التفسير الواضح - ج ٢

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ٢

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٨٨٤

تعرف إخوة يوسف عليه وما دار بينهم

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣))

المفردات :

(مَسَّنا) أصابنا (الضُّرُّ) ألم الجوع (مُزْجاةٍ) بضاعة ناقصة غير تامة لا تقبل إلا بدفع وعرض وعليه قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً) أى يسوق ويدفع (لَخاطِئِينَ) الخاطئ من يتعمد الذنب والمخطئ من يخطئ القصد أى لا يعرف الصواب ثم يصير إلى غيره (لا تَثْرِيبَ) لا لوم ولا توبيخ.

٢٠١

المعنى :

سمع إخوة يوسف نصيحة أبيهم ، وجاءوا إلى مصر ، يتحسسون يوسف وأخاه ، بلا يأس ولا ملل.

فلما دخلوا على يوسف أرادوا اختباره بذكر حالهم وتضرعهم له فإن رق قلبه وتغير حاله ذكروا ما يريدون ، وكان أبوهم يرجح أن هذا العزيز هو يوسف : وقالوا : أيها العزيز. قد مسنا وأهلنا الضر ، وأصابتنا سنين مجدبة قاحلة لم تدع لنا «سبدا ولا لبدا» لم تترك لنا شيئا وجئنا لك أيها الأمير ببضاعة قليلة لا يقبلها التجار ، بضاعة لا تروج إلا بالدفع وحسن العرض وكثرته ، فأوف لنا الكيل وأتمه كما كنت تفعل فقد عودتنا الجميل ، وتصدق علينا بالزائد ، إن الله يجزى المتصدقين ، ويكافئهم على أعمالهم.

هذا كلامهم الذي تحسسوا به يوسف ، وتطلعوا به إلى معرفة خبره.

أما هو فقال : هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه؟! وهو استفهام يراد به تعظيم فعلتهم بيوسف قديما حيث ألقوه في الجب وحيدا طريدا عاريا من اللباس ، وما فعلوه في أخيه بنيامين من المعاملة الجافة ، إذ أنتم جاهلون قبح فعلتكم ، وعظم جرمكم ، أى : كنتم في حال يغلب فيها الجهل والطيش (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ) [سورة النساء آية ١٧] ، وقيل المعنى : هل علمتم قبح ما فعلتم؟! ألا فلتعلموا أن هذا ذنب كبير يجب أن تسرعوا فيه إلى التوبة ورضاء الله ، أما حقي فأنا أسامحكم فيه ، وهكذا خلق آل إبراهيم من الأنبياء والمرسلين.

كان سؤال يوسف لهم وهو العارف بما فعلوه فاتحة لأن يعرفوه فيطمئنوا أباهم على أولاده الأحبة : وكان مصداقا لقوله تعالى (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) وصدق الله. ثم وجهوا ليوسف سؤالا يدل على التعجب والاستغراب : أإنك لأنت يوسف؟! عجبوا من ترددهم عليه سنتين وهم لا يعرفونه وهو يعرفهم.

قال نعم أنا يوسف!! وهذا أخى بنيامين الذي فرقتم بيني وبينه وبيني وبين أبى ، قد منّ الله علينا إذ هو الرحمن الرحيم ، العليم الخبير الذي يدافع عن المؤمنين ، يا إخوتى إن الحق الذي نطقت به الشرائع جميعا واتفقت عليه هو : من يتق الله حق تقواه ،

٢٠٢

ويعتمد عليه ، ويصبر فهو حسبه وكافيه من كل مكروه ، ولا غرابة فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ، قالوا إحقاقا للحق ، وإزهاقا للباطل : لقد آثرك الله علينا ، وفضلك ووفقك ، وعلمك ما لم تكن تعلم ، ولا حرج على فضل الله وأما نحن فما كنا إلا خاطئين معتدين ، لا عذر لنا أبدا.

ماذا قال يوسف إزاء هذا الإقرار بالذنب؟ قال : يا إخوتى لا تثريب عليكم ولا لوم فقد صفحت عن زلتكم. وأسأل الله أن يغفر اليوم لكم ، وهو أرحم الراحمين.

يقول البعض كيف جاز ليوسف وقد عرفهم أن يكتم أمرهم سنتين مع علمه بحزن أبيه وألمه.

والجواب عن ذلك أنه يسير تبعا لوحى الله ، فلما أمره نفذ ، ويمكن أن يقال كتم الأمر ليصادفوا شدة وألما وليكون لقيا أبيه بعد فقده هو وأخيه أوقع في نفسه وأكثر أثرا والله أعلم. ثم قال يوسف :

يا إخوتى اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبى ليعلم علما موافقا للواقع أنى حي وأن الله تولاني بالعناية والرعاية كما كان يأمل ويفهم من الرؤيا ، وألقوه على وجهه يأت بصيرا ، ويرتد إليه بصره إذ قد ضعف أو فقد لكثرة البكاء فإذا فرح واستبشر رجع له بصره كما كان ، ولا حرج على فضل الله.

