصنم الكاهن ، وكل من دعا إلى ضلال وتجاوز حدود الدين والعقل.

فمنهم من هداه الله ووفقه فآمن وامتثل ، ومنهم من حقت عليه الضلالة وثبتت لإصراره على الذنب والمعاصي (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها* قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها* وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) [سورة الشمس ٨ ـ ١٠].

ومن هنا نعلم أن الله أرسل الرسل تدعو إلى الخير وامتثال أمر الله ، وترك عبادة الأوثان وفعل المحرمات (وهذا معنى الهداية والدلالة) ثم بعد ذلك آمن البعض وكفر البعض فمنهم شقي وسعيد ، ولهذا عاقب من خالفه وأثاب من أطاعه فكان في ذلك

٣١٠

دليل على أن أمر الله ـ سبحانه ـ لا يستلزم موافقة إرادته فإنه يأمر الكل بالإيمان ، ولا يريد الهداية إلا للبعض ، وهذا رد لحجتهم وتفنيد لكلامهم ، ثم قال : فسيروا في الأرض. وانظروا كيف كان عقاب المكذبين ، ودعوكم من هذه الحجج الواهية ، والمناقشة الباطلة.

ثم خصص الخطاب برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليؤكد ما تقدم بقوله :

إن تحرص على هدايتهم وتطلبها فليس يجدي ذلك شيئا فإن وراء الهداية والطلب باللسان توفيق الله وإلهامه ، والله ـ سبحانه ـ لا يهدى ولا يوافق الضالين المكذبين الذين ختم على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم.

انظر إليهم متعجبا وقد أقسموا بالله ، وبالغوا في تغليظ اليمين بأن الله لا يبعث من يموت.

بل يبعث من يموت ، ويعد ذلك وعدا عليه حقا ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

يبعث الله الخلق ليبين لهم الذي يختلفون فيه من أمر البعث ، وليظهر لهم أنه حق (أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا) [الأعراف ٤٤] ، وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين.

وما لكم لا تؤمنون بالعبث؟ وتقولون من يحيى العظام وهي رميم؟ وما علمتم أن كل شيء في الكون خاضع له سبحانه ، وإذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [سورة النحل آية ٤٠].

جزاء المؤمنين وتهديد الكافرين

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ

٣١١

الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٥٠))

المفردات :

(هاجَرُوا فِي اللهِ) الهجرة : ترك الأوطان والأهل والبلد في سبيل الله وهي بعد ذلك ترك السيئات من الأعمال (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) لننزلنهم في الدنيا منزلا حسنا (يَخْسِفَ) خسف المكان يخسف خسوفا ذهب في الأرض وخسف الله به الأرض غاب فيها (فِي تَقَلُّبِهِمْ) في أسفارهم وتصرفهم (عَلى تَخَوُّفٍ) مع تخوف وتوقع للبلايا ، وقيل التخوف والتنقص في المال والأنفس والثمرات (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ) يميل من جانب إلى جانب ومنه قيل للظل بالعشي : فيء ، لأنه فاء من المغرب إلى المشرق أى : رجع والفيء الرجوع ، ومنه حتى تفيء إلى أمر الله أى : ترجع (داخِرُونَ) خاضعون صاغرون والدخور : الصغار والذل.

٣١٢

المعنى :

والذين هاجروا من بلادهم وأوطانهم ، وتركوا أموالهم وأولادهم في سبيل الله وحبا في رضائه ، هاجروا من بعد ما ظلموا ، وذاقوا الأمرين من المشركين ، قيل نزلت في بلال. وصهيب ، وخباب ، وعمار عذبهم أهل مكة حتى ذاقوا العذاب ألوانا ، وقال قتادة نزلت في المهاجرين إلى الحبشة والأولى أن تفهم في الآية العموم ، وأنها تشمل كل من عذب في سبيل الله وهاجر لله ولا مانع من أن تفهم الهجرة على أنها ترك المنهيات كما ورد في الحديث «والمهاجر من ترك ما نهى الله».

والذين هاجروا في سبيل الله لينزلهم الله منزلا ويعطيهم عطاء حسنا في الدنيا ، فيه سعادتهم وغناؤهم وعزهم ، ولأجر الآخرة أكبر وأفضل من أجر الدنيا ، إذ الآخرة هي دار الجزاء والبقاء ، لو كانوا يعملون ، ولو رأوه لعلموا أنه خير وأفضل بكثير ، هؤلاء المهاجرون هم الذين صبروا واحتسبوا أجرهم عند الله ، وعلى ربهم فقط يتوكلون ويعتمدون.

ولقد كانت قريش ترى أن الله أجل وأعلى من أن يرسل بشرا (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) [سورة يونس آية ٢].

فيرد الله عليهم بقوله وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى وليسوا من أهل السماء كالملائكة ، ويأمر الله نبيه بقوله (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) [سورة الإسراء آية ٩٣].

فإن شككتم في ذلك فاسألوا أهل الذكر والعلم من أهل الكتاب فهم أدرى منكم وأعلم بالرسول إن كنتم لا تعلمون ، ويقولون لكم : إن جميع الرسل بشر ، ولم يرسل الله رسولا إلا وكان بشرا من خلقه أوحى إليهم بدين صحيح موافق لعصره نعم ما أرسل الله من قبلك إلا رجالا أوحى إليهم بالآيات البينات وأنزل معهم الكتاب.

وأما أنت يا رسول الله فقد أنزل الله إليك الذكر والقرآن لتبين للناس ما أنزل إليهم ، فأنت أدرى الناس به ، وأحرص الناس عليه وعلى اتباع الناس له ، فأنزله إليك لتبينه للناس ولعلهم يتفكرون ويهتدون.

أعمى هؤلاء الكفار فأمنوا جزاء مكرهم وعملهم السيئات!! أفأمنوا أن يخسف

٣١٣

الله بهم الأرض كما خسف بقارون ، أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون ، وهم في حال غفلتهم كما فعل بقوم لوط.

أو يأخذهم على تخوف أى حال تخوف وتوقع العذاب ، وقيل على تخوف أى : على تنقص في المال والولد والزرع والثمار ، فإن ربكم لرؤوف رحيم حيث لم يعاجل بالعقوبة بل أمهل رجاء التوبة والرجوع إلى الخالق. وما لهم ينكرون ذلك!! ويؤمنون على أنفسهم العذاب!! أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله ، ويميل من جانب إلى جانب ، وفي هذا من مظاهر القدرة والعظمة ما لا يخفى فإن دوران الأرض ، وتحركها حتى يتحول وجهها من جهة إلى جهة ، والظل من حال إلى حال لدليل على عظمة الله وكمال قدرته ، يتفيأ الظل على اليمين والشمائل ، ساجدين لأمره ، وهم صاغرون وخاضعون لله ، ولا شك أن انتقال الظل من حال إلى حال دليل على القدرة الكاملة ، هذا في الجمادات أما الأحياء فلله وحده يسجد كل ما في السموات وكل ما في الأرض من دابة ، وقد سجد الملائكة والحال أنهم لا يستكبرون أبدا عن شيء كلفوا به أو أراده الله لهم. فالكل يسجد إن طوعا وإن كرها يخافون ربهم من فوقهم فوقية مكانة لا مكان ، وهم يفعلون ما يؤمرون.

مناقشة المشركين في عقائدهم وأعمالهم

(وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ (٥٢) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥) وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ

٣١٤

تَفْتَرُونَ (٥٦) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (٥٧) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٥٩) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢))

المفردات :

(الدِّينُ) الطاعة والإخلاص (واصِباً) دائما. واجبا خالصا. (تَجْئَرُونَ) تضجون بالدعاء ، يقال جأر يجأر جؤاره ، والجؤار مثل الخوار وهو صوت البقر (مُسْوَدًّا) المراد متغيرا والسواد كناية عن غمه بالبنت (كَظِيمٌ) ممتلئ غما وحزنا ، أو هو المغموم الذي يطبق فاه فلا يتكلم من شدة الألم مأخوذ من الكظامة وهو شد فم القربة (يَتَوارى) يختفى ويغيب (هُونٍ) هون وبلاء (يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ) يواريه في التراب ويرده إليه (مَثَلُ السَّوْءِ) المثل المراد به الصفة الغريبة غرابة المثل (مُفْرَطُونَ) متروكون فيها مقدمون إليها.

