التفسير الواضح - ج ٢

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ٢

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٨٨٤

ولعلك تقول وما سواد هذا الطين؟ إنه إشارة إلى ظلام النفس وكدرتها ، وسلوكها الطريق الملتوى غير الواضح (الله ولىّ الّذين آمنوا يخرجهم من الظّلمات إلى النّور) أى : بسبب الكتب السماوية.

وأما الصلصال وما أدراك ما هو؟ إنه الإناء المتخذ من الطين الجاف الذي لم تنضجه النيران فإذا ضربته سمع له صوت أترى هذا الإناء قويا؟ أرأيته وهو أجوف فارغ ضعيف غير متماسك وهكذا الإنسان أمام مغريات الدنيا وثورة الغرائز.

وأما الجان قد خلقه الله من نار السموم.

الجن خلق من خلق الله منهم الصالحون والطالحون (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) [سورة الجن آية ١١] وهم مكلفون مثلنا ، ويتكاثرون ، ويروننا ولا نراهم (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) [سورة الأعراف آية ٢٧]. ومنهم من سبقت له الحسنى فهو مؤمن بربه ، ومنهم من غلبت عليه الشقوة فكان من العصاة المذنبين كإبليس وقرينه وهم الشياطين.

ولقد ذكر الله أن الجن خلقوا من نار السموم ، أما حقيقة النار هذه فشيء الله أعلم به ، ولكن في هذا إشارة إلى بعض طبائع الجن. فالنار تعلو وتتعالى ، وقد تؤذى غالبا ، وفيها معنى العجلة والسرعة وقوة الغضب.

ونحن نرى أن إبليس تكبر وعصى ، وتعجل في الحكم وغضب حينما أمر بالسجود لآدم.

إذ قال ربك للملائكة إنى خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون ، فإذا سويته وأتممت خلقه ، ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين.

ومن هنا يعلم أن الإنسان مكون من مادة أصلها الطين الأسود المنتن ، ومن روح هي من روح الله ، (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء ٨٥].

نعم .. الروح سر من أسرار الله لا يعلم كنهها إلا خالقها ، ولكنها قوة في الإنسان لها الأثر الفعال في سلوك الإنسان واتجاهه في الحياة. هي مصدر الخير والهدى والتقوى والفلاح وكل صفة حسنة من صدق وإيمان وإيثار وتعاون وتساند وأخوة في الله ، روح

٢٨١

المؤمن هي مصدر فضائل الحق والخير والنور والهدى ، بل هي الحياة التي يعنيها القرآن الكريم ، (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) [سورة الأنعام آية ١٢٢].

هذا البشر المكون من مادة وروح هو الذي أراد له أن يكون خليفته في الأرض هو الذي يصلح لعمارتها ، فهو من الأرض وقد عادلها ، وفيه نوازع الشر ، ونوازع الخير ، وعليهما تسير الحياة ويعمر الكون (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) (١) أما من خلق من نور خالص فليس فيه هذا الاستعداد والله أعلم بخلقة ولذا رد الله الملائكة بقوله : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) [سورة البقرة آية ٣٠].

هذا الإنسان المخلوق من طين وروح أمر الله ملائكته بالسجود له. سجود تحية وتكريم لا سجود عبادة وتقديس ، وله ـ سبحانه ـ أن يفضل من يشاء على من يشاء إذ بيده الأمر كله.

فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين. وما منعك يا إبليس من السجود وقد أمرك ربك وخالقك؟! إنما منعه من السجود استكباره ، وتعاليه وسرعة انفعاله وغضبه .. ألم يخلق من نار فيها خصائص التعالي والارتفاع والسرعة والانفعال؟! قال الله : يا إبليس ما المانع لك في ألا تكون مع الساجدين قال إبليس المغرور المخدوع غير الموفق : لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون!! ما كان ينبغي لي السجود لبشر أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ، ومن إجابة إبليس يمكننا أن نتأكد من أبرز صفاته وهي الكبر والتعجل والغضب.

وقد أجابه الله على موقفه هذا ، قائلا : فاخرج من السموات أو من الجنة أو من عداد الملائكة ، فإنك مرجوم مطرود ، وإن عليك اللعنة من الله إلى يوم الدين.

قال إبليس : رب فأمهلنى إلى يوم يبعثون. أراد بسؤاله هذا ألا يموت. فأجابه الله بقوله : فإنك من المنظرين المؤجلين إلى البعث ثم لا بد من موتك وحسابك (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) [سورة الرحمن آية ٢٦].

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٣١.

