التفسير الواضح - ج ٢

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ٢

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٨٨٤

الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (١٦))

المفردات :

(الْبَرْقَ) شرارة كهربائية تظهر في السماء من اتصال سحابتين مختلفتين في كهربتهما (الرَّعْدُ) هو صوت احتكاك الهواء الناشئ من تفريغ جزء منه بسبب احتراقه بالشرارة (الصَّواعِقَ) جمع صاعقة وسببها أن السحب قد تمتلئ بكهربة شديدة والأرض بكهربة أخرى مخالفة. فإذا اقتربت السحب من الأرض حصل احتكاك كهربائى تنشأ عنه صاعقة إذا صادفت شيئا أحرقته ، وللبرق والرعد والصاعقة تفسيرات أخرى لا تلتئم في ظننا مع القواعد العلمية الحديثة (يُجادِلُونَ) الجدال شدة الخصومة (الْمِحالِ) الماحلة والكيد للأعداء (ضَلالٍ) ضياع وخسارة (ظِلالُهُمْ) جمع ظل وهو الخيال المقابل للشمس الذي يظهر للجرم (بِالْغُدُوِّ) جمع غداة وهي أول النهار (وَالْآصالِ) مفردها أصيل وهو ما بين العصر إلى المغرب.

هذا امتداد لبيان صفات الله القدسية ، ووصفه بمظاهر العلم والإحاطة ، والقدرة والكمال ، وتفرده بالألوهية والربوبية.

المعنى :

هو الله ـ سبحانه وتعالى ـ الذي يريكم البرق الخاطف ، والنور اللامع ، الذي يظهر فجأة ويختفى من تقارب سحابتين مختلفتين في الكهرباء ، هو الذي يسخر البرق بشيرا بمطر يطمع فيه من له حاجة إليه ، ونذيرا لمن يخاف المطر كمن في جرينه قمح أو شعير أو هو مسافر يضره المطر ، يا سبحان الله! لك في خلقك شئون ونظام.

وهو الذي ينشئ السحاب الثقال بالماء ، ويسبح الرعد بحمده تسبيحا بلسان الحال لا بلسان المقال (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) وفي المأثور عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله إذا سمع صوت الرعد والصواعق : «اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك» رواه البخاري وأحمد ، وتسبيح الملائكة

٢٢١

من هيبته وجلاله. وما أجهلك يا ابن آدم إنك لظلوم جهول يسبح الجماد في الأرض والسماء وتسبح الملائكة رهبة من جلاله ، وأنت يا ابن آدم خلقت من مادة وروح ففيك شيء من الجماد وشيء من الملائكية (الناحية الروحية) ومع هذا فكثير منكم يا أبناء آدم لا تسبحون ولا تعبدون الله وحده.

وهو يرسل الصواعق المحرقة المبيدة فيصيب بها من يشاء من خلقه.

والحال أن الكفار مع هذا كله يجادلون في لله ـ سبحانه وتعالى ـ وفي رسوله وفي الحساب والجزاء ؛ وهو شديد المحال شديد البطش والكيد لأعدائه شديد الحيلة ينزل بأعدائه عذابه من حيث لا يشعرون ، وهو القادر على أن ينزل عليكم العذاب من فوقكم ومن تحت أرجلكم (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) [سورة النمل آية ٥١].

له ـ سبحانه وتعالى ـ دعوة الحق ، ودعاء الصدق ، له وحده العبادة ومنه الاستعانة ، وإليه التضرع وعليه التوكل ، إذ هو وحده له دعوة الحق. سبحانه وتعالى ، فهو الخالق والمبدئ والمعيد ، والرحيم الودود ، ذو العرش المجيد ، فعال لما يريد ، جل شأنه ، وتباركت أسماؤه ؛ والذين يدعونهم من دونه كالأصنام والأوثان والأحجار والمعبودات لا يستجيبون لهم بشيء وكيف يستجيبون؟ وهم أضعف من الضعف ، بل إن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ، هؤلاء الشركاء لا يستجيبون لهم بشيء مما يريدونه من نفع أو إزالة ضر إلا استجابة كاستجابة الماء لمن بسط كفه إليه من بعيد ليبلغ فاه وهو عطشان فهل يجيبه الماء؟. إنه لا يجيبه لأنه جماد لا يعقل دعاء ، ولا يشعر به.

وما دعاء الكافرين أصنامهم ، وما عبادتهم لهم إلا ضلال وخسران : وضياع وهلاك.

ولله وحده ـ تبارك وتعالى ـ يسجد من في السموات والأرض من الملائكة والإنس والجن يسجدون سجود انقياد وامتثال طائعين إن كانوا مؤمنين ومكرهين إن كانوا كافرين.

نعم لله يسجد ما في السموات وكل ما في الأرض من حيوان ونبات وجماد وإنسان وجن وملك ، كلهم خاضعون منقادون للذي خلقهم وفطرهم بقدرته وإرادته.

٢٢٢

وظلالهم خاضعة كذلك بالغدو والآصال. خاضعة لقدرة لله فهو الذي سخر الشمس وغيرها.

أمر رسول الله أن يسألهم : قل يا محمد لهم : من رب السموات والأرض؟ ولما كانوا يقرون بأن الله خلقهما وهو ربهما ولا سبيل إلى إنكار ذلك أبدا أمر أن يجيب ويقول : قل : الله!! (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) [سورة الزخرف آية ٩].

قل لهم أفاتخذتم من دونه أولياء؟!! أى وإذا كان الأمر كذلك وأنتم تقرون بأنه الخالق والرب للسماء والأرض فما بالكم اتخذتم من دونه أولياء عاجزين لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا؟! قل لهم : هل يستوي الأعمى عن طريق الحق والبصير به؟ بل هل تستوي الظلمات والنور؟ وجمع الظلمات وأفرد النور لأن طريق الحق واحد وطرق الباطل متعددة.

بل أجعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه؟ فتشابه خلق الشركاء بخلق الله عندهم.

والمعنى ليس الأمر على هذا يشتبه عليهم ويختلط ، بل إذا فكروا بعقولهم وجدوا أن الله هو المتفرد بالخلق والإيجاد ، وكل الشركاء أصنام لا تدفع عن نفسها ضرا. قل لهم يا محمد : قد بدا الصبح لذي عينين وظهر الحق جليا. الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار.

هذا مثل للحق وأهله وللباطل وحزبه

أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما

٢٢٣

يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ (١٧) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٨) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩)

المفردات :

(أَوْدِيَةٌ) جمع واد وهو المنفرج بين مرتفعين الذي يسيل فيه الماء (بِقَدَرِها) بمقدارها الملائم لها (زَبَداً) الزبد ما يعلو وجه الماء ، ويقال له الغثاء والرغوة (رابِياً) منتفخا زائدا بسبب انتفاخه (جُفاءً) والجفاء ما يرمى به الوادي من الزبد والغثاء.

بعد أن ضرب الله مثل الأعمى والبصير للمؤمنين والكافرين ، ومثل النور والظلمات للإيمان والكفر. ضرب هنا مثلا للحق وأهله وللباطل وحزبه.

المعنى :

مثل الله ـ تبارك وتعالى ـ الحق الذي هو القرآن الكريم في نزوله من عند الله واستقراره في قلوب المؤمنين ، وثباته فيها وانتفاعهم به بمقدار الحكمة موزونا بميزان العلم والمعرفة (كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) في المعاش والمعاد بالماء النازل من السماء السائل في أودية سيلانا مقدرا ، هذا المقدار هو المناسب لكل واد حتى لا يحصل خطر من سيلان الماء فيه ، ولأمر ما كان القرآن كالماء ، وما ذاك إلا لأن الماء عليه قوام الحياة (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) والقرآن عليه نظام الكون وحياة العالم أجمع.

٢٢٤

ومثل القرآن كذلك بالمعدن النافع من ذهب أو فضة أو حديد أو نحاس فهذا كله فيه خير الناس وينتفعون به في الحلية والمتاع (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) [سورة الحديد آية ٢٥].

ومثل الباطل في سرعة زواله وعدم فائدته بالزبد الطافي فوق الماء ، والغثاء الطافي فوق المعدن عند انصهاره بالنار فكل منهما خبيث سريع الزوال لا ينتفع به صاحبه ولا يؤثر على الماء الصافي ولا على المعدن الخالص.

وهاك المثل بعبارة القرآن الكريم مشروحة شرحا أسأل الله أن أكون موفقا فيه أنزل الله ـ سبحانه وتعالى ـ من السماء ماء هو ماء المطر فسالت بذلك أودية خاصة ـ لا كل الأودية ـ بقدرها أى : بمقدارها الذي عرف الله أنه نافع غير ضار انظر إلى قوله : (وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ) وفي هذه العبارة تجوّز إذ الذي يسيل هو الماء ، فاحتمل السيل الجاري في تلك الأودية زبدا وغثاء ورغوة مرتفعة رابية طافية فوق سطح الماء وهكذا الباطل يرتفع في أول الأمر ثم لا يلبث أن يمحى ويضيع ولا يبقى إلا الحق مثل الزبد يطفو ويعلو ثم يذهب ويبقى الماء وهل يؤثر الزبد على الماء لا. كذلك الباطل.

وهناك زبد وغثاء آخر يطفو فوق المعدن الذي يسيل بواسطة النار هذا الزبد ينشأ مما يوقدون عليه في النار من ذهب وفضة أو حديد ونحاس وغيره يوقدون عليه لأجل الحلية في الذهب مثلا أو للمنفعة في الحديد ، والأبحاث العلمية التي استخدمت الحديد والمعادن في هذه النهضة الحديثة شاهد عدل على ذلك.

مثل ذلك التصوير الفنى الرائع يضرب الله مثلا للحق والباطل فأما عاقبة كل وهي التي تدفع العقلاء إلى اتباع الحق وأهله ، والبعد عن الباطل وحزبه فها هي ذي.

فأما الزبد الذي يعلو فوق الماء أو على المعدن فيذهب جفاء مرميا به بسرعة إذ لا خير فيه ولا نفع.

أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ويبقى فيها ، والعاقبة له مهما علا الباطل ، نعم أما الماء فيبقى في الأرض للانتفاع به في الشرب والسقي بأى صورة كانت بواسطة الآبار إن غار في الأرض وأخذا باليد إن بقي على ظهرها وهكذا المعدن شأنه كالماء.

أما الحق والقرآن أمام الشرك وزخرف الباطل فهما الباقيان النافعان المفيدان للناس

٢٢٥

جميعا إما مباشرة لمن تمسك بهما أو بالتبع لمن كفر بهما فحضارة أوروبا التي هي فيها لا نبالغ إن قلنا إنها من الإسلام عن طريق مدارس القسطنطينية والأندلس ، وفي الحروب الصليبية ؛ يعرف هذا الأحرار في عقولهم وتفكيرهم ، وللأسف يتمسك الغربي بما يدعو إليه ديننا من الحق والعدل والكرامة والعزة والصدق وعدم النفاق ، ونتمسك نحن بباطل عقائدهم وزيف أخلاقهم!!

كذلك يضرب الله الأمثال للناس جميعا ؛ للذين استجابوا لربهم وآمنوا بالحق والقرآن المثوبة الحسنى! والذين لم يستجيبوا له ولم يؤمنوا لهم العقاب الشديد والعذاب الأليم ، بدليل لو أن لهم ما في الأرض جميعا من مال ومنافع ومثله معه لأحبوا من صميم قلوبهم وعن طيب خاطرهم أن يفتدوا به أنفسهم.

أولئك لهم الحساب السيّئ الشديد ومأواهم جهنم ، وبئس المهاد مهادهم.

أفمن يعلم أنما أنزل إليك من القرآن من عند ربك الذي مثل بالماء الصافي والمعدن الخالص النافع هو الحق الذي لا شك فيه كمن هو أعمى بصيرة وقلبا لا يشاهد الشمس في رأد الضحى كأنه يقول : أبعد ما بين حال كل من الباطل والحق ومآلهما يتوهم المماثلة أحد؟ إنما يتذكر بذلك أولو الألباب. ومن هم؟!!

من هم أولو الألباب؟ وما جزاؤهم؟

(الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها

٢٢٦

وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤))

المفردات :

(يَنْقُضُونَ) النقض : الفك وأصله للحبل ثم استعمل في العهد لأنه يشبهه (يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) الخشية : الخوف مع العلم بمن تخشاه (وَيَدْرَؤُنَ) يدفعون (عَدْنٍ) أى : إقامة.

بعد أن ضرب الله المثل لمن اتبع الحق ولمن اتبع الباطل ، وأبان أنه لا يتذكر إلا أولو الألباب ناسب أن يذكر من هم أولو الألباب وما جزاؤهم.

المعنى :

إنما يتذكر بالأمثال ويتعظ بها أولو الألباب وأصحاب العقول ، فالذكرى والموعظة لا تنفع إلا المؤمنين أولى الألباب ، ولكنا نرى أناسا يصفون الذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ، ويتفننون في جمع المال من شتى الطرق بأنهم أولو الألباب أما القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه يبين لنا أصحاب العقول ويصفهم بصفات ثمانية.

١ ـ الذين يوفون بعهد الله. وهو ما عقدوه على أنفسهم فيما بينهم وبين ربهم وفيما بينهم وبين أنفسهم ، وفيما بينهم وبين الناس ، وقد شهدت فطرتهم السليمة به. وأنزل عليهم في الكتاب إيجابه.

ولا ينقضون الميثاق وهو العهد الموثق المؤكد الذي وثقوه بينهم وبين الله وبينهم وبين العباد من العقود والمعاملات والعهود والالتزامات ؛ وفي الحديث «آية المنافق ثلاث : إذا حدّث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر» وقال قتادة : إن الله ذكر الوفاء بالعهد والميثاق في بضع وعشرين موضعا في القرآن عناية بأمره واهتماما بشأنه.

٢ ـ والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ، وظاهر الآية يشمل كل ما أمر الله

٢٢٧

بصلته ونهى عن قطعه من حقوق الله وحقوق جميع العباد خصوصا حقوق الأقارب التي هي صلة الرحم من باب أولى.

٣ ـ ويخشون ربهم ، والخشية من الله مرتبة العلماء وسمة المقربين من الأتقياء (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [سورة فاطر آية ٢٨] وهي صفة تحملهم على فعل كل ما أمروا به واجتناب كل ما نهوا عنه.

٤ ـ ويخافون سوء الحساب ، فهم يحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا ، ويزنون أعمالهم قبل أن توزن عليهم لأنهم يخافون الحساب الذي يستقصى كل الأعمال مع المناقشة في الصغير والكبير.

٥ ـ والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم. والصبر حبس النفس على ما تكره ويكون بفعل الطاعات والتكليف ، واجتناب المنهيات والمنكرات ، والرضا بقضاء الله وقدره في الرزايا والمصائب ، والصبر المطلوب لأنه عمل نفسي قلبي شرط فيه أن يكون ابتغاء مرضاة الله ، وطلبا لجزاء الصبر لا حبا في الرياء والسمعة.

٦ ـ وأقاموا الصلاة ، وإقامتها إتيانها مقومة كاملة تامة الأركان والهيئات مع الخشوع الكامل والاتجاه إلى الله ، والاستحضار العرفي إن لم يكن الحقيقي وذلك يكون إذا تذكرت أنك واقف بين يدي الله ؛ وأمام جبار السماء والأرض. الواحد القهار ، وعليك أن تروض نفسك على ذلك وتعودها الوقوف بأدب أمام الله فلا يشغلك شيء أبدا عن الصلاة بحيث لا تفكر إلا فيها ، يا أخى حاول أن تشعر قلبك بخشية الله وتملأ نفسك بالخوف منه وأن تفهم أن الصلاة الناقصة تلف في خرق بالية وترد على صاحبها فتظل تدعو عليه إلى يوم القيامة.

٧ ـ وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ، والواقع هو الذي يفهمنا سر تكرار القرآن لطلب الإنفاق فلو أنفق الناس بعضا من أموالهم ، وامتثلوا أمر ربهم ما كنا في حاجة أبدا إلى قانون يحد من تصرفهم ، ولما شاعت تلك الأفكار الهدامة التي تقوض صرح مجتمعنا.

٨ ـ ويدرءون بالحسنة السيئة وهذه هي آخر صفة لأصحاب العقول إذ من العقل أن ندفع السيئة بالحسنة فالحسنات يذهبن السيئات ، والواقع أثبت أن من الخير للشخص

٢٢٨

أن يعامل أخاه معاملة حسنة معاملة بالشفقة والرحمة حتى يسل سخائمه ، ويميت حسده وبغضه بالإحسان إليه.

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم

فطالما استبعد الإنسان إحسان

أما جزاؤهم في الدنيا السعادة والهدوء ، والراحة واطمئنان البال ولظهور هذه لم تذكر في القرآن وأما في الآخرة : فأولئك لهم عقبى الدار التي هي الجنة العالية ذات القطوف الدانية ، فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ، ويكفى أنها نزل الرحمن الذي أعده لأحبابه وأوليائه فهل بعد ذلك شيء؟!!.

ومن صلح من آبائهم سواء أكان ذكرا أم أنثى وأزواجهم ، وذرياتهم الأقربين يكونون معهم ليأنسوا بهم هذا بشرط أن يكونوا مستحقين لذلك والا فالحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لفاطمة «يا فاطمة اعملي فلن أغنى عنك من الله شيئا» وفي القرآن (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) هؤلاء في الجنة على سرر متقابلين ومعهم أهلهم إكراما لهم وأنسابهم ، ثم تمر عليهم الملائكة تحييهم يا له من شرف كبير الملائكة تستقبل وتحيى المؤمنين الموصوفين بما ذكر ، نعم يدخلون عليهم من كل باب قائلين سلام عليكم بما صبرتم ، وأمن عليكم ورحمة من ربكم بسبب صبركم وتحملكم فنعم عقبى الدار.

ورد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يأتى قبور الشهداء على رأس كل حول فيقول : سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ، وكذا كان يفعل أبو بكر وعمر وعثمان ـ رضى الله عنهم ـ ..

من هم الأشقياء؟ وما جزاؤهم؟

(وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥))

٢٢٩

بعد ما ذكر المتقين وأصحاب العقول وصفاتهم وجزاءهم ذكر حال الأشقياء وجزاءهم وهذا ديدن القرآن يتكلم على الطائع والعاصي ليظهر الفرق واضحا جليا فيكون ذلك أدعى إلى الامتثال والعمل الصالح.

المعنى :

والذين ينقضون عهد الله الذي ألزمه عباده وأمر به في كتابه مما يشمل عهد الله والناس ، وما ركبه في عقولهم من دلائل التوحيد والنبوات ؛ ونقضه عدم العمل به عنادا وكفرا من بعد ميثاقه وتوكيده ، وإلزامهم به عن طريق العقل والطبع والشرع والنقل.

ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل من الإيمان والامتثال وصلة الرحم فالكفر وعدم الإيمان بجميع الرسل ، وقطع الرحم والأخوة ، ومنع المساعدات التي يوجبها الوطن والضمير الإنسانى في كل ذلك قطع لما وصله الله وأمر به.

ويفسدون في الأرض بأعمالهم الخبيثة التي ينشأ عنها الحرب والهلاك والدمار والفساد.

هؤلاء الناقضون العهد الذين لا يخافون ربهم ولا يخشون حسابه ، القاطعون الرحم المفسدون في الأرض لهم اللعنة والطرد من الرحمة ، والبعد عن خيرى الدنيا والآخرة ولهم سوء الدار لما اجترحوا من سيئات الأعمال وارتكبوا من شرور الآثام ..

من أوصافهم أيضا

(اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (٢٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ

٢٣٠

قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩))

المفردات :

(وَيَقْدِرُ) أى : يضيق أو يعطى بقدر الكفاية فقط (مَتاعٌ) شيء قليل ذاهب مأخوذ من قولهم متع النهار إذا ارتفع وهو لا بد زائل بالزوال (طُوبى) من الطيب أى : العيش الطيب ويشمل النعمى والخير. والحسنى. والكرامة والغبطة وقيل : هي اسم لشجرة في الجنة.

المعنى :

هذا امتداد لوصف الأشقياء الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض ، أولئك لهم سوء الدار.

وفرحوا بالحياة الدنيا وقالوا ، لو لا أنزل عليه آية من ربه إلخ.

ولما نعتهم الله بقوله : لهم سوء الدار كأن سائلا سأل وقال : كيف هذا؟ مع أننا نرى هؤلاء الأشقياء منعمين في الدنيا فكيف قيل فيهم لهم سوء الدار.

والجواب أن الله يبسط الرزق لمن يشاء بقطع النظر عن كونه مؤمنا أو كافرا لأن الدنيا عنده لا تزن جناح بعوضة فالمؤمن قد يضيق عليه الرزق ابتلاء واختبارا ، فبسط الرزق للكافر لا يدل على الكرامة ، والتقتير على المؤمن لا يدل على الإهانة ، وعلى هذا فقوله تعالى : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) جملة معترضة بين أوصاف الأشقياء الكفار.

وهم فرحوا بالحياة الدنيا واطمأنوا ولم يذكروا الآخرة ولا حسابها ولم يعملوا لها أبدا ، وما الحياة الدنيا بالنسبة للآخرة إلا متاع زائل وعرض فإن حائل يزول بسرعة كما يزول متع النهار.

٢٣١

وهم لسوء فهمهم وتقديرهم يقولون : لو لا أنزل عليه آية من ربه ؛ كأنهم لم يقتنعوا بالآيات المنزلة على النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي أهمها القرآن ، يا عجبا كل العجب!! إن هذا لعجيب. وما أشد عنادكم وما أعظم كفركم!! الله يضل من يشاء ، من يضله فلا سبيل إلى اهتدائه ولو أنزلت عليه كل آية ، ويهدى إليه من أناب ورجع عن غيه وشيطانه.

ويهدى إليه الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم وتلين جلودهم ، وتهدأ نفوسهم لذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب الثائرة ، وتهدأ النفوس المضطربة ، هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى وخير ، ومثوبة وكرامة لهم يوم القيامة وحسن مآب ولا حرج على فضل الله.

رد على المشركين وبيان قدرة الله على كل شيء وتسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

(كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (٣٠) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٣١) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ

٢٣٢

عِقابِ (٣٢) أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٣٤))

المفردات :

(قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ) شققت وتصدعت حتى صارت قطعا (يَيْأَسِ) المراد يعلم ، وقيل هو يأس على حقيقته (قارِعَةٌ) داهية تفجؤهم ونكبة تحل بهم (فَأَمْلَيْتُ) الإملاء والإمهال أن يترك الشخص ملاوة من الزمن في خفض وأمن كالبهيمة يملى لها في المرعى لتأكل ما تشاء (قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ) رقيب وحفيظ عليها (بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) بباطل من القول لا حقيقة له في الواقع (أَشَقُ) أشد وأنكى (واقٍ) حافظ.

طلبوا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية خلاف القرآن فرد الله عليهم بأن المسألة ليست آية تأتى ، وإنما الهداية من الله ، والرسول مبشر ونذير فقط ، وهنا يقول : إن محمدا رسول كبقية الرسل وآيته القرآن ، ولو أنزل عليكم ما تطلبونه وزيادة لما آمنتم :

المعنى :

مثل ذلك الإرسال الذي سبق مع الأمم الماضية أرسلناك يا محمد إرسالا له شأن وفضل ، أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها الأمم فهي آخرها ، وأنت خاتم الأنبياء والمرسلين لتتلو عليهم وتقرأ الذي أوحيناه إليك ، وهو القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. فكيف يطلبون بعد ذلك آية؟!!

وهم يكفرون بالرحمن المنعم بجلائل النعم ، والذي وسعت رحمته كل شيء في

٢٣٣

الكون ، ومن رحمته إرسالك من أنفسهم وأنت عزيز عليك عنتهم حريص عليهم بالمؤمنين رءوف رحيم (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) [سورة الجمعة آية ٢] ، وهذا القرآن الذي معك فيه شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة .. فكيف يكفرون بالرحمن؟!!

قل لهم يا محمد : هو ربي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الذي كفرتم به وأشركتم به غيره وهو الله الأحد الفرد. الصمد. الذي لم يلد ، ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد ، عليه وحده توكلي وإليه وحده توبتي ورجوعي ، وهذا بيان لفضل التوبة ومقدارها ، وحث عليها إذ أمر بها ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهو المنزه عن اقتراف الذنوب والآثام.

وروى أن نفرا من مشركي مكة فيهم أبو جهل ، وعبد الله بن أمية جلسوا خلف الكعبة ثم أرسلوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأتاهم فقال له عبد الله : إن سرك أن نتبعك فسير لنا جبال مكة بالقرآن فأذهبها عنا حتى تنفسخ فإنها أرض ضيقة فلست ـ كما زعمت ـ بأهون على ربك من داود حين سخر له الجبال تسير معه ، وسخّر لنا الريح فنركبها إلى الشام نقضي عليها ميرتنا وحوائجنا ، ثم نرجع من يومنا ، فقد سخرت لسليمان الريح كما زعمت فلست بأهون على ربك من سليمان بن داود. وأحيى لنا جدك قصى ابن كلاب أو من شئت أنت من موتانا نسأله أحق ما تقول أنت أم باطل! فإن عيسى كان يحيى الموتى ولست بأهون على الله منه فأنزل الله : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ).

ولو ثبت أن قرآنا سيرت به الجبال وزحزحت عن أماكنها كما فعل بالطور لموسى ، أو لو ثبت أن قرآنا شققت به الأرض وجعلت أنهارا وعيونا كما حدث للحجر حين ضربه موسى بعصاه ، أو لو ثبت أن قرآنا كلم به أحد الموتى في قبورهم وأحياهم بتلاوته كما وقع لعيسى ـ عليه‌السلام ـ لو ثبت هذا لشيء من الكتب لثبت للقرآن المنزل على محمد لما اشتمل عليه من الآيات الكونية الدالة على عظم قدرة الله وبديع صنعه ، ولما انطوى عليه من الحكم والأحكام التي فيها صلاح العباد في المعاش والمعاد ، ولما فيه من القوانين الاقتصادية والسياسية والعمرانية التي تكفل للأمة أن تعيش عيشة سعيدة وتكون خير أمة أخرجت للناس.

٢٣٤

لو أن ظهور أمثال ما اقترحوه مما تقتضيه الحكمة الإلهية لكان مظهر ذلك هو القرآن الذي لم يعدوه آية.

وقيل المعنى : لو أن قرآنا وقع به تسيير الجبال وتقطيع الأرض وتكليم الموتى ، لما آمنوا به كقوله تعالى. (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [سورة الأنعام آية ١١١].

بل لله القدرة على كل شيء وهو القادر على الآيات التي اقترحوها وغيرها إلا أن علمه بأن إظهارها مفسدة يصرفه عن إظهارها ويمنعه.

وهم يكفرون بالرحمن في كل حال وعلى أى وضع ، ولو ثبت أن قرآنا سيرت به الجبال إلخ الآية.

أنسوا!! أفلم يعلم الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا من غير أن يشاهدوا الآيات والمعجزات.

وقيل : إن المراد أفلم ييأس الذين آمنوا ويقنطوا من إيمان هؤلاء الكفار لعلمهم أن الله ـ تعالى ـ لو أراد إيمانهم لهداهم ، وذلك أن بعض المؤمنين تمنوا نزول الآيات التي اقترحها الكفار طمعا في إيمانهم إذ لو أراد هدايتهم لهداهم.

ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة تقرعهم ، وداهية تفجؤهم في أنفسهم وأموالهم وديارهم أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتى وعد الله وينتهى هذا العالم ، وهكذا يحقق الله وعده ووعيده فهم دائما في حروب وفتن لا تنتهي أبدا إن لم تكن حربا حقيقية تكن حربا باردة ، وأما أنت أيها الرسول فلا يحزنك أمرهم ، ولا يؤلمك استهزاؤهم ، ولقد استهزئ برسل من قبلك ، ونالوا ما نالوا من قومهم ، وقالوا لهم ما قالوا مما علمته في قصصهم ، ولكن كانت العاقبة والدائرة عليهم ولقد أملى الله لهم ، وأمهلهم حتى ارتكبوا التعاسيف وظن المسلمون بالله الظنون ، ثم أخذهم ربك بالعذاب الأليم أخذ عزيز مقتدر فكيف كان عقاب؟! فهل من مدكر؟!

أفمن هو قائم على كل نفس بالحفظ والرعاية والعناية والكلاءة وهو المولى القدير كمن ليس بهذه الصفة من معبوداتكم التي لا تضر ولا تنفع؟ بل إن يسلبهم أحقر الحيوانات شيئا لا يستنقذوه منه.

٢٣٥

أفمن هو قائم على الكون كله بالحفظ والرعاية والخلق والإيجاد كشركائهم الذين اتخذوهم آلهة من دون الله وجعلوا له شركاء! والمراد نفى المماثلة.

قل لهم يا محمد : سموهم وانعتوهم من هم؟! بل أتنبئونه بشيء لا يعلمه في الأرض! مع أنه العالم بكل ما في السموات والأرض ، بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول ليس له حقيقة واقعة ، وليس له ظل في الخارج فكلامكم قول باطل زائل كاذب تقولونه بأفواهكم فقط. ليس لله شريك أبدا ، بل زين للذين كفروا مكرهم ، وصدوا عن سبيل الله بكل قواهم وما يملكون ، والله متم نوره ولو كره الكافرون ومن يضلله الله فلا هادي له أبدا.

ولهم عذاب أليم في الدنيا ولعذاب الآخرة أشد وأنكى ، وما لهم من واق ولا حافظ يحفظهم من عذاب الله. يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذن الله!!

وصف الجنة ، ومناقشة المعترضين

من أهل الكتاب والمشركين

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (٣٥) وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ

٢٣٦

لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨) يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩))

المفردات :

(مَثَلُ الْجَنَّةِ) صفتها العجيبة التي تشبه المثل في غرابتها (الْأَحْزابِ) جمع حزب ويطلق على الطائفة المتحزبة المجتمعة لشأن من الشئون (مَآبِ) مرجع (واقٍ) حافظ (أَجَلٍ) الأجل المدة والوقت (كِتابٌ) قيل : هو الحكم المعين الذي يكتب على العباد على حسب ما تقتضيه الحكمة (أُمُّ الْكِتابِ) أصله قيل : هو علم الله وقيل غيره.

هكذا ديدن القرآن إذا وصف النار وعذابها قفّى على ذلك بذكر الجنة ونعيمها (وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً* إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً* وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً* لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً* قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً) [سورة الفرقان ١١ ـ ١٥] إلى آخر الآيات من السورة.

المعنى :

يريد الله ـ تبارك وتعالى ـ أن يمثل الغائب بما هو مشاهد معروف عندنا ، تقريبا للأفهام ؛ وتوجيها للأذهان ، وإلا فالجنة على حقيقتها شيء لا يدرك كنهه إلا بعد دخولها والتمتع بها ـ إن شاء الله ـ (فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ) [سورة الزخرف آية ٧١].

فيما يتلى عليكم صفة الجنة التي وعدها الله للمتقين تجرى من تحتها الأنهار سارحة في أرجائها وجوانبها وحيث شاء أهلها يفجرونها تفجيرا ، ويوجهونها حيث أرادوا (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) [سورة محمد آية ١٥].

٢٣٧

أكلها دائم وظلها دائم وفيها الفواكه والمطاعم والمشارب بلا انقطاع ولا فناء (وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ. لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) [سورة الواقعة الآيتان ٣٢ و ٣٣] (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً) [سورة الإنسان آية ١٤] تلك عقبى الذين اتقوا وهذا جزاؤهم ، وعقبى الكافرين وجزاؤهم ونهايتهم النار التي وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم.

وهذا الذي مضى من وصف الجنة والنار ، وغير ذلك مما نزل به القرآن. الناس فيه على صنفين : مصدق ومكذب ، فالذين آتيناهم الكتاب من اليهود والنصارى وهم قائمون بمقتضاه ، ومؤمنون حقا بما فيه يفرحون بما أنزل إليك من القرآن لما في كتبهم من الشواهد على صدقه والبشارة به.

ومن الأحزاب من ينكر بعضه ، نعم كان من أهل الكتاب عبد الله بن سلام ، وتميم الداري من المؤمنين الكاملين ، وبعضهم كان يتحزب على النبي ويؤلب عليه ككعب بن الأشرف وغيره من زعمائهم ورؤسائهم ينكرون بعض القرآن وهو ما لم يوافق ما حرفوه من كتبهم وشرائعهم المغيرة.

وكيف تختلفون بين مصدق ومكذب؟ وهناك أساس واحد هو الذي يحتاج إليه المرء ليفوز بالسعادة ، وهو ما أمر الله به نبيه فقال : قل يا محمد : إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به شيئا ، إليه وحده أدعو وإليه وحده مآبي ومرجعي ، فهذا هو التوحيد الخالص الكامل ، وتلك الرسالة بإيجاز ، دعوى إلى الله فقط وطاعة وإخلاص وعبادة واستعانة بالله وحده ، وأما المرجع والمآب والحساب والجزاء فإليه وحده أيضا.

ومثل ذلك الإرسال للرسل قديما أرسلناك يا محمد وأنزلنا عليك كتابا هو القرآن وهو كتاب محكم الآيات ، فيه الحكم الحق والقول الفصل ، أنزلناه حكما بلسان عربي مبين فكان مبينا لمقاصده موضحا لمراميه (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [سورة فصلت آية ٤٢].

ولئن اتبعت يا محمد أهواءهم وآراءهم من بعد ما جاءك العلم من الله ـ سبحانه وتعالى ـ فليس لك من دون الله ولىّ ولا ناصر ، وهذا وعيد وتهديد لأهل العلم أن يتبعوا سبل أهل الضلالة بعد الذي وصلوا إليه من الوقوف على أسرار الشرع والإلمام بالسنة النبوية والحجة المحمدية.

٢٣٨

روى أن اليهود عابت رسول الله بكثرة النساء ، وقالوا لو كان نبيا كما زعم لشغله أمر النبوة عن النساء. وقد لجوا في طلب الآيات كما تقدم ، فرد الله عليهم ليس محمد بدعا من الرسل ، ولقد أرسلنا قبله رسلا وكانوا بشرا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ويفعلون كل ما يفعله البشر (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ) [الكهف ١١٠] وصدق الله فهذا تسجيل في القرآن لا يقبل شكا ولا جدلا (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً) وفي الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أمّا أنا فأصوم وأفطر ، وأقوم وأنام ، وآكل اللّحم ، وأتزوّج النساء فمن رغب عن سنّتى فليس منّى»

وأما الآيات المقترحة فتلك نغمة رددها القرآن ورد عليها كثيرا بما يفيد أن الرسول رسول فقط والآيات من عند الله ، وما كان لرسول أن يأتى بآية إلا بإذن الله وأمره ، وقد جاءكم القرآن وكفى به معجزة خالدة باقية ثابتة على جهة التحدي والإفحام.

والآيات لا تأتى اعتباطا ولكنها لحكمة وفي زمن ، الله يعلمه لكل أجل كتاب أى : لكل مدة مضروبة ووقت معلوم كتاب مكتوب ، وكل شيء عنده بمقدار (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) [سورة القمر آية ٤٩] (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) [سورة الأنعام آية ٦٧] وقيل المعنى : لكل كتاب أجل ، أى لكل أمر كتبه الله أجل معين ووقت معلوم ، فليست هناك آية مقترحة بنازلة قبل أوانها ، ولا عذاب استعجلوه بنازل قبل أوانه ، فالآجال والأعمار والأرزاق والأحداث ، كل ذلك بقضاء الله وقدره ، وله وقت محدود لا يتقدم ولا يتأخر (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [سورة الأعراف آية ٣٤].

يمحو الله ما يشاء من الأحداث الكونية والإنسانية ويثبت ما يشاء من هذا كله في الخارج ، وعنده ـ سبحانه وتعالى ـ أم الكتاب وهو اللوح المحفوظ ، أو علمه ـ جل شأنه ـ ثابت أزلا لا يتغير ولا يتبدل كل شيء على حسب علمه ووفق إرادته ، والمعنى يمحو ويثبت في الخارج ما يشاء ، وعلمه لا يتغير ولا يتبدل وهو موافق لما في اللوح المحفوظ ، ومظاهر المحو والإثبات نراها في كل لحظة من ليل ونهار ، وشمس وقمر ، ونور وظلام ، وحياة وموت ، وقوة وضعف ، وزرع وحصاد إلى آخر ما في الأحداث الكونية ، هذا المحو والإثبات خاضع لعلمه القديم الذي لا يتغير ولا يتبدل ، وعلى هذا فالآية رد ـ أيضا ـ على اقتراحهم الآيات حيث كان المحو والإثبات خاضع لمشيئة الله ولقانونه الذي وضعه ، وهو لكل كتاب أجل محدود لا يتقدم ولا يتأخر.

٢٣٩

وللعلماء في تفسير هذه الآية أقوال نجملها والله أعلم بكتابه :

١ ـ قال ابن عباس : يدبر أمر السنة فيمحو ما يشاء إلا الشقاء والسعادة والحياة والموت.

٢ ـ قال مجاهد : مثل هذا.

٣ ـ قال الحسن : يمحو الله من جاء أجله ويثبت من بقي أجله.

٤ ـ قال عكرمة : يمحو الله القمر ويثبت الشمس.

٥ ـ قال الربيع : يقبض الله الأرواح في النوم فيميت من يشاء ويمحوه ، ويرجع من يشاء فيثبته.

٦ ـ وقال آخرون : يمحو الله ما يشاء من الشرائع بالنسخ ويثبت ما يشاء بلا نسخ.

٧ ـ وقال بعضهم : يمحو الله المحن والمصائب بالدعاء.

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبلغ والله محاسب ومنتقم

(وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (٤٣))

٢٤٠