٣١٥

المعنى :

بعد ما ثبت أن كل ما في الكون خاضع لله ـ سبحانه وتعالى ـ ، ومنقاد لأمره أتبع ذلك بالنهى عن الشرك ، ببيان بعض فضائح العرب المشركين وأعمالهم علهم يرجعون ويثوبون إلى رشدهم.

وقال الله ـ سبحانه ـ : لا تتخذوا إلهين اثنين إنما الله إله واحد فالألوهية منحصرة في الذات الأقدس ـ جل جلاله ـ.

وقد يقال : ما فائدة زيادة اثنين بعد قوله إلهين ، وزيادة واحد بعد قوله إله؟ وقد قالوا في الجواب : إن الزيادة لأجل المبالغة في التنفير من اتخاذ الشريك حيث قال : إلهين اثنين ، وكانت زيادة (واحد) دفعا لتوهم أن المراد إثبات الألوهية دون الوحدة ، وخلاف المشركين منصب على الوحدة في الإله.

إن كنتم ترهبون شيئا في الوجود فإياى وحدي فارهبون.

وكيف لا يكون ذلك؟ ولله كل ما في السموات وما في الأرض ملكا وخلقا وعبيدا وتصريفا ، وله الدين والطاعة ، والإيمان والإخلاص ثابتا. واجبا دائما ، إذ ليس لأحد أن يطاع ، إلا انقطع ذلك بهلاكه أو زوال ملكه ، إلا الله ـ سبحانه وتعالى ـ فطاعته دائمة ثابتة واجبة.

أفغير الله بعد ذلك تتقون وتخافون؟؟؟

وما بكم من نعمة أيّا كان لونها وجنسها فمن الله وحده. فعلى العاقل ألا يشرك بالله ، وألا يعبد إلا الله ، وألا يتقى إلا الله.

ولكن الإنسان يتلون ، ولا يتجه الوجهة الصحيحة وهو غارق في بحار النعمة ولذا يقول الله : ثم إذا مسكم الضر في نعمة من صحة أو ولد أو مال فإلى الله ـ سبحانه ـ تجأرون ، وتتضرعون في كشف الضر عنكم ، إذ لا يكشف الضر إلا هو ، ثم إذا كشف الضر عنكم ، ورفع ما نزل بكم عاد بعض أفراد الإنسان إلى طبعه ، وإذا فريق منكم يا بنى آدم يشركون بربهم ، ألست تعجب من فعل هؤلاء حيث يضعون الشرك بالله الذي أنعم عليهم بكل نعمة ، وكشف عنهم ما نزل بهم من ضر جعلوه مكان

٣١٦

الشكر له؟ فعلوا هذا ليكفروا بما آتيناهم من نعمة ، حتى كأن هذا الكفر منهم ـ الواقع موقع الشكر الواجب عليهم ـ غرضا لهم ومقصدا انظر إلى قوله : (لِيَكْفُرُوا) وهذا غاية في العتو والفساد ثم قال لهم ربهم على سبيل التهديد : فتمتعوا بما أنتم فيه فسوف تعلمون عاقبة أمركم ونهاية عملكم.

ثم حكى ـ سبحانه وتعالى ـ نوعا آخر من قبائحهم فقال : ويجعلون للأصنام التي لا يعلمون حقيقتها نصيبا مما رزقناهم.

أليس عجبا أن يجأر هؤلاء إلى الله بالدعاء إذا مسهم الضر ، ثم إذا أزاح عنهم الضر أشركوا به غيره ، ومع ذلك يجعلون لما لا يعلمون حقيقته من الجمادات أو لما صنعوه بأيديهم نصيبا مما رزقناهم من الأموال يتقربون به إليه ... تالله قسما بذاته العليا لتسألن عما كنتم تفترون وتختلقون من الأكاذيب والضلالات.

وهؤلاء يجعلون لله البنات وقد كانت خزاعة وكنانة تقول الملائكة بنات الله .. سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا!

ولهم ما يشتهون من الذكور (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) [النجم ٢١] أى : جائرة. (أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ. وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ). [الصافات ١٥١ و ١٥٢].

إن هذا لعجيب!! البنات لله والذكور لهم!! وهم يأنفون من البنات ، وإذا بشر أحدهم بالبنت ظل وجهه مسودا ، وظل كئيبا حزينا كاسف البال لأنه بشر بولادة أنثى ، ويظل في حيرة من أمره أيمسك المولود الأنثى على هوان وذل وعار وفقر أم يدسه في التراب؟ وكانوا يصنعون ذلك في الجاهلية ، أفمن يكرهونه هذه الكراهة ويأنفون أن يجعلوه لأنفسهم يجعلونه لله؟!! ألا ساء ما يحكمون!! لهؤلاء الذين لا يؤمنون بالحياة الآخرة وما فيها مثل السوء والصفة السوءى التي لا أسوأ منها ، ولله ـ سبحانه ـ المثل الأعلى والكمال المطلق وهو العزيز الحكيم.

وهو الرحمن الرحيم واسع الكرم كثير الحلم حيث لم يعاجلهم بالعقوبة ، ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ، ويعاقبهم على جرمهم فورا ما ترك على ظهر الأرض من دابة ، ولكنه ـ جل جلاله ـ حليم ستار غفور رحيم ، وهو يؤخرهم إلى أجل مسمى عنده فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ، وعندئذ يأخذ المسيء جزاءه حتما بلا تأخير ولا إمهال.

٣١٧

ثم رجع الحق ـ تبارك وتعالى ـ إلى أعمال الجاهلين فقال : ويجعلون لله ما يكرهون من البنات والشركاء الذين هم عبيده ، والعجب العاجب أن تصف ألسنتهم الكذب فيقولون كذبا وزورا أن لهم الحسنى على هذا العمل ، لا : ليس الأمر كما تزعمون ، حقا إن لهم النار وأنهم مفرطون ومتروكون فيها ومنسيون ، ومعجلون إليها ومتقدمون.

من مظاهر قدرته ونعمه علينا

(تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤) وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧) وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩))

٣١٨

المفردات :

(فِي الْأَنْعامِ) الإبل والبقر بنوعيه والضأن والمعز (لَعِبْرَةً) العبرة تمثيل الشيء بالشيء ليعرف حقيقته بطريق المشاكلة (فَرْثٍ) الفرث ما ينزل إلى كرش الحيوان فأما الخارج منه فلا يسمى فرثا (سَكَراً) السكر ما يسكر من الخمر ، وقيل غير ذلك (وَرِزْقاً حَسَناً) جميع ما يأكل من هاتين الشجرتين (وَأَوْحى) الوحى قد يستعمل بمعنى الإلهام وهو ما يخلق في القلب ابتداء من غير سبب كالغرائز والطبائع في الحيوان (مِمَّا يَعْرِشُونَ) من الذي يعرشه ابن آدم ويعمله بيده كالخلايا من الطين والغاب والخلايا الحديثة من الخشب والزجاج.

بعد ما ذكر بعض صنيع العرب في جاهليتهم ووقوفهم من الدعوة الإسلامية موقف المشرك المعاند أخذ يذكر أن هذا طبع في الناس قديما وحديثا ليعلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه ليس بدعا من الرسل ، وليس قومه منفردين بالعتو والاستكبار ثم أخذ بعد ذلك يعدد نعمه علينا وأياديه المختلفة.

المعنى :

تالله العلى القدير (إنه لقسم من الله بنفسه) لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك رسلهم فوقفوا منهم مثل ما وقفوا معك : وزين لهم الشيطان أعمالهم ، وفي هذا إشارة إلى أن الأنبياء جميعا يدعون إلى ناحية الخير والروح في الإنسان ، والشيطان دائما يقف منهم موقف العناد ويستغل ناحية المادة في الإنسان ويزين له عمله السوء ومعاكسة الأنبياء.

زين لهم الشيطان أعمالهم السيئة فهو وليهم اليوم ، وقرينهم في الدنيا ، ويحتمل أن يكون المعنى فهو وليهم وناصرهم اليوم أى يوم القيامة ، والمراد نفى الناصر عنهم على أبلغ وجه.

وقيل المعنى : فهو ولى هؤلاء الكفار اليوم ، ولهم في الآخرة عذاب أليم. ولم يكن هلاك الأمم وعذابهم إلا بعد إقامة الحجة عليهم ، وأنت مع أمتك كذلك ، ولهذا قال : وما أنزلنا عليك الكتاب أى : القرآن لحال من الأحوال أو لعلة من العلل إلا لتبين

٣١٩

للناس الذي اختلفوا فيه من العقائد والعبادات ، والناس كما قلنا بين داعيين : داعي البشرية المادية التي هي ارتكاز الشيطان ، وداعي الروح الطيبة التي هي من الله ، وجاءت الرسل تحكم بين الداعيين وفيما اختلفوا فيه من الاتجاهات ، وما أنزلنا عليك القرآن إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى للناس ورحمة لقوم يؤمنون ، أليس القرآن وبيانه للمختلف فيه وهدايته ورحمته من أجلّ النعم؟! ، ثم عاد الكلام إلى بيان نعم الله علينا المادية بعد بيان أكبر نعمة في الوجود لأنها تتعلق بالهداية والإرشاد وسلوك الطريق الحق.

والله ـ سبحانه ـ أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها ، ألم تر إلى الأرض وهي هامدة فإذا أنزل الله عليها الماء اهتزت وتفاعلت مع البذور وربت وانتفخت وأنبتت من كل زوج بهيج ، ذلك النبات الأخضر ، اليانع الذي يخرج من تراب فيه ماء ، فبدل العفونة التي تنشأ من وضع شيء غريب في الأرض المبتلة يخرج نبات بهجة للناظرين ، إن في ذلك لآية لقوم يسمعون كلام الله ويتدبرون معناه.

نعم وإن لكم في الأنعام لعبرة وعظة ، ودلالة على قدرة الله ووحدانيته وعظمته ، وقال أبو بكر الوراق : العبرة في الأنعام تسخيرها لأربابها وطاعتها لهم ، وتمردك على ربك ، وخلافك له في كل شيء ، ومن أعظم العبر برىء يحمل مذنبا.

وإن لكم يا بنى آدم في الأنعام لعبرة وعظة حيث نسقيكم مما في بطونه لبنا خالصا من كل شيء يكدر صفوه سائغا للشاربين لذيذا وهنيئا ، لا يغص به شاربه ، فيه الغذاء الكامل الذي يكفى عن كل طعام وشراب ، ويكفى أنه يغذى الطفل مدة من الزمن فلا يحتاج لغيره واللبن من بين الأطعمة قد أظهر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكانته بقوله إذا أكل غيره ولو لحما «اللهم بارك لنا فيه وزدنا خيرا منه ، وإذا أكل اللبن قال : اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه» والطب الحديث يعرف مقدار اللبن ويفسر لنا كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تفسيرا عمليا.

هذا اللبن خرج من بين فرث ودم ، يا سبحان الله! إنه من غذاء الحيوان ، والغذاء تتحول عصارته إلى فرث ، وإلى دم وإلى لبن بواسطة شعيرات دقيقة حول أنسجه الجهاز لهضمه يا سبحان الله!! أنت القدير الحكيم ، ومن الذي علم هذا الرجل الأمى الذي نشأ في بيئة أمية جاهلة لم تعرف شيئا أبدا؟!! إنه الله الذي أنزل عليه القرآن كتابا أحكمت آياته.

٣٢٠