وأتونى بأهليكم جميعا لتفسر الرؤيا في الواقع.

يعقوب وقد جاءه البشير

(وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ

٢٠٣

أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨))

المفردات :

(فَصَلَتِ) انفصلت عن البلد وجاوزت حدودها (رِيحَ) رائحة يوسف أو قميصه (تُفَنِّدُونِ) تنسبونى إلى الفند وهو ضعف العقل وفساد الرأى (ضَلالِكَ) خطئك.

المعنى :

تعرف إخوة يوسف على أخيهم وأقروا له بذنبهم وعفا عنهم وأمرهم أن يحملوا قميصه إلى أبيه ، وأن يأتوا بأهليهم إليه.

ولما خرجوا من مصر وانفصلوا عنها قال يعقوب وهو النبي الصادق : إنى لأشم رائحة يوسف ، وقال هذا لمن كان بمجلسه ، قال الحاضرون له : تالله إنك لفي خطئك القديم ، وحبك الأعمى ليوسف ، واعتقادك فيه أنه حي يرزق ، وما نظن هذا إلا ضلالا وتخبطا.

فلما أن جاء البشير بعد هذا بأيام يبشر بلقيا يوسف مع أخيه حاملا قميصه وقد ألقاه على وجه أبيه فارتد بصيرا ورجع له بصره قال لمن حوله : ألم أقل لكم يا أولادى : إنى أعلم من الله أشياء لا تعلمونها؟

الآن حصحص الحق وظهر ، وبدأ الصبح لذي عينين ، واعترفوا بالجرم بعد الإنكار وقالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا ، واطلب المغفرة لنا من الله فقد تبنا وأنبنا.

قال يعقوب : سوف أستغفر لكم ربي في المستقبل إذ قد أتيتم ذنبا كبيرا ، ليس من السهل أن أطلب المغفرة بهذه السرعة ، على أن هذا الذنب وهو إلقاء يوسف في

٢٠٤

الجب إيذاء ليوسف أولا ، ولى ثانيا ، فلا أستغفر حتى يعفو صاحب الحق. وأنتم أولادى وأنا المشرف على تربيتكم فلا بد من بقائكم مدة تعالجون فيها نفوسكم وتندمون فيها على فعلكم.

وانظر إلى يوسف وكيف أزال الخوف من نفوس إخوته بسرعة حيث اعترفوا بذنبهم وقد كانوا في قلق وهمّ شديدين.

أما كيف شم يعقوب رائحة يوسف على مسيرة أيام فالذي يستبعد هذا شخص محروم ومن ذاق عرف ، ولا يعرف الشوق إلا من يكابده ، أنستبعد على يعقوب بن ابراهيم هذا ، وجده ألقى في النار فلم تؤثر فيه ، هؤلاء أرواحهم قوية لا تحجزها مادة ولا يحدها مكان ولا زمان ، وهو نبي وقد تكون هذه معجزة له.

وأما رجوع بصره إليه فهي معجزة كالمعجزات التي جاءت على يد الأنبياء ، وليس من العقل ولا من الدين البحث في كيفيتها ، بل نؤمن بها كما جاءت ، وهذا هو الإيمان بالغيب وهو صفة المؤمنين المهديين.

تأويل رؤيا يوسف من قبل

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ

٢٠٥

السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١))

المفردات :

(الْعَرْشِ) كرسي تدبير الملك (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) ساجدين سجود إجلال وتعظيم لا سجود عبادة (نَزَغَ) نخس. والمراد وسوس وأفسد ما بيني وبين إخوتى (الْبَدْوِ) البادية.

المعنى :

عرف يوسف إخوته ثم عرفهم بنفسه متى شاء الله ، وطلب منهم أن اذهبوا بقميصي وألقوه على وجه أبى ، وأحضروا لي أهلكم جميعا يعيشون معى في مصر.

ذهب الإخوة كما أشار يوسف وأحضروا له أبويه ، ولما علم بمقدمهم خرج هو ووجوه القوم للقيا يعقوب إسرائيل الله ونبيه ، فلما دخلوا عليه وهو في عظمة الملك وأبهة السلطان آوى إليه أبويه ، وضمهما وعانقهما عناق المشوق الولهان ، وقال : ادخلوا مصر ، وتمتعوا بخيرها إن شاء الله آمنين لا خوف عليكم ، ولا أنتم تحزنون فيها أبدا ، ورفع أبويه على سرير ملكه زيادة في تكريمهما. وهل هي أمه أو خالته؟ الله أعلم فبكل قال بعض المفسرين.

وما كان من أبويه وإخوته الأحد عشر إلا أن خروا له ساجدين سجود تحية وإجلال ، وكانت تحيتهم كذلك فلما رآهم يوسف قال : يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل ، وذلك تفسيرها (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) فالشمس أبوه والقمر أمه أو خالته والكواكب إخوته قد جعلها ربي حقيقة واقعة ، وقد أحسن بي ، وأفاض على من نعمه إذ أخرجنى من السجن إلى الملك والرياسة ، وجاء بكم من البدو وشظف العيش إلى الحضر والمدنية ، وانظر إلى سياسة يوسف وحكمته لم يثر الموضوعات التي ينشأ عنها ألم لبعض الناس فلم يذكر إلقاءه في الجب لئلا يتألم إخوته ، ولا زجه في السجن ، ومكر النسوة به لئلا يثار هذا

٢٠٦

الموضوع الشائك ، ولكنه ذكر إخراجه من السجن وهو يد للملك عليه وهكذا الحكمة والكياسة وحسن التصريف والسياسة.

هذا كله من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتى وأوقع بيننا الحسد والبغضاء للقضاء على الأخوة الصادقة.

إن ربي ـ سبحانه وتعالى ـ لطيف بخلقه رحيم بعباده إنه هو العليم بحالهم الحكيم في أفعاله ـ جل شأنه ـ.

لما أتم الله النعمة على يوسف ، وخلصه من شدة الإلقاء في الجب ، ومحنة امرأة العزيز وكيد النسوة له ، وألم السجن ، وأنعم عليه بالملك بعد البراءة مما نسب إليه لما حصل هذا وأمثاله ليوسف تاقت نفسه الكريمة إلى دعاء الله ـ تبارك وتعالى ـ أن يجزل الله له ثواب الآخرة كما أجزل له العطاء في الدنيا فقال :

يا ربي قد عودتني الجميل وآتيتني ملك مصر ، وعلمتني شيئا من تأويل الأحاديث وتعبير الرؤيا ، والوقوف على أسرار كلامك ، يا رب يا فاطر السموات والأرض وخالقهما على أبدع نظام وأحكم ترتيب ؛ أنت يا ربي وليي وصاحب أمرى ومتولى شأنى في الدنيا والآخرة يا ولى الأولياء وسيد الضعفاء والأقوياء ، يا صاحب الأمر ، توفني مسلما ، وألحقنى بالصالحين من آبائي ابراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب فأنت الرحيم الكريم القادر على كل شيء ..

القصة وما تشير إليه من أهداف

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (١٠٤)

٢٠٧

وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٠٧) قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠٩) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١))

المفردات :

(أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ) اتفقوا على إلقائه في الجب وعزموا عليه (وَكَأَيِّنْ) المراد بها كثير من الآيات (غاشِيَةٌ) عقوبة تغشاهم وتحيط بهم (بَغْتَةً) فجأة

٢٠٨

(بَصِيرَةٍ) حجة واضحة ومعرفة تامة. (اسْتَيْأَسَ) يئس (بَأْسُنا) عقابنا وعذابنا (عِبْرَةٌ) العبرة والاعتبار نوع واحد وفيها معنى العبور من جهة إلى جهة.

هذا ختام السورة الكريمة ، وتلك القصة القوية المؤثرة التي اشتركت فيها عناصر مختلفة في أماكن متعددة ، قصة فصولها متعددة الألوان فيوسف مع إخوته ، وهو في بيت العزيز ، وفي السجن ، وفي دست الحكم قصة جمعت بين كيد الإخوة وحسدهم ، وكيد النساء ومكرهن ، قصة الصبر والحكمة ، والفداء والبطولة ، قصة السياسة والرياسة ، قصة لها معان وفيها إشارات وعبرة وذكرى لأولى الألباب.

المعنى :

بعد أن قص الله قصة يوسف أحسن القصص شكلا وموضوعا وكانت أروع مثل للقصة ذكر الله ـ تبارك وتعالى ـ أن القصص دليل على نبوءة محمد وصدقه فقال :

ذلك الذي ذكرناه سابقا مما يتعلق بيوسف من أنباء الغيب وأخباره التي لا يعلمها إلا الله عالم الغيب والشهادة ، ذلك نوحيه إليك ، ونطلعك عليه ، إذ ما كنت تعلم هذا أنت ولا أحد من قومك ، وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم ، واتفقوا على إلقاء يوسف في الجب ، وعزموا على ذلك مصممين ، وهم يمكرون ، ويمكر الله والله خير الماكرين.

نعم هذه أخبار كيف وصلت إليك؟ هل كنت حاضرها وشاهد أمرها؟ أم وصلت إليك عن طريق الرواية ممن حضرها؟ لا هذا ولا ذاك ولم تكن هناك كتب فيها هذا القصص المحكم بهذه الصورة فلم يبق إلا أنها وصلت إليك عن طريق الوحى الإلهى ، وهذا بلا شك من دلائل النبوة وعلامات الرسالة ، وكان هذا يكفى في إيمان الناس بك وتصديقهم لرسالتك لو أن الله أراد ذلك.

ولكن اعلم أن أكثر الناس ولو حرصت وعملت المستحيل لا يؤمنون مهما ظهرت الآيات الناطقة فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ، وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد.

أيكون السبب في عدم إيمانهم بك أنك تطلب مالا أو أجرا أو جاها أو ملكا حتى يكون لهم العذر في عدم الإيمان؟!! لا ، لا ، إنك كبقية الرسل قبلك لا تسأل الناس

٢٠٩

أجرا أيا كان ولا مالا ، وما أجرك إلا على الله وحده ، وما القرآن إلا ذكر وتذكرة للعالمين جميعا فمن شاء ذكره وآمن به ، ومن شاء غير ذلك فحسابه على ربه.

لا تعجب يا محمد من كفرهم وقد ظهرت الدلائل في القصة دالة على صدقك فكثير من الآيات في السموات وما فيها والأرض وما عليها يمرون عليها مرور الحيوان أو الجماد وهم عنها معرضون لا يلتفتون إليها ولا يؤمنون بها ، ولا غرابة فقد ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ، وجعل على أبصارهم غشاوة ، فمن يهديهم من بعد الله ، وهؤلاء الكفار المعاصرون لك ومن على شاكلتهم لا يؤمنون بالله إلا وهم مشركون ، فالعجب أنك إن سألتهم قائلا من خلقكم؟ يقولون : الله (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [سورة لقمان آية ٢٥ ، وسورة الزمر آية ٣٨] ولكنهم يعبدون معه آلهة وشركاء قائلين : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى.

أعملوا هذا فأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله تحيط بهم وتغشاهم فلا تترك أحدا منهم أو تأتيهم الساعة بغتة وفجأة وهم لا يشعرون؟ ولكنهم في ضلال مبين.

بعد هذا النقاش الدقيق وسوق الأدلة المفحمة وبيان أنه لا غرض لك إلا الخير لهم ، وبيان أن طبعهم الكفر مهما ظهر من الأدلة ، بعد هذا ساق البيان والطريقة المثلى التي تحمل الغرض العام من دعوته ، فقال الله له : قل هذه سبيلي .. الآية والمعنى : قل يا محمد : هذه الدعوة التي أدعو لها والطريقة التي أنا عليها سبيلي وسنتي أدعو إلى دين الله لا غرض لي ولا قصد إلا إرضاء ربي والقيام بواجبى والامتثال لأمره ـ سبحانه وتعالى ـ.

وأنا على بصيرة من أمرى وحجة ظاهرة ، ومعرفة كاملة بما أدعوا إليه أنا ومن تبعني ودعا بدعوتي وسار على طريقتي إلى يوم الدين وسبحان الله وما أنا من المشركين به غيره في أى ناحية من النواحي ، لا أشرك به عرضا من أعراض الدنيا ، ولا أوثر عليه مالا ولا ولا ولدا ولا تجارة ولا كسبا. بل : الله أكبر ولله الحمد ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وما أرسلنا من قبلك يا محمد إلا رجالا ، لا ملائكة ولا إناثا ، لقد أرسلنا رسلنا تترا وأوحينا إليهم. وأيدناهم بروح من أمرنا ، وكانوا في جماعة من أهل القرى المجتمعة فيها الخلق ، وهكذا الرسل كانوا لقيادة بعض الشعوب والأمم وأنت يا محمد لهداية كل القرى والأمم.

٢١٠

عجبا لكم يا كفار مكة أعميتم فلم تسيروا في الأرض فتنظروا وتروا كيف كان عاقبة الذين من قبلكم ، وكانوا أشد منكم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمرتموها وجاءتهم رسلهم بالبينات فكفر من كفر وآمن من آمن فكان عاقبة الكفر هلاكا ودمارا ، وعاقبة الإيمان نجاة واستقرارا في الدنيا ، ولدار الآخرة خير للذين اتقوا : أجهلتم كل هذا فلا تعقلون؟!

لقد أرسلنا رسلنا ولم نعاجل الكفار بالعقوبة بل أمهلناهم علهم يثوبون لرشدهم ويرجعون عن غيهم حتى يئس الرسل من النصر وإنزال العقوبة ، واستيأسوا من إيمانهم أو عقوبتهم وظنوا أن قومهم قد كذبوهم فيما وعدوهم من العذاب. وقيل المعنى : وظن القوم أن الرسل قد كذبوا فيما جاءوا به من الوعد والوعيد.

حتى إذا يئسوا وظنوا الظنون جاءهم نصرنا وأمرنا. ولا راد لقضاء الله ولا معقب لحكمه ، فنجا المؤمنون الذين أراد الله لهم النجاة فآمنوا أما الكافرون فحاق بهم البأس والعذاب من كل جانب ، ولا يرد بأس الله عن القوم المجرمين.

فأنت ترى أن من أغراض القصة في القرآن العبرة والعظة بمن تقدم من الأمم فضلا عن أنها دليل النبوة وبرهانها لما فيها من الأخبار بما لا يعرف الرسل ولا طريق لمعرفتهم إلا بالوحي.

ولقد كان في قصص الأنبياء جميعا خصوصا يوسف وإخوته عبرة وعظة وذكرى. وهدى لأولى الألباب والعقول الصافية.

ما كان هذا الحديث ، أى القرآن الشامل للقصة وغيرها ، ليفترى ويختلق ، وكيف يكون هذا؟ وهو المصدق لما بين يديه من الكتب بل هو المهيمن عليها الحارس لها :

وكان فيه تفصيل كل شيء. نعم ما فرطنا في الكتاب من شيء إذ فيه أمهات المسائل وأسس القواعد الشرعية وهو الأصل للسنة والإجماع والقياس فما وافق روح الكتاب أخذناه وما تنافر معه رددناه ، وهو هدى ورحمة لقوم يؤمنون بالغيب (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [سورة البقرة آية ٢].

٢١١

سورة الرعد

روى أنها مكية ، وقيل : مدنية ، وعدد آياتها ثلاث وأربعون ، وهي مناسبة لسابقتها ، فقد قال الله في سورة يوسف : (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) وهنا توضيح لهذا المجمل وتفصيل له ، وفيها ذكر للتوحيد (أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ)؟. وهنا امتداد لدعوة التوحيد ، وذكر كثير من صفات الله ، وفي كل سلوة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

القرآن حق والله قادر على كل شيء

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١) اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤))

٢١٢

المفردات :

(المر) تقرأ هكذا : ألف. لام. ميم. را ، وفيها ما في أخواتها (عَمَدٍ) جمع عماد أو عمود وقرئ عمد بالضم (مَدَّ الْأَرْضَ) بسطها (رَواسِيَ) جمع راسية والمراد الجبال لأن الأرض ترسو بها أى : تثبت (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) التغشية إلباس الشيء ، والغشاء كالغطاء (صِنْوانٌ) جمع صنو وهي النخلات أو النخلتان يجمعهن أصل واحد وتتشعب منه رؤوس فتصير نخيلا ، وقيل : الصنو المثل وعليه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عمّ الرّجل صنو أبيه» والمراد نخيل متماثلات وغير متماثلات.

المعنى :

تلك الآيات من آيات هذه السورة آيات السورة الكاملة العجيبة الشأن ، العظيمة القدر ، والذي أنزل إليك من ربك ـ وهو القرآن كله ـ هو الحق. لا حق بعده ، ولا شك فيه ، تنزيل من حكيم حميد ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون بهذا.

وكيف لا يؤمنون بهذا؟! والله الذي أنزله هو الذي رفع السماء بلا عمد ، وها أنتم أولاء ترونها من غير عمد ، نعم رفع الله السموات وما فيها من كواكب وأجرام. وشموس وأقمار بقدرته وعظمته أليس الله على كل شيء قدير؟!

ثم استوى على العرش وقصد إليه ، واستولى عليه ، وفي الحقيقة الاستواء والعرش الله أعلم بهما ، على أن الآية تدل على نفوذ الأمر ، وتمام السلطان والتدبير.

وسخر الشمس والقمر ، ذللهما لما يريده من دوران وضياء وظهور وإخفاء ، كل من الشمس والقمر وغيرهما من الكواكب السيارة يجرى لأجل مسمى عنده ـ سبحانه ـ وهو انتهاء الدنيا وقيام القيامة فكل يجرى في فلك له إلى وقت معلوم وزمن محدود عنده تتبدل الأرض غير الأرض والسموات.

هكذا يدبر الله الأمر ، ويصرف الكون حسب إرادته وحكمته حالة كونه يفصل الآيات الدالة على كمال قدرته وبالغ حكمته ، وتفصيلها ذكرها مفصلة كرفع السماء ، ومد الأرض ، وتسخير الشمس والقمر ، وجريهما إلى أجل مسمى ، وغير ذلك مما هو مذكور في القرآن.

٢١٣

لعلكم عند مشاهدة هذه الآيات القواطع توقنون بأن هذا القرآن حق ، وما نزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم صدق ، وأن البعث والجزاءات لا شك فيه إذ القادر على هذا لا يعجزه بعث ولا حساب.

هذه بعض الآيات السماوية ، وأما الآيات الأرضية فقال فيها : وهو الله الذي مد الأرض وبسطها. وفرش الأرض ومهدها وجعل فيها رواسى شامخات ؛ وسقاكم ماء عذبا فراتا : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً* وَالْجِبالَ أَوْتاداً* وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً)؟! [سورة النبأ الآيات ٦ ـ ٨] ، ومد الأرض وبسطها ليس دليلا على عدم كرويتها إذ هي مبسوطة ممدودة في نظرنا لنعيش عليها ، وفي الواقع كرويتها أمر لا يشك فيه عاقل.

وجعل ـ سبحانه وتعالى ـ من كل الثمرات زوجين اثنين ذكرا وأنثى ، للتلقيح والإنتاج والحمد لله أثبت العلم الحديث أن في كل نبات ذكورا وإناثا ، قد تكون في الزهرة الواحدة أو الشجرة الواحدة أو في شجيرات ويتم التلقيح إما بالريح أو الطير ، وسبحان الله أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ، وقيل جعل فيها من كل ثمرة صنفين كبيرة وصغيرة إلى آخر ما ذكروه ، يغشى الليل النهار بجعل الليل كالغشاء للنهار فيغطي بظلمته ضياءه. شبّه إزالة النور بسبب ظلمة الليل بتغطية الأشياء الحسية بالأغطية حتى تسترها.

إن في ذلك الذي ذكره الحق ـ سبحانه ـ من مد الأرض وبسطها وإرساء الجبال فيها مع تحركها ودورانها وما جعله الله فيها من الثمرات الناشئة عن الازدواج والتلقيح وتعاقب النور والظلمة مع طول كل وقصره إن في ذلك لآيات بيّنه للناظرين المتفكرين المعتبرين.

وفي الأرض قطع متجاورات ترابها واحد ، وماؤها واحد ، وفيها زرع واحد ، ثم تتفاوت الثمرة ، بعضها حلو وبعضها مر ، بعضها يثمر وبعضها لا يثمر.

وفي الأرض جنات وبساتين من زروع ونخيل وأعناب وغيرها من الفواكه التي عرفت في غير جزيرة العرب ، ومن عجائب النخل أن فيه صنوانا وغير صنوان ، والمعنى أن أشجار النخيل قد تكون الواحدة لها رأسان وأصل واحد وقد تكون غير ذلك كبقية الشجر. وقيل المعنى : إن أشجار النخل قد تكون متماثلة وغير متماثلة مع اتحاد التربة والزرع يسقى ذلك كله بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل ، أليس في هذا

٢١٤

دليل على بديع صنعه وعظيم قدرته فإن القطع المتجاورة فيها الجنات متلاصقة ، بل والأشجار المتشابكة المتداخلة ، تسقى بماء واحد وبنظام واحد وبذرها واحد ثم نرى في بعضها نضجا وكمالا وطعما وحلاوة ، وفي البعض جفافا ونقصا ، وصغرا وحموضة بل وطعما متغيرا تمام التغير عن زميلتها ، أليس هذا دليلا على وجود القادر المختار الواحد القهار ، وأن الدنيا لم تسر بطبعها من غير مدبر لها حكيم؟ إن في ذلك لآيات وحججا ، ولكن لقوم يعقلون ويتدبرون بفكر حر وعقل سليم.

والحمد لله أثبت علماء الطبيعة الأحرار الذين درسوا الكون وما فيه أنه على نظام لو اختل قيد شعرة لهلك العالم وفنى ، وهذا دليل على وجود الله وكمال قدرته على كل شيء.

بعض أقوالهم والجزاء عليها

(وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (٧))

المفردات :

(الْأَغْلالُ) جمع غل وهو طوق تشد به اليد إلى العنق والمراد وصفهم بالإصرار (الْمَثُلاتُ) جمع مثلة ، وهي عقوبة أمثالهم من المكذبين سميت بذلك لما بين العقاب والمعاقب عليه من مماثلة.

٢١٥

بعد أن صدر السورة الكريمة بذكر الآيات القواطع الدالات على أنه على كل شيء قدير ، وأن البعث والإعادة مما يدخل تحت القدرة. تعرض لبعض أقوالهم المنافية تماما لهذه المقدمات.

المعنى :

وإن تعجب يا محمد من قولهم في إنكار البعث فقولهم حقيق بالعجب جدير به إذ من قدر على رفع السماء بلا عمد ، ثم استوى على العرش ، وسخر الشمس والقمر إلى آخر الآيات السابقة سواء كانت علوية أم أرضية ، من قدر على ذلك وعلى غيره ، ولم يعي بخلقهن قادر بلا شك على أن يحيى الموتى بل هو أهون عليه!! إذن إنكارهم أعجوبة من الأعاجيب ، والعجب : تغير نفسي عند خفاء السبب ، وهو محال على الله فالمراد تعجب الرسول ومن حوله من المؤمنين.

قالوا : أإذا كنا ترابا؟!! أننا لفي خلق جديد؟ قالوا مستبعدين ومحيلين البعث بعد أن كانوا ترابا؟!! أى أنبعث بعد أن كنا ترابا؟ ، فكان جزاؤهم على هذا .. أولئك الكاملون في الضلال المتمادون في الكفر والعناد هم الذين كفروا بربهم ؛ وأولئك هم المصرون على ما هم عليه فلا أمل فيهم البتة ، وينظر إلى هذا قول الشاعر العربي

لهم عن الرشد أغلال وأقياد

وقيل المعنى : أولئك يغلون يوم القيامة بالأغلال (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ* فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) [سورة غافر الآيتان ٧١ و ٧٢].

وأولئك هم أصحاب النار الملتزمون لها دائما هم فيها خالدون إلى ما شاء الله.

ويستعجلونك بالسيئة والعذاب الذي أنذرتهم به ، استهزاء بك وتكذيبا لك قبل الحسنة من الإمهال أو الإيمان ، ولا غرابة فهم القائلون (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال ٣٢].

يستعجلونك بالعذاب وقد خلت من قبلهم المثلات ، وحلت بمن سبقهم العقوبات لما كذبوا واستعجلوا العذاب ، وإن ربك لذو مغفرة للناس حالة كونهم ظالمين ، نعم

٢١٦

هو يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئة ، وقد كتب على نفسه الرحمة لمن يتوب توبة نصوحا ، وإن ربك لشديد العقاب لمن أصر على الذنب ولم يرجع نادما على ما فعل (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى ٤٠] (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت ٤٦].

ومع هذا كله يقول الذين كفروا : لو لا أنزل عليه آية من ربه! لم يكتفوا بالآيات التي نزلت على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

عجبا لهم وأى عجب؟! ألم يكفهم أن الله أنزل القرآن حجته الباقية وآيته الخالدة فقيل لرسول الله تطمينا لقلبه : إنما أنت منذر ورسول ، وما عليك إلا البلاغ ، فلا يهمنك أمرهم ولا تعبأ به ، لم يكتفوا بالقرآن وطلبوا معجزة موسى وعيسى من انقلاب العصا حية وإحياء الموتى ، فرد الله عليهم بقوله : لكل قوم هاد من الأنبياء يأتى إليهم ومعه معجزة تتلاءم مع طبيعتهم وفنهم الذي برعوا فيه وقيل المعنى : إنما أنت رسول ، ولكل قوم هاد هو الله ـ سبحانه وتعالى ـ يلجئهم إلى الخير وحده لا دخل لأحد غيره.

من مظاهر علمه وحكمته

(اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (٨) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (٩) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (١٠) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (١١))

٢١٧

المفردات :

(تَغِيضُ الْأَرْحامُ) تنقصه الأرحام في زمن أو جسم يقال : غاض الماء إذا جف ونقص (الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) ما غاب وما حضر (مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ) مستتر بالليل وقيل ظاهر فيه (وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) سرب : ذهب ، وسارب : ذاهب بالنهار ، أى ظاهر فيه. وقيل : المراد متوار فيه فهو من الأضداد في اللغة (مُعَقِّباتٌ) جمع معقبة والتاء للمبالغة لا للتأنيث ، والمراد ملائكة يتعاقبون بالليل والنهار (والٍ) ناصر ينصرهم.

المناسبة :

يقول الله لنبيه : أنت منذر فقط ، ولا عليك شيء بعد هذا ولكل قوم هاد ورسول ، معه معجزاته المناسبة ، المؤيدة له تبعا لعلم دقيق وحكم سامية إذ الله يعلم الغيب والشهادة إلخ .. الآيات.

وعلى الرأى الثاني في تفسير (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) فقد أتى بهذه الآيات للإشارة إلى أن هذه قدرته وهذا علمه فهو وحده القادر على هدايتهم بأى شكل ، وأما أنت فنذير فقط.

