التفسير الواضح - ج ٢

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ٢

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٨٨٤

كالحسد والأنانية حتى يوسوس لصاحبها ويوقعه في الشر ، وقد كان الشيطان مع إخوة يوسف على أتم استعداد إذ زين لهم ما عملوه لأخيهم.

قال يعقوب : ومثل ذلك الشأن الرفيع والمكانة العالية التي تشير إليها رؤياك يجتبيك ربك لنفسه ، ويصطفيك على آلك فتكون من المخلصين ، ويعلمك من تأويل الرؤيا ، وتعبيرها صادقا ، ويتم نعمته عليك بالنبوة والرسالة ، والملك والرياسة ، ويتمها بسببك على آل يعقوب حيث تكون حلقة النبوة وسلسلة الرسالة فيك كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم جد أبيه ، وإسحاق جده والعرب تسمى الجد أبا «أنا ابن عبد المطلب» ألست معى في أن يعقوب فهم من رؤيا يوسف فهما دقيقا نتج عنه أن حذره من إخوته ، وبشر بتلك البشارات.

إن ربك عليم بخلقه ، يجعل رسالته عند من فيه استعداد لتحمل أعبائها ، حكيم في كل أفعاله.

الرؤيا والحلم ما يراه النائم في نومه ، وقد تكون من استشراف الروح وصفائها فهي ترمز لذلك برموز يعرفها بعض الناس الذين يدرسون تفسير الرؤيا وتعبير الأحلام ، وهي تعبر غالبا عما تتطلبه النفس وما تميل إليه ، وللعقل الباطن فيها أثر فعال ولعلماء الغرب تفسيرات وأبحاث يحسن الوقوف عليها.

وقد تنشأ الأحلام من تخمة في الأكل وضغط على القلب فيرى النائم المزعجات والأحلام المختلطة التي لا ترمز إلى شيء وهذه هي أضغاث الأحلام.

والرؤيا الصالحة جزء من النبوة ، ونوع من الإخبار بالغيب إن جاز هذا التعبير.

يوسف وإخوته وما كان منهم

(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨) اقْتُلُوا

١٦١

يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (٩) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (١٠) قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٢) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (١٤) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٥) وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١٨))

١٦٢

المفردات :

(عُصْبَةٌ) هي الجماعة من الرجال ما بين الواحد إلى العشرة. (غَداً) الغد اليوم الذي يلي يومك الذي أنت فيه (لَيَحْزُنُنِي) الحزن : ألم في النفس لفقد محبوب أو وقوع مكروه ، والخوف : ألم في النفس مما يتوقع من مكروه (يَرْتَعْ) يقال رتع البعير والإنسان إذا أكلا كيف شاءا والرتوع أكل ما يطيب لهم من الفاكهة والبقول أصل الرتعة الخصب والسعة (نَسْتَبِقُ) يتكلف كل منا أن يسبق غيره.

هذا بدء القصة الحقيقي. والذي تقدم مقدمتان لها :

(أ) في الكلام على هذا الكتاب الذي هي فيه وأنه نزل باللسان العربي المبين.

(ب) وفي الكلام على رؤيا يوسف ، وما كان لها من الأثر في نفس أبيه وما فهمه يعقوب من تأويلها ، وسيتلو القصة خاتمة في العبرة منها وما يتعلق بذلك ، وهذا ترتيب غريب لم يسبق القرآن بمثله أبدا ـ وإن كنت في شك فاقرأ القصة في التوراة ـ ولقد استخدمه أصحاب القصص المحدثون.

روى أن اليهود سألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في مكة أو أرسلوا له من يسأله عن نبي كان بالشام أخرج ابنه إلى مصر فبكى عليه حتى عمى فأنزل الله عليه سورة يوسف محكمة كما في التوراة وكانت هنا أدق وأحكم.

المعنى :

تالله لقد كان في قصة يوسف مع إخوته لأبيه آيات ودلائل على قدرة الله ، وحكم ومواعظ للسائلين عنها الراغبين في معرفة حقائقها ، وما تشير إليه وهم الذين يعقلون الآيات ويستفيدون منها (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ* لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) فهذه القصة بظواهرها الغريبة تشير إلى معان دقيقة ، إذ حسد إخوته له نتج عنه رميه في الجب وأخذ السيارة له وبيعه في مصر لعزيزها ، وقد قلده أمر بيته لأمانته وصدقه فنشأ عن ذلك مراودة امرأته له عن نفسه فاستعصم. ونشأ عن ذلك ظهور أمره ، ومعرفة خبره ، ولو لم تبالغ في كيدها ليوسف لما ألقى في السجن الذي خرج منه إلى بيت الملك وإدارة الحكم في مصر إلى آخر ما سيأتى.

١٦٣

نعم لقد كان في هذا كله عبر ومواعظ وأسرار لا يفهمها إلا السائلون عنها ، هذه آيات ودلائل على أن من يرعاه ربه فلن يشقى أبدا ، ومن يهديه فلن يضل أبدا. انظر لهم في وقت قالوا فيه جازمين مقسمين : ليوسف وأخيه بنيامين أحب إلى أبينا منا ، يفضلهما علينا جميعا ، ونحن له عصبة قوية تقوم له بكل ما يحتاج إليه من أسباب الرزق والحماية والرعاية والكفاية.

إن أبانا إذ أحب يوسف وشقيقه لقد ضل طريق العدل والصواب وضل ضلالا مبينا حيث يحب الولد حبا أكثر لحب أمه ، والمراد ضلاله في الحب لا في العقيدة وهذا حكم منهم على أبيهم جائز إذ حب يوسف وأخيه لضعفهما وصغرهما في السن ولموت أمهما ، ولما كان يأمله في يوسف من عقل وحكمة ، وما فهمه من رؤياه.

ولما استبد بهم الحسد وغلب على عقلهم قالوا بعد التشاور : اقتلوا يوسف حتى لا يلقاه أبوه أبدا أو اطرحوه في أرض بعيدة عنا حتى ينقطع خبره عن أبيه ، إن فعلتم ذلك يخل لكم وجه أبيكم وهذا تعبير دقيق يراد به يكمن لكم كل وجهه وإقباله ، لا يشارككم فيه أحد.

وتكونوا من بعده قوما صالحين ، بهذا زين لهم الشيطان أعمالهم ، ومناهم بأنهم إذا ارتكبوا هذا الجرم يتوبون عنه ويصيرون صالحين عند أبيهم وعند ربهم فاحذروا أيها الناس ألاعيب الشيطان.

قال قائل منهم ـ الله أعلم باسمه ولا حاجة لنا في معرفته ـ قال : لا تقتلوا يوسف فهو أخوكم ، ولكن إذا أردتم التخلص منه حقا فألقوه في غيابات البئر (وهي ما يغيب عن النظر من قعره أو حفرة بجانبه) يلتقطه بعض السيارة (وهم المسافرون الذين يسيرون في الأرض للتجارة) فيتم لكم غرضكم وهو إبعاده عن أبيه حتى يخلو لكم وجهه إن كنتم فاعلين الصواب فهذا هو الصواب.

عبارة القرآن الكريم تؤيد أن يوسف ـ عليه‌السلام ـ كان يتمتع بقسط وافر من محبة أبيه ، وكان أبوه يفهم أن هذا يغضب إخوته خصوصا بعد الرؤيا فما كان يستريح إذا غاب يوسف عنه لحظة ولو مع إخوته ، وكانوا يفهمون حرص أبيهم على يوسف.

قال إخوة يوسف ، وقد رأوا ما رأوا : يا أبانا مالك لا تأمنا عليه؟ وأى شيء عرض لك من الشبهة حتى لا تأمنا على يوسف «يكاد المريب أن يقول خذوني» والحال

١٦٤

إنا له لناصحون ومخلصون إخلاصا أكيدا مؤكدا ، وانظر إلى عبارتهم المؤكدة بأن واسمية الجملة ، وتقديم له ، واقتران الخبر باللام. كل ذلك يؤيد ما قلناه من أنهم يشعرون بما في نفس أبيهم بالنسبة لهم وليوسف ، يا أبت أرسله معنا في الغد يرتع كما يشاء ويطيب له من أكل الفاكهة والبقول في الهواء الطلق ويلعب معنا في وقت سرور ونشاط ، ولا تخف إنا له لحافظون حفظا مؤكدا كما ترى من عبارتهم.

ماذا يفعل الأب؟ إنه لموقف حرج جدا ، طلب أبناؤه مرافقة أخيهم لهم في الرعي والنزهة. إنه لطلب جميل ، ولكن ماذا يفعل يعقوب؟ وهو يعلم ما عندهم بالنسبة لأخيهم ، وما يعلمه بالإجمال من رعاية الله للصغير يوسف ، قبل طلبهم على مضض ومع إظهار الكثير من الألم لفراق يوسف.

قال : إنى ليحزنني ذهابكم به وفراقه لي على أى صورة!! وأخاف أن يعتدى عليه بعض أفراد الذئب وأنتم عنه غافلون.

ماذا يجيبون على أبيهم وتخوفه من الذئب؟ أيقولون له لا تحزن؟

وإنما طمأنوه من ناحية الذئب ، قالوا تالله لئن أكله الذئب وهو معنا ، جماعة قوية وعصبة فتية ، إنا إذن لخاسرون وخائبون في ادعائنا أننا عصبة قوية ولا يصح الاعتماد علينا في شيء.

تلك هي المؤامرة التي دبرت ليوسف ، وبقي تنفيذها.

فلما ذهبوا به من عند أبيهم ، وأمكنهم إقناعه واقتنع هو في الظاهر فقط ولأمر ما سلم في فلذة كبده يوسف ، وأجمعوا أمرهم في أن يجعلوه في غيابة الجب المعروف عندهم ليذهب حيث شاء فيستريحوا ويخلو لهم وجه أبيهم نفذوا ما أجمعوا عليه وألقوه في الجب.

ولكن الله العالم البصير الرحمن الرحيم ، لا يترك مظلوما يتخبط بل هو معه وناصره وحافظه ومطمئنه ، أوحى إلى يوسف : لا تخف فالله معك ، وسيظهرك عليهم ، ويذلهم لك ويحقق رؤياك ، ويسجد لك سجود خضوع إخوتك الأحد عشر وأبوك وأمك (قيل هي أمه أو خالته وأمه ماتت) وربك القوى لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لهول الموقف لا يشعرون.

١٦٥

هذا حالهم مع يوسف ، وأما مع أبيهم فجاءوا أباهم في وقت العشاء وانتشار الظلام في الأفق يبكون ويولولون ، ما أجهلك يا ابن آدم ، وما أحمقك!! أليس الله عالم الغيب والشهادة؟! ألم تعلموا يا إخوة يوسف أن الله لطيف خبير! مالكم لم ترحموا أباكم وهو شيخ كبير؟!! ومالكم تتخطون حدود العقل والحكمة ، وتقتلون معاني الأخوة والمحبة؟ إن هذا لشيء عجيب!!

اعتذروا بغير العذر ، واستخفوا من أبيهم ، والله معهم ، وقالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق في الرمي والجري ، وتركنا أخانا يحرس متاعنا فأكله الذئب ، وهم يعرفون ما عند أبيهم بالنسبة لهم فصرخوا وقالوا : ما أنت بمصدق لنا أبدا في كل حال ، ولو كنا صادقين.

وجاءوا على قميصه بدم ليس من دمه ليشهد كذبا وزورا أنه دمه والله يعلم أن الذئب برىء من دم ابن يعقوب. روى أن يعقوب قال استهزاء : ما أحلمك يا ذئب تأكل ابني ولا تشق قميصه!! قال هذا استهزاء بهم.

وقال ملوّحا بكذبهم : بل سوّلت لكم أنفسكم أمرا إدا ، وفعلتم فعلا نكرا وأما أنا فأمرى صبر جميل لا يأس فيه ولا قنوط من رحمته والله معى وهو المستعان وحده على ما تصفون ، هذه قصة يوسف مع إخوته مصدرها القرآن فقط ، وهذا ما نطمئن إليه دائما.

أما الأخبار والأقوال والإسرائيليات وقول التوراة فهذا شيء آخر لا نلتفت إليه.

يوسف مع السيارة

(وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٩) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠))

١٦٦

المفردات :

(سَيَّارَةٌ) هم الجمع المسافرون كالجوالة والكشافة (وارِدَهُمْ) هو الرائد الذي يبحث عن الماء (فَأَدْلى دَلْوَهُ) فأرسل دلوه ـ إناء يستقى به من البئر (وَأَسَرُّوهُ) أخفوه (شَرَوْهُ) باعوه بثمن قليل.

المعنى :

وجاء هذا المكان جماعة مسافرون روى أنهم من العرب الإسماعيليين فأرسلوا رائدهم يبحث عن الماء ويأتيهم به فأرسل دلوه في البئر فتعلق به يوسف حتى خرج ، قال : يا بشرى احضرى فهذا أوانك هذا غلام وسيم الطلعة ، صبوح الوجه فاستبشروا به وسروا.

وأخفوه عن أعين الناس حتى لا يعلم به أحد لأجل أن يكون بضاعة لهم يتاجرون فيه ويبيعونه لأهل مصر والله ـ سبحانه ـ لا يغيب عنه شيء ، عليم بما يفعل هؤلاء وهؤلاء ، وباعته السيارة بثمن قليل دراهم معدودة لم تصل إلى حد الوزن وكانوا فيه من الزاهدين الراغبين عنه الذين يبتغون الخلاص منه.

يوسف في مصر

(وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢١) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢))

١٦٧

المفردات :

(مَثْواهُ) مقامه عندنا مأخوذ من ثوى بالمكان أقام به (أَشُدَّهُ) رشده وكماله.

المعنى :

وقال الذي اشتراه من مصر ، لم يذكر القرآن اسمه ولا صنعته ولا مسكنه لأن القرآن ليس كتاب تاريخ أو قصص يعنى بهذه الأشياء ، بل قصصه لمعنى أعلى وأسمى ولا يهتم بمثل هذا ، وقد ذكرت روايات في اسمه ووظيفته كثيرة ، والظاهر أنه كان رئيس شرطة (وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ).

قال أكرمى مقام هذا الغلام ، فلا يكن في منزلة العبيد والأرقاء ، بل عامليه كفرد منا فإنى ألمح فيه النبل والخلق ، وأرى أنه سيكون له شأن : أكرميه رجاء أن ينفعنا في أعمالنا الخاصة أو العامة أو نتخذه ولدا لنا تقر به أعيننا ونرثه ويرثنا.

يا سبحان الله!! أهكذا يكون يوسف الذي ألقى في الجب! وقد وقع في قلب سيده هذا الموقع ولا غرابة فالله حارسه وهاديه ، وحافظه وراعيه ومثل ذلك التدبير والعناية بيوسف مكناه في أرض مصر ، وكان هذا العطف من عزيزها فاتحة الخير وإن اعترض سبيله بعض المشاق فتلك حكم الله يعلمها ، وكما قيل : الحوادث تخلق الرجال .. مثل ذلك مكناه في الأرض ، ولنعلمه من تأويل الأحاديث ، وتعبير الرؤيا وهكذا إعداد الأنبياء.

والله غالب على أمره ، ومنفذ ما أراده لا راد لقضائه ، فكل ما وقع ليوسف من إلقائه في الجب ومن استرقاقه وبيعه وتوصية سيده لامرأته بخصوصه وتعليمه الرؤيا وغير ذلك خطوات لإعداد يوسف للمحل الذي ينتظره ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك.

ولما بلغ أشده؟ وكمل رشده ، واستوى عقله وبدنه آتيناه حكما إلهاميا فيما يعرض له من المشاكل والنوازل ، وسن الرشد هل هي ثلاثون أو أربعون؟

مثل ذلك نجزى المحسنين العاملين خصوصا الأنبياء والمرسلين وقائدهم وخاتمهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ..

١٦٨

يوسف مع امرأة العزيز وكيف كانت محنته؟ ودفاعه ، وحكم زوجها

(وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٥) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (٢٩))

المفردات :

(وَراوَدَتْهُ) طلبت منه أن يواقعها طلبا بلين ورفق كالمخادعة ، يقال : راود الرجل

١٦٩

المرأة عن نفسها ، وراودته عن نفسه ، والمراودة أن تنازع غيرك في الإرادة فتريد غير ما يريد وعليه قوله : سنراود عنه أباه أى : نحتال عليه ونخدعه عن إرادته ليرسل أخانا معنا ، والمراد في الآيات تحايلت لمواقعته إياها ولم تجد منه قبولا (غَلَّقَتِ) أحكمت إغلاق الأبواب كلها (هَيْتَ لَكَ) هلم أقبل وبادر لما أقوله لك (بُرْهانَ) المراد تذكر الله ـ سبحانه وتعالى ـ ، وما بيّنه من تحريم الزنى والخيانة ومراقبة الله ـ سبحانه ـ في كل عمله ، وهي مرتبة الإحسان في العمل كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك (الْمُخْلَصِينَ) الذين أخلصهم ربهم وصفاهم من الشوائب (مِنْ قُبُلٍ) من قدام (مِنْ دُبُرٍ) من خلف.

المعنى :

هكذا كانت محنة يوسف في طيها منة عليه ، ورب محنة ولكن في طيها منن .. دخل دار العزيز وأراد سيده أن يكون رئيسا للخدم وأن يحسن معاملته أو أن يتخذه ولدا وأمر امرأته بتنفيذ ذلك. وأراد الله ـ سبحانه ـ فوق ذلك كله أشياء والله بالغ أمره ، وأرادت امرأة العزيز غير ذلك ، أرادت أن يكون يوسف عشيقا لها ، وراودته عن نفسه ، وطلبت منه ذلك بالحيلة والمكر لتصرفه عن رأيه ، راودته عن نفسه لأجل أن يريد منها ما تريد هي منه مخالفا لإرادته هو وإرادة ربه ، وأعدت العدة لذلك وغلقت باب مخدعها وأبواب البهو المحيط به لتأمن الطارق والزائر وقالت ليوسف : هلم أقبل ونفذ ما أريده منك!! قال يوسف : أعوذ بالله وحده أن أكون من الجاهلين! يا هذه إن زوجك سيدي وقد أحسن مثواي وأكرم وفادتي واستأمنني على نفسه وبيته فكيف أخونه؟!! يا هذه إنه لا يفلح الظالمون أبدا الذين يظلمون أنفسهم بارتكاب المعاصي ومخالفة القانون الإلهى .. ترى يوسف ـ عليه‌السلام ـ أجابها معتزا بالإيمان بالله وبالأمانة لسيده وأنه لا يفلح الظالمون والخائنون ، لقد ردها يوسف ردا عنيفا وصادمها في عواطفها في وقت هي فيه ثائرة ثورة جنسية عاصفة وهي سيدته وهو خادمها إنه شيء يخرج الشخص عن صوابه.

(وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ).

وللعلماء في هذا الموضوع آراء واتجاهات كثيرة يجمل بنا أن نذكر الأقرب إلى

١٧٠

الصواب الملتئم مع النسق العام للقرآن في نظرنا والله أعلم بمراده قال بعضهم : لقد همت به ليفعل بها ، ولو لا أن رأى برهان ربه وتذكر جلاله وأمره ومراقبته لهمّ بها وفعل .. ترى أنه لم يهم بها قط لأن رؤيته برهان ربه قد سبق الهم ومنعه.

وقال البعض : إن أساليب اللغة قد تمنع مثل هذا الفهم في الآية (إذ جواب لو لا لا بد أن يؤخر عنها) ولنا أن نجيب عن هذا بأن الجواب مقدر بقوله : لفعل ولفظ هم المتقدمة دليل الجواب. لا الجواب .. وبعضهم قال : إنما الرأي أن هذه الحادثة وقعت ليوسف قبل النبوة والرسالة على أن الهم الذي حصل إنما هو بمقتضى الطبيعة والفطرة الإنسانية البشرية ويوسف وقتئذ شاب يافع قوى فتى على أنه هم ولم يفعل إذ ما أن هم بمقتضى الطبيعة حتى تذكر ربه فكف نفسه بعد أن أثارتها الطبيعة ، والعيب أن يرتكب الإنسان الخطيئة لا أن يهم بها فيمنعه دينه ولذا يقولون : إنه هم وما ألم ، ومن هم بسيئة فلم يفعلها كتبها الله له عنده حسنة كاملة.

وخلاصة الرأيين ، أن الكل متفق على أن يوسف لم يفعل سيئة قط وإنما الرأى الأول يقول إنه ما أهم لرؤية برهان ربه فرؤية البرهان منعت الهم والرأى الثاني أنه هم بدواعى الطبيعة ثم جاء الكف والمنع من وقوع المعصية برؤية البرهان (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) [سورة الإسراء آية ٧٤].

وللمفسرين أقوال وأحاديث وروايات منقولة عن الإسرائيليين وغيرهم كثيرة وتتنافى مع مقام النبوة وشرف الرسالة أردنا أن نعرض عنها حتى تموت في بطون أصحابها.

مثل ذلك فعلنا وتصرفنا مع يوسف لأنا نعده لتحمل أعباء الرسالة في المستقبل ولنصرف عنه السوء يا سبحان الله لم يقل القرآن لنصرفه عن السوء إذ فرق العبارتين كبير!! ولنصرف عنه الفحشاء ، إنه من عبادنا المصطفين الأخيار الذين اختارهم ربهم وأخلصهم من شوائب المعاصي (وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ. إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ. وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) [سورة ص ٤٥ ـ ٤٧].

وللشيخ رشيد رضا ـ رحمه‌الله ـ وأجزل ثوابه رأى في هذه الآية خلاصته : ولقد همت بإيذائه وضربه بعد عصيانه أمرها وطلبها بلطف ولين وهذا شأن المرأة همت بضربه والبطش به لعصيانه أمرها وإفساده حيلها وهم هو برد الاعتداء وبمقابلته بالمثل لو لا أن رأى برهان ربه ، واستبقا الباب كل يريد أن يصل إليه فطلبه يوسف ليفر منها وطلبته

١٧١

لتمنعه من الفرار ، ونشأ عن ذلك أن قدت قميصه من الخلف ووجدا سيدها وزوجها لدى الباب ، وروى أنه كان معه قريب لها ، وهنا يظهر لؤم الطبع وفساد النية وصحة قولهم : ضربني وبكى وسبقني واشتكى ، قالت : ما جزاء من أراد بأهلك سوءا؟ ولم تعينه لأمر في نفسها ما جزاؤه إلا أن يسجن لتقتص من رجل أهان كبرياءها ومنعها من تنفيذ مؤامرتها الدنيئة لتريه أن في يدها إعزازه وإهانته ، وما علمت أن ذلك كله سلسلة محكمة الأطراف وطريق موصل إلى غاية الله يعلمها ، ويعد يوسف لها إلا أن يسجن أو يعذب عذابا مؤلما موجعا.

ولكن يوسف إزاء هذا لم ير بدا من إخبار زوجها وسيده بما حصل غير عابئ بما سيكون ما دام يرضى ربه ولم يخالفه.

وقال يوسف هي راودتني عن نفسي وسلكت في ذلك كل الطرق الممكنة وغير الممكنة واحتالت بأساليب الخداع والمكر ما شاء الله لها.

وشهد شاهد من أهلها في هذه القضية التي تحير قاضيها .. امرأته وزوجه تدعى دعوى ، وغلامه وفتاه يناقضها ، وهي دعوى تتعلق بالشرف والعرض شهد فيها شاهد قريب لها كان مع زوجها قائلا : إن كان قميص يوسف قد قدّ من قبل تكون صادقة في دعواها أنه أراد بها سوءا ، فإنه لما وثب عليها ودفعته مزق القميص من قدام ، وإن كان قميصه قد من الخلف تكون كاذبة في دعواها بالهجوم عليها ، وهو من الصادقين في قوله أنها راودته وهو فر منها ، فلما رأى سيده أن قميصه قد من دبر قال حاكما بهذا الحكم الذي يدل على ضعف الرجولة وذهاب الشهامة.

إنه من كيدكن أيها النساء إن كيدكن عظيم ، فمحاولة التخلص بالاتهام من كيدك أيتها المرأة.

يا يوسف أعرض عن هذا الخبر لا تخبر أحدا أبدا وأنت استغفري ربك لذنبك ، وتوبي من عملك إنك كنت من الخاطئين المذنبين.

١٧٢

شيوع الخبر في المدينة وما ترتب على ذلك

(وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٠) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٣) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤) ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥))

المفردات :

(شَغَفَها حُبًّا) اخترق حبه شغاف قلبها وصل إلى سويدائه والشغاف : غطاء القلب ، (وَأَعْتَدَتْ) هيأت لهن (مُتَّكَأً) مكانا يجلسن فيه متكئين مستريحين

١٧٣

(حاشَ لِلَّهِ) كلمة تفيد معنى التنزه والبراءة (فَاسْتَعْصَمَ) فامتنع امتناعا بليغا من العصمة وهي المنع من الوقوع في المعصية (الصَّاغِرِينَ) المهانين (أَصْبُ إِلَيْهِنَ) أمل إليهن (ثُمَّ بَدا لَهُمْ) أى : ظهر لهم رأى جديد.

المعنى :

شاع في المدينة نبأ امرأة العزيز مع فتاها. وقد أصبح حديث المجالس خصوصا في مجالس كبار المدينة : فاجتمع عدد من النساء واتفقن على تدبير أمر يكون من ورائه اجتماعهن بيوسف هذا.

وقال عدد من نساء المدينة قليل يمكن اجتماعه على رأى ، وتدبيره لأمر ، امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه ، وهذا كلام يفيد التعجب والإنكار من فعلها لأنها امرأة رجل كبير هو الوزير الأول وقد راودت هي بنفسها وطلبت ، والمألوف أن المرأة تتمنع ويطلب منها ما لا تطلب هي ، أليس من الغريب الذي يدعو إلى العجب أن تطلب امرأة من فتاها وخادمها ، وتدوس كبريائها ، والعجب العاجب أن تظل كما هي بعد أن افتضح أمرها وعلم به زوجها وعاملها معاملة فيها كثير من التنازل.

كل هذا تفيده العبارة القرآنية : امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه : قد شغفها حبا ، وأشرب قلبها حبه حتى ملك أمرها ، واستبد بقلبها وعقلها وأضحت كالولهان ، قالت النسوة : إنا لنراها في ضلال بيّن وجهل ظاهر يتنافى مع مكانتها وحالها.

فلما سمعت بمكرهن ، ووصل إليها خبرهن ، أرادت أن تمكر بهن مكرا يوقعهن في الشرك ، ويجعلهن في صفها ، وكان من أمرها أن أرسلت إليهن وأعدت لهن مكانا مهيئا فيه الأرائك مصفوفة ، وجلسن متكئات عليها متقابلات وأعطت كل واحدة منهن سكينا تستعين به على قطع الطعام ، وبينما هن في تناول الأطعمة ، وكلّ تمسك بسكينها الحادة قالت : اخرج يا يوسف عليهن ويظهر أنه كان داخل حجرة متصلة بقاعة الطعام فلما رأينه أعظمنه ودهشن لذلك الجمال السحرى الفاتن وغبن عن شعورهن ، وقطعن أيديهن. والمعنى كما تقول : كنت أقطع اللحم فقطعت يدي ، والمراد جرحتها ، وقلن حاشا لله والمعنى تنزيها لله ـ تعالى ـ عن صفات العجز ، والتعجب من قدرته على

١٧٤

خلق مثل هذا .. ما هذا بشرا إذ لم يعهد مثل هذا في البشر ما هو إلا ملك كريم من الملائكة تمثل في صورة بشر.

قالت وقد وصلت إلى ما تريد من إيقاعهن في شبكة جماله : إذا كان الأمر ما رأيتن بأعينكن ، وما أكبرتن في أنفسكن ، وما حصل منكن عند ما رأيتنه ، وقد قلتم ما قلتم فذلكن الذي لمتنني فيه وكان الظاهر أن تقول : فهذا الذي لمتنني فيه ولكنها تريد فذلك يوسف البعيد في الكمال والجمال ، بل هو أكبر من كل ذلك هو ملك روحانى في صورة بشر إنسانى.

وإذا كان هذا أمركن معه في لحظة فماذا أفعل وهو معى ليلا ونهارا؟ ولقد راودته عن نفسه فاستعصم وامتنع امتناعا بليغا مؤكدا ، واستمسك بعروة عصمته التي ورثها عن أسلافه.

وتالله لئن لم يفعل ما آمره به ليسجنن وليكونا من الصاغرين ، يا عجبا أبعد هذا كله تظل المرأة على حالها وتلح بطلب الوصال بيوسف!!

لم تكتف بالإشارة مع يوسف حتى صرحت له وطلبت علنا وقالت (هيت لك) ، ولم تقنع بالطلب بينها وبينه حتى عادت فطلبت علانية بحضور النسوة أترابها إن هذا لعجيب!!

قال يوسف : يا رب. السجن أحب إلى مما يدعونني جميعا إليه فتلك بيئة ملوثة لا أحب المكث فيها أبدا ، وإن لي في السجن لراحة بال وهدوء نفس ، وهكذا لا يستريح الطيب في البيئة الفاسدة ، وهذه إشارة إلى أثر البيئة ، وإلا تصرف عنى يا رب كيدهن أصب إليهن وأمل ، وأكن من عداد الجاهلين الذين يعملون السوء بجهالة ، فاستجاب له ربه وصرف عنه كيدهن ، وعصمه إنه هو السميع المجيب لدعاء المظلومين ، عليم بصدق الإيمان وكمال الإخلاص.

ولكن ماذا يفعل العزيز وقد شاع الخبر أولا وأخيرا؟ لا بد أن يلجأ إلى أمر شاذ فاستشار وأشير عليه أن يزج يوسف في السجن حتى يرى كأنه المعتدى وامرأته شريفة هذا عند العامة ، أما الخاصة فتعرف كل شيء وقد سهل الله هذا لأن السجن فيه مصلحة ليوسف.

١٧٥

ثم ظهر لهم رأى جديد بعد طول فكر ونظر بعد ظهور الآيات الدالة على صدق يوسف وكذب امرأة العزيز. ليسجننه إلى أجل غير معلوم وليكونن من المهانين الصاغرين ، وهكذا فتنة الأنبياء وصبرهم على المكارة.

يوسف في السجن

(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٣٧) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٣٨) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٤٠))

١٧٦

المفردات :

(خَمْراً) المراد : عنبا يكون خمرا (بِتَأْوِيلِهِ) بتفسيره الذي يؤول إليه في الخارج.

المعنى :

بدا لهم أن المصلحة في سجن يوسف فسجنوه ، ودخل معه فتيان مملو كان للملك : أما أحدهما فخازن طعامه والآخر ساقيه وليس الأمر من باب المصادفة ولكنه تقدير العزيز العليم ، وماذا كان من شأنهما؟ قال أحدهما : يا يوسف إنى أرانى أعصر عنبا ويكون في المستقبل خمرا رأيت هذا في منامي رؤية واضحة كأنى رأيتها في اليقظة. وقال الآخر : إنى أرانى أحمل فوق رأسى خبزا تأكل الطير منه ، قال كل منهما : يا يوسف نبئني بتأويل رؤياي وأخبرنى بتفسير حلمي الذي يؤول إليه في الخارج نبئنا بتأويله ، ثم عللوا هذا الطلب بقولهم : إنا نراك من المحسنين الذين يعملون الإحسان بمقتضى الغريزة والفطرة لا بسبب آخر. وقيل المعنى : إنا نراك من المحسنين تعبير الرؤيا وتفسيرها.

وانتهز يوسف هذه الفرصة ، وهي ثقة هذين الشخصين به وبعلمه وبعقله فعمل على أن يبدأ حديثه معهما بدعوتهما إلى دين التوحيد الخالص وترك الأوثان ومن هنا نفهم أن دخول السجن كان لحكمة الله يعلمها ، وأن يوسف ينتقل من مكان إلى مكان فيه خير له ولدينه.

أخذ يوسف يدعوهما إلى التوحيد بعد أن قدم مقدمة كالمعجزة الدالة على صدقه فقال : اسمعوا. إنه لا يأتيكما طعام ترزقانه من أى مكان إلا ونبأتكما بتأويله وتفسيره من أين أتى؟ ولأى غرض أتى ، وفي أى وقت سيأتى؟ كل ذلك قبل أن يأتيكما ، وذلك بعض ما علمني ربي بوحيه لا بشيء آخر كالكهانة والسحر ومن هنا يعلم أن يوسف أوحى إليه وهو في السجن ليدعو الضعفاء والفقراء والمظلومين فهم أقرب إلى التصديق من غيرهم. وسبق أن قلنا إنه ألهم بما يطمئنه على نفسه ومستقبله وهو في البئر كل ذلك ليعلم أن الله يرعاه ، والسبب في ذلك : أنى تركت شريعة قوم لا يؤمنون

١٧٧

بالله خالق السموات والأرض وما بينهما وتركتها أى لم أدخل فيها مطلقا ، وهم بالآخرة كافرون لا يؤمنون بالثواب والعقاب كما ينبغي ، واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، فالجد أب كذلك ، ما كان ينبغي أن نشرك بالله شيئا نتخذه ربا معبودا وهو لا ينفع ولا يضر ، سواء كان المعبود من الملائكة أو البشر أو الحيوان كعجل أبيس أو الجماد كالشمس والقمر ، وهذا فضل الله علينا حيث هدانا إلى الخير وعلى الناس حيث أرسلنا إليهم نهديهم وندعوهم إلى الخير. ولكن أكثر الناس لا يقومون بواجب الشكر لله ـ سبحانه وتعالى ـ.

وانظر إلى هذا الذي في القرآن حيث ينزه شجرة النبوة الطيبة عن عبادة الشرك والتوراة تنسب إلى بعض أولاد إسحاق الشرك.

يا صاحباي في السجن قروا واعترفوا بالله الواحد القهار.

يا صاحباي أرباب متفرقون في ذواتهم وصفاتهم التي تدعو إلى النزاع والتصادم والفساد. أهؤلاء خير أم الله الواحد الأحد الفرد الصمد القهار بقدرته وإرادته؟! سبحانه وتعالى (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [سورة الأنبياء آية ٢٢].

ما تعبدون من دون الله الواحد إلا أسماء وضعتموها لمسميات لا تستحق الربوبية فاتخذتموها أربابا من دون الله ، وهي أشياء لا ترزق ولا تحيى ولا تميت ولا تنفع وتضر ، ما أنزل الله بتسميتها أربابا أى نوع من الحجة والبرهان : لم يأمركم ربكم بذلك على لسان الرسل الكرام ، ولم يطلبها عقل راجح حتى يكون برهانا وسلطانا ، إن الحكم إلا لله وحده فهو الإله الواجب الوجود الواحد المعبود ، أمر ألا تعبدوا إلا إياه ، فادعوه واعبدوه وحده دون سواه.

ذلك الدين القيم والشرع الكامل والرأى الوسط ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

تأويل يوسف لرؤيا صاحبيه

(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ

١٧٨

مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (٤١) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (٤٢))

المفردات :

(تَسْتَفْتِيانِ) الاستفتاء طلب الفتوى أى : السؤال عن المشكل المجهول والفتوى جوابه وهذا اللفظ مأخوذ من الفتوة الدالة على معنى القوة والثقة (بِضْعَ) قيل : هو من ثلاث إلى تسع ويغلب أن يطلق على السبع.

المعنى :

بعد أن تكلم مع صاحبيه في شأن التوحيد ومقدماته تكلم في تأويل رؤياهما فقال : يا صاحباي أما أحدكما ـ الذي رأى أنه يعصر عنبا يصير خمرا ـ فيسقى ربه خمرا وربه مالكه وسيده ولم يقصد ربوبية العبادة فإن ملك مصر أيام يوسف لم يدع الألوهية كفرعون مصر أيام موسى. وأما الثاني ـ وهو الذي رأى أنه يحمل خبزا تأكل الطير منه فيصلب فتأكل الطير آكلة اللحوم كالحدأة من رأسه ، لا تناقشا! قد قدر الله الأمر وسبق الحكم الذي فيه تستفتيان ، وهذا خارج عن تأويل الرؤيا ولكنه من باب المكاشفة وصفاء الأرواح ، لعله إخبار ووحى ليوسف ، وقال للذي ظن أنه ناج منهما ـ وانظر إلى التعبير بقوله : ظن أى : في الواقع لأنه ربما يغير الملك رأيه الذي قال أو تأتى حوائل تحول بين تحقيق ما قاله يوسف قال له ـ : اذكرني عند ربك وسيدك الملك ، أى : حدثه عن خبري وحالي ، ويقصد يوسف أن يطرق الأبواب الظاهرية والأسباب المادية ليخرج من السجن فيتمم فصول روايته.

فأنسى الشيطان صاحبه أن يذكر يوسف عند الملك فأنساه الشيطان ذكر إخبار ربه أى : تذكيره بأمر يوسف فترتب على هذا أن يلبث في السجن بضع سنين هل هي ثلاثة أو سبعة أو قل أو أكثر الله أعلم بتحديدها وإن كانت من ثلاث إلى تسع.

١٧٩

تأويل يوسف لرؤيا ملك مصر

(وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (٤٣) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (٤٤) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩))

المفردات :

(عِجافٌ) مهازيل في غاية الضعف (تَعْبُرُونَ) تفسرون وتؤولون الرؤيا (أَضْغاثُ أَحْلامٍ) أضغاث جمع ضغث وهو الحزمة من الحطب (وَادَّكَرَ) أى : تذكر (أُمَّةٍ) طائفة من الزمن (دَأَباً) بجد ونشاط (تُحْصِنُونَ) تدخرون البذر (يُغاثُ) من الغوث والإغاثة.

١٨٠