التفسير الواضح - ج ٢

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ٢

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٨٨٤

آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (٣١))

ضرب الله المثل للمؤمن يقول كلمة الحق ، وللكافر يقول كلمة الباطل والشرك ؛ وما يناله كل في الدارين ، وهنا ذكر الأسباب الموصلة إلى حسن العاقبة وإلى سوئها.

المعنى :

انظر أيها المخاطب متعجبا إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا ، وأحلوا قومهم دار البوار ، وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله.

عجبا لهؤلاء الكفار الذين وصفهم الله بثلاث صفات :

١ ـ بدلوا نعمة الله كفرا ، إذ شكر النعم الواجب عليهم ، وضعوا مكانه الكفر والجحود فكأنهم غيروا الشكر وجعلوا بدله الكفر ، وقد كان أهل مكة يسكنون حرم الله آمنين وجعلهم قواما عليه ـ وأكرمهم برسالة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أنفسهم عزيزا عليه عنتهم حريصا عليهم ، فكفروا بنعمة الله بدل ما لزمهم من الشكر العظيم. ألست معى في أنهم بدلوا شكر نعمة الله كفرا؟!!

٢ ـ وأحلوا قومهم الذين شايعوهم واتبعوهم في الكفر والضلال ، دار الهلاك والبوار الذي لا هلاك بعده ، وهي جهنم التي يصلونها وبئس القرار قرارهم.

٣ ـ يا عجبا لهؤلاء بدلوا شكر النعمة كفرا ، وأحلوا قومهم جهنم ، وجعلوا لله أندادا وشركاء من الأصنام والأوثان لتكون عاقبة أمرهم أنهم يضلون من شايعوهم واتبعوهم ..

وما كان لهذه الهنات التي وصفوا بها إلا هذا التهديد البليغ المعبر عنه بقوله : (قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) أى : اعملوا ما شئتم ، وسيروا كما أنتم سائرون (فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) ومرجعكم إليها حتما.

وقد سمى الله هذا العمل تمتعا لأنهم تلذذوا به. وأحسوا غبطة بعمله ، ولأنهم

٢٦١

منغمسون فيه ولا يعرفون غير الكفر والصد عن سبيل الله. كأنهم قد أمرهم آمر مطاع لا يسعهم أن يخالفوه ولا يملكون لأنفسهم أمرا دونه وهو أمر الشهوة. والمعنى : إن متم على ما أنتم عليه من الامتثال لأمر الشهوة فإن مصيركم إلى النار حتما.

هذا أمر الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وأحلوا قومهم جهنم ، وتلك عاقبتهم وبعد هذا أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأمر عباده المخلصين بالعمل المثمر النافع فهذا أوانه ، وأن يربيهم تربية إسلامية على العبادة والعمل.

قل يا محمد لعبادي الذين آمنوا بالله ورسوله : أقيموا الصلاة على وجهها الكامل فهي عماد الدين ، وأنفقوا مما رزقناكم الإنفاق المطلوب شرعا وعرفا ، الشامل للصدقة المطلقة والمقيدة بما في ذلك الزكاة الواجبة ، أنفقوا سرا في الصدقة ، ما لم تكن أنت قدوة يقتدى بك الغير ولم تقصد رياء ولا سمعة فالجهر أولى ، وفي الزكاة المفروضة أنفق جهرا وعلانية ، امتثلوا أمر الله ورسوله من قبل أن يأتى يوم ليس فيه بيع ولا شراء ولا تجدى فيه صداقة أو صحبة ، هو يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [سورة الحديد آية ١٥].

وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤))

٢٦٢

المفردات :

(سَخَّرَ لَكُمُ) ذلل (دائِبَيْنِ) دأب في العمل إذا سار فيه على عادة مطردة والمراد دائمين لا يفتران (لا تُحْصُوها) لا تحصروها (كَفَّارٌ) شديد الكفر والجحود للنعم.

من الناس من بدل شكر النعم كفرا ، ومنهم من قام بالشكر الواجب عليه ، وأقام شعائر الدين بالصلاة والزكاة وغيرها ، وفي هذه الآيات بيان للنعم التي توجب الشكر لله حيث أنعم بها علينا وتوجب النقم والعذاب على من لم يشكر الله عليها.

المعنى :

الله ـ جل جلاله ـ ، وتقدست أسماؤه ، المعبود بحق. الذي لا إله غيره ، ولا معبود سواه ، هو الذي خلق السماوات والأرض ، وما فيهن. وما في العالم العلوي من الأجرام السماوية ، والكواكب السيارة ، والهواء والأثير ، والشمس والقمر وغير ذلك مما لا نعلمه آيات ودلائل على عظم قدرة الله ، وكمال نعمه على الوجود وكذلك ما في العالم السفلى من الأرض ومعادنها والعوالم التي فيها آيات ناطقة لقوم يتفكرون.

الله ـ سبحانه وتعالى ـ هو الذي أنزل من السماء ماء ، وجعل منه كل شيء حي وأخرج بسببه من الثمرات أنواعا وأشكالا مختلفة لا يعلمها إلا هو رزقا للعباد ، وأحيا بالماء ميتا وصحراء مجذبة.

وهو الذي سخر لكم يا بنى آدم وذلل لكم الفلك لتجرى فوق سطح الماء فتنقلكم وتنقل متاعكم حيث تريدون فهو الذي أرشدكم لصنعها وهو الذي سخر البحر لحملها والريح والبخار لتحريكها وسبحان الله خالق كل شيء فاعبدوه.

وهو الذي سخر لكم الأنهار ، وشقها في بطون الأودية وجعل منها حياة الأقاليم والأقطار. ألا ترى إلى نهر النيل والفرات وغيرهما؟!

وهو الذي سخر الشمس والقمر دائبين في الحركة ، دائمين لا يفتران (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (١).

__________________

(١) سورة يس الآية ٤٠.

٢٦٣

وهو الذي سخر لكم الليل والنهار ، فالنهار للمعاش والعمل ، والليل للسكون والراحة (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) فالشمس والقمر يتعاقبان والليل والنهار يتعارضان (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) [سورة لقمان آية ٢٩].

وآتاكم كل ما تحتاجون إليه على حسب طاقتكم وقوتكم واستعدادكم من كل الذي هو حقيق أن تسألوه سواء سألتموه أو لم تسألوه ، وذلك لأنه خلق لكم ما في الأرض جميعا ، وسخر لكم قوى الطبيعة كلها حتى تكون تحت تصرفكم ، والحمد لله نرى الإنسان استخدم البخار والأثير والهواء والريح والكهرباء وغيرها.

دعاء إبراهيم عليه‌السلام

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩)

٢٦٤

رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (٤١))

المفردات :

(وَاجْنُبْنِي) أبعدنى ، وباعد بيني وبينها (تَهْوِي إِلَيْهِمْ) شوقا وحبا (يَقُومُ الْحِسابُ) يتحقق الحساب ويوجد.

هذا بيان للنعم الخاصة بالعرب لا سيما سكان الحرم بعد بيان النعم العامة وهذه هي المناسبة بين الآيات وما قبلها.

المعنى :

واذكر يا محمد وقت قول إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ داعيا إلى الله طالبا منه الإجابة وقد تعود إبراهيم من ربه أن يجيبه إلى طلبه.

رب اجعل هذا البلد آمنا ، لا يسفك فيه دم ، ولا يظلم فيه أحد ، ولا يصاد فيه صيد ولا يقطع فيه شجر (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [سورة العنكبوت آية ٦٧].

واجنبنى يا رب وباعد بيني وبين عبادة الأصنام أنا وبنى لصلبى ، وقد استجاب الله دعاءه في بعض بنيه دون بعض.

يا رب إن الأصنام قد أضلت كثيرا من الناس ، وأزالتهم عن طريق الحق والصواب إلى طريق الباطل والضلال ، فمن تبعني وصدقنى فيما دعوته إليه من الإيمان الكامل والتوحيد الخالص فإنه منى ، ومستن بسنتي وسائر على طريقتي ، ومن عصاني فإنك غفور رحيم ـ في غير الشرك بالله ـ وقادر على أن تغفر له وترحمه بالتوبة عليه والهداية إلى الصراط المستقيم.

٢٦٥

يذكر الله ـ تعالى ـ في هذا المقام محتجا على مشركي العرب بأن البلد الحرام مكة إنما وضعت أول ما وضعت على عبادة الله وحده لا شريك له ، وأن إبراهيم أبو العرب تبرأ من عبادة الأصنام ، ودعا لمكة بالأمن ، وهذا دعاء ثان لإبراهيم بعد أن بنى البيت لإسماعيل ، يا ربي إنى أسكنت بعض ذريتي وهم أولاد إسماعيل بواد غير ذي زرع وهو واد بمكة عند بيتك المحرم الذي لا يستباح فيه ما يستباح في غيره من صيد طيره وقطع شجره ، ولا يحتمي إلا بحماه ، وهو محرم فيه القتال والنزاع ، يا رب إنى أسكنت بعض ذريتي في هذا الوادي القفر ليقيموا الصلاة متوجهين إليه متبركين به وإنما خصت الصلاة بالذكر دون سائر العبادات لمزيد فضلها.

ويظهر أن سكان البلاد الزراعية كثيرا ما تشغلهم الزراعة وتوابعها عن إقامة الصلاة كاملة. ولهذا كانت النواة الأولى للإسلام في تلك البقاع.

فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات ، وقد حقق الله دعاء إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وحديثا ترى الناس في كل عام ، وقد تملكهم حب عميق وحنين إلى الحج وزيارة الأماكن المقدسة باذلين فيها الكثير من الأموال في الصدقات والبيع والشراء ، وهذا مما يحدث في البلاد حركة تجارية تجعل التجار يجلبون إلى مكة الثمرات والأرزاق من كل قطر ، كل هذا رجاء أن يشكروا تلك النعمة بإقامة الصلاة وأداء واجب العبادة.

وفي هذا إشارة إلى أن تحصيل المال يعين عن أداء الواجبات الدينية ربنا إنك تعلم ما تخفى قلوبنا وما تعلن ، وما يخفى على الله شيء أبدا في الأرض ولا في السماء؟ إذ هو عالم الغيب والشهادة السميع البصير.

الحمد لله الذي استجاب الدعاء ووهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق وإن ربي لسميع دعائي الذي أدعو به ومجيب له ، وقد عودنى ذلك.

يا رب اجعلنى مقيم الصلاة ، ومؤديها كاملة تامة الأركان والشروط واجعل ـ أيضا ـ من ذريتي من يقيم الصلاة ويؤديها.

ربنا وتقبل دعائي ، واقبل عبادتي فإنها خالصة لك :

ربنا اغفر لي واغفر لوالدي واغفر للمؤمنين يوم يقوم الحساب ويتحقق الميزان ،

٢٦٦

اغفر لي يا رب ما فرط منى أنا ووالدي والمؤمنين ، وما دعاؤه لأبيه واستغفاره له إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه.

تذكير وعظة بيوم القيامة ومشاهده

(وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (٤٣) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٤٦) فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (٤٧) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى

٢٦٧

وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٥١) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٥٢))

المفردات :

(تَشْخَصُ) ترفع (مُهْطِعِينَ) مسرعين إلى الداعي (مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ) ناظرين بأبصارهم إلى ما بين أيديهم من غير التفات إلى شيء (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) لا ترجع إليهم بأبصارهم ، وأصل الطرف تحريك الأجفان وسميت العين طرفا لأنه يكون بها (أَجَلٍ) أى زمن قريب (مِنْ زَوالٍ) من انتقال (مُقَرَّنِينَ) مشدودين مع بعض (فِي الْأَصْفادِ) القيود واحدها صفد (سَرابِيلُهُمْ) جمع سربال وهو القميص (قَطِرانٍ) القطران والهناء شيء كالزفت تدهن به الجمال من الجرب (بَلاغٌ) كفاية في العظة والتذكير ..

بعد ما ذكر الله ـ جل شأنه ـ حال الذين بدلوا نعمة الله وجزاءهم ، وما يجب أن يكون عليه المؤمنون من العبادة وإقامة أحكام الدين ثم ذكر مقالة إبراهيم ودعاءه لبنيه علهم يتعظون ، ذكر الله هنا هذا التهديد الشديد للكفار مع ذكر بعض مشاهد يوم القيامة ليعلم الجميع عاقبة الكفر ومآله!!

المعنى :

ولا تحسبن يا محمد أن الله غافل عما يفعله الظالمون ، بل هو محصيه ومحيط به وسيجازيهم على ذلك. فلا تظن أن الله يهملهم لا ؛ إنه يمهل ولا يهمل ، وهو يملى للظالمين ، ولكن لا عن غفلة بل عن حكمة ودقة ، إذ اقتضت حكمته أن تكون الدنيا أهون عند الله من جناح بعوضة فليست محل عقوبة بل عقوبتهم يوم القيامة إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار وخطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا وأمثاله كقوله : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [سورة الأنعام آية ١٤] (وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) [سورة الشعراء آية ٢١٣]

٢٦٨

من باب [إياك أعنى واسمعي يا جارة] ففي الظاهر خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي الواقع هو لأمته. وفي ذلك تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتطمين لخاطره.

إنما يؤخر هؤلاء الكفار وعذابهم ليوم القيامة تشخص فيه الأبصار ، وترتفع إلى السماء من شدة ذهولهم ، واضطراب نفوسهم.

مهطعين إلى الداعي ومسرعين نحوه ، مقنعي رءوسهم ورافعيها مع دوام النظر من غير التفات إلى شيء أبدا ، وكيف لا؟ وهو يوم الذهول ويوم الصاعقة والحاقة والصاخة ، ويوم الفزع الأكبر لمن لم يعمل له ، مقنعي رءوسهم لا يرتد إليهم طرفهم ولا يطرفون أبدا من شدة الهول ، وسوء الفزع ، وأفئدتهم مضطربة متحركة كالهواء المتحرك ؛ وهذا حالهم يوم الفزع الأكبر؟

وأنذر الناس جميعا يوم يأتيهم العذاب فيقول الظالمون هلعا وجزعا : ربنا أرجعنا إلى الدنيا وأعطنا مهلة قليلة نجب فيها دعوتك إلى التوحيد ، وإخلاص العبادة لك ، ونطيع فيها الرسل. ثم انظر إلى الرد عليهم.

أو لم تكونوا أقسمتم من قبل مالكم من زوال أبدا!!؟ يقال لهم توبيخا : ألم تقسموا في الدنيا أنكم إذا متم فلا بعث ولا حساب؟!! ولا زوال ولا انتقال لحياة أخرى! (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) [سورة النحل آية ٣٨].

وقد سكنتم في مساكن الظالمين لأنفسهم ، وعرفتم مآلهم وعاقبتهم. وتبين لكم كيف فعلنا بهم حينما كفروا وعصوا الرسل ، وضربنا لكم الأمثال ، ولكنكم لم تعتبروا ولم تتعظوا ..

وها هي ذي حالكم الآن تتغير عن حالهم ، وقد مكروا مكرهم جهد طاقتهم ، وعند الله مكرهم لا محالة فكل شيء مكتوب ومسجل عليهم وسيحاسبهم الحساب الشديد. وما كان مكرهم لتزول منه الآيات الرواسخ بل هي كالجبال الشم ، وكيف يتم لهم ما أرادوا ، والله متم نوره ولو كره الكافرون.

وإذا كان الأمر كذلك فلا تحسبن الله مخلف وعده لرسله حيث يقول (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا) والله لا يخلف الميعاد أصلا مع الكل فكيف يخلف وعده مع رسله وأحبابه؟ إن الله عزيز لا يغلب ذو انتقام ، وهذا تذييل للآية

٢٦٩

مناسب ، والله هو المنتقم الجبار يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات كذلك وهل تبدل في الشكل والموضوع أو الشكل فقط؟ أو تغير الحقيقة كلها؟ الله أعلم بذلك.

وبرزوا لله الواحد القهار ، وترى المجرمين يومئذ مشدودين بعضهم مع بعض ومشدودين أيديهم إلى أرجلهم تراهم مقرنين ومشدودين في الأصفاد والأغلال والقيود ..

سرابيلهم من قطران ـ يا سبحان الله أنت الواحد القهار ـ والكافرون يوم ذاك في غاية الذلة والضعف مقرنون في الأصفاد والأغلال ، ولهم سرابيل من القطران وتغشى وجوههم النار.

وفي هذا إيلام لهم شديد لأمور :

١ ـ كونهم في الأغلال مع بعض «فكبكبوا فيها هم والغاوون».

٢ ـ كون قميصهم من القطران ، والمراد أن جلودهم تطلى بالقطران حتى تسرع النار في الاشتعال مع سواد البشرة ونتن الرائحة.

٣ ـ كون وجوههم تعلوها النار وتغشاها وهي محط كبرهم في الدنيا ؛ (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) [سورة القمر آية ٤٨].

كل ذلك ليجزي الله كل نفس ما كسبت فمن يعمل صالحا يجز به ، ومن يعمل سوءا يجز به جزاء وافيا : إن الله سريع الحساب ، وشديد العقاب.

هذا القرآن الكريم بلاغ للناس ، وأى بلاغ أقوى من هذا؟

ولينذروا بعقابه ويبشروا بثوابه ، وليعلموا أنما هو إله واحد وليتذكر أولو الألباب والعقول الراجحة ..

٢٧٠

سورة الحجر

مكية. وحكى القرطبي الإجماع على ذلك. وعدد آياتها تسع وتسعون ، وسميت سورة الحجر لذكر قصة أصحاب الحجر فيها ، وهي كبقية السور المكية تدور حول نقاش المشركين في معتقداتهم وأفكارهم وما يتبع ذلك من إثبات البعث وبيان مظاهر قدرة الله أو تذكير الإنسان بنشأته الأولى ، وعلاقته بالملائكة والجن ، ثم ذكر قصص بعض الأنبياء ، وختام السورة بالحديث مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥) وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي

٢٧١

قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥))

المفردات :

(رُبَما) وقرأ بعض القراء (ربّما) وهما لغتان فأهل الحجاز يخففون ، وتميم وربيعة يثقلون أى : يشددون ، والأصل أن تستعمل في القليل وقد تستعمل في الكثير والقرآن الكريم نزل على النبي وقرأه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلهجات العرب تخفيفا عليهم وتسهيلا لحفظهم (ذَرْهُمْ) دعهم (وَيُلْهِهِمُ) يشغلهم الأمل وتغرهم الأمانى الخادعة لوما بمعنى هلا وهي كلمة تفيد التحضيض (مُنْظَرِينَ) المعنى مؤخرين ومؤجلين (شِيَعِ) جمع شيعة وهي الفرقة والجماعة المجتمعون على رأى واحد (نَسْلُكُهُ) يقال سلك الشيء في الشيء أدخله فيه (يَعْرُجُونَ) يصعدون (سُكِّرَتْ) حبست عن الإبصار كما يحبس النهر من الجري وقيل المراد : حارت كما يحار السكران والمراد منعت من النظر السليم.

هذا افتتاح لسورة الحجر ـ وهي سورة مكية ـ بذكر حروف من حروف المعجم ، وهي كغيرها المبدوء بهذه الحروف ، قد جمعت بين الكلام على القرآن الكريم وذكر بعض القصص ونقاش الكفار والمشركين ، ومن هنا كانت المناسبة بينها وبين سورة إبراهيم ظاهرة.

المعنى :

تلك الآيات ـ والإشارة لآيات السورة ـ آيات الكتاب الكامل في كل شيء ، وآيات قرآن مبين كامل في البنيان ، وأنت ترى أنه جمع بين اسمى القرآن الكريم بالعطف لأنهما مقصودان بالذات ، وكان تنكير لفظ قرآن للتفخيم ، ولا غرابة في ذلك فهو القول الحق الصادر من الحق ـ سبحانه وتعالى ـ ، ولذا ترى الكفار حينما يجدون ما وعدهم ربهم حقا يوم القيامة يودون لو كانوا مسلمين.

٢٧٢

نعم كثيرا ما يودون لو كانوا مسلمين حينما يرون العذاب يصب عليهم صبّا والمسلمون في جنات النعيم ، وقيل إنهم يودون ذلك في بعض المواضع لا في كلها لشغلهم بالعذاب ، ولفظ ربنا يستعمل للتكثير والتعليل ، وأما أنت يا محمد : فدعهم ، ولا يهمنك أمرهم فهم لا يرعوون ، ذرهم يأكلوا كما تأكل الأنعام ويتمتعوا بالعرض الزائل والمتاع الفاني ، ويلههم الأمل وتغرهم الأمانى ، فسوف يعلمون عاقبة عملهم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

وفي قول القرآن الكريم لهم على لسان الرسول : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا) منتهى التهديد والذم لهم ، وتصوير بارع لما انطوت عليه نفوسهم وإن من يعرف مقدار ألم الزبرقان بن بدر ـ رضي الله عنه ـ حينما هجاه الخطيئة بقوله :

دع المكارم لا ترحل لبغيتها

واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسى

وشهادة حسان بن ثابت بأن الشاعر ساح عليه أى عابه عيبا فظيعا يدرك مقدار ذم القرآن لهم وأنهم يستحقون ذلك.

ولله سنة لا تتخلف مع الأمم : وهي أنه لا يهلك قرية من القرى أبدا إلا في حال أن لها كتابا معلوما وأجلا محدودا. لا تسبق أجلها عنه (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ). (ولِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) [سورة الرعد آية ٣٨].

ولقد قالوا مقالتين جانبوا فيهما الصواب. وافتروا الباطل الصريح ورد القرآن الكريم عليهما :

قالوا : يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون. وفي قولهم للنبي وندائهم له ـ بالذي نزل عليه الذكر ـ استهزاء وأى استهزاء؟! ومعنى قولهم هذا : إنك لتقول قول المجانين حين تدعى أن الله أنزل عليك الذكر هي المقالة الأولى ..

وأما الثانية فهي : (لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) على معنى تأتينا بالملائكة يشهدون بصدقك ويعضدونك في قولك (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) [سورة الفرقان آية ٧]. وبعضهم يرى أن المعنى : هلا تأتينا بالملائكة للعقاب على تكذيبنا إن كنت صادقا في دعواك (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [سورة الأنفال آية ٣٢].

٢٧٣

ولقد رد عليهم فقال ما معناه : لسنا ننزل الملائكة أبدا إلا تنزيلا متلبسا بالحق من عندنا والحكمة التي نعلمها ، وليس هناك حكمة في أن تروا الملائكة عيانا يشهدون بصدق النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو المعنى : ما ننزلهم بالعذاب إلا بالحق وفي الوقت المقدر بالضبط ، ولو نزلنا الملائكة وقتئذ ما كانوا منظرين ، وما أخر عنهم العذاب لحظة. وهذا رد على مقالتهم الثانية :

وأما الرد على الأولى فها هو ذا : إنا نحن نزلنا الذكر ـ فأكد لهم أنه ـ سبحانه ـ هو المنزل على سبيل القطع والجزم ، وأنه هو الذي بعث به جبريل إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين يديه ومن خلفه حفظة ورصدة يحفظون القرآن حتى يبلغه جبريل إلى النبي محفوظا تاما غير منقوص ولا مزيد فيه ، نعم إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ، وتلك خصوصية للقرآن قد تكفل الله وحده بحفظه ورعايته ما دامت السموات والأرض ولذلك لم ير فيه في أى وقت ولا في أى مكان زيادة أو نقصان ولا تحريف ولا تبديل بخلاف الكتب السابقة حيث وكل الله أمر حفظها للربانيين والأحبار فاختلفوا فيما بينهم بغيا وعدوانا واشتروا بآيات الله ثمنا قليلا وعرضا حقيرا فكان التحريف والتبديل الظاهر في كل طبعة من طبعات الكتب السابقة (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ) [سورة المائدة آية ٤٤].

وأما أنت يا محمد فلست بدعا من الرسل ـ والناس هكذا قديما وحديثا ـ فلا تأس على القوم الكافرين ، ولقد أرسلنا من قبلك رسلا مبشرين ومنذرين في شيع وفرق وأمم سابقة ، وما أتاهم من رسول قبلك إلا كانوا به يستهزئون ، وعليه غاضبون ، وبه كافرون ، وتلك سنة الله في الخلق.

مثل ذلك التكذيب والكفر الذي أدخل في قلوب المجرمين السابقين ندخله في قلوب المجرمين المعاصرين ، أو المعنى : مثل ذلك الإدخال ندخل القرآن مكذبا به ومستهزئا به في قلوب المجرمين حالة كونهم لا يؤمنون أبدا مهما حاولت وفعلت ، ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فعرجوا فيه وصعدوا إلى السموات العلا ورأوا من آيات ربك الكبرى ، وكان ذلك في وضح النهار وتحت نور الشمس لو حصل هذا لقالوا : إنما سكرت أبصارنا وحبست عن الإبصار ونحن في حيرة وارتباك ، وعبارتهم تفيد حصر

٢٧٤

الإسكار في البصر فقط ، أما العقل والوجدان فهم يعتقدون به كذلك في دعواهم. بل نحن مسحورون ، أضربوا عن قولهم سكرت أبصارنا إلى قولهم بل نحن مسحورون ، والمعنى : أن هؤلاء المشركين بلغ من عنادهم أن لو فتح لهم باب من أبواب السماء ويسر لهم معراج يصعدون فيه ورأوا عيانا لقالوا هذا شيء خيالي لا حقيقة فيه بل قالوا قد سحرنا محمد ، كبرت كلمة تخرج من أفواههم وكذبوا في دعواهم الباطلة.

من مظاهر قدرته وآثار نعمه

(وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥))

المفردات :

(بُرُوجاً) جمع برج وهي القصور والمنازل وأصل البروج الظهور ومنه قيل : تبرجت المرأة إذا أظهرت زينتها ، والمراد هنا منازل الشمس والقمر والنجوم السيارة ،

٢٧٥

وللعرب في معرفة النجوم ومنازلها علوم ومعارف. (رَجِيمٍ) مرجوم (اسْتَرَقَ السَّمْعَ) تسمعه بخفة وحذر (فَأَتْبَعَهُ) أى تبعه : أدركه (شِهابٌ مُبِينٌ) المراد به الكواكب أو النار المشتعلة التي نراها في السماء ، انظر إلى قوله : «شهاب قبس» (مَدَدْناها) بسطناها وفرشناها ومهدناها (رَواسِيَ) المراد الجبال ، (مَوْزُونٍ) مقدر بميزان الحكمة والعلم الصائب (خَزائِنُهُ) جمع خزانة وهي ما تحفظ فيه الأشياء (لَواقِحَ) أى : حوامل للسحاب والتراب ؛ واللقاح للشجر انظر إلى قوله : (حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً) أى : حملت ، وقولهم : ناقة لا قح أى : حامل.

المناسبة :

ما تقدم كان في شأن الكفار وأحوالهم ، وما قالوه وتمنوه بعد ظهور الحقائق وعجز الآلهة : وهنا بيان لقدرة الله الباهرة وخلقه البديع المحكم ، ونعمه التي لا تحصى ليكون دليلا على وحدانيته ، وأنه وحده المعبود بحق.

المعنى :

تالله لقد جعلنا في السماء بروجا وسيرنا فيها منازل الشمس والقمر والنجوم ، وزيناها للناظرين المفكرين ، والباحثين المعتبرين ، إن ذلك لآيات لقوم يتفكرون (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً) [سورة الفرقان آية ٦١].

روى عن ابن عباس قال : ولقد كانت الشياطين لا يحجبون عن السماء فكانوا يدخلونها ويتسمعون من سكانها الأخبار ، ويلقون أخبارها على الكهنة فيزيدون عليها ويحدثون بها أهل الأرض ، كلمة حق واحدة وتسع باطلة. فإذا رأى الناس شيئا مما قالوه حقّا صدقوهم في كل ما جاءوا به. فلما ولد عيسى ابن مريم منعوا من ثلاث سماوات ، فلما ولد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم منعوا من السموات كلها ، فما منهم من أحد يريد استراق السمع إلا رمى بشهاب.

(إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ. وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ. لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ. دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ. إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) [سورة الصافات ٦ ـ ١٠]

٢٧٦

(وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً. وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) [سورة الجن الآيتان ٨ و ٩].

وهذا يبين لنا معنى قوله تعالى هنا : (وحفظناها من كل شيطان رجيم إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين) : على معنى حفظنا السماء من الشياطين بمنعهم من الصعود إليها إلا من استرق السمع فحفظناها منهم بأن أعددنا لهم شهابا رصدا ليصيبه ، وقيل المعنى : وحفظناها من كل شيطان رجيم ولكن من استرق السمع أعددنا له وهيأنا له شهابا رصدا ، وهم يسترقون غير الوحى من الأخبار أما الوحى فهم ممنوعون منه دائما لقوله تعالى : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ. ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ. وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ. وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ. إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) وإذا استرق الشيطان وتسمع شيئا ليس بوحي قيل : إنه يقذفه بسرعة إلى الكهنة بواسطة أعوانه ثم تتبعهم الشهب فتقتلهم أو تصيبهم بسوء فقط وهذا رأى بعيد ، والصحيح أن الشهاب يقتلهم قبل إلقائهم الخبر فلا تصل أخبار السماء إلى الأرض أبدا إلا عن طريق الأنبياء والوحى ، ولذلك انقطعت الكهانة ببعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) وهذا هو الرأى الذي أميل إليه.

هذه نظرة إلى السماء وما فيها بالإجمال ، ثم بعد ذلك تعرض القرآن إلى الأرض التي تقلهم : فقال : والأرض مددناها وفرشناها ، وجعلناها ممهدة صالحة للسكنى والمعيشة عليها ، وألقى الله فيها رواسى من الجبال شامخات حتى لا تميد بكم ولا تضطرب ، وهي دائرة في مدارها حول الشمس وحول نفسها وليس في الآية دليل على أن الأرض ليست كروية بل هو الدليل القوى على كمال قدرة الله وتمام عظمته إذ كل منا يراها منبسطة رغم تكويرها ، ثابتة رغم تحركها.

يا سبحان الله ، لقد ثبت بما لا يقبل الشك أن الأرض كروية ومع هذا فالذي في القطب الشمالي وأخوه الذي في القطب الجنوبي كل منهما يرى أرضه منبسطة ممهدة وهي تقله وله سماء تظلله والماء حوله ساكن ثابت فسبحانه وتعالى قادر حكيم!!!

والأرض فرشناها فنعم الماهدون ، وألقينا فيها رواسى وأنبتنا فيها كل شيء من النبات موزون بميزان الحكمة والتقدير ، ليس في الأرض على سعتها نبات ليس له وزن وفائدة ، بل كل شيء لحكمة ومصلحة قد تخفى على الكثير منا ، والطب الحديث يكشف لنا

٢٧٧

كل يوم أسرارا من النبات والأعشاب ، وقد جعل الله لنا فيها معايش ورزقا وجعل فيها لمن لستم له برازقين من حيوان وخدم وأولاد فإن الله هو الرزاق ذو القوة المتين.