٢٨٢

قال إبليس : رب بسبب إغوائك لي وحكمك على باللعنة والطرد من رحمتك لأزينن لهم الأرض ، يا سبحان الله!! إنه لسر عظيم ، ذكر الأرض هنا ، فإن إبليس لا يأتى لنا إلا من ناحية الأرض ، والمادة التي ركبنا منها ، وليس له تسلط على الروح فإنها من أمر الله وسلطانه فهو يأتى لنا من ناحية غريزة حب التملك والبقاء ألم يقل لأبينا آدم تزيينا له وإغواء (هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى) (١) ولقد ذكر الرسول سبب ضعف المسلمين وذهاب عزهم وتكاثر الأجانب عليهم «حبّ الدّنيا وكراهية الموت» ، وهذه أسس البلاء ، ولأغوينهم أجمعين ، والغي ضد الرشاد وخصمه (فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ. ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) (٢).

وما يحسه كل منا من ناحية الشيطان ووسوسته يجعلنا ندرك سر قوله تعالى (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٣) الذين استخلصتهم وأخلصوا لك في العبادة فلا فساد ولا رياء ، ولا يحبون أن يحمدهم الناس بل إلى الله وحده عملوا.

قال الله تعالى : هذا صراط على مستقيم ، وقضاء قضيته على نفسي محتوم ، إنك يا إبليس ليس لك سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ، إنما سلطانك على الذين لم يخلصوا الإيمان ، ولم يعمر قلوبهم نور الروح ولم يتصل بهم سر الله اتصالا وثيقا (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) (٤).

فالناس صنفان خاضع لشهواته ونزواته وماديته وطبيعته وغرائزه وهم شعب إبليس المتسلط عليهم ، وصنف مؤمن تقى روحه طيبة ونفسه كريمة واتصاله بالله قوى وهؤلاء ليس لإبليس عليهم سلطان (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) (٥).

وهذا هو الحكم العام : إن جهنم لموعد من اتبعك وسار خلفك ، لها سبعة أبواب مفتحة ومهيأة لكل داخل ، واسعة تسع العصاة والمذنبين ، لكل باب منها جزء مقسوم وعدد معلوم.

__________________

(١) سورة طه الآية ١٢٠.

(٢) سورة الأعراف الآيتان ١٦ و ١٧.

(٣) سورة ص الآيتان ٨٢ و ٨٣.

(٤) سورة الحجر الآية ٤٢.

(٥) سورة الأعراف الآية ٢٠٠.

٢٨٣

المتقون يوم القيامة

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (٤٨) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (٥٠))

المفردات :

(وَعُيُونٍ) جمع عين قيل المراد : أنهار الجنة التي ذكرت في قوله تعالى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) الآية ١٥ من سورة محمد وقيل هي عيون خاصة لكل فرد أو عامة ينتفع بها الكل (غِلٍ) الغل : الحقد والحسد الدفين (نَصَبٌ) تعب ومشقة.

هذا الكلام على الصنف الثاني وهم الذين لا سلطان لإبليس عليهم وهم المتقون.

المعنى :

إن المتقين الذين اتقوا الله وامتثلوا أمره ، وتركوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن في جنات وبساتين ، أكلها دائم وظلها ، وتلك عقبى المتقين ، ولهم عيون ماء وخمر ولبن وعسل مصفى ، عيون خاصة بهم أو عامة ولا نزاع عليها ولا عراك ، لأن الله نزع منهم الغل والحسد والحقد الدفين.

٢٨٤

ويقال لهم ، ادخلوها بسلام آمنين ادخلوها سالمين آمنين لا خوف عليكم ، ولا أنتم تحزنون ، ونزعنا ما استقر في صدورهم من غل وحقد وحسد التي هي من طبع الإنسان المادي في الدنيا حالة كونهم إخوانا متحابين متصادقين متساندين وهذه هي معاني الأخوة في الله ، والتحاب في الله ، حالة كونهم على سرر متقابلين لا ينظر الواحد منهم إلا لوجه أخيه ، ولا ينظر إلى ظهره ، وفي هذا إشارة إلى أنه لا يكون هناك غيبة ولا نميمة ، ولا تزاحم ، ولا تنازع لأن خصائص المادة قد ذهبت بالموت في الدنيا.

وهم لا يمسهم فيها نصب ولا مشقة. لا تعب ولا ألم وفي الصحيحين «إنّ الله أمرنى أن أبشر خديجة ببيت في الجنّة من قصب لا صخب فيه ولا نصب» وما هم من الجنة بمخرجين وفي الحديث : يقال. يا أهل الجنة إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا ، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا ، وإن لكم أن تقيموا فلا تظعنوا أبدا (خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً) [سورة الكهف آية ١٠٨].

وهذا تقرير لما ذكر من أهل الجنة والنار ، وفي الحديث «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنّته أحد. ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرّحمة ما قنط من رحمته أحد».

نبىء عبادي أنى أنا الغفور الرحيم أغفر لمن تاب وأناب ، وعمل عملا صالحا وأن عذابي هو العذاب الأليم الشديد الموجع لمن كفر أو عصى ولم يتب ولم يرجع عن غيه وسوء صنعه.

قصة ضيف إبراهيم مع لوط وقومه

(وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ

٢٨٥

فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (٥٦) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (٦٠) فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧))

٢٨٦

المفردات :

(ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) هم الملائكة الذين بشروه بالولد وبهلاك قوم لوط (وَجِلُونَ) فزعون خائفون (الْقانِطِينَ) القانطون الآيسون من الولد في الكبر (الضَّالُّونَ) البعيدون عن طريق الحق (فَما خَطْبُكُمْ) ما شأنكم وحالكم؟ والخطب الأمر الخطير (لَمُنَجُّوهُمْ) لمخلصوهم مما هم فيه (قَدَّرْنا) قضينا (الْغابِرِينَ) الباقين في العذاب (مُنْكَرُونَ) أى : لا أعرفكم (يَمْتَرُونَ) يشكون أنه نازل بهم وهو العذاب (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) تقدم تفسيره في سورة هود ـ لا قصة لوط (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ) أوحينا إلى لوط (دابِرَ هؤُلاءِ) أى : آخرهم وسيستأصلون ـ عن آخرهم فلا يبقى منهم أحد (مُصْبِحِينَ) عند طلوع الصبح (وَلا تُخْزُونِ) هو من الخزي والذل والهوان وقيل هو الخزاية أى الحياء والخجل (لَعَمْرُكَ) قسم من الله سبحانه وتعالى بحياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأصله بضم العين ، وفتحت لكثرة الاستعمال (الصَّيْحَةُ) المراد الصوت القاصف عند الشروق مع رفع بلادهم إلى عنان السماء ثم قلبها وجعل عاليها سافلها (سِجِّيلٍ) أى من طين (لِلْمُتَوَسِّمِينَ) المتفكرين الناظرين المعتبرين (لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) على طريق قومك يا محمد إلى الشام.

وفي هذا القصص بيان عملي لعذاب الله الأليم الذي يحل بالعصاة والمذنبين ، ولرحمته الواسعة التي تشمل الطائعين ، وقد أمر رسول الله بإخبار المشركين بذلك علهم يعتبرون بما حل بقوم لوط من عذاب ، وإن عذابهم هو العذاب الأليم ، وبما حل بلوط ومن تبعه من الرحمة وأنه هو الغفور الرحيم.

المعنى :

ونبئهم يا محمد أنى أنا الغفور الرحيم. وأن عذابي هو العذاب الأليم ، ونبئهم وأخبرهم عن ضيف إبراهيم المكرمين ، إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما .. قال إبراهيم : إنا منكم وجلون وخائفون ، قال لهم ذلك بعد أن رد عليهم بأحسن منها ، وقدم لهم عجلا سمينا مشويا ، فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم ، وتوجس منهم خيفة.

قالوا : يا إبراهيم ، لا تخف ، إنا رسل ربك نبشرك بغلام عليم ، قال : أبشرتمونى

٢٨٧

على أن مسنى الكبر؟ فبم تبشروني؟ قالوا : يا إبراهيم ، بشرناك بالحق الثابت إذ هو وعد الله الذي لا يتخلف. فلا تكن من القانطين اليائسين فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ، ولا غرابة في ذلك فالله الذي أوجد ولدا من غير أب وأم قادر على إيجاده من أبوين عجوزين!! قال إبراهيم : ولا يقنط من رحمة ربه إلا الضالون المكذبون البعيدون عن طريق الحق والصواب.

ولما علموا أنهم ملائكة وليسوا بشرا حيث أخبروه بأمر خارق للعادة وهو بشراهم بالولد قال لهم : ما خطبكم أيها المرسلون! قالوا : إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين ضالين مشركين ، قوم يأتون في ناديهم المنكر ، ويأتون الرجال شهوة من دون النساء!! إنا أرسلنا إلى قوم لوط.

أرسلنا إلى هؤلاء لنهلكهم بالعذاب إلا آل لوط وأتباعه وأهل دينه ، إنا لمنجوهم أجمعين ، ومخلصوهم من ذلك العذاب إلا امرأة لوط كانت من الغابرين قد قضى الله عليها أن تكون من المهلكين ، لأنها كانت تفعل فعلهم ، وتعينهم على قصدهم.

فلما جاء آل لوط المرسلون ، وهم الملائكة ضيف إبراهيم جاءوهم في بلدهم (سدوم) قال لوط : إنكم أيها القادمون قوم منكرون لا أعرفكم وقيل : أنكر حالتهم وخاف عليهم من قومه لما رآهم شبانا مردا حسان الوجوه ، قالوا : يا لوط ، بل جئناك بعذاب قومك وهلاكهم ، وقد كانوا يشكون في مجيئه ، ولا يصدقونك في خبرك ، ونحن قد آتيناك بالحق والأمر الصدق فإنا رسل الحق ـ سبحانه وتعالى ـ وإنا لصادقون في كل ما ادعيناه.

ثم جاءت مرحلة التنفيذ فقالوا له : أسر مع أهلك المؤمنين ببقية من الليل أى : أسر بطائفة من الليل تكفى لتجاوز حدود القرية والبعد عنها واتبع أدبارهم ، وكن من ورائهم لئلا يتخلف منهم أحد. ولا تشغل قلبك بأحد من الكفار المتخلفين منهم ، بل كن ذاكرا لله شاكرا له أن نجاك وأهلك من العذاب ، ولا يلتفت منكم أحد لئلا تروا العذاب وهو نازل بهم فترق قلوبكم لهم ولكن جدوا في المسير وأسرعوا في الهجرة غير ملتفتين إلى من وراءكم ، وامضوا حيث تؤمرون.

وأوحينا إلى لوط ذلك الأمر : أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين : وأوحينا إليه ذلك

٢٨٨

الأمر ثم فسر بعد الإبهام بقوله : إن دابرهم وآخرهم مقطوع ويستأصل ، أى : أنه لا يبقى منهم أحد أبدا وسينزل عليهم العذاب وهم داخلون في الصباح.

وفي هذه السورة ذكر عذابهم وهلاكهم قبل فعلهم ، (والواو لا تقتضي ترتيبا) وجاء أهل المدينة (سادوم) يستبشرون بالأضياف طامعين فيهم ، مؤملين أن يفعلوا معهم الفاحشة.

ولما رأى لوط ذلك فيهم قال لهم : إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون ، واتقوا الله ، ولا تحزون. أليس فيكم رجل رشيد يدافع عن الفضيلة!! قالوا : يا لوط أو لم ننهك عن أن تضيف أحدا من العالمين ، لأنا لا يمكننا أن نمنع أنفسنا عن ارتكاب الفاحشة معهم ، وقيل المعنى : أو لم ننهك عن أن تكلمنا في شأن أحد من الناس قصدناه بالفاحشة.

قال : يا قوم هؤلاء بناتي تزوجوهن فهن أطهر لكم ، إن كنتم فاعلين.

أقسم الله ـ سبحانه وتعالى ـ بعمر النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبحياته أن هؤلاء لفي سكرتهم وضلالهم يعمهون ويتيهون ، وما علموا أن العذاب ينتظرهم وأنهم في طريق الفناء والهلاك فاعتبروا يا أهل مكة.

عقب هذا مباشرة أخذتهم الصيحة ، وحلت بهم الصاخة ، وقت شروق الشمس (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) فجعلنا عالى ديارهم سافلها ، وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل منضود ، مسومة عند ربك ، وما هي من الظالمين ببعيد.

إن في ذلك لآيات للمتوسمين المفكرين الناظرين بعين الاعتبار وأن ديارهم بطريق قومك إلى الشام فهم يرونها. فهل من مدكر؟! إن في ذلك لآية للمؤمنين الصادقين!!

أصحاب الأيكة وأصحاب الحجر

(وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (٧٩) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ

٢٨٩

(٨١) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٦))

المفردات :

(أَصْحابُ الْأَيْكَةِ) هم قوم شعيب ، والأيكة : الغيضة والشجر الملتف (لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) بطريق واضح (أَصْحابُ الْحِجْرِ) الحجر ديار ثمود (فَاصْفَحِ) اعف عنهم وتجاوز عن مسيئهم ، والصفح الإعراض.

المعنى :

ولقد كان أهل مدين أصحاب أيكة وغيضة ظالمين بشركهم ، وقطعهم الطريق ونقصهم الكيل والميزان ، فانتقم الله منهم بالصيحة والرجفة ، وعذاب يوم الظلمة وقد كانوا قريبا من قوم لوط في المكان ولذا قال الله : وإنهما لبطريق واضح يسلكه الناس لم يندرس بعد ، والناس تبصر تلك الآثار الشاهدة عليهم ، وهذا تنبيه لقريش (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ) (١) ولقد كذب أصحاب الحجر وهم قبيلة ثمود المرسلين إذ كذبوا نبيهم صالحا. ومن كذب نبيا واحدا فقد كذب الكل لأنهم متفقون في الأصول ، وآتيناهم آياتنا الدالة على صدق رسولنا صالحا وهي الناقة التي أخرجها الله من صخرة صماء وكانت تسرح في بلادهم ، ولها شرب ولهم شرب فهي ضخمة ، ولبنها كثير كان يكفى القبيلة ، وكانت لهم بيوت نحتوها في الجبل ، وأصبحوا فيها آمنين من العدو ، ومن سقوطها عليهم. فلما عتوا وبغوا ، واعتدوا على الناقة أخذتهم الصيحة في وقت الصبح ؛ فما أغنى عنهم ما كانوا يكتسبون من أموال وديار.

__________________

(١) سورة الصافات الآية ١٣٧.

٢٩٠

وهذه سنة الله في الخلق ، وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق والعدل ليجزي الله الذين أساءوا بما عملوا ، ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى ، وإن الساعة لآتية لا ريب فيها ، فاصفح يا محمد وأعرض عمن أساء إليك ، واصفح الصفح الجميل ، وهذا قبل الأمر بالقتال ، ولا تعجب من هذا. إن ربك هو الخلاق العليم الذي يعلم المصلحة والعلاج الناجح للكل لأنه خلق الكل (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [سورة الملك آية ١٤] إذا لا غرابة أن يأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بمكة بالعفو والصفح ثم يأمره وهو بالمدينة بالقتال والجهاد والغلظة في الحرب ..

توجيهات إلهيّة إلى الحبيب المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم

(وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩))

٢٩١

المفردات :

(لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) لا تطمع ببصرك إلى ما عند غيرك من حطام الدنيا (أَزْواجاً مِنْهُمْ) أصنافا منهم (وَاخْفِضْ جَناحَكَ) المراد ألن جانبك وتواضع لهم ، مأخوذ من خفض الطائر جناحه على فرخه إذا غطاه به وضمه إليه (الْمُقْتَسِمِينَ) جماعة من قريش اقتسموا الطريق ليصدوا عن سبيل الله ، وقيل : اقتسموا للقرآن فقال بعضهم هو سحر ، وبعضهم. هو شعر ، وبعضهم هو كهانة ، وقيل هم أهل الكتاب (عِضِينَ) جمع عضة والمراد فرقوه ، وآمنوا ببعض وكفروا ببعض ، وقيل فرقوا أقوالهم فيه (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) المراد بلغ الرسالة للجميع ، وأظهر دينك ولا تخش أحدا ، وأصل الصدع الشق ومنه تصدع البناء وتصدع القوم تفرقوا (يَضِيقُ صَدْرُكَ) المراد تتألم وتتحرج (الْيَقِينُ) الموت لأنه متيقن الوقوع.

هكذا السور المكية المبدوءة بأحرف هجائية تبدأ غالبا بالكلام على القرآن الكريم والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتختتم بالحديث عنهما ألا ترى إلى سورة هود ويوسف وإبراهيم وها هي ذي سورة الحجر.

المعنى :

وتالله لقد آتيناك يا أيها الرسول سبع آيات هي المثاني ، والقرآن العظيم ، ولقد اختلف العلماء في المراد بالسبع المثاني فقال البعض : هي الفاتحة وقد روى الشيخان ذلك التفسير عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والفاتحة تثنى في كل صلاة بقراءتها في كل ركعة ، وقيل سميت بذلك لأن فيها الثناء على الله ـ سبحانه وتعالى ـ ، وقال البعض السبع المثاني هي السبع الطوال : البقرة. وآل عمران. والنساء. والمائدة. والأنعام. والأعراف. والأنفال. والتوبة : بناء على أنهما سورة واحدة ، وسميت مثاني لأن القصص والأحكام والحدود ثنيت فيها وكررت ، وقيل المراد بالسبع المثاني جميع القرآن. ويكون عطف والقرآن العظيم من باب الترادف أو عطف الصفات والموصوف واحد (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) [الزمر ٢٣].

