التفسير الواضح - ج ١

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ١

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٢

فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٣٧)

المفردات :

(حُرُمٌ) : جمع حرام. (كَافَّةً) أى : مجتمعين. (النَّسِيءُ) : من نسأ الشيء وأنسأه ، أى : أخره ، والنسيء كالمسنوء ، أى : المؤخر. (لِيُواطِؤُا) المواطأة : الموافقة.

عود للكلام على المشركين بعد أن أنهى الكلام على أهل الكتاب من اليهود والنصارى.

المعنى :

إن عدة الشهور عند الله أى : في حكمه اثنا عشر شهرا ، فيما كتبه الله وأثبته من نظام للكون ، وتقدير لمنازل القمر والشمس ، كتبه يوم خلق السموات والأرض ، والمراد الأشهر القمرية لا غيرها ، فإن الحساب بها يسير ، وتتوقف على الهلال ، وهو يرى لكل إنسان متعلم وغير متعلم ، بدوي أو حضرى.

منها أربعة حرم كتب الله وفرض احترامها وتحريم القتال فيها على لسان إبراهيم وإسماعيل. وتناقلت العرب ذلك قولا وعملا ، وفي زمن الجاهلية الجهلاء غيرت العرب في ذلك وبدلت تبعا لأهوائها كما سيأتى ؛ والأشهر الحرم كما وردت في الحديث هي : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جمادى الثانية وشعبان.

وحرم القتال فيها لأنها زمن الحج فيأمن الناس في أسفارهم وغربتهم على أنفسهم وأموالهم ، ولا شك أن الحج يبتدئ غالبا من ذي القعدة إلى آخر المحرم. وكان رجب في وسط العام هدنة للراحة والاستجمام ولتسهيل العمرة فيه ، ذلك الدين القيم ، ذلك

٨٨١

الشرع الصحيح المستقيم الذي كان عليه إبراهيم وإسماعيل في عدة الشهور ، وتحريم الأربعة الحرم ، فلا تظلموا فيهن أنفسكم بفعل أى محرم ومحظور ، ويدخل في ذلك انتهاك حرمة الأشهر الحرم بالقتال فيها ، أو الحرم بالقتال فيها في كل وقت ، يدخل هذا وذلك في الظلم دخولا أوليا ، وقاتلوا المشركين جميعا على قلب رجل واحد كل في دائرة اختصاصه كما يقاتلونكم كذلك ، واعلموا أن الله مع المتقين للظلم والعدوان والفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل.

كانت العرب تحرم القتال في الأشهر الحرم وقد ورثت ذلك عن أبيها إبراهيم وإسماعيل ، ولما طال عليهم الأمد وقست قلوبهم بدلوا في المناسك وفي تحريم الأشهر الحرم ، ولا سيما شهر المحرم منها ، فكانوا ينسئون تحريمه ، أى : يؤجلون تحريمه إلى صفر فتبقى الأشهر أربعة ليوافقوا عدد ما حرمه الله. وفي ذلك مخالفة للنص ولحكمة التحريم لأجل الحج.

وفي كتب التاريخ أنه كان يقوم رجل منهم كبير (يقال له القلمس) فيقول في (منى) : أنا الذي لا يرد لي قضاء ، فيقولون : صدقت فأخر عنا حرمة المحرم واجعلها في صفر فيحل لهم المحرم ، ويحرم عليهم صفرا ، ثم صاروا ينسئون غير المحرم.

إنما النسيء ، أى : التأخير في الأشهر الحرم كما ورد عنهم ، زيادة في الكفر ؛ إذ هم غيروا به ملة إبراهيم بسوء التأويل فكان زيادة على أصل كفرهم وشركهم بالله تعالى ، فإن تشريع الحلال والحرام لله وحده ؛ وإنهم بالنسيء يضلون به سائر الكفار الذين يتبعون فيه حيث يوهمونهم أنهم على ملة إبراهيم وأنهم لم يزيدوا ولم ينقصوا في الأشهر الحرم ، زين لهم الشيطان سوء أعمالهم بهذه الشبهة الباطلة.

والله لا يهدى القوم الكافرين أبدا إلى خير أو صواب ، خصوصا في أمور الدين ، روى الشيخان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في حجة الوداع : «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض» (١) بمعنى أنه عاد حساب الشهور ونظامها إلى ما كان عليه من أول نظام الخلق بعد أن كان قد تغير في حساب العرب بسبب النسيء في الأشهر.

__________________

(١) أخرجه البخاري في التفسير ٤٦٦٢.

٨٨٢

في الحث على الجهاد والتحذير من تركه

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠)

المفردات :

(انْفِرُوا) النفر والنفور : عبارة عن الفرار من الشيء ، أو الإقدام عليه بخفة ونشاط ، واستنفر الإمام الجيش إلى القتال : أعلن النفير العام فنفروا خفافا وثقالا. (اثَّاقَلْتُمْ) : تثاقلتم وتباطأتم. (الْغارِ) المراد : غار جبل ثور ، وهو فتحة في الجبل. (لا تَحْزَنْ) الحزن : انفعال نفسي ينشأ من تألم النفس مما وقع ، ويراد بالنهى

٨٨٣

عنه : مجاهدته وتوطين النفس على عدم الاستسلام له. (كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى) المراد : كلمة الكفر والشرك ودولتهم. (كَلِمَةُ اللهِ) هي كلمة الإسلام ودولته.

هