التفسير الواضح - ج ١

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ١

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٢

سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار» (حديث شريف).

ألم يعلموا أنه من يحادّ الله ورسوله ، حتى يكون في جانب والله ورسوله في جانب آخر؟ فإن له نار جهنم يصلاها وبئس القرار قراره ، له نار جهنم خالدا فيها وذلك هو الخزي العظيم ، والنكال والذل المهين.

والمنافقون مذبذبون بين الإيمان والكفر ، شاكّون مرتابون في الوحى وصدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا الشك والارتياب يدعوهم إلى الحذر والإشفاق. بل هو لازم له ، إذ لو كانوا موقنين بكذب الرسول لما جاءهم الحذر ، ولو كانوا مؤمنين حقا لما كان لهذا الخوف والحذر محل ، لهذا يصفهم القرآن بقوله : يحذر المنافقون أن تنزل على المؤمنين سورة كاشفة لهم ، فاضحة أستارهم ، مبينة نفاقهم ، كهذه السورة ، ولذلك سميت الكاشفة والفاضحة.

يحذرون من سورة تنبئهم بما في قلوبهم! والمراد اللازم وهو فضيحتهم وكشف عورتهم وبيان شكهم وارتيابهم ، وتربصهم الدوائر بالمسلمين وإنذارهم بما قد يترتب على ذلك من عقابهم ، وقد كان المنافقون دائمى الاستهزاء بالنبي والمؤمنين كما مر (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) ولذلك يأمر الله نبيه بأن يقول لهم : قل استهزءوا كما تشاءون ، وهذا تهديد لهم شديد ، ووعيد عليه ، إن الله مخرج ما تحذرون إخراجه من مخبئات الضمير ، ومكنونات الصدور ، وقد حصل ذلك وظهر نفاقهم لكل الناس.

روى عن قتادة : بينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوته إلى تبوك وبين يديه أناس من المنافقين : فقالوا : أيرجو هذا الرجل أن يفتح له قصور الشام وحصونها؟ هيهات!! فأطلع الله نبيه على ذلك فقال : احبسوا على هؤلاء الركب فأتاهم فقال : قلتم كذا قلتم كذا؟ قالوا : يا نبي الله : إنما كنا نخوض ونلعب فأنزل الله فيهم هذه الآية على طريقة القسم للتأكيد ، ولئن سألتهم عن أقوالهم التي يقولونها نفاقا من وراء الرسول ليقولن : إنا كنا غير جادين ، ومنكرين بل هازلين لاعبين ، وهذا كفر محض فإن من يهزأ بالله ورسوله فهو كافر بها.

قل لهم : ألم تجدوا ما تستهزءون به في خوضكم ولعبكم إلا الله وآياته ورسوله فقصرتم الهزء عليهم ثم تظنون أن هذا عذر مقبول فتتكلمون به بلا حياء ولا خوف ،

٩٠١

ولكن المنافقين لا يفقهون!!! لا تعتذروا أبدا بهذا أو بغيره قد كفرتم بعد إيمانكم في الظاهر ، وظهر أمركم وبدا الصبح لذي عينين.

الآية صريحة في أن الخوض في كتاب الله ورسوله وصفاته ـ سبحانه وتعالى ـ كفر حقيقى.

إن نعف عن طائفة منكم ونقبل توبتها الخالصة نعذب طائفة أخرى لإصرارها على النفاق وارتكابها الآثام لأنهم كانوا مجرمين ..

المنافقون والمنافقات بعضهم يشبه بعضا ، وهم ذرية بعضها من بعض فهم متشابهون وصفا وعملا ، ذكرا وأنثى ، وهذا دليل على تأصل الداء وتمكنه من نفوسهم حتى صار كالغرائز الموروثة ، ثم بين الله وجه الشبه فقال : هم يأمرون بكل منكر ويدعون إليه ، والمنكر : ما أنكره الطبع السليم ، والعقل الراجح وما نهى عنه الشرع الشريف ، وينهون عن المعروف شرعا وعقلا وطبعا ، ألا لعنة الله عليهم!!

ويقبضون أيديهم عن الإنفاق ، ويبخلون بمالهم عن الجهاد ، وهذا من أهم علامات النفاق ولقد ورد في الحديث : «آية المنافق ثلاث : إذ حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان» وفي رواية «إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر» وهكذا النفاق أسّ الشر وأصل البلاء ، ومجمع كل رذيلة في الوجود.

نسوا الله فأنساهم أنفسهم ، نسوا التقرب إليه ، ونسوا جلاله وعظمته وشرعه وآياته وحسابه وعقابه فنسيهم وجزاهم على عملهم فحرمهم من حبه وذكره والتمتع بدينه وآياته والإنفاق في سبيله ، وحرمهم من الثواب والرضوان ، أولئك حبطت أعمالهم وأولئك هم الخاسرون.

إن المنافقين هم الفاسقون الخارجون عن حدود العقل والدين والمصلحة العامة والخاصة هم الفاسقون لا غير.

أما ما أعد لهم من عقاب وجزاء فها هو ذا ، وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار وعدهم نار جهنم خالدين فيها وفي ذكر الرجال منهم والنساء دليل على عموم الوصف

٩٠٢

وتأصل الداء ، وتأخير ذكر الكفار دليل على أن النفاق أخطر من الكفر الصريح ، ثم لم يكتف بهذا بل زاد في عقابهم والتنكيل بهم ثلاثا. هي حسبهم ، نعم وفي جهنم جزاء يكفيهم عقابا لهم ، ولعنهم في الدنيا والآخرة ، وطردهم من رحمته وتوفيقه في الدنيا ، وفي الآخرة لهم العذاب الشديد ، عذاب مقيم ثابت لا يتحول ولا يزول ، ويظهر ـ والله أعلم ـ أن القرآن يريد أن يوفيهم العذاب الحسى والمعنوي الذي يتكافأ مع نفاقهم وعملهم.

ثم خاطب الله ـ سبحانه ـ المنافقين المعاصرين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ذلك بقوله : أنتم أيها المنافقون الذين آذيتم الله ورسوله والمؤمنين كأولئك المنافقين السابقين مع أنبيائهم ـ وهكذا لا يخلو عصر من النفاق إذ هو مرض يصيب بعض النفوس ـ أنتم مثلهم مغرورون بمالكم مفتونون بأولادكم ، ولكنهم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا ، ولم يكن لهم في دنياهم إلا مطلب واحد هو المتاع الفاني ، والعرض الزائل ، والتمتع بالمال والولد ، فكان نصيبهم نصيب الحيوان يتمتع ويأكل ويتناسل ، فاستمتعتم بنصيبكم من المال والولد والعرض الزائل كاستمتاعهم بنصيبهم ، لم تفضلوا عليهم بشيء من التمتع بكلام الله المحكم الذي نزل على خير الأنبياء وسيد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكنتم أجدر منهم بالملامة ، وأحق بالعذاب والنكال.

فأنتم فعلتم الخبائث كما فعلوا مع توافر دواعي الشر عندهم. وتوافر دواعي الخير عندكم!!!

وخضتم في حمأة الرذيلة والفسق كالخوض الذي خاضوه ، وأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا وفسدت ؛ لأنها أعمال للرياء والسمعة وقد ظهر نفاقهم فيها ، وفي الآخرة لهم العذاب الأليم ؛ لأن شرط الثواب عليها الإيمان ، وهم لم يؤمنوا حقيقة بل نافقوا.

وأولئك هم الخاسرون ، الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، وقد ضل سعيهم في الدنيا والآخرة.

ألم يأتهم نبأ السابقين من قوم نوح وعاد وثمود ، وقوم إبراهيم وأصحاب مدين وقوم لوط؟ والاستفهام للتقرير والتوبيخ.

هؤلاء أتتهم رسلهم بالبينات فأعرضوا وكذبوا ، فجاءهم العذاب كالطوفان الذي

٩٠٣

أغرق قوم نوح ، والريح الذي أهلك عادا ، والصيحة التي أبادت ثمود ، والعذاب الذي هلك به نمروذ ، والخسف الذي نزل بقرى قوم لوط وهم فيها.

فما كان الله ليظلمهم حينما عذبهم ، وقد أنذرهم ومن أنذر فقد أعذر ، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ، والغرض من ضرب المثل أن يفهم الكفار والمنافقون جيدا أن سنة الله مع الخلق لا تتغير ولا تتبدل وأن العذاب سينزل بهم حتما (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) [سورة القمر آية ٤٣] (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) [الحشر ٢].

المؤمنون وصفاتهم وجزاؤهم

وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٧١) وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢)

المفردات :

(أَوْلِياءُ بَعْضٍ) المراد بالولاية هنا : ما يعم النصرة في الشدائد ، والأخوة والمحبة والمودة. (جَنَّاتٍ) : هي البساتين الكثيرة الأشجار الملتفة الأغصان التي تستر ما تحتها من الأرض ، وقد تقدم مثل هذا كثيرا. (جَنَّاتِ عَدْنٍ) عدن : اسم لمكان خاص في الجنة كالفردوس مثلا.

٩٠٤

هكذا أسلوب القرآن يذكر الشيء ثم يردفه بمقابله ليتجلى الفرق ويظهر للعيان بأجلى معانيه ، وليعلم المنافقون أنهم ليسوا على شيء من الإيمان إذ صفته ما يذكر هنا من إقامة الصلاة والأمر بالمعروف ... إلخ. أما إيمانهم الظاهر فهو نفاق وخداع لا ينفع أبدا.

المعنى :

المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض بالنصرة والمعونة والمساعدة في السراء والضراء ، والوقوف بجانب بعض في الشدائد والمكروه ، بعضهم أولياء بعض ولاية أخوة ومودة ومحبة وصداقة ، فنبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى». ويقول : «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» هذا هو أساس الإيمان وطبعه لا فرق بين ذكر وأنثى وقد كانت النساء في العصر الأول يقمن بالمعونة والنصرة في الحروب وغيرها على قدر طاقتهن مع التجمل بالأدب والحياء ولبس لباس الدين والعفاف.

وانظر يا أخى في وصف المؤمنين (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) وفي وصف المنافقين (بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) ترى أن المنافقين لا ولاية بينهم ولا أخوة تبلغ درجة الإيثار والنصرة وفّى الحروب ، ولكنها أخوة كلام فقط (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) [سورة الحشر الآيتان ١١ و ١٢].

فالمنافقون بعضهم يشبه بعضا في الشك والنفاق والارتياب ولكن لا صلة بينهم ولا تآلف ، إذ الولاية والصلة والأخوة هي من صفات المؤمنين أصحاب العقائد الراسخة ، ولذا يقول الله فيهم : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) ولاية النصرة في الدفاع عن الحق والعدل والكرامة والدعوة إلى الله يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، وبالعكس المنافقون يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ، ولا غرابة ؛ فهاتان الصفتان من أبرز صفات المؤمنين.

٩٠٥

(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [سورة آل عمران آية ١١٠] ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ، وهاتان صفتان في مقابلة وصف المنافقين بأنهم نسوا الله ، وبأنهم يقبضون أيديهم.

وإقامة الصلاة : إتيانها مقومة كاملة تامة الأركان والشروط فيها الخضوع الكامل والخشوع لله. ومراقبته وذكره ، أما صلاة المنافقين فللرياء وللنفاق إذا قاموا إليها قاموا كسالى ، وإتيان الزكاة دليل كمال الإيمان والخشية من الله والأمل في رضائه ورضوانه.

وخص هذان الركنان بالذكر لأنهما علاج الهلع والجزع ، والبخل والخور فهذه أمراض تدفع صاحبها إلى الإحجام عن الدفاع عن الحق وإعلاء كلمة الله وتدفعه إلى الشح الصاد عن الإنفاق في سبيل الله ، ولذا كان المنافقون أجبن الناس وأبخلهم ، انظر إلى قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً. إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً. وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً. إِلَّا الْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ. وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ. لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ. وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) [سورة المعارج الآيات ١٩ ـ ٢٦].

وقد جعل الله هذه الأربع : الأمر بالمعروف ، والنهى عن المنكر ، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. أساس النجاح في الدنيا ووسيلة العمران وإقامة الدولة المسلمة الصالحة للتمكين في الأرض (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) [سورة الحج آية ٤١] والمؤمنون والمؤمنات من صفاتهم أنهم يطيعون الله ورسوله بامتثال الأمر واجتناب النهى.

أولئك سيرحمهم‌الله ، ويدخلهم في رحمته الواسعة التي كتبها لهم رحمة خالصة من شوائب الكدر والشقاء. إن الله عزيز لا يغلب ، حكيم في كل صنع ، وهذا تدليل مناسب لهذا العطاء الكبير للمؤمنين.

وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات ، جزاء لهم ، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان وعدهم الله جنات موصوفة بأنها تجرى من تحتها الأنهار فليس فيها تعب ولا مشقة ولا عطش ولا ألم كما أن مياهها طاهرة نظيفة لا تتغير بالمكث ، ولا تفسد بالوقوف.

وهم الخالدون فيها إلى ما شاء الله ومقيمون بها إقامة أبدية.

٩٠٦

ووعدهم مساكن طيبة يتمتعون بها مشتملة على جميع المرافق من أثاث ورياش وزينة ورزق ومتاع هذه المساكن في جنات عدن ومكانها الطيب.

هذا هو المتاع الجسماني في الآخرة ، وأما متاع الروح فالرضا والرضوان ، ورضوان من الله أكبر من ذلك كله لا يقدر قدره ، وقيل : إن الرضوان رؤية الله يوم القيامة (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [سورة يونس آية ٢٦].

هذا جزاء الإيمان في مقابلة جزاء النفاق السابق ، ألا بئس ما يصنعون ، ذلك الذي ذكر من الوعد للمؤمنين والمؤمنات بالنعيم الجسماني والروحاني هو الفوز العظيم ، أما المتاع في الدنيا فعرض زائل مشوب بالألم والتعب والهم والنصب.

أيها المؤمنون : هذه هي الموازين الحقيقية للإيمان وجزائه فانظروا إلى أنفسكم في أى مكان هي!! وحاسبوها قبل أن تحاسبوا.

معاملة النبي للكفار والمنافقين

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣) يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٧٤)

المفردات :

(وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) الغلظ : الخشونة وعدم الرحمة. (وَما نَقَمُوا) : وما كرهوا ، وما عابوا.

٩٠٧

هذا تهديد للمنافقين وإنذار لهم بالجهاد كالكفار المجاهرين أعداء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين ؛ والكفار على أنواع ، منهم المجاهرون المقاتلون وهؤلاء أمر النبي بقتالهم بالسيف ، ومنهم غير المحاربين وهم المعاهدون ، والمنافقون الذين قال الله فيهم : (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) وكان يعاملهم باللطف واللين ولا غرابة في ذلك ؛ فقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رحيما كريما ذا خلق عال ، ليس فيه غلظة ولا جفوة يقول في كلامه : «شر الناس من يخاف شره»

والأحاديث الواردة عنه في هذا الباب كثيرة ، وقد كان يعامل المنافقين كما يعامل المسلمين تماما مما جرأهم على لمزه وعيبه ، والنيل منه بل ورد السلام عليه بقولهم : (السام) حتى كان منهم ما كان وعرفناه في هذه السورة والتي قبلها ـ ولذلك أمره الله ـ تعالى ـ في هذه الآية بالغلظة على الفريقين.

المعنى :

يا أيها النبي جاهد الكفار غير المحاربين والمنافقين واغلظ عليهم لا تعاملهم باللين والبشاشة ، ولا تقبل عليهم بوجهك الباسم بل اعبس في وجوههم ، وسيأتى قريبا أنهم يمنعون من القتال مع المسلمين ، ولا تصل على أحد مات منهم أبدا كما سيأتى ، وهذا جهاد لأنه يخالف لين النبي وأدبه ورحمته بالناس ، وهذا علاج رباني ، فإن المذنب إذا عومل معاملة لينة ربما أطغته وجعلته يتمادى ، وبالعكس لو عومل بالشدة نوعا ما كما يقول عمر ـ رضى الله عنه ـ : «أذلوهم ولا تظلموهم» كان ذلك أدعى إلى أن يرجع إلى نفسه ويحاسبها حسابا قد ينتج عنه رجوعه إلى الجادة ، ولست أرى أشد على المذنب من إنكار الناس عليه ، وهذا دواء من حكيم عليم.

وفي التفسير المأثور : جاهد الكفار بالسيف والمنافقين باللسان ، وهذا عذابهم في الدنيا ، أما في الآخرة فمأواهم جهنم ، وبئس المصير مصيرهم.

ولقد استأنف القرآن بيان سبب هذا حيث أثبت لهم الكذب الصريح واليمين الفاجرة ، وهمهم بالفعل الشنيع ، وأنهم جعلوا سبب الرضا والشكر سبب النقمة والكفر ، ألا ساء ما كانوا يعملون.

يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوه

٩٠٨

ولم يدركوه ، وما كرهوا الدين إلا لأن الله أغناهم به ، هؤلاء المنافقون قد كفروا بعد إسلامهم ، وخاضوا في النبي والقرآن ، وهموا بالفتك برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد أطلعه الله على ذلك وأنبأه بأنهم سينكرون ذلك ، وسيحلفون بالله كذبا ليرضوكم (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) (١) والله تعالى يكذبهم ويثبت بتأكيد القسم أنهم قالوا كلمة الكفر التي رويت عنهم ، ولم تذكر في القرآن لئلا يتعبد المسلمون بتلاوتها ، ولذلك اختلف الرواة في إثباتها ، فبعضهم يقول : إن شخصا اسمه جلاس بن سويد قال : لئن كان محمد صادقا على إخواننا الذين هم سادتنا وخيارنا لنحن شر من الحمير (يقصد الآيات التي نزلت فيمن تخلف من المنافقين) ، وقيل : إنها نزلت في مقالة قالها عبد الله بن أبىّ ثم أنكرها ، وعلى العموم فالآية صريحة في إثبات ذلك وأمثاله لهم.

وقد كفر المنافقون بعد إسلامهم الظاهر ، وروى أن بعضهم هم بقتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين منصرفه من غزوة تبوك ثم ردهم الله خاسرين وذلك قوله تعالى (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا).

وما أنكر هؤلاء المنافقون من أمر الإسلام وبعثة الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ شيئا يقتضى الكراهة والكفر والهم بالانتقام إلا إغناء الله إياهم ورسوله بما يقسمه لهم من الغنائم ويعاملهم كالمسلمين ، وهذا تعبير بديع ، كقول الشاعر :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب

يا عجبا كل العجب ما يكون سببا في الخير يكون سببا في الشر!!! ومع هذا فباب التوبة والرحمة مفتوح ، فإن يتوبوا يقبل الله منهم ، وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة.

وما لهم في الأرض من ولى ولا نصير ، إذ ولاية المؤمنين بعضهم لبعض ، والمنافقون لا ولاية لهم ، إذ لا ضمير لهم حتى مع أنفسهم.

__________________

(١) سورة المنافقون آية ٢.

٩٠٩

قصة ثعلبة بن حاطب

وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٧٨)

سبب النزول :

روى أنه جاء رجل من الأنصار يسمى ثعلبة بن حاطب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : ادع الله لي يا رسول الله أن يرزقني مالا. فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «ويحك يا ثعلبة قليل تؤدى شكره خير من كثير لا تطيقه» ثم عاد ثانيا يطلب ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما ترضى أن تكون مثل نبي الله؟!! لو شئت أن تسير معى الجبال ذهبا لسارت» فقال : والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله فرزقني مالا لأعطين كل ذي حق حقه ، فدعا له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاتخذ غنما فنمت كما تنمى الدود ، فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها ونزل واديا من أوديتها حتى جعل يصلى الظهر والعصر في جماعة وترك ما سواهما. ثم نمت وكثرت حتى ترك الصلوات إلا الجمعة ، وهي تنمى حتى ترك الجمعة أيضا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا ويح ثعلبة» ثم نزل (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) [التوبة ١٠٣] فبعث صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلين على الصدقة وقال لهما : «مرّا بثعلبة وبفلان ـ رجل من بنى سليم ـ فخذا صدقاتهما» فأتيا ثعلبة وأقرآه كتاب رسول الله ، فقال ثعلبة : ما هذه إلا أخت

٩١٠

الجزية! انطلقا حتى تفرغا ثم عودا ، ولم يعطهما شيئا ، ثم أقبلا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصدقة السلمى الذي أعطاهما من خيار ماله ، فلما رآهما النبي مقبلين قال : «يا ويح ثعلبة» ثم دعا للسلمى بالبركة ، فنزلت الآية الكريمة وحينما بلغت ثعلبة عاد إلى رسول الله ومعه الصدقة ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله منعني أن أقبل منك» وهكذا لحق النبي بالرفيق الأعلى ولم يقبلها منه ونهج الخلفاء أبو بكر وعمر وعثمان هذه السيرة ومات ثعلبة في خلافة عثمان.

المعنى :

وبعض المنافقين عاهد الله ورسوله لئن أعطاه الله مالا كثيرا ليصّدّقن ، ويعطى كل ذي حق حقه. وليكونن من عباد الله الصالحين ، فلما آتاه الله مالا وأغناه من فضله ، بخل بالمال وشح بالخير ، وأمسك فلم يتصدق بشيء ، وبدل أن يصلح نفسه وأمته بالإنفاق كما عاهد الله وأقسم على ذلك ، أعرض عن ذلك وتولى وهو معرض بكل قواه إعراضا راسخا ثابتا ، وهذا طبع في المنافقين لازم لهم راسخ فيهم.

فأعقبهم ذلك البخل وهذا الإعراض نفاقا من النوع العالي الدائم إلى يوم القيامة ، ولا غرابة ؛ فكل معصية وإن صغرت تحجب شيئا من نور الإيمان حتى إذا كثرت المعاصي حجبت جميع النور فأصبح القلب في ظلمات الفساد والعصيان والنفاق غارقا.

كل هذا بسبب ما أخلفوا الله وعده ، كما في قصة ثعلبة وأضرابه من المنافقين ، وبما كانوا يكذبون ... فآية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان (١). صدق رسول الله.

ألم يعلم هؤلاء أن الله يعلم سرهم ونجواهم ، وأن الله علام الغيوب يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور؟!! فالله يعلم كل هذا ، ولكن المنافقين لا يعلمون ..

__________________

(١) أخرجه البخاري ١ / ٨٣ ، ٨٤ في الإيمان باب علامات المنافق ومسلم ٥٩ في الإيمان.

٩١١

من أذى المنافقين للمؤمنين وجزاؤهم

الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٩) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٨٠)

المفردات :

(يَلْمِزُونَ) اللمز : العيب. (الْمُطَّوِّعِينَ) أى : المتطوعين ، والمراد : من يؤدون النفل بعد الواجب. (جُهْدَهُمْ) : طاقتهم.

المعنى :

هذا هو موقف المنافقين ، وإنه لموقف ريب يدل على تأصل النفاق معهم وأنه لا يرجى منه خير أبدا ، فهم لا يقنعون بمنع إنفاقهم في سبيل الله بل ويلمزون من ينفق من المسلمين ، ويعيبون على المتطوعين في الصدقات ، والذين لا يجدون إلا ما ينفقونه في سبيل الله. فهو غاية جهدهم ، يا عجبا : تعيبون على الغنى المتصدق ، وعلى الفقير الباذل قوته لله!!

روى عن ابن مسعود ـ رضى الله ـ قال : لما أمرنا بالصدقة كنا نحامل ، أى : نحمل على ظهورنا بالأجرة ونتصدق بها ، فجاء أبو عقيل بنصف صاع ، وجاء إنسان بأكثر منه ، فقال المنافقون : إن الله غنى عن صدقة هذا ، وما فعل الآخر هذا إلا رياء ،

٩١٢

فنزلت (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ) يستهزئون بالفقراء احتقارا لما جاءوا به ، ويعدونهم من المجانين والحمقى ، وقيل : إنهم يلمزون الغنى والفقير ، ويسخرون من الجميع سخر الله منهم ، وجازاهم بعدله على ذلك العمل جزاء وافيا ، ولهم في الآخرة عذاب أليم.

هؤلاء في أعمالهم التي لا تصدر إلا عن قلوب لا تكاد تعرف الإيمان ، ولم يدخلها شعاع الإسلام ولن يدخل أبدا ، ويقول الله فيهم لنبيه ـ عليه‌السلام ـ : سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم ، لن يغفر الله لهم ؛ إن تستغفر لهم سبعين مرة. والمراد : كثرة الاستغفار لا العدد المحض ، فلن يغفر الله لهم أبدا.

والظاهر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يستغفر لهم رجاء أن يتوبوا ويوفقهم الله للخير ؛ فأمر بعدم الاستغفار لهؤلاء المنافقين المعينين الذين حكى الله عنهم هذه الأفعال الخبيثة كالتآمر على الفتك بالنبي والهمّ بقتله ، ولمز المتصدقين والعيب عليهم ، فهؤلاء هم زعماء المنافقين ، ورؤساء الشر الذين لا يرجى منهم خير أبدا ولن يعودوا للحق أبدا ، وقد ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ، ولذلك علل الله هذا بقوله : ذلك بأنهم كفروا بالله وبرسوله وداموا على هذا مداومة طمست بصائرهم فلن يروا خيرا أبدا ، فلا تستغفر لهم.

والله لا يهدى القوم الفاسقين إلى الخير ؛ إذ لم يعد لهم استعداد له.

المتخلفون عن الجهاد

فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (٨١) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢)

٩١٣

المفردات :

(فَرِحَ) الفرح : شعور النفس بالارتياح والسرور. (الْمُخَلَّفُونَ) : الذين تركهم رسول الله عند خروجه إلى غزوة تبوك. (خِلافَ) : مصدر كالمخالفة ، وقد يراد به معنى بعد وخلف فيكون ظرفا ، ويصح المعنيان هنا.

هذه الآيات في بيان حال المتخلفين عن القتال ، وما يجب عن معاملتهم ، وقد نزلت في أثناء السفر ، ولا نزال في الكلام عن المنافقين ، وأعمالهم في غزوة تبوك.

المعنى :

فرح المتخلفون من هؤلاء المنافقين الذين تخلفوا عن رسول الله عند خروجه إلى غزوة تبوك ، وقعدوا في بيوتهم مخالفين أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قعدوا لأنهم لا يؤمنون أن الغزو خير ، وامتثالا لأمر ربهم ورسوله ، وقالوا لإخوانهم : لا تنفروا في الحر وتتركوا مهام أعمالكم ومصالحكم.

قل لهم يا محمد : نار جهنم التي أعدت للمخالفين العصاة أشد حرا ، فهي تلفح الوجوه وتنضج الجلود ، وتنزعها ، ولو كانوا يفقهون ذلك ويعتبرون لما خالفوها وعصوا ، وآثروا راحة الجسم راحة قليلة على هذا العذاب الدائم ، والنار التي أعدت لهم ، وكان وقودها الناس والحجارة.

فليضحكوا قليلا ، وليبكوا كثيرا ، ليس هذا أمر حقيقيا بل يراد به تهديدهم ، وبيان أن هذا هو الأجدر بهم على حسب حالهم وما تستوجبه أعمالهم لو كانوا يفقهون ما فإنهم من أجر ، وما سيلاقيهم من عذاب وضير ، وهذا جزاء لهم بما كانوا يعملون ويكسبون من الجرائم ويقترحون من الآراء.

٩١٤

كيف عامل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم زعماء النفاق

فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (٨٣) وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (٨٤) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٨٥)

المفردات :

(الْخالِفِينَ) المراد : المتخلفون من النساء والصبيان ، على أن الخالف قد يستعمل ويراد به من لا خير فيه ولا غناء معه.

هذه الآية الكريمة نزلت في سفره صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو راجع من غزوة تبوك ، وهي من دقائق القرآن لأن أئمة الحديث ذكروا في الصحيحين أحاديث تتعارض معها وهو حديث صلاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على عبد الله بن أبىّ زعيم المنافقين ، ولكن أليس من الخير أن نسير مع القرآن الكريم؟ فإنه أضبط متنا وسندا ، بل هو المحفوظ الذي تكفل الله بحفظه (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (١) وقد جمع بعض العلماء في الكتب المطولة بين الحديث والآية.

__________________

(١) سورة الحجر آية ٩.

٩١٥

المعنى :

قد تخلف المتخلفون عن رسول الله ، وفرحوا بمقعدهم مخالفين لأمر الله ورسوله ، وكرهوا الجهاد ، بل وثبطوا عنه وخذلوا غيرهم بقولهم : لا تنفروا في الحر؟

فرتب على هذا كله ما هنا من المعاملة القاسية الشديدة ..

فإن رجعك الله وردك من سفرك إلى طائفة وجماعة خاصة من المتخلفين ـ تلك الطائفة هم المنافقون الذين سبق ذكرهم ـ فاستأذنوك للخروج أيا كان نوعه فقل لهم : لن تخرجوا معى أبدا على أى شكل كان وبأى وضع ، ولن تقاتلوا معى عدوا أبدا في المستقبل بأى كيفية كانت!! وذلك لأنكم رضيتم بالقعود أول مرة وتخلفتم بلا عذر وحنثتم في أيمانكم الفاجرة وفرحتم بالقعود بل وثبطتم عن الجهاد .. فاقعدوا مع الخالفين المسيئين الذين لا خير فيهم أبدا. ولن تنالوا شرف الصحبة والجهاد ؛ فهذا شرف رفيع ، ووسام عال ، لا يناله إلا المؤمنون المخلصون.

ولا تصل على أحد منهم مات أبدا في المستقبل ، ولا تقم على قبره أبدا ، داعيا له ومستغفرا. وقد سبق قوله تعالى : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ، إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) [سورة التوبة آية ٨٠].

نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الصلاة على المنافقين ، والقيام على قبورهم وأن يدعو لهم كما كان يفعل إذا مات مؤمن يقول بعد دفنه : «استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت ؛ فإنه الآن يسأل» وقد نص الفقهاء على العمل بهذا الحديث.

وهذا يعارض ما نعلمه من أن المنافقين كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجرى عليهم أحكام الإسلام العامة ، والجواب كما ظهر لي ـ والله أعلم ـ أن هذه الآيات نزلت في زعماء النفاق وعدم التوبة ، وقد أعلم الله نبيه بهم كما في الحديث ، وأما غيرهم فكان يدعو لهم رجاء التوبة والتوفيق وبعضهم آمن وتاب.

قال الواقديّ : أنبأنا معمر عن الزهري قال : قال حذيفة : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنى مسرّ إليك سرا فلا تذكره لأحد : إنى نهيت أن أصلى على فلان وفلان» رهط ذوى عدد من المنافقين ؛ قال : فلذلك كان عمر إذا أراد أن يصلى على أحد استتبع حذيفة فإن مشى مشى معه وإلا لم يصل عليه ، ولعل الحكمة في خصوص هؤلاء أن الله

٩١٦

علم أنهم ماتوا على الكفر أو سيموتون عليه فلا تنفعهم شفاعة ولا استغفار ولا صلاة أبدا.

ولذلك كان تعليل النهى (لا تصل على أحد منهم مات) لأنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون!!

ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم ، وهم كافرون ، وقد تقدم مثل هذا مع فارق هو ذكر لا في الآية السابقة (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ) وهو يصدق بالنهى عن الإعجاب بكل منهما ، وفي الآية هنا حذف لا يفيد الكلام النهى عن الإعجاب بهما مجتمعين ، ولكل كلمة مع صاحبتها مقام يقتضيه الحال ، والله أعلم بكتابه.

موقف المنافقين من الجهاد

وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (٨٦) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٨٧) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٨٩)

المفردات :

(الطَّوْلِ) : الغنى والمقدرة ، والمراد : أولو المقدرة على الجهاد المفروض.

(ذَرْنا) : اتركنا. (الْقاعِدِينَ) المراد : مع المتخلفين.

٩١٧

المعنى :

هذه عادة المنافقين ، ومن في قلوبهم مرض الشك والنفاق ، كلمات أنزلت سورة تدعو الناس ببعض آياتها إلى الإيمان بالله والجهاد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استأذنك أولو المقدرة على الجهاد بالمال والنفس ، استأذنوك في التخلف ، منتحلين شتى الأعذار قائلين ، اتركنا مع القاعدين من النساء والصبيان والعجزة ، هؤلاء رضوا بأن يكونوا مع المتخلفين الذين فسدت نفوسهم ولم يعد فيها ميل إلى الخير ، وطبع على قلوبهم فلم يعد يدخل إليها نور العلم والوعظ ، والهداية والنور ، حتى كأنها قد ختم عليها ، ولا غرابة في ذلك فهم قوم لا يفقهون الخير والرشد حتى يهتدوا إليه.

لكن الرسول والذين آمنوا معه بمقتضى إيمانهم الخالص الراسخ في قلوبهم جاهدوا في سبيل الله ، وبذلوا النفس والنفيس طيبة قلوبهم مستريحة ضمائرهم ، متهللة وجوههم بشرا وسرورا لأنهم وجدوا الفرصة سانحة لاقتناص ثواب الجهاد في سبيل الله.

وأولئك البعيدون في درجات الكمال والجلال لهم الخيرات التي لا يعلمها إلا الله ، في الدنيا كشرف النصر ، ومحو الكفر والتمتع بالغنيمة والسيادة في الأرض ، وأولئك هم المفلحون السعداء أعد الله لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم ..

المتخلفون

وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٠) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ

٩١٨

ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (٩٢)

المفردات :

(الْمُعَذِّرُونَ) أى : المعتذرون ، واللفظ يحتمل المعتذر بعذر حقيقى أو ادعائى.

هذه الآية في نفاق الأعراب سكان البدو بعد بيان نفاق المنافقين من سكان الحضر (المدينة).

(الضُّعَفاءِ) جمع ضعيف ، وهو ضد القوى ، والمراد : من لا قوة لهم في أبدانهم تمكنهم من الجهاد. (حَرَجٌ) المراد : ليس عليهم ذنب ولا إثم. (نَصَحُوا) : أخلصوا لله ورسوله في القول والعمل. (مِنْ سَبِيلٍ) : من طريق يسلك لمؤاخذتهم.

المعنى :

وجاء المعتذرون من الأعراب ليأذن لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التخلف عن النفير العام في غزوة تبوك وهم قوم عامر بن طفيل ، جاءوا يقولون : يا رسول الله : إن نحن غزونا تغير علينا أعراب طيئ فقال لهم رسول الله : «قد أنبأنى الله من أخباركم وسيغنى الله عنكم» وقال ابن عباس : هم قوم تخلفوا فأذن لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والظاهر أن عذرهم كان حقا ، والآية تحتمل هذا وذاك.

وقعد عن القتال وعن المجيء للاعتذار الذين كذبوا الله ورسوله من الأعراب ، وأظهروا الإيمان بهما كذبا وإيهاما ، وهؤلاء هم المنافقون حقيقة في العقيدة ، وقد قعدوا عن القتال بجرأة على الله وعلى رسوله سيصيب الذين كفروا منهم ، أى : ممن كذبوا الله

٩١٩

ورسوله ، ومن المعتذرين بغير عذر شرعي ، سيصيب هؤلاء وهؤلاء عذاب أليم غاية الألم!!! ...

المعنى :

لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، ولا يطلب منها ما هو فوق طاقتها ، وعلى ذلك فكل من عجز عن الشيء سقط عنه ، ولا يكلف به (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) وروى أبو داود عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لقد تركتم بالمدينة أقواما ما سرتم سيرا ، ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه». قالوا : يا رسول الله : وكيف يكون معنا وهم بالمدينة؟ قال : «حبسهم العذر».

ألست معى في أن هذه الآية وأشباهها من القرآن والحديث بينت أنه لا حرج على المعذورين عذرا شرعيا ، وهم قوم عرف عذرهم كالشيوخ والعجائز ، وأهل الزمانة والهرم ، والعمى والعرج ، وأقوام لم يجدوا ما ينفقون ، فكل هؤلاء ليس عليهم ذنب ولا إثم إذا نصحوا لله ورسوله ، وأخلصوا لهما النية ، وأحسنوا الطوية ، وعرفوا الحق ـ سبحانه وتعالى ـ وأحبوه ، وأحبوا أولياءه ، وبغضوا أعداءه ، والنصيحة الخالصة لله ولرسوله (في هذه الحال الحربية) هي عمل كل ما فيه المصلحة العامة للأمة من كتمان السر ، والحث على البر ، وإلهاب الشعور ، وتوحيد الصفوف ، ومحاربة الخائنين ، والقضاء على الطابور الخامس ، روى عن تميم الداري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : الدين النصيحة ـ ثلاثا ـ قلنا : لمن يا رسول الله؟ فقال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.

قال العلماء : النصيحة لله : إخلاص الاعتقاد في الوحدانية ، ووصفه بكل كمال ، وتنزيهه عن كل نقص ، وامتثال أمره واجتناب نهيه ، والنصيحة لرسوله التصديق بنبوته ، والتزام طاعته ، في أمره ونهيه وحب من أحبه ، وحب آل بيته ومن سار بسيرته وإحياء سنته بالمدارسة والنفقة والعمل بها والدفاع عنها ، والنصيحة لكتابه وقراءته ، والتفقه فيه ومدارسته ، والتخلق به والدفاع عنه ، والنصيحة لأئمة المسلمين : ترك الخروج عليهم ، وتبصيرهم مواضع الزلل وإرشادهم إلى الدين الحق

٩٢٠