٢٩٢

ولقد آتيناك وأنزلنا عليك سبعا من المثاني والقرآن العظيم ، وهذا شرف كبير. وفضل عظيم ، وجاه عريض ، ومن يعطى هذا لا يطمح ببصره طموح راغب إلى ما متعنا به أزواجا من الكفار وأصنافا منهم ، وكيف يطمع في عرض زائل ، وحطام فان وقد أعطى القرآن العظيم؟! روى عن أبى بكر ـ رضى الله عنه ـ. من أوتى القرآن فرأى أن أحدا أوتى من الدنيا أفضل مما أوتى فقد صغر عظيما ، وعظم صغيرا ، وروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ليس منّا من لّم يتغنّ بالقرآن» أى : يستغنى به.

وهذا توجيه سام وأدب عال من الله ـ سبحانه ـ لعباده المؤمنين ، وتربية لنفوسهم بعيدة الأثر ، فليس أضر على الإنسان من طموحه إلى من هو فوقه في الدنيا وعرضها بل انظر إلى من دونك تسترح فإذا أعطيت مع هذا القرآن فكفى به شرفا ، وليست الآية تدعو إلى عدم العمل. كلا فليس في ديننا رهبانية ولا كسل بل هو دين العمل والقصد الحسن ، وفي الآية إشارة إلى ما في القرآن من الخير والفلاح ، وأنه لا يغرنا تقلب الذين كفروا في البلاد بل هو متاع قليل ومأواهم جهنم وبئس المصير.

ولا تحزن على المشركين إن لم يؤمنوا ، ويقول القرطبي : ولا تحزن على ما تمتعوا به في الدنيا فلك في الآخرة أفضل منه.

واخفض جناحك للمؤمنين ، نعم وألن جانبك لهم ، وتواضع معهم ، فلو كنت فظا غليظ القلب لا نفضوا من حولك فاعف عنهم ، واستغفر لهم ، وشاورهم في الأمر يا سبحان الله هذه تعاليم إلهية تلقى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي شهد له القرآن بأنه على خلق عظيم ليعمل بها كل رئيس أراد أن تلتف حوله قلوب جماعته ، فلينظر حكامنا وقادتنا إلى تعاليم القرآن.

وقل لهم : إنى أنا النذير المبين فقط ، فليس لي من الأمر شيء وإنما علىّ البلاغ والتبشير والإنذار ، وعلى الله كل شيء بعد هذا.

ولقد آتيناك ونزلنا عليك القرآن مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب وهم المقتسمون الذين جعلوا القرآن عضين ، نعم أهل الكتاب اقتسموا القرآن فجعلوا بعضه حقا لأنه موافق لهواهم ، وبعضه باطلا لأنه مخالف لهواهم! وقال بعضهم هذه السورة لي ، وقال الآخر وهذه السورة لي ، ترى أنهم اقتسموا القرآن وجعلوه فرقا ، ويجوز أن يراد بالقرآن

٢٩٣

كتبهم التي يقرءونها ، وقد آمنوا ببعض وكفروا ببعض ، ويكون هذا من باب التسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قال قومه إنه سحر ، أو شعر ، أو كهانة.

وبعضهم يقول : المقتسمون هم القرشيون الذين اقتسموا الطريق ووقف كل منهم على باب يحذر الناس من اتباع النبي ويقولون عن القرآن إنه سحر وصاحبه ساحر ، وهو كذب ، وصاحبه كذاب ، وهو شعر وصاحبه شاعر ، ولعل المعنى إنى أنا النذير المبين إنذارا بعذاب ينزل بكم كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن فرقا وأنواعا. فاقسم بربك لنسألنهم جميعا يوم لا ينفع مال ولا بنون ، عما كانوا يعملون وسنجازيهم عليه الجزاء الوافي حتى يقول الكافر يا ليتني كنت ترابا.

وإذا كان الأمر كذلك ، وقد نفذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كل هذه التوجيهات وعمل بها فاصدع أيها النبي بما تؤمر.

أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتبليغ الرسالة للجميع ، والجهر بها فقد مضت مرحلة الإسرار في الدعوة.

فاصدع بالذي تؤمر به وفرق به جمعهم ، واجهر بدعوتك فسينشق بها حائطهم وسيصدع جدارهم ، وأعرض عن المشركين ، ولا تبال بهم فالله عاصمك منهم ، ومؤيدك بروح من عنده ، وكافيك شر المستهزئين بك المجاهرين لك في العداوة والبغضاء ، وقد صدق الله وعده ونصر عبده ، ونال كل من زعماء الشرك وقادة الباطل حتفهم على أسوأ صورة في غزوة بدر وما بعدها.

