التفسير الواضح - ج ٢

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ٢

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٨٨٤

الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (٩٥))

المفردات :

(بِخَيْرٍ) بثروة وسعة في الرزق (تَبْخَسُوا) تنقصوا الأشياء أو تعيبوها (تَعْثَوْا) تفسدوا في الأرض قاصدين الفساد. (الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) العاقل المتأنى ، الراسخ في هدايته (لا يَجْرِمَنَّكُمْ) الجرم الكسب والمراد لا يحملنكم (شِقاقِي) خلافي معكم الشديد : (ما نَفْقَهُ) الفقه الفهم الدقيق العميق المؤثر في النفس (رَهْطُكَ) عشيرتك الأقربون (وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) المراد جعلتموه بشرككم كالشىء الملقى وراء الظهر (مَكانَتِكُمْ) تمكنكم في قوتكم وعصبيتكم.

هذه القصة تشمل تبليغ شعيب دعوته وما أمر به ونهى عنه من آية ٨٤ إلى آية ٨٧.

مناقشة قومه له ورده عليهم وذلك في الآيات ٨٧ ـ ٩٠.

تطور الحالة واشتدادها وإنذار شعيب لهم بالعذاب ، ووقوع ذلك بالفعل ونجاة المؤمنين من آية ٩٠ إلى نهاية القصة.

المعنى :

وأرسلنا إلى قبيلة مدين ـ وكانت تسكن الحجاز مما يلي الشام ، وكانوا في غنى وسعة إلا أنهم طففوا الكيل ، ونقصوا الوزن ، وعاثوا في الأرض الفساد ـ أرسلنا لهم شعيبا من أوسطهم نسبا وأعلاهم خلقا ، قال لهم : يا قومي ويا أهلى [وهذا مما يدعو إلى الاستجابة والقبول] اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا ، ما لكم إله غيره يتصف بما اتصف به الله ـ جل شأنه ـ حتى يعبد ، ألست معى في أن الرسل جميعا متفقون في طلب عبادة الله وحده؟ أما الأمور العملية فكل يعالج ناحية الضعف في أمته ، ولذا قال شعيب ، يا قومي اعبدوا الله ، ولا تنقصوا الكيل والميزان فيما تبيعون ، وكانوا إذا اكتالوا على الناس يستوفون ، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون أى : ينقصون ،

١٤١

ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ومحاسبون؟ امتثلوا الأمر واجتنبوا النهى لأنى أراكم بخير وعافية وغنى وسعة ، وهذا يدعو لشكر الله وامتثال أمره ، ولأنى أخاف عليكم عذابه إذا أنتم أصررتم على العصيان.

ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط والعدل ، وهذا أمر بالوجوب بعد النهى عن ضده لتأكيده وتنبيها على أنه لا بد منهما قصدا ، لا تنقصوا الناس أشياءهم في كيل أو وزن أو عد في حق حسى أو معنوي ولا تعيبوا شيئا لا يستحق العيب ، ولا تفسدوا في الأرض بأى نوع من الفساد حالة كونكم قاصدين له ، واعلموا أن ما يبقيه الله لكم بعد إيفاء الحقوق بالقسط أكثر بركة ، وأحمد عاقبة مما تبقونه لأنفسكم من تطفيف في الكيل أو نقص في الوزن وصدق الله (بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). وما أنا عليكم بحفيظ ورقيب إن علىّ إلا البلاغ وعلى الله الحساب.

مناقشتهم له ورده عليهم :

قالوا : يا شعيب أصلاتك تقضى بتأثيرها فيك أن تحملنا على ترك ما كان يعبد آباؤنا من أصنام نتخذهم قربى إلى الله؟ ولست أنت خيرا منهم حتى نتركهم ونتبعك ، والاستفهام في الآية للإنكار والسخرية بشعيب ، أصلاتك تأمرك أن نترك ما نفعله في أموالنا من تنمية واستغلال على حسب نشاطنا واجتهادنا ، أليس هذا حجرا على حريتنا وحدا لنشاطنا؟ إنك يا شعيب لأنت الحليم المتأنى في حكمه العاقل المتروى ، والرشيد الذي لا يأمر إلا بما استبان له فيه وجه الخير والرشاد ، وهذا التأكيد الكثير في كلامهم يفيد الاستهزاء والتعريض به.

انظروا إلى رد شعيب عليهم في هذه الاتهامات.

يا قومي ويا أهلى أخبرونى ماذا أفعل معكم ومع نفسي؟ إن كنت على يقين تام ، وحجة واضحة من ربي تفيد أن ما آمركم به هو من عند الله لا من عند نفسي ، والله أعلم حيث يجعل رسالته ، وقد رزقت من فضله وخيره رزقا حسنا كثيرا ، حصل لي من طريق الكسب الحلال فأنا رجل ملئ وخبير بما ينمى المال ، وأخبرونى ماذا أفعل ، وماذا أقول لكم غير الذي قلت؟.

وما أريد أن أخالفكم مائلا إلى ما نهيتكم عنه بل أنا مستمسك به قبلكم لأنى أرى فيه الخير والرشاد في الدنيا والآخرة.

١٤٢

وأنا ما أريد إلا الإصلاح والخير العام لي ولكم ما استطعت إلى ذلك سبيلا ليس لي فيما أفعل غرض خاص. ومن هنا نأخذ أن العاقل يجب أن يكون عمله مراعيا فيه حق الله ورسوله ، وحق نفسه ، وحق الناس عليه.

وما توفيقي وهدايتي إلى الخير إلا بالله وحده ، عليه توكلت ، وإليه أنيب إذ هو المرجع والمآب والنافع والضار لا أرجو منكم خيرا ، ولا أخاف ضرا ، ويا قوم لا يحملنكم شقاقي وخلافي معكم في الرأى والعقيدة على العمل الضار الذي يترتب عليه أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح بالغرق ، أو قوم هود بالريح العاتية ، أو قوم صالح بالصيحة الطاغية ، وما عذاب قوم لوط منكم ببعيد زمانا ولا مكانا ولا إجراما.

واستغفروا ربكم من ذنوبكم ثم توبوا إليه واعملوا صالحا من الأعمال ، وإن ربي وربكم عظيم كثير المودة ، فإنكم إن فعلتم ذلك يمتعكم متاعا حسنا في الدنيا والآخرة.

اشتداد الحالة ووقوع العذاب :

قالوا يا شعيب : ما نفهم كثيرا مما تقول فهما عميقا ، ولا نفهم له معنى ولا حكمة ، وإنا لنراك فينا ضعيفا لا حول لك ولا قوة ، فكيف يقبل منك هذا الذي يوصلك إلى الرياسة في الدين والدنيا ، على أنا لو أردنا البطش بك لما منعنا مانع ، ولو لا عشيرتك الأقربون لفتكنا بك فتكا يتناسب مع عملك معنا من ذم آلهتنا ، وطلبك الحجر علينا في تصرفنا أى : نقتلك رميا بالحجارة وما أنت علينا بعزيز.

قال : يا قومي ، أرهطي وأسرتى أعز وأكرم عليكم من الله الذي أدعوكم اليه؟ وأشركتم به وجعلتم مراقبته والخوف منه وأمره ونهيه وراءكم ظهريا كالأمر الذي يهون على صاحبه فينساه ولا يحسب له حسابا ، إن ربي بما تعملون محيط علما فسيجازيكم على عملكم.

ويا قومي اعملوا ما استطعتم على منتهى تمكنكم في قوتكم إنى عامل على مكانتى وحالتي!! وغدا سوف تعلمون الذي سوف يأتيه عذاب يخزيه ويذله في الدنيا والآخرة ، ومن هو كاذب في قوله (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا) وانتظروا مراقبين من سيقع عليه العقاب ، إنى معكم من المنتظرين ، وهذا الأمر (اعملوا وارتقبوا) للتهديد والوعيد ممن وثق بربه وبوعده.

١٤٣

ولما جاء أمرنا ، وحانت ساعة التنفيذ نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة خاصة بهم : وما ذلك على الله بعزيز ، وأخذت الذين ظلموا الصيحة التي أخذت ثمود فأصبحوا جاثمين ، وجوههم منكبة على الأرض كالطير الجاثمة ، وأصبحت ديارهم خاوية على عروشها كأنهم لم يقيموا فيها وقتا من الأوقات ألا بعدا وهلاكا لّمدين كما بعدت وهلكت ثمود.

من قصة موسى وفرعون

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩))

المفردات :

(وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) المراد : حجة قوية ظاهرة. وقيل : هي العصا (يَقْدُمُ) أى : يتقدم. يقول قدمهم يقدمهم إذا تقدمهم (فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) أدخلهم فيها (الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) المراد : بئس العطاء المعطى لهم وقيل : الرفد القدح : والرفد ما في القدح من الشراب : والمراد : بئس ما يسقونه في النار عند ما يردونها.

المعنى :

ولقد أرسلنا موسى بآياتنا التسع المفصلة في غير هذه السورة وأرسلناه بحجة قوية

١٤٤

كقوة السلطان ظاهرة لا غموض فيها ، وهي محاورته مع فرعون. وقيل هي عصاه ، أرسلناه إلى فرعون وملئه وهم أشراف قومه ، وقادة شعبه ، ومستشاروه في الرأى وأما بقية الشعب فتابع لهم ، وسائر وراءهم بدون تفكير ، فاتبع الأشراف أمر فرعون ، ونفذوه حرفيا في الكفر بموسى وإحضار السحرة ، وقتلهم لمن آمنوا ، وما أمر فرعون برشيد أبدا بل هو الغواية والضلال ، والشر والفساد ، وهذا فرعون كبير قومه وقائدهم إلى الشر في الدنيا يتقدمهم يوم القيامة إلى النار فيدخلون فيها جميعا ، وبئس الورد المورود الذي دخلوه وهو جهنم ، وذلك لأن وارد الماء يرده للتبريد ولذة الشرب ، ووارد النيران يحترق بلهبها ، ويتلظى بنارها.

وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ، ويوم القيامة هم من المقبوحين ، ويوم القيامة يسقون ماء حميما يقطع الأمعاء مع اللعنة عليهم في الدنيا والآخرة وبئس هذا العطاء المعطى لهم جزاء ما قدموا من سىء الأعمال.

العبرة والعظة من القصص

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي

١٤٥

النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨))

المفردات :

(تَتْبِيبٍ) مأخوذ من التباب أى : الخسران والهلاك يقال تب فلان ، وتبت يده أى : خسر وهلك (شَقِيٌ) الشقي : من استحق النار لإساءته (سَعِيدٌ) من استحق الجنة لعمله بعد فضل الله ورحمته (زَفِيرٌ) الزفير إخراج النفس ، والشهيق رده مع السرعة والجهد (مَجْذُوذٍ) مقطوع مأخوذ من جذه يجذه إذا قطعه أو كسره.

المعنى :

ذلك الذي ذكرنا بعض أنباء القرى التي ظلمت نفسها وعصيت رسلها نقصه عليك للعبرة والعظة ولمعان أخر ، ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه ، من القرى ما له بقايا آثار باقية كالزرع القائم ، ومنها ما عفى ودرس حتى لم يعد له أثر كالزرع المحصود ، وما ظلمناهم في شيء أبدا بل أرسلنا لهم الرسل لهدايتهم وتنوير بصائرهم ولكنهم ظلموا وبغوا وما ازدادوا إلا فجورا وضلالا ، أنذرتهم رسلهم بالعذاب فتماروا بالنذر ، واتكلوا على آلهتهم في دفع العذاب عنهم فما أغنت عنهم آلهتهم شيئا لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير هلاك وضلال فإنهم باتكالهم عليهم ازدادوا كفرا وإصرارا وظلما وضلالا.

ومثل ذلك الأخذ بالعذاب والنكال أخذ ربك إذا أخذ القرى في حال تلبسها بالظلم في كل زمان ومكان ، إن أخذه أليم شديد موجع قاس ، فاعتبروا يا أولى الأبصار فهل من مدكر؟ يا كفار قريش لستم بأقوى منهم وأشد بأسا ، وليس رسولكم بأقل من

١٤٦

إخوانه الرسل (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [سورة الروم آية ٩].

إن في ذلك القصص الذي مضى لآية قوية وحجة ظاهرة على أن هذا الكون يجرى على سنن مرسوم ووضع مقصود لله ـ سبحانه وتعالى ـ ، وإنه لآية لمن يؤمن بالآخرة والحياة فيها وأنها محل الثواب والعقاب ، أما من لم يؤمن بها ويقول إن عذاب الأمم كان طبيعيا فالغرق والصاعقة والزلازل أمور طبيعية ليست إلهية فنقول له على رسلك : إن عذاب الأمم أتى بعد إنذار الرسل لأقوامهم. وقد كان محددا بوقت (تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ).

وإنه لآية على أن عذاب الآخرة. ذلك اليوم المعد له يوم مجموع له الناس للحساب وذلك يوم مشهود فيه ، يشهده الخلق جميعا.

وما نؤخر ذلك اليوم إلا لانتهاء مدة محدودة في علمنا وتلك هي عمر الدنيا.

يوم يأتى ذلك اليوم المعهود المعروف لا تتكلم نفس إلا بإذنه ـ سبحانه ـ فهو صاحب الأمر والنهى والإذن (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) [سورة النبأ آية ٣٨] يوم تخضع فيه الأصوات فلا تسمع إلا همسا (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) [سورة طه آية ١٠٩] هو يوم شديد هوله ، طويل وقته مختلف حاله فتارة يؤذن لهم بالكلام فيعتذرون ويندمون وطورا جامدون جمود الصخر لشدة الهول ، ونفى الكلام إلا بإذنه يفسر لنا الجمع بين الآيات المثبتة للكلام والنافية له.

فمن الناس شقي حقت عليه الكلمة وعمل عمل أهل النار ، ومنهم سعيد ، أريد له الخير فعمل عمل أهل الخير ، وكل ميسر لما خلق له.

فأما الذين شقوا في الدنيا بالعمل الفاسد والاعتقاد الزائغ ، ففي النار مستقرهم ومثواهم ، لهم فيها زفير وشهيق من شدة الكرب ، وضيق الصدر بما حل بهم فهم يتنفسون الصعداء تكاد صدورهم تخرج من شدة الحزن والبكاء خالدين فيها وباقين بها ما بقيت السموات والأرض ، وهل تبقى السموات والأرض؟ نعم تبقى بشكل

١٤٧

آخر ولون آخر الله أعلم به (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) وسماء كل من أهل النار والجنة ما فوقهم ، وأرضهم ما تحتهم. قال ابن عباس : لكل جنة أرض وسماء. وهذا معنى قوله تعالى : (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) إذ العرب يريدون بمثل هذا التركيب التأبيد.

هذا الخلود وهذا الدوام ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك ، وللعلماء قديما وحديثا في هذا الاستثناء وأمثاله أقوال كثيرة ذكر القرطبي منها عشرة والظاهر والله أعلم أنه استثناء من الخلود على معنى أنهم خالدون فيها إلا ما شاء ربك من تغيير هذا النظام المعد ، ويكون المراد أن كل شيء في قبضته وتحت تصرفه إن شاء أبقاه وإن شاء منعه ويشير إلى هذا المعنى قوله تعالى : حكاية عن الرسول (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ).

وقيل : هو استثناء من الدوام في قوله : (ما دامَتِ) لأن أهل الجنة وأهل النار قد كانوا في وقت من أوقات دوام السموات والأرض في الدنيا لا في الجنة ولا في النار فكأنه قال خالدين في النار أو في الجنة ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك من تعميرهم في الدنيا قبل ذلك.

والرأى الأول ذكره تفسير المنار وأظنه هو المناسب لقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) ه ويشاءه ـ سبحانه وتعالى ـ.

وأما الذين سعدوا فهم في الجنة خالدين فيها وماكثين بها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مقطوع ولا ممنوع.

وانظر إلى الفرق بين ختام الآيتين فكل من الجزاءين دائم ـ بمشيئة الله تعالى ـ ولكن جزاء المؤمنين السعداء هبة منه وإحسان دائم غير مقطوع وصدق رسول الله «لن يدخل أحد منكم الجنّة بعمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال : ولا أنا إلّا أن يتغمّدنى الله برحمته» وأما الكافرون فجزاؤهم موافق لأعمالهم.

١٤٨

تحذير وتثبيت

(فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١))

المعنى :

إذا علمت ما مضى ووقفت عليه ، وأنها سنة الله ولن تتغير فلا تك في مرية ولا شك مما يعبد هؤلاء الناس من قومك. لا يكن عندك شك في نهايتهم وجزائهم أبدا ، ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل ، فجزاؤهم في الآخرة ، وإنا لموفوهم نصيبهم على أعمالهم الصالحة في الدنيا فقط غير منقوص ، والواجب أنهم لا يغترون بما هم فيه من نعمة ورخاء فالدنيا لهم فقط ، وأما الآخرة فعذاب شديد ولا عجب في هذا. فها هم أولاء قوم موسى.

وتالله لقد آتينا موسى الكتاب وهو التوراة فاختلف فيه قومه من بعده بغيا بينهم ، وتنازعا على الرياسة الكاذبة والدنيا الزائلة ، وإنما أنزل الكتاب لجمع الكلمة ، والحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه.

ولو لا كلمة سبقت من ربك بتأجيل العقوبة لقضى بينهم في الدنيا بإهلاك البغاة المثيرين للفتنة كما أهلك الأمم السابقة.

وإنهم لفي شك منه مريب ، والظاهر ـ والله أعلم ـ أن الضمير يعود على قوم

١٤٩

موسى ، وشكهم المريب كان في التوراة (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) من سورة الشورى آية : ١٤ ، والمراد بالذين أورثوا الكتاب هم اليهود والنصارى إلا المسلمون فإن التوراة قد أحرقت مع هيكل سليمان ، ولذلك يقول الله : (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) فلم يأخذ عيسى التوراة من اليهود ، وإن احتج عليهم بما حفظوا منها وخالفوه في العمل ، وإن أولئك المختلفين ـ والله ـ ليوفينهم ربك أعمالهم ، ولا يظلم أحدا ، إنه بما يعملون خبير ، وفي هذا تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

نتيجة ما مضى من السورة

(فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣) وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥))

المفردات :

(وَلا تَطْغَوْا) الطغيان مجاوزة الحد بالإفراط أو التفريط (تَرْكَنُوا) الركن الناحية القوية والجانب الأقوى ، ومنه قوله تعالى : (فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ) والمراد النهى عن الاعتماد عليهم والالتجاء إليهم. (طَرَفَيِ النَّهارِ) الغداة والعشى أو بكرة وأصيلا (زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) الطائفة من أول الليل لقربها من النهار والمراد بها المغرب والعشاء.

هذا الأمر والنهى ثمرة عامة لما في القصص الماضي من العبرة والعظة ، حيث كان الجزاء على الإيمان ما عرفناه ، وجزاء الكفر ما علمناه ، وكان منه الغرق والخسف والهلاك ... إلخ.

١٥٠

المعنى :

إذا كان حال أولئك الأمم كما قصصنا عليك أيها الرسول فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ، ولا تطغوا.

الاستقامة المأمور بها في الآية مرتبة عليا ، تقتضي الإيمان بالغيب كله كما جاء في القرآن الكريم ، وعدم التفرق والاختلاف في أسس الدين وأصوله الذي وعد الله صاحبه بالهلاك والعذاب ، والاستقامة تقتضي كذلك التزام ما أمر به الكتاب من العبادات والمعاملات ، والاحتكام إليه عند النزاع واختلاف الرأى (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) [النساء ٥٩] أليست الاستقامة درجة عليا بدليل أمر الله نبيه بها! وهو على الاستقامة مستقيم ، وقد أمر بها موسى وهارون على أنها الطريقة المثلى للنجاح (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [يونس ٨٩] وانظر إلى قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) [سورة فصلت آية ٣٠].

والاستقامة تطبيق عملي لروح الدين ، وكرامة يختص بها الله بعض المخلصين من عباده ليكونوا مع النبيين والصديقين والشهداء ، وحسن أولئك رفيقا وصدق رسول الله حين قال لسفيان الثقفي إجابة لطلبه : يا رسول الله ، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك. قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «قل آمنت بالله ثمّ استقم».

فاستقم كما أمرت يا أيها الرسول ومن تاب معك من المؤمنين ، ولا غرابة في هذا الأمر ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستقيم غاية الاستقامة إذ هو أمر يقصد به الدوام والاستمرار على ما هو عليه.

وألا تطغوا إنه بما تعملون بصير ، والطغيان مجاوزة الحد المرسوم ، والخروج عن الطريق المستقيم ، وهذا أمر عام يقع فيه الخاص والعام ، ولذلك جاء النهى فيه للجميع مع التذييل بأن الناقد بصير وخبير.

ولا تركنوا إلى الذين ظلموا ، ولا تعتمدوا عليهم في شيء أبدا فالركون إلى الظالمين ظلم بين ، وهذا النهى علاج لمرض نفسي متفش عندنا كثيرا وهو اللجوء إلى الكبار والرؤساء معتمدين عليهم في قضاء المصالح وهذا ما يدعونا إلى إطرائهم وتملقهم ، وكتمان

١٥١

الحق ، وعدم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وكل من اعتدى على دين الله أو على حكمه فهو ظالم ، فما بالك بالكفرة والمشركين.

ولا تركنوا إلى الذين ظلموا أنفسهم وغيرهم وأمتهم ووطنهم فتمسكم النار ، وما لكم من دون الله أولياء أبدا ينفعونكم ثم أنتم لا تنصرون في شيء؟!!

وانظر ـ رعاك الله ـ إلى خير ما يستعين به الإنسان في حياته.

أمرنا الله بالاستقامة ، والصبر على الطريق المستقيم ، ونهانا عن الطغيان ومجاوزة الحد ، ونهانا عن الركون إلى الظالمين والاستعانة بهم. وكل هذا أمر شاق على النفس ، كبير إلا على الخاشعين ، ولذا عطف على ذلك الأمر بإقامة الصلاة وتحصيل الصبر لأنهما العدة للامتثال.

أما إقامة الصلاة فهي ترأس العبادات العملية ، وهي الصلة بين العبد والرب وهي مطهرة للنفس مرضاة للرب ، مدعاة لتطهير الروح وتزكية النفس.

والصبر سلاح المؤمن وعدته ، والوقاية له من الجزع المفضى إلى الخروج عن الجادة ، وقد صدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الصّبر نصف الإيمان».

لذلك كله لا غرابة في جعل الصلاة والصبر خير ما يستعين بهما المسلم على امتثال الأمر واجتناب النهى.

وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل ، والمراد أدها كاملة مقومة تامة الأركان مستوفية الشروط والهيئات في أول النهار وآخره ، بكرة وأصيلا ، وفي ساعات الليل المتداخلة في النهار وساعات النهار المتداخلة في الليل ، وهذا التحديد في الزمن يشمل جميع أوقات الصلاة كما ذكرت في آيات أخرى (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ. وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) [الروم ١٧ و ١٨] (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) [الإسراء ٨] والمراد بدلوك الشمس زوالها المنتهى إلى غسق الليل ويدخل فيه صلاة العصر والمغرب والعشاء وأقم صلاة الفجر إنها كانت مشهودة من الله والملائكة.

وأقم الصلاة. إن الحسنات بامتثال الأمر خصوصا في العبادات التي أهمها الصلاة يذهبن السيئات.

١٥٢

روى أن رجلا أصاب من امرأة قبلة فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر له كأنه يسأله عن كفارتها فأنزلت الآية (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ) فقال : يا رسول الله ، إلىّ هذه؟ قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هي لمن عمل بها من أمّتى».

المعنى :

في الحديث أن الذنب الذي قارفه السائل ليس فيه حد وإنما يكفره العمل الصالح من إسباغ وضوء ، وإقامة صلاة ، وإحسان في العمل فذلك كله يطهر النفس ويزكيها من أثر الدنس الذي ألم بها.

ومراحل التوبة الصادقة علم بالذنب وخطره على صاحبه ، وحال عند الشخص من ندم على الذنب ، وألم في النفس يوجب العزم على عدم العودة ، والعمل الصالح الذي يطهر النفس من خب الذنب (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً). [مريم ٦٠].

ذلك الذي مر من الوعظ الصادق والأمر النافع الذي يقتضى المراقبة التامة لله في السر والعلن ذكرى وموعظة حسنة للذاكرين ذوى الألباب والأرواح الطاهرة واصبر .. يا سبحان الله!! أمرتنا بالصبر المطلق العام في كل شيء صبر على الطاعة وما فيها من تحمل المشاق ، وصبر على الابتعاد عن المحرمات والمنكرات التي تهواها النفس البشرية ، وصبر على الشدائد والمصائب والأزمات التي تعترض الإنسان في حياته الخاصة والعامة ، واصبر أيها المسلم فإن الله لا يضيع أجر المحسنين الصابرين (اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [سورة البقرة آية ١٥٣] والله يوفى الصابرين أجرهم بغير حساب.

السبب العام في هلاك الأمم السابقة

(فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ

١٥٣

ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩))

المفردات :

(الْقُرُونِ) جمع قرن ويطلق على عدد من السنين قيل : مائة سنة ، وعلى الجماعة من الناس المقترنين في زمن واحد (بَقِيَّةٍ) أصحاب طاعة وعقل وبصر بالأمور ، والأصل أن البقية ما يبقى من الشيء بعد ذهاب أكثره ، ومن الناس كذلك ثم استعمل في الخيار الصالحين النافعين إذ الغالب أن المنفق ينفق الرديء ويبقى الحسن وهذا مما يدخل في قاعدة بقاء الأصلح (الْجِنَّةِ) الجن سموا بهذا لاستتارهم.

هذه الآيات لبيان السبب في هلاك الأمم التي قص خبرها في السورة مع إرشادنا إلى تجنب تلك الأسباب ، والابتعاد عن المزالق التي انزلق فيها السابقون من ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، واتباع دواعي الترف والبطر ، والإجرام والظلم بأنواعه ، والبعد عن الاختلاف والتفرق في اتجاهنا العام.

المعنى :

فهل كان من الأمم السابق قصصها ، والتي مضت قبلكم جماعة أولو بقية وعقل ، وأصحاب رأى وعزم ينهون عن الفساد في الأرض ، ويأمرون بالمعروف لا يبالون شيئا ولا يخافون خطرا ، لا يمنعهم منه لومة لائم ، ولا جاه سلطان جائر. ولو لا التي في الآية للتحضيض والحث على عمل ما بعدها مع الإشارة إلى الأسف لعدم تحقيقه فيما مضى.

١٥٤

لكن قليلا من الذين أنجيناهم مع رسلهم كانوا أولى بقية نهوا عن المنكر وأمروا بالمعروف ، واتبع الذين ظلموا أنفسهم ـ وهم الأكثرية الكثيرة في تلك الأمم ـ ما أترفوا فيه ، من نعمة وعافية ودولة وسلطان ، فكانت الأكثرية لا تأمر بمعروف ولا تنهى عن منكر ، ولكنهم عقدوا عزمهم على اتباع الشهوات ، وساروا وراء ما فيه التنعم والترف من حب الرياسة والثروة وطلب أسباب العيش الهنيء ورفضوا ما وراء ذلك ، ونبذوه وراءهم ظهريا ، وكانوا مجرمين! وأى إجرام أكثر من هذا؟

ومن هنا يعلم أن الترف هو الذي يدعو إلى السرف المفضى إلى الفسوق والعصيان والظلم والإجرام ، يظهر هذا في الكبار والموسرين ثم ينتقل إلى الفقراء المعوزين فتسوء حال الأمم وتتدهور أخلاقها (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) [سورة الإسراء آية ١٦].

وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ، نعم ليس من شأنه سبحانه وتعالى ، أن يهلك القرى ظالما لها وأهلها مصلحون. وقيل المعنى : وما كان ربك مهلكا القرى بسبب الظلم الذي هو الشرك والحال أن أهلها مصلحون في المعاملة بينهم وبين الناس بمعنى أنهم لا يطففون الكيل كما فعل قوم شعيب ، ولا يأتون الرجال كما فعل قوم لوط ، ولا يتبعون كل جبار عنيد كما فعل قوم فرعون ، ولا يبطشون بالناس بطش الجبارين كما فعل قوم هود ، بل لا بد أن يضموا إلى الشرك الإفساد في الأعمال والأحكام ، وهو الظلم المقوض للأمم ولذا قيل الأمم تبقى مع الكفر. ولا تبقى مع الظلم.

وتحتمل الآية : وما كان ربك مهلكا لهم بظلم قليل يقع من الأقلية البسيطة ، والأكثرون مصلحون ، والآية الكريمة تحتمل كل هذا وفوق هذا ، وسبحان من هذا كلامه ـ تبارك وتعالى ـ!!

ولو شاء ربك أيها الحريص على إيمان قومه لجعل الناس أمة واحدة ، وآمن من في الأرض كلهم جميعا.

ولو شاء ربك لخلق الناس وفي غريزتهم وفطرتهم قبول الدين بلا تفكير ولا نظر فكانوا كالنمل والنحل أو الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ، ولكنه شاء لهم ذلك وقدر لهم

١٥٥

عقولا مختلفة واتجاهات متباينة (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [سورة القصص آية ٥٦] وبهذا عمر الكون ، وكانوا خلفاء الله في الأرض.

ولا يزالون مختلفين في كل شيء حتى قبول الدين إلا من رحم ربك منهم فاتفقوا على تحكيم كتاب الله والأخذ بما أخذ وترك ما ترك ، ولذلك خلقهم فمنهم شقي ومنهم سعيد ، قال ابن عباس : خلقهم فريقين فريقا يرحم فلا يختلف ، وفريقا لا يرحم فيختلف ، وفي معناه قول مالك بن أنس : خلقهم ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير : نعم كان الاختلاف الناشئ من خلقهم مختلفين سبب دخول كل من الدارين.

وتمت كلمة ربك وقضى الأمر لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين الذين لا يهتدون بما أرسل به الرسل من الآيات والأحكام.

خاتمة السورة

(وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣))

هذا ختام السورة الكريمة ، وفيه بيان ما استفاده الرسول والمؤمنون من هذه القصص ، وتهديد غير المؤمنين وإنذارهم ، وبيان شمول علمه ـ سبحانه وتعالى ـ والأمر بعبادته والتوكل عليه.

وكل قصص نقص عليك أيها الرسول من أنباء الرسل قبلك وأخبارهم المهمة التي هي عين العبرة والعظة ، نقص عليك ما نثبت به فؤادك ، حتى يكون كالجبل ثباتا ورسوخا بما يطلعك الله ـ سبحانه وتعالى ـ عليه من أنواع العلوم والمعارف؟ وما

١٥٦

وقفت عليه من طبائع الناس وسنن الله في الكون وما قاساه الرسل الكرام من الإيذاء فصبروا صبرا كريما ، ولا شك أن دراسة أخبار الأمم الماضية مما يثبت القلب. ويزيد الإيمان ويقوى اليقين ، وجاءك في هذه السورة وتلك الأنباء الحق الثابت واليقين الراسخ والأساس الذي اتفق عليه الكل من دعوة إلى التوحيد وإثبات البعث والحث على التقوى والخلق الكامل والبعد عن الرذيلة.

وفي هذا موعظة وذكرى للمؤمنين ، فإنهم الذين يستفيدون من الوعظ والذكرى والمراد بالمؤمنين المعاصرون ومن يأتى بعدهم.

وقل للكافرين الذين لا يؤمنون اعملوا على ما في مكنتكم واستطاعتكم من مقاومة الدعوة ، فإنا عاملون ما في استطاعتنا ، وانتظروا بنا ما تتمنونه إنا منتظرون بكم الدواهي في الدنيا والعذاب في الآخرة واعلموا أن لله غيب السموات والأرض. وله وحده علم ما غاب مطلقا في سماء أو في أرض أو في غيرهما ، وإليه وحده يرجع الأمر كله فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.

وإذا كان الأمر كذلك فاعبده كما أمرت أنت والمؤمنون وتوكل عليه حق التوكل فمن توكل على الله فهو حسبه وكافيه ، وما الله بغافل عما تعملون بل سيحاسبكم على كل صغير وكبير .. والله أعلم.

١٥٧

سورة يوسف عليه‌السلام

وهي مكية وعدد آياتها إحدى عشرة آية ومائة ، وهي مناسبة لما قبلها إذ الكل في قصص الأنبياء ، وتتضمن السورة قصة يوسف على أحسن نظام وأدق تعبير وأروع وصف ، وقد برز أثناء سردها تأييد الرسول في قضيته الكبرى حيث لم يكن يعرف شيئا عن يوسف ولفت لأنظار العالم إلى الكون وما فيه من آيات وعبر ، وإلى ما في الإنسان من غرائز كحب الولد ، والغيرة والحسد بين الأخوة ، والمكر والخديعة من بعضهم ، ومن امرأة العزيز الثائرة ، وما يتبع ذلك من ندم ، والإشارة إلى ما في المجتمع المصرى إذ ذاك. كل ذلك بأسلوب قوى وعبارة بليغة وتصوير دقيق.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (٣))

المفردات :

(الْمُبِينِ) من أبان إذا أوضح وفصل ما يريد (الْقَصَصِ) مأخوذة من قص الخبر إذا حدثه على وجهه الصحيح ، والأصل قصصت الأثر فتبعته بعناية لأحيط به خبرا ، وقد يطلق القصص ويراد به المقصوص من الخبر والأحاديث.

افتتاح حار العقل الإنسانى في فهمها وهي كسابقتها.

١٥٨

المعنى :

تلك آيات هذه السورة هي آيات الكتاب المبين الظاهر الذي أوضح المعنى وبين المقصود من القصة بأجلى بيان ، ولعله وصفه هنا بالبيان لهذا ، وفي سورة يونس لما تعرضت لبيان التوحيد والبعث والجزاء ورسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللتحدى بالقرآن إلى آخر ما مضى ناسب بدؤها بقوله : تلك آيات الكتاب الحكيم والله أعلم بكلامه.

إنا أنزلنا هذا الكتاب حالة كونه يقرأ بلغتكم يا معشر العرب ويبين لكم كل شيء ، ويجمع لكم كل خبر بلسان عربي مبين ظاهر ، يعلمكم ما لم تكونوا تعلمون من قصص وأخبار ، وحكم وحكمة ، وسياسة واجتماع ، ودين ودولة كل هذا بلغتكم رجاء أن تقفوا على تلك المعاني ، وهذه الأغراض التي تخرج فردا مسلما وأسرة مسلمة ومجتمعا نظيفا مسلما وحكومة إسلامية قوية.

نحن نقص عليك أيها الرسول أحسن القصص والحديث بيانا وأسلوبا وإحاطة وكمالا من كل ناحية ، وأحسن ما يقص ويتحدث عنه في الموضوع والغاية ، فالقرآن كامل في قصصه شكلا وموضوعا ، نحن نقصه بإيحائنا إليك هذه السورة من القرآن إذ جاءت فيها قصة يوسف كاملة تامة مفصلة مع اشتمالها على ما يوضح العقيدة ويثبتها ويبين أثرها في حياة الفرد والجماعة.

وإن كنت يا محمد من قبل هذا لمن الغافلين شأنك شأن قومك لا يعرفون من أخبار الماضين وغيرهم شيئا.

يوسف في دور الطفولة مع أبيه وقد رأى الرؤيا

(إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (٤) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ

١٥٩

رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦))

المفردات :

(يَجْتَبِيكَ) الاجتباء من اجتبيت الشيء إذا خلصته لنفسك والجبابة : جمع الشيء النافع كالماء ، والمال للسلطان (تَأْوِيلِ) الأخبار بما تؤول إليه الرؤيا في الوجود.

يعقوب ـ إسرائيل ـ بن إسحاق بن إبراهيم ـ عليهم الصلاة والسلام ـ ، كان له أولاد اثنا عشر من أربع نساء.

وكان من بينهم يوسف وأخوه بنيامين من امرأته راحيل بنت خاله لابان ، وكان يوسف جميل المنظر تبدو عليه مخايل الشرف والكرامة والخلق والنبل وتلوح عليه أمارات النبوة والرسالة ، ولذا كان مقربا لدى أبيه ، أثيرا عنده خصوصا بعد الرؤيا التي كانت سببا في محنته والتي هي خير وبركة في النهاية عليه وعلى شعب مصر.

المعنى :

اذكر أيها الرسول إذ قال يوسف لأبيه ، وهذا شروع في بيان أحسن القصص. قال يوسف لأبيه : يا أبتي إنى رأيت في منامي أحد عشر كوكبا. والشمس والقمر رأيتهم جميعا لي ساجدين سجود انحناء وخضوع وانظر إلى قوله : (رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) ، وهذه عبارة تقال في سجود العقلاء المكلفين! ولذا فهم أبوه أنها رؤيا إلهام ليست أضغاث أحلام.

فهم يعقوب من هذه الرؤيا أنه سيكون ليوسف شأن عظيم وسيسود قومه حتى أباه وأمه وإخوته ، وخاف أن يسمع إخوته بها فيحسدوه ويكيدوا له كيدا فنهاه عن أن يقص رؤياه على إخوته : يا بنى العزيز لا تقص رؤياك على إخوتك فإنى أخاف إن قصصتها يحسدوك فيكيدوا لك كيدا ، ويدبروا لك أمرا ولا تعجب يا بنى من ذلك فإن الشيطان للإنسان عدو مبين ، لا تفوته فرصة من دواعي النفس الأمارة بالسوء

١٦٠