وما من شيء في هذا الكون إلا ونحن قادرون على إيجاده والإنعام به ، وما نعطيه إلا بقدر حسب الحكمة والعلم الشامل فذكر الخزائن من باب التمثيل لا الحقيقة ، والله أعلم.

وأرسلنا الرياح لواقح أى : حوامل ، نعم الريح تحمل السحب والسفن وتذرو التراب وتحمله حتى تكاد تنقل الجبال من مكانها ، وتلقح النبات والأشجار ، وتلقيح الشجر أمر أظهره العلم الحديث فقد اكتشف لنا أن كل زهرة أو ثمرة فيها ذكر وأنثى وتحتاج إلى اللقاح ، ويحمل لقاحها الريح وبعض الحيوانات ، فأنزلنا من السماء بواسطة الرياح ماء لكم منه شراب فأسقيناكموه ، ولستم له بخازنين ، وهل يمكننا حجز مياه النيل كلها وقت الفيضان؟!! أو حجز مياه الأمطار؟

ثم تعرض القرآن لذكر شيء له الأثر العميق في نفوسنا وهي قصة الموت والحياة فالمولى القدير يحيى وحده ويميت وحده كل المخلوقات (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (١) وتالله لقد علمنا المستقدمين منكم في الحياة والموت والعمل وكل شيء ، وتالله لقد علمنا المستأخرين في الحياة والموت والعمل ، وكل شيء عند ربك في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.

وأن ربك هو يحشرهم ويحاسبهم إنه هو الحكيم في كل شيء العليم بكل شيء ـ سبحانه وتعالى ـ ..

قصة آدم وتكوينه ، وعلاقته بالملائكة والجن

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ

__________________

(١) سورة القصص الآية ٨٨.

٢٧٨

صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤))

المفردات :

(صَلْصالٍ) طين يابس يصوت إذا نقرته كما يصوت الحديد (مِنْ حَمَإٍ) الحمأ الطين الأسود (مَسْنُونٍ) متغير مأخوذ من قولهم أسن الماء إذا تغير قال القرطبي : كان أول الأمر ترابا أى : متفرق الأجزاء ، ثم بلّ فصار طينا ، ثم ترك حتى أنتن فصار حمأ مسنونا ، أى : متغير الرائحة ، ثم يبس فصار صلصالا ، وقوله ـ تعالى ـ من

٢٧٩

حمأ مفسر لجنس الصلصال كقولك : أخذت هذا من رجل من العرب (وَالْجَانَ) هو إبليس وسمى بذلك لتواريه عن الأعين (السَّمُومِ) النار لا دخان لها وقيل السموم الريح الحارة التي تقتل سميت بذلك لتأثيرها على مسام الجسم (فَأَنْظِرْنِي) أمهلنى (بِما أَغْوَيْتَنِي) الغواية ضد الرشد (لَأُزَيِّنَنَ) لأحسنن لهم المعاصي (الْمُخْلَصِينَ) الذين استخلصهم الله. وقرئ المخلصين على معنى الذين أخلصوا لك العبادة من فساد أورياء.

وهذا مظهر ـ أيضا ـ من مظاهر قدرة الله وعظمته وفيه بيان فضل الله على آدم وبنيه ، وتكريمه حيث أمر الملائكة بالسجود له ، مع بيان أثر مخالفة الله والتحذير من الشيطان وو وسوسته.

المعنى :

ولقد خلق الإنسان الأول أعنى آدم أبا البشر من طين جاف أصله طين أسود منتن متغير الرائحة.

وإن الإنسان منا ليقف أمام أسرار كلام الله ودقائقه مبهوتا متحيرا ، وصدق الله (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [سورة الإسراء آية ٨٨].

نعم خلقنا الله من طين جاف له صوت إذا نقر ، أصله طين أسود منتن متغير وفي هذا إشارة إلى ما فينا من طبع وما نحن عليه من خلق وغريزة!

وفي الحديث «إنّ الله ـ عزوجل ـ خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض ، فجاء بنو آدم على قدر الأرض ، فجاء منهم الأحمر والأسود وبين ذلك ، والسّهل والحزن والطّيّب والخبيث».

وإذا عرفنا أننا خلقنا من طين أسود منتن الرائحة (حمأ مّسنون) عرفنا السرفى في وقوعنا في الآثام ، وارتماء أكثر الناس في أحضان الرذيلة ولو بحثنا لوجدنا لنا رائحة تزكم الأنوف ، وتصد النفوس.

٢٨٠