التفسير الواضح - ج ٢

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ٢

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٨٨٤

المعنى :

رأى الملك في نومه رؤيا أزعجته فقصها على وزرائه وحاشيته وعلمائه فعجزوا عن تفسيرها وكان عجزهم من دواعي التفكير في يوسف ، واتصال الملك به.

وقال الملك : إنى أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع بقرات عجاف هزيلات ، وأرى سبع سنبلات خضر وأخرى سنبلات يابسة مهيأة للقطوف ، الخيال والرموز إلى الواقع والحقائق.

قالوا : هي أحلام مختلطة ، وخيالات غير منتظمة ، وهذه أضغاث أحلام لا تأويل لها ولا تفسير ، وإنما هي رموز مضطربة تنشأ عن ارتباك في المعدة وكدرة في النفس أحيانا وما نحن بتأويل أمثالها بعالمين.

وهكذا إعداد الله لبعض خلقه ، وتربيته لهم جعل الكهنة وعلماء المصريين يعجزون عن تأويل الرؤيا فيبحثون ، عمن يؤول لهم فلا يجدون إلا يوسف. وقال صاحبه القديم الذي كان في السجن معه واختبره عن كثب وأدرك ما عليه نفسه وما عنده من علوم ومعارف في تأويل الرؤيا ، وقد تذكره بعد طول الزمن يا قوم لا تبحثوا فإنى أنبئكم بتأويل هذا الحلم فأرسلون إلى السجن فإن فيه فتى قد خبرته ووقفت منه على أسرار ، فأرسلوه ليوسف فقابله وقال له : يوسف أيها الصديق الكريم أفتنا في رؤيا رآها الملك تتلخص في سبع بقرات سمان أكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات ، أخبرنى فإنك بتأويل الرؤيا من العالمين.

أفتنا في رؤية الملك فإنى أرجو أن يحقق لك الخروج من السجن وانتفاع الملك بحسن رأيك لعلى أرجع إلى الناس أهل الحل والعقد بتأويلك الدقيق وخبرك الوثيق لعلهم يعلمون مكانتك ، وما أنت عليه من ذكاء وعقل ، وحكمة وإلهام.

قال يوسف مؤولا الرؤيا ، ومبينا لهم ما يجب عمله لتلافي الخطر الذي تشير له الرؤية بالرمز مع اعتزاره برأيه وأن له صفة الآمر الناصح :

تزرعون على معنى ازرعوا سبع سنين قمحا وشعيرا دائبين مجدين بلا انقطاع وإذا فعلتم ذلك فما حصدتموه فاتركوه في سنبله ليكون الحب لكم والتبن لدوابكم وهذه

١٨١

طريقة علمية دقيقة لحفظ المحصول ، اصنعوا هذا في المحصول كله إلا قليلا مما تأكلون فهذا هو تأويل البقرات السبع والسنابل السبع.

ثم يأتى بعد ذلك سبع سنين شداد في جدبهن وانقطاع الخير فيهن ، يأكلن ما قدمت تلك السنين الأولى من المحصول المدخر والمراد ما في تلك السنين ، تأكل الكل إلا قليلا مما تحصنون وتدخرون للبذر ، ثم يأتى من بعد هذا كله عام فيه يكون الرخاء على أتم ما يكون وأحبه عام فيه يغاث الناس بكل أنواع الإغاثة من مطر وحسن محصول ومنع للآفات وفي هذا العام تعصرون عصير القصب والفاكهة ، وعصير العنب والسمسم والزيتون ... إلخ.

وهذا الإخبار الأخير الخاص بهذا العام من قبيل الوحى والإلهام لا جزءا من تأويل الرؤيا. والله أعلم.

طلب الملك له وحكمة يوسف

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (٥٢))

١٨٢

المفردات :

(بالُ النِّسْوَةِ) حالهن وأمرهن الذي يشغل البال (خَطْبُكُنَ) أمركن العظيم وخطبكن الجسيم (حَصْحَصَ الْحَقُ) ظهر الحق.

المعنى :

بلغ الملك ما قاله يوسف من تفسير الرؤيا فرأى أنه كلام خطير يدل على رجاحة عقل صاحبه وقوة فطنته وذكائه ، وأن من الخير للملك أن يحضر هذا الشخص أمامه ليسمع منه ويرى.

وقال الملك : ائتوني به وأحضروه لي لأسمع بنفسي ، فلما جاء الرسول ليوسف قال له : كيف أذهب إلى الملك من السجن ، وأنا ملوث بتهمة باطلة لا تليق بي وإنى برىء منها براءة الذئب من دمى ، ولكن الرأى السديد أن ترجع إلى ربك وسيدك فتسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن؟ ما خبرهن؟ اسأل الملك أن يحقق في ذلك قبل أن أحضر إليه ، إن ربي عالم الغيب والشهادة. وهو بكيدهن لي عليم.

وهذه حكمة آل ابراهيم ـ عليه‌السلام ـ حكمة يوسف الحكيم الذي يطلب هذا الطلب وهو في السجن؟ وفي هذا الدليل على صبره وأناته ، واعتزازه بنفسه ودينه ، وعفته وفي طلبه التحقيق ولم يتهم أحدا صراحة ، وحفظه للجميل حيث لم يذكر سيدته وهي أصل البلاء.

قال الملك للنسوة : ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه؟ وهل كانت المراودة له ناشئة عن مغازلة وخضوع منه بالقول لكن؟!

وأنطقهن الله بالحق فقلن : حاش لله ما علمنا عليه سوءا يشينه في كبير ولا صغير.

وقالت امرأة العزيز ، شهادة ليوسف شهادة إثبات : الآن ظهر الحق وبدا الصبح لذي عينين أنا راودته عن نفسه وطلبت منه بكل حيلة وهو لم يراودني أبدا بل استعصم وأعرض عنى وإنه لمن الصادقين في كل ما قاله في شأنى وشأن غيرى.

١٨٣

ذلك الإقرار بالحق ليعلم يوسف في سجنه أنى لم أخنه بالغيب أى وهو غائب عنى بل صرحت للنسوة أنى راودته عن نفسه فاستعصم وسأسجنه إن أبى ، واعلموا أن الله لا يهدى كيد الخائنين أبدا.

وقيل المعنى أن يوسف قال : ذلك ليعلم العزيز أنى لم أخنه بالغيب والله أعلم.

١٨٤

النفس أمّارة بالسوء

(وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٣))

هذا أول الجزء بناء على التقسيم اللفظي العددى ، وفي الواقع هذه الآية متصلة بما قبلها إذ هي من كلام امرأة العزيز على معنى : ذاك الإقرار بالحق ليعلم يوسف أنى لم أخنه بالغيب وهو سجين فلم أنل من أمانته أو أطعن في شرفه أو ليعلم زوجي أنى لم أخنه بالغيب في خلوتي بيوسف وأنى لم يحصل منى إلا المراودة فأبى واستعصم ، ولئن برأت يوسف فما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء.

هذا هو الظاهر من نظم الكلام والسياق ، وبعضهم يقول : وما أبرئ نفسي حكاية لكلام يوسف على معنى : ذلك الذي كان منى ليعلم العزيز أنى لم أخنه في زوجه بالغيب ، وأن يوسف لا يبرئ نفسه وهذا تواضع منه ، والقائلون بهذا القول ممن يثبتون ليوسف هما ، وقد مضى الكلام في مسألة الهم.

وما أبرئ نفسي ، وكأن سائلا سأل وقال : لم؟ أجيب إن النفس لأمارة بالسوء ؛ هذا بطبعها فالنفس أرضية ظلمانية لا تدعو إلى الخير ، ولا تأمر إلا بسوء ، فالحسد والحقد والعجب والكبر والبطر وحب الأذى ، وحب المال وكراهية الموت ، وقول السوء والغيبة والنميمة وغير ذلك من دواعي الفساد ، كل ذلك من عمل النفس ومن دأبها (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ. فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [ص ٧١ و ٧٢].

ولكن لا نيأس من روح الله ولا نقنط من مغفرته ورحمته إن تبنا وأنبنا إن ربي غفور ستار رحيم كريم يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ...

١٨٥

يوسف وقد تولى زمام الأمر في مصر

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٧))

المفردات :

(أَسْتَخْلِصْهُ) المراد أجعله خالصا لنفسي لا يشاركني فيه أحد (مَكِينٌ) ذو مكانة (يَتَبَوَّأُ) ينزل من مصر في أى مكان أراده ، والمراد أنه صاحب الأمر.

انتهى التحقيق الذي طلبه يوسف وهو في السجن بظهور براءته مما نسب إليه ، وفهم من هذا أنه كان أمينا على مال العزيز ، وعرضه ، وظهر لهم أنه ذو كياسة وعقل ، وصاحب خبرة ، وله إلمام بالتأويل.

كل هذا جعل الملك يطلبه ويصطفيه لنفسه ، ويسند إليه أسمى الوظائف وأعلاها.

المعنى :

وقال الملك حينما وقف على أمر يوسف بالتفصيل : ائتوني به أجعله خالصا لي ، وموضع ثقتي ومشورتي. فلما حضر يوسف وكلمه الملك ، وناقشه ووقف على عقله وحنكته ، وأمانته وحسن تصرفه قال له : إنك اليوم عندنا ذو مكانة سامية ومنزلة عالية ، وأمانة تامة فأنت من الآن صاحب التصريف بغير منازع في أمر المملكة.

١٨٦

وانظر إلى الملك وعقله حينما علم به قال : ائتوني به ، وحينما أجرى التحقيق وظهرت براءته وطول صبره وقوة جلده وكمال عقله قال : ائتوني به أستخلصه لنفسي ، فلما ناقشه وكلمه قال : إنك اليوم لدينا مكين أمين.

قال يوسف : اجعلنى أيها الملك على خزائن الأرض الخاصة بك أتصرف في الأقوات والزرع حتى أنقذ البلاد من شر المجاعة المقبلة التي رأيت رؤياها بالأمس ، ولا تعجب من طلبى هذا إنى حفيظ شديد المحافظة خبير عليم بإدارة السياسة المالية والاقتصادية.

وهنا نقف .. كيف رضى يوسف أن يتعاون مع الملك؟ وكيف طلب تعيينه على خزائن الأرض.

والجواب عن الأول : أن يوسف قبل العمل مع الملك لأنه رأى فيه العقل وحسن السياسة ، وقد جعله صاحب التصرف في الأمر وفي هذا خير ليوسف ولمصر.

وأما طلبه أن يكون واليا على خزائن مصر فلثقته بنفسه وعلمه بأن هذا فيه خير للأمة ، ومن هنا هل لنا أن نقلد يوسف في عمله هذا؟ ومرجع ذلك ضمير المسلم ودينه فيختار ما فيه خير له ولأمته ولدينه.

ومثل ذلك التمكين السابق الذي انتقل يوسف فيه من محنة إلى محنة ومن شدة إلى نعمة ؛ فها هو ذا يوسف في الجب نتيجة لحسد إخوته له ، ثم تأخذه السيارة وتبيعه بيع الرقيق بدراهم معدودة ليذهب إلى بيت العزيز ، ولأمانته ونزاهته جعله العزيز أمينه ، ثم كان موقفه مع امرأة العزيز الذي انتهى به إلى السجن ، ولو لا السجن لما اتصل بخادم الملك فيه الذي رفع اسمه وشهر مكانته حتى عرفه الملك واستخلصه لنفسه.

فكما مكنا له ذلك ورعيناه حتى وصل إلى ما وصل إليه مكنا له في أرض مصر حتى أصبح الآمر الناهي ، والملك المطاع بعد أن دخلها مملوكا طريدا وعبدا يباع بدراهم قليلة وما ذلك إلا من صبره وجلده وقوة تحمله الشدائد ، ومن أمانته وعفته وخلقه ودينه ، وحسن بصره وتدبيره للأمور ، وارعاء الله له في كل طور من أطوار حياته (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) [سورة الحج آية ٣٨].

وها هو ذا يوسف يتبوأ من الأرض وينزل منها حيث شاء ، يصيب برحمته من يشاء من خلقه جزاء لصبرهم وعاقبة لفعلهم ، ولقد صبر يوسف صبرا كثيرا على إخوته ،

١٨٧

وعلى كيد امرأة العزيز له ، وعلى كيد النسوة. وعلى أذى السجن وما فيه ، والله لا يضيع أجر المحسنين الذين أحسنوا العمل بشكرهم النعم بل يجازيهم عليها سعادة وقناعة وعزا ودولة ، هذا في الدنيا ، وفي الآخرة جزاؤهم فيها خير وأبقى لإيمانهم وتقواهم (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ. وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) من سورة ص.

موقف إخوة يوسف معه ، ثم مع أبيهم

(وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٨) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (٦٠) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (٦١) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٦٢) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٦٣) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٤) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا

١٨٨

ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٦٦))

المفردات :

(جَهَّزَهُمْ) يقال : جهزت القوم تجهيزا أى : تكلفت لهم بجهازهم للسفر ، وجهاز العروس ما يحتاج إليه عند الزفاف. والمراد به هنا الطعام الذي امتاروه من عنده (أُوفِي) أتم (الْمُنْزِلِينَ) المضيفين للضيوف (سَنُراوِدُ) نطلبه من أبيه برفق ولين ومخادعة (بِضاعَتَهُمْ) هي المال الذي يستقطع ويستعمل للتجارة (رِحالِهِمْ) جمع رحل وهو ما يوضع على ظهر الدابة وفوقه المتاع. (نَكْتَلْ) يقال : في كلت له الطعام إذا أعطيته واكتلت منه إذا أخذته نكتل أى نأخذ (مَتاعَهُمْ) المتاع : ما ينتفع به والمراد هنا أوعية الطعام (بِضاعَتَهُمْ) ثمن ما كانوا أعطوه من الطعام (وَنَمِيرُ) نجلب لهم الميرة وهي الطعام يجلبه الإنسان من بلد إلى بلد (كَيْلَ بَعِيرٍ) أى : مكيل بعير أى جمله الذي يعطى لصاحبه (مَوْثِقاً) الموثق العهد الموثق (إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) المراد إلا أن تغلبوا على أمركم.

المعنى :

كان يوسف على خزائن أرض مصر وهو الحفيظ للقوت العليم بأساليب الصرف والإكثار من الزرع ، وقد كان الزمن زمن جدب وقحط عم مصر وما جاورها من البلاد كبلاد كنعان (فلسطين) لكن يوسف قد أرسل لمصر لإنقاذها من الجدب. بل وفر من أقواتها ما كان يباع لجيرانها. ولما علم يعقوب وبنوه بخيرات مصر ، وكانوا في أشد الحاجة إلى الطعام أرسل أبناءه العشرة ليبتاعوا من عزيز مصر القوت ويعطوه

١٨٩

الثمن بضاعة كانت معهم ، وكان يوسف لا يعطى لفرد إلا حمل بعير فقط توفيرا للمؤن.

وجاء إخوة يوسف العشرة فدخلوا عليه ، وهو في أبهة السلطان فعرفهم لما وصل خبر مقدمهم إليه ، ورآهم بعينه ؛ أما هم فلم يعرفوه لتغير حاله واستبعاد أن يكون الطريد الشريد الملقى في البئر عزيز مصر الذي يتحكم في أقوات الخلق ، يا سبحان الله!!

ولما جهزهم بجهازهم أوقر ركائبهم بما جاءوا لأجله من الطعام وأعطاهم ما يحتاج إليه المسافر في سفره ، وكانوا عشرة وطلبوا أكثر من حقهم ، طلبوا لأبويهم ولأخيهم الحادي عشر فإنه بقي في خدمة أبويه الكبيرين. أعطاهم حمل بعيرين بشرط أن يحضروا له أخاهم لأبيهم ليراه. ثم أخذ يجب إليهم المجيء ثانية مع أخيهم بقوله : ألا ترون أنى أتم لكم الكيل الذي تكتالون ، وأريحكم في سعره وصنفه ، وأنا خير المضيفين فقد أحسنت ضيافتكم وجهزتكم بزاد يكفيكم في سفركم زيادة على تجارتكم ، ومن هنا يعلم أن اتهامه لهم بالتجسس بعيد وأخذ رهينة منهم أبعد.

يا بنى يعقوب إن لم تحضروا لي أخاكم كما اتفقنا ، وعدتم تمتارون لأهلكم منعتكم من الكيل في بلادي فضلا عن إيفائه وكماله ، ولا تقربون بلادي فضلا عن الإحسان في المعاملة والضيافة.

قالوا : أيها العزيز سنراود عنه أباه ، ونحتال بكل حيلة ، ونخادعه بكل خدعة حتى يسلم لنا بنيامين الذي يعتز به أبوه فهو خلف لأخيه المفقود ، وإنا لفاعلون ذلك إن شاء الله.

وقال يوسف لفتيانه الذين يتولون الكيل للتجار : اجعلوا بضاعتهم التي جاءوا بها ثمنا للطعام ـ روى أنها كانت جلودا وأدما ـ اجعلوها في رحلهم لكي يعرفوها إذا انقلبوا إلى أهلهم فيكون ذلك أدعى لرجوعهم ثانية حيث يقفون على مدى إكرام العزيز لهم ، لعلهم يرجعون حسبما أمرتهم بذلك طمعا في برنا وحسن معاملتنا. ابتاع إخوة يوسف منه طعامهم ، وهو يعرفهم وهم لا يعرفونه ، وطلب منهم أن يحضروا أخاهم من أبيهم وإلا منع عنهم الكيل .. فلما رجعوا إلى أبيهم بعد هذه الرحلة قالوا بمجرد وصولهم : يا أبانا إن عزيز مصر قد منع منا الكيل بعد هذه المرة إن لم

١٩٠

ترسل معنا أخانا بنيامين كما طلب ، فأرسله معنا نكتل من الطعام ما نحتاج إليه بقدر عددنا : ونكون قد وفينا له بما شرط علينا ، وهو العزيز الذي أكرم وفادتنا ، وإنا يا أبانا لنحفظ أخانا في ذهابنا وإيابنا.

قال يعقوب الشيخ الحزين على يوسف الذي لا يزال يذكره حتى ابيضت عيناه من الحزن : هل آمنكم عليه إلا ائتمانا كائتمانى لكم على أخيه يوسف من قبل؟ على معنى كيف آمنكم على ولدي بنيامين وقد فعلتم بأخيه يوسف ما فعلتم وإنكم ذكرتم مثل هذا الكلام بعينه في يوسف وضمنتم لي حفظه وقلتم : إنا له لحافظون فلم يحصل الأمن والحفظ سابقا فكيف يحصل الآن؟!! يا بنى ما أنتم صانعون به إلا كما صنعتم بأخيه من قبل!!.

وظاهر الكلام يدل على أنه أرسله معهم اعتمادا على حسن الظن بهم وأنه ما كان يرى علامات الحسد والحقد بينهم في هذه اللحظة وتلبية لدعوة الحاجة إلى الطعام.

فالله خير حافظا يحفظ لي ولدي ، ولا يجمع بين مصيبتين لي ، وهو أرحم الراحمين.

طلبوا من أبيهم هذا ساعة وصولهم وقبل فتح أمتعتهم.

ولما حطوا رحالهم وفتحوا متاعهم ، وجدوا بضاعتهم التي أخذوها ثمنا لطعامهم وجدوها ردت إليهم.

قالوا : تأييدا لطلبهم يا أبانا ما نبغى؟ ماذا نطلب زيادة على وصفنا لك من إكرامه وفادتنا وحرصه على راحتنا؟

هذه بضاعتنا ردت إلينا من حيث لا نشعر أليس هذا دليلا على منتهى الكرم؟ وداعيا لأن نوفى له بما طلب.

ونحن إذا ذهبنا ثانية مع أخينا نمير أهلنا ، ونحضر لهم الطعام بلا ثمن ، ونحفظ أخانا بنيامين بعنايتنا ورعايتنا فلا تخش عليه شيئا ، ونريد كيل بعير لأجله ، إذ يوسف كان يعطى كل رجل حمل بعير فقط اقتصادا وتوفيرا ، ونظهر أمامه بأنا صادقون في دعوانا بأن لنا أخا مع أبوينا يخدمهما ، وربما كان ذلك له تأثير عند العزيز.

وذلك أى البعير الزائد أمر يسير على مثل هذا الرجل الكريم الذي لو كان من نسل يعقوب لما أكرمنا هذا الإكرام.

١٩١

قال يعقوب : وقد تذكر حوادث الماضي. وتمثلت له صورة العزيز يوسف : لن أرسل بنيامين معكم حتى تعطوني عهدا مؤكدا بإشهاد الله وقسمه لتأتننى به ، ولترجعنه لي ، فهو قرة عيني وسلوتى عن يوسف لتأتننى به على أى حال كنتم. إلا في حال يحيط بكم العدو أو الموت أو أى سبب يمنعكم عنى ؛ فلما أعطوه المواثيق قال يعقوب : الله على ما نقول جميعا وكيل ، وهو نعم الحفيظ وأفوض أمرى إلى الله إن الله بصير بالعباد ...

يعقوب يوصى أبناءه الذاهبين إلى مصر

(وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦٨))

المعنى :

رضى يعقوب أن يذهب بنيامين مع إخوته ليقابلوا عزيز مصر ، ولكنه كان يتوجس أمرا ، ويتوقع حدثا ، وهكذا المؤمن القوى الإيمان تتطلع روحه فتستشف الغيب المحجوب ، لذا نصحهم فقال :

يا أولادى لا تدخلوا مصر من باب واحد ولكن ادخلوها من أبواب متفرقة حتى لا يحسدكم حاسد أو يكيد لكم كائد فيحل بكم مكروه.

وهنا يدور سؤال : هل للحسد أثر مادى في المحسود؟؟

١٩٢

ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. «أنّ العين لتدخل الرّجل القبر والجمل القدر» «وأعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة» وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وقد أخبر بوعكة لبعض أصحابه من أثر حسد فقال. «علام يقتل أحدكم أخاه! ألا بركت إن العين حق ، توضأ له» فتوضأ الحاسد ومعنى بركت قلت تبارك الله أحسن الخالقين اللهم بارك فيه بكلمات الله التامة .. إلخ وعلى الحاسد أن يتوضأ وأن يقول ، تبارك الله أحسن الخالقين عند ما يرى شيئا (وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ) [سورة الفلق آية ٥].

وبعض العلماء ينفى أثر العين ويفهم الآية هنا على معنى يا بنى لا تدخلوا من باب واحد لتروا بأعينكم ما يكون من تأثير كل طائفة منكم في نفس العزيز وعلى أسارير وجهه.

يا بنى اعملوا بنصيحتى واعلموا أنى لا أغنى عنكم من الله شيئا ، ولا أدفع عنكم بتدبيري من قضاء الله شيئا إذا لا يغنى حذر من قدر ، ولكن اسلكوا الأسباب العادية مع العلم أن قضاء الله نافذ لا محالة. إن الحكم إلا لله وحده له الحكم وله الأمر وعليه وحده فليتوكل المتوكلون لا على غيره.

ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ، ما كان دخولهم على هذا الشكل يغنى عنهم من أمر الله شيئا. ولكن كانت هناك حاجة في نفس يعقوب تدور بخلده أراد أن يظهرها لأبنائه ، قضاها وأظهرها بوصيته لأولاده من حيث لا يفطنون لها.

إنه لذو علم وبصر بالأمور لما علمه ربه بالوحي والإلهام وتأويل الرؤيا الصادقة ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك.

يوسف يتعرف على أخيه بنيامين ويحتال على إبقائه عنده

(وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٩) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ

١٩٣

أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (٧٠) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ (٧١) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (٧٣) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (٧٤) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٧٦))

المفردات :

(آوى إِلَيْهِ أَخاهُ) ضمه إليه (فَلا تَبْتَئِسْ) لا تحزن (السِّقايَةَ) وعاء يسقى به ، وكان يكال للناس طعامهم به وهو صواع الملك (جَهَّزَهُمْ) هذه المادة تفيد الإسراع وتنجيز الأمر ومنه أجهز على الجريح والمراد كما مضى أوقر ركائبهم بالطعام (أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) نادى مناد ، وأذن تفيد التكثير والتكرير (الْعِيرُ) الجمال التي تحمل الطعام وتنقله من بلد إلى بلد والمراد هنا أصحابها (زَعِيمٌ) كفيل وضمين (كِدْنا) الكيد التدبير الخفى (دِينِ الْمَلِكِ) شرعه وقانونه.

المعنى :

ولما دخلوا على يوسف في ديوانه ، وأحضروا معهم أخاه بنيامين ، واجتمع بهم ضم

١٩٤

إليه أخاه في مجلس خاص وصارحه بكل شيء وقال له : إنى أنا أخوك يوسف فلا تحزن ولا تتألم بما كانوا يفعلون قديما فينا ، وهذا جزاء الصبر يا بنيامين ، وهنا روايات كثيرة في كيفية ضم يوسف لأخيه لا تخرج في مجموعها عما ذكرنا.

عرف يوسف أخاه الحبيب ، وألم بحاله مع أبيه الحزين وما حصل من إخوته حينما طالبوا بنيامين من أبيهم ولكن يوسف يريد أخاه ولأمر ما يريد مكثه معه ، فمضى في تنفيذ غرضه بكل وسيلة وحيلة! فلما جهزهم بجهازهم ، وقضى لهم أمرهم ، جعل السقاية في رحل أخيه بنيامين دون أن يعلم أحد ، وحينما ساروا في طريقهم فرحين مسرورين أذن مؤذن ، ونادى مناد ، شأن من يضيع منه شيء : أيتها العير أى : يا أصحاب العير ، قفوا إنكم سارقون!! كان هذا خبرا كالصاعقة عليهم ، فما سرقوا ولا أخفوا شيئا.

قالوا : وأقبلوا على فتيان العزيز في دهش وحيرة ماذا تفقدون؟ وماذا ضاع منكم؟ أنكروا ضياع شيء ، ولم ينفوا عن أنفسهم سرقة لأنهم يعلمون أنها بعيدة كل البعد لا تحتاج إلى نفى.

قال الفتيان : نفقد الصواع الذي نكيل به للناس الذي عليه شارة الملك ، ولمن جاء به حمل بعير برّا وقال المنادى : إنى بهذا زعيم وضمين.

قال إخوة يوسف : تالله لقد علمتم أنتم بعد تجربتكم لنا أننا ما جئنا لنفسد في أرض مصر بأى نوع من أنواع الفساد فضلا عن السرقة التي هي أحط أنواع الاعتداء ، وكيف نسرق من جماعة أكرمونا هذا الإكرام! وما كنا سارقين في يوم من الأيام ..

قال فتيان يوسف لهم : إذا كان الأمر كذلك فما جزاؤه إن كنتم كاذبين في نفى كون الصاع في رحالكم ؛ أما السرقة فهم صادقون في دعوى البراءة منها يدل على هذا قولهم جزاؤه أخذ من وجد في رحله ، وظهر أنه السارق للصواع ، أخذه وجعله عبدا لصاحبه واسترقاقه عاما وذلك كان في شريعة يعقوب ـ عليه‌السلام ـ.

(فَهُوَ جَزاؤُهُ) وهذا تقرير للحكم السابق ، وتوكيد له بعد توكيد ، مثل ذلك الجزاء الشديد نجزى الظالمين للناس بسرقة أمتعتهم وأموالهم ؛ أما يوسف فبعد أن رجعوا إليه تلبية لنداء المنادى وتبرئة لساحتهم وإجابة لطلبه بدأ بتفتيش أوعيتهم قبل وعاء أخيه ،

١٩٥

ليبعد الشبهة عن نفسه ثم استخرجها أى السقاية من وعاء أخيه ، [وقد قلنا إن السقاية والصواع والصاع شيء واحد].