المعنى :

الله وحده هو الذي يعلم ما تحمله المرأة في بطنها أهو ذكر أم أنثى؟ الله وحده يعلم الجنين في بطن أمه على أية كيفية يكون وضعه!! وفي أى وقت يكون مولده فالأشعة الحديثة لا تعلم إن كان الجنين ذكرا أم أنثى نعم أثبتت التجارب أن الله وحده هو الذي يعلم ذلك علما قطعيا لا شك فيه. وكثيرا ما قالوا : إن في بطن فلانة ذكرا ثم يكون أنثى! وصدق الله. الله يعلم ما تحمل كل أنثى ويعلم ما تنقصه الأرحام وما يزداد ، والنقص والزيادة اللتان يعلمهما العالم البصير شاملان لكل نقص حسى أو معنوي وكذا الزيادة ، وكل شيء عنده ـ تبارك وتعالى ـ بقدر قدره ، وقضاء قضاه (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) وهذه الآية الكريمة تصف المولى ـ جل شأنه ـ بإحاطة

٢١٨

العلم وأنه يعلم ما غاب وما حضر ، وأنه يعلم الباطن الذي خفى عن الخلق كما يعلم الظاهر المشاهد ، وهو الكبير المتعالي عما يقوله المشركون السفهاء.

وإذا كان المولى يعلم السر والجهر والغيب والشهادة فسواء منكم أيها الناس من أسر القول وحدث به نفسه ، ومن جهر به ليسمعه غيره يستوي هذا وذاك فالله عالم بكل شيء سواء عنده من هو مستتر في الظلمات ، ومن هو ظاهر في الطرقات ، من هو مستتر بالليل ، ومن هو سارب وذاهب بالنهار على وجه السرعة والوضوح ؛ لكل فرد من الظاهر أو المستتر معقبات من الملائكة يتعاقبون على حفظه بالليل والنهار في وقت صلاة الصبح وصلاة العصر يتبادلون الحفظ والرعاية كما ورد في الحديث.

له معقبات من بين يديه ومن خلفه أى من أمامه ومن خلفه ، والمراد من كل جهة هؤلاء الملائكة الحفظة يحفظونه من الوحوش والهوام والأخطار لطفا من المولى به وهم يحفظونه بأمر الله وإذنه وهذا معنى (مِنْ أَمْرِ اللهِ) فمن في الآية بمعنى الباء ، وقيل المعنى : يحفظونه عن أمر الله لا عن أمر أنفسهم فهم موكلون به يحفظونه من الله أى عن أمره كقوله تعالى : (أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ) أى عن جوع وقيل المعنى : يحفظونه من الله أى من ملائكة العذاب حتى لا تحل بهم عقوبة لان الله لا يغير ما بقوم من نعمة وحفظ ورعاية حتى يغيروا ما بأنفسهم من الإيمان والعدل والاستقامة ، ولا يظلم ربك أحدا.

نعم لكل إنسان منا حفظة يحفظونه من بأس الله وعذابه فإذا أعلم أنه ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد راقب ربه وخشي حسابه فاستقام أمره ، وإذا كان الله قد جعل للإنسان حفظة يحفظونه بأمر الله فكيف يصاب بسوء؟ نعم يصاب إذا قدر له ذلك فهم يحفظونه من أمر الله بمعنى أن ذلك مما أمرهم به لأنهم لا يقدرون أن يدفعوا أمر الله.

إن الله لا يغير ما بقوم من نعمة وعافية وعز واستقلال حتى يغيروا ما بأنفسهم من الخير والأعمال الصالحة التي ترضى الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتثبت دعائم الدولة.

ولقد أثبت التاريخ الإسلامى صدق هذه النظرية القرآنية فالله لم يغير ما كان عند الأمة الإسلامية من عز ورفاهية وعلم واقتصاد حتى غيروا ما بأنفسهم من الخير والأعمال الصالحة التي ترضى الله ورسوله ، وتثبت ما بأنفسهم حيث حكموا بغير

٢١٩

القرآن ، وتركوا دينهم ، وقلدوا غيرهم ، وشاعت بينهم الموبقات وانحلت أخلاقهم والأمل عندنا الآن ليحول الله ضعفنا إلى قوة وذلنا إلى عزة ، وفقرنا إلى غنى ، واحتلالنا إلى استقلال ، وصدق الله : إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، والله على كل شيء قدير ، وإذا أراد الله بقوم سوءا من احتلال وذل أو مرض وفقر ونحوهما من أسباب البلاء التي تكون بسبب أعمالهم وما كسبته أيديهم فلا راد له ولا معقب لحكمه ، وفي هذا إيماء إلى أنه ينبغي ألا يستعجلوا السيئة قبل الحسنة فإن ذلك كله مرجعه إلى عالم خبير لا يرد له قضاء ، وما لهم من دونه من وال وناصر.

من مظاهر قدرة الله وألوهيته

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (١٣) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (١٤) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (١٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي

٢٢٠