هؤلاء المستهزئون بك يستحقون أكثر من ذلك فهم الذين يجعلون مع الله إلها آخر ، ويشركون به من لا يملك ضرا ولا نفعا فسوف يعلمون عاقبة عملهم ونتيجة شركهم.

ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون ، وتتحرج نفسك بما يعملون ولكن الدواء الناجح الذي به تطمئن القلوب وتهدأ النفوس ، حتى تستعذب في سبيل الله كل عذاب ، وتعده من أكبر النعم وتمام التطهير لها.

هذا الدواء هو التسبيح والتقديس والركوع والسجود ، والإكثار من العبادة والاتصال بالله إذ هذه مطهرات للنفس مقويات للروح ومتى قويت الروح ضعفت النفس المادية التي تشعر بالألم والتعب والنصب إذا عملت في سبيل الله.

٢٩٤

وهذا علاج نفيس يجب أن يتحلى به كل داعية إلى الله ، وعامل في سبيل الله.

ولقد صدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حينما عالج ألم ابنته وتعبها من الرحى بعلاج التسبيح والتحميد والتكبير.

واعبد ربك أيها الرسول حتى يأتيك الأمر اليقين ، وتلقى ربك ، وإذا كان هذا هو توجيه الله للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فأين نحن؟! أين نحن؟! اللهم وفقنا واهدنا إلى سواء السبيل.

٢٩٥

سورة النحل

وتسمى سورة النعم لما عدد الله فيها من النعم ، وهي مكية على الصحيح ، ويدور الكلام فيها حول ذكر النعم وبيان مظاهر القدرة ، ونقاش المشركين في عقائدهم مع التعرض ليوم القيامة وما فيه ، وقد ذكر في آخر السورة السابقة المستهزئين المكذبين وذكر الموت ، وقال : لنسألنهم أجمعين ، كل ذلك يتناسب مع أول السورة هنا ، وعدد آياتها ثمان وعشرون ومائة آية.

من دلائل وحدانية الله

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤) وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ

٢٩٦

الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨) وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩))

المفردات :

(أَنْ أَنْذِرُوا) الإنذار التحذير مما يخاف منه (دِفْءٌ) الشيء الذي يدفئك (جَمالٌ) المراد هنا جمال الصورة وتركيب الخلقة (تُرِيحُونَ) الرواح رجوعها بالعشي من المرعى (تَسْرَحُونَ) السراح ذهابها بالغداة إلى المرعى (أَثْقالَكُمْ) أحمالكم (بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) بمشقتها وغاية جهدها (جائِرٌ) أى : مائل إلى الحق وزائغ (الْأَنْعامَ) الإبل والبقر والغنم وهي الثمانية المذكورة في سورة الأنعام.

المعنى :

يقول الله ـ سبحانه وتعالى ـ : أتى أمر الله ، وتحقق مجيئه إذ خبر الله في الماضي والمستقبل سواء لأنه خبر الحق الآتي ولا شك فيه ، وأمر الله هنا عقابه وعذابه لمن أقام على الشرك وتكذيب الرسول ، وقد كان كفار مكة يستعجلون العذاب الذي وعدهم به رسول الله حتى قال النضر بن الحارث : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء .. وقيل أمر الله الآتي : هو قيام الساعة وما يتبعه من إحياء الموتى.

أتى أمر الله فلا تستعجلوه. سبحانه وتعالى عما يشركون أى : تنزيها له وتقديسا عما تشركون ، فالله ـ سبحانه ـ هو الواحد الأحد. تبرأ من أن يكون له شريك أو ولد وتعالى جنابه عن الشركاء.

ولقد كان استعجال العذاب وقيام القيامة منهم تكذيبا للنبي واستهزاء بوعده ، وذلك

٢٩٧

لون من الشرك وضرب من الكفر ، ولهذا قرن النهى عن الاستعجال بإثبات التنزيه له عن الشرك والتعالي عن الشركاء!!

ينزل الملائكة بالروح من أمره والروح هو الوحى الذي يحيى القلوب كما تحيى الروح موات الأبدان ، فالإنسان بلا روح جزء من طين أسود منتن ، وهو ـ بلا وحى يهديه ـ ميت لا حياة فيه (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) فالروح الذي ينزل من أمره ـ سبحانه ـ هو الحياة والنور والهدى والقرآن ينزله على من يشاء من عباده ، فالله أعلم حيث يجعل رسالته.

وينزل الملائكة بالروح من عنده أن أنذروا أهل الكفر بأنه لا إله إلا أنا فاتقون وبأن خافوا عقابي ، وارجوا ثوابي.

وفي هذه الآية (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ) توكيد لسابقتها وتفصيل لإجمالها ولذا فصل بينهما ، ومن دلائل التوحيد ومظاهر القدرة أيضا .. خلق السموات وما فيها والأرضين وما فيها فقد خلق العالم العلوي ، والعالم السفلى خلقهما بالحق الذي لا شك فيه لم يخلقهما عبثا ، ولكن ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى ، تعالى سبحانه وتسامى عما يشركون ، إذ هو الذي خلق وحده فهو الذي يعبد وحده.

وأما أنت أيها الإنسان فمخلوق ضعيف مهين حقير ، خلقت من نطفة مذرة ونهايتك جيفة قذرة ؛ خلقت من ماء مهين ، وآخرك عظم رميم. فإذا أنت خصيم مبين؟؟

تخاصم ربك وتجادل رسله (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ)؟ (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) وقد أتى أبى بن خلف الجمحي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعظم رميم (بال متفتت) وقال : يا محمد أترى أن الله يحيى هذا بعد ما قد رم؟! ما أجهلك يا ابن آدم.

لما ذكر الإنسان وأصله ذكر ما منّ به عليه من نعم لا تحصى فذكر أنه خلق الأنعام ، خلقها لكم يا بنى آدم فيها دفء من صوف ووبر ، وجلد وشعر وبلحمها وشحمها تتولد الحرارة الكافية لنشاط الجسم ، وفيها منافع ، نعم في الأنعام منافع جمة

٢٩٨

فهي عنصر للغذاء ، وآلة للعمل ، وناحية مهمة في الاقتصاد ، ومركب ذلول في السفر ، ومنها تأكلون لبنها وسمنها ولحمها وشحمها ، ولبنها غذاء جيد نافع.

ولكم فيها جمال وزينة ، وفرح ومسرة في رواحها بالعشي حيث تكون أبهى منظرا وأعلى أسنمة وأكثر لبنا ، تملأ البيت ثغاء ورغاء والعين جمالا والنفس سرورا ، ولذا قدم الرواح على السرور ، وهي تحمل أحمالكم الثقيلة إلى بلد لم تكونوا بالغيه وحدكم إلا بالمشقة والتعب فالجمل سفينة الصحراء ، ومركب الأعراب ، ولقد أعده العليم الخبير للسير فيها أرأيت خفه الذي لا يغوص في الرمال وصبره على الجوع والعطش الأيام الطوال ، إن ربكم لرءوف بكم رحيم. وخلق الخيل والبغال والحمير لتركبوها وتنتقلوا بها من مكان إلى آخر فتتخذونها للركوب والزينة ، ومهما تعددت السيارات والدراجات فلا يزال للإبل والبغال والحمير مكانتها عند أصحابها وأربابها ، ويخلق الله ـ سبحانه ـ غير ذلك مما لا تعلمون. أليس في هذا دليل على إعجاز القرآن الكريم؟ وأن خالقه يعلم بما كان وما سيكون فهذه العبارة جمعت الدراجة والسيارة والطيارة والسفينة وغير ذلك من المخترعات التي جدت وستجد وسبحان العليم البصير القوى القادر سبحانه وتعالى عما يشركون!.

ويستدل بعض الفقهاء بهذه الآية على عدم جواز لحوم الخيل والبغال والحمير لأنها خلقت للركوب والزينة بخلاف الأنعام.

يقولون من تداعى المعاني كلام الله ـ سبحانه ـ هنا على السبيل بخصوصه وإن كان ذلك من نعمه علينا بل هي نعمة من أجل النعم أن الله يهدينا إلى سواء السبيل.

وعلى الله وحده هدايتنا بواسطة رسله وكتبه إلى السبيل القصد والطريق الحق المستقيم (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى). (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) ومن السبيل طريق جائر عن العدل والحق فلا تتبعوه. طريق الشيطان والنفس والهوى فلا تسلكوه.

ولو شاء ربكم لهداكم أجمعين على طريق الإلجاء والقسر ، ولكنه بيّن وترك لك الاختيار ليجازيك عن عملك واختيارك (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) [سورة يونس آية ٩٩].

٢٩٩

ولا تنس أن الهداية نوعان هداية دلالة (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد ١٠] وهداية توفيق وإلجاء (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة ٦]. (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ).

من نعم الله علينا أيضا

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤) وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦))

٣٠٠