كذلك كدنا لأجل يوسف ، وأوحينا إليه أن يفعل ذلك لأنه ما كان يصح له أن يأخذ أخاه في شريعة الملك التي يسير عليها يوسف ، ولكنه احتال حتى حكموا هم بذلك فوصل إلى المطلوب والمقصود.

ولما كانت هذه الوسيلة إلى تلك الغاية منكرة في الظاهر لأنها تهمة باطلة حكى الله عن يوسف أنه فعلها بوحي منه وإذن فقال : ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك في حال من الأحوال إلا في حال أن يشاء الله ذلك.

كذلك نرفع من نشاء درجات كثيرة في العلم والتوفيق. كما رفعنا ووفقنا يوسف إلى بلوغ المقصود.

وفوق كل ذي علم من هو أوسع منه علما وإحاطة ، حتى يصل إلى الله ـ سبحانه ـ الذي يعلم كل شيء (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [سورة الملك آية ١٤].

حوار بين يوسف وإخوته ثم بينهم وبين أبيهم

(قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (٧٧) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨) قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا

١٩٦

إِذاً لَظالِمُونَ (٧٩) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٠) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (٨١) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٨٢) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤) قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (٨٥) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٦) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (٨٧))

١٩٧

المفردات :

(اسْتَيْأَسُوا) يئسوا يأسا كثيرا (خَلَصُوا) انفردوا عن الناس وتخلصوا منهم (نَجِيًّا) متناجين متشاورين (فَرَّطْتُمْ) قصرتم (أَبْرَحَ) أترك (سَوَّلَتْ) زينت (يا أَسَفى) يا أسفى والأسف الحزن الشديد على ما فات (كَظِيمٌ) مملوء غيظا على أولاده ممسك له في قلبه (حَرَضاً) الحرض المرض المشرف على الهلاك (بَثِّي) البث في الأصل إثارة الشيء وتفريقه ، ومنه بث الريح ، والمراد هنا إظهار ما انطوت عليه نفسه من الحزن (فَتَحَسَّسُوا) تعرفوا أحوال يوسف بحواسكم (رَوْحِ اللهِ) فرجه ورحمته.

المعنى :

افتقدوا صواع الملك ، ثم وجدوه في وعاء بنيامين ومتاعه بعد أن نفى إخوته السرقة نفيا باتا ، وشهدوا أنه إذا وجد في متاع شخص فجزاؤه أن يأخذه العزيز ويسترقه عنده ؛ غاظهم ذلك وساءهم هذا الحادث لأمور : منها عهدهم الذي أخذ عليهم عند أبيهم ، وما فعلوه في يوسف من قبل ، وألم والدهم الشديد عند ذهابهم بدون بنيامين ؛ فأخذوا يؤنبون أخاهم ويقولون :

إن يسرق بنيامين فقد سرق أخ له من قبل ، وما ذاك إلا من عرق أمهما وخلقها. أما أبوه الذي نجتمع معهما فيه فليس فيه هذا العرق ، وفي هذا إشارة إلى أن الأخلاق تورث ، وأن الحقد والحسد عندهم لا يزال.

وهل سرق يوسف من قبل؟ أصح شيء وأسلمه رواية أنه سرق صنما وهو صغير فكسره ، أما الروايات التي تثبت أن عمته احتالت على أبيه وجعلت منطقة إسحاق أبيها تحت ثياب يوسف ونسبته إلى سرقتها وهو صغير ليمكث عندها فأظن أن هذا صغار لا يليق ببيت إبراهيم وإسحاق.

سمع يوسف قولهم : إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ، وأضمر ولم يجبهم عنها ، بل صفح عنهم وقال في نفسه. بل أنتم شر مكانا إذ أنكم سرقتم من أبيكم أخاكم وألقيتموه في الجب ، وادعيتم : كذبا أن الذئب أكله ، والله أعلم وحده بما تصفون.

١٩٨

ولما رأوا أن الموقف جد خطير ، ولا ينفع فيه إلا الاستعطاف. قالوا : يا أيها العزيز إن لهذا الأخ أبا شيخا طاعنا في السن كبير المقام جديرا بالرعاية والعناية وهو سلوته ، وموضع أنسه ومحط أمله ، وعوضه عن ابنه المفقود ؛ فخذ أحدنا مكانه رحمة بهذا الشيخ الكبير ؛ إنا نراك من الذين يحسنون العمل ، ويعملون الصالح ، فسر على عادتك وتقبل طلبنا.

قال يوسف : معاذ الله!! وحاش لله أن نخالف شريعتكم وشريعة الملك هنا ، ونأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده ؛ وانظر إلى قوله وجدنا متاعنا ولم يقل من سرق متاعنا فإنه لم يسرق أبدا.

إنا إذا أخذنا غيره لنكونن من الظالمين لأنفسهم المتجاوزين حدود الشرع.

ردهم يوسف ردا شديدا مبينا لهم أن هذا الرأى مما يستعاذ منه .. فلما يئسوا من فكاك بنيامين يأسا بليغا خلصوا من القوم ، وانفردوا تاركين الناس ليجتمعوا اجتماعا خاصا للنجوى والتشاور فيما دعاهم ولم يكن في الحسبان.

قال كبيرهم سنا أو عقلا ولذا قيل هو يهوذا أو غيره : يا إخوتى إن هذا لحدث الأحداث .. ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم عهد الله وميثاقه المؤكد لتأتننى به إلا أن يحاط بكم؟ ألم تعلموا ما فرطتم في يوسف وقصرتم في حفظه من قبل؟ يا قوم إن الأمر جد خطير فماذا أنتم فاعلون؟!!

إذا كان الأمر كذلك فلن أفارق أرض مصر أبدا وأترك بنيامين فيها حتى يأذن لي أبى في ذلك ، أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين ، والرأى عندي : أن ارجعوا إلى أبيكم فقولوا : يا أبانا إن ابنك سرق صواع الملك ، فاسترقه وزيره عملا بشريعتنا ، وما شهدنا عليه بالسرقة وجزائها إلا بما علمنا علما أكيدا حيث أخرج الصواع من متاع بنيامين ، وقد أقررنا له أولا أن من يوجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزى في شريعتنا الظالمين ، حصل هذا كله ، وما كنا للغيب المستور حافظين وعالمين أنه سيسرق وعاء الملك وسيأخذه فيه ، ولو كنا نعلم هذا لما آتيناك العهد الموثق علينا.

وإن كنت في شك من أمرنا فاسأل أهل القرية التي كنا فيها ساعة أن فتشنا العزيز وهي مصر فقد اشتهر فيهم أمر هذه السرقة ، واسأل العير وأصحابه الذين كانوا يمتارون معنا ؛ وإنا لصادقون في أقوالنا على أى حال.

١٩٩

بعد هذه المقالة التي كلفهم بها أخوهم الذي مكث في مصر وبلغوها لأبيهم فلم يصدقهم وقال : بل سولت وزينت لكم أنفسكم أمرا آخر [وكيدا ثانيا] فنفذتموه ، ومما يؤيد هذا أنكم لقنتم العزيز شريعتنا التي تحكم بأسر السارق.

فأمرى صبر جميل ، وليس لي إلا الرضا بقضاء الله وقدره ، عسى الله أن يأتينى بهم جميعا يوسف وبنيامين والأخ الثالث ، إنه هو العليم بحالي وضعفى وحزنى على أولادى الحكيم في كل صنع يصنعه ؛ وتولى عنهم وأعرض قائلا : يا أسفا احضرى فهذا أوانك يا أسفى على يوسف الحبيب ، وابيضت عيناه من كثرة البكاء ، ولا عجب فهو مملوء غيظا يردد حزنه في جوفه.

والحزن على فقد محبوب أمر طبيعي لا حرج فيه ما دام لا يبلغ بصاحبه أن يقول قولا لا يرضى الله ورسوله وصدق رسول الله : «إنّ العين لتدمع وإنّ القلب ليحزن ولا نقول إلّا ما يرضى ربّنا» قال أولاد يعقوب الذين حضروا من مصر إلى أبيهم حينما سمعوا أسفه على يوسف وحزنه العميق عليه وعلى إخوته قالوا : تالله يا أبت لا تزال تذكر يوسف وقد مضت حوادثه من زمن بعيد لا تزال تذكره حتى تصير مريضا مرضا مشرفا بك على الموت أو تكون من الهالكين!! قال إنما أشكو بثي وحزنى إلى الله وحده. لا إلى أحد من خلقه فلا لوم على ولا تثريب ، وأنا أعلم من الله وأمره مالا تعلمون فأنا أعلم أنهم أحياء يرزقون ، وأن الله اجتبى يوسف وأتم نعمته عليه وعلى آل يعقوب ، وإن كنتم تظنون غير ذلك فأنا يا أولادى أعلم أن رؤيا يوسف حق وستراكم الأيام صدق نظريتى يا أولادى اذهبوا إلى مصر وتعرفوا أخبار يوسف وأخيه حتى تقفوا على جلية أمرهما.

ولا تيأسوا من رحمة الله وفضله فإنه لا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس إنه لا ييأس من رحمة الله وفضله إلا القوم الكافرون ، أما المؤمنون حقا فلا تقنطهم المصائب ، ولا تزعزعهم الشدائد وهم صابرون راضون بقضاء الله وقدره ، واثقون من دفاع الله عنهم (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) وفي قول القرآن : وابيضت عيناه من الحزن : معجزة أثبتها الطب الحديث إذ الحزن كثيرا ما ينشأ عنه بياض العين بياضا يمنعها من الرؤية.

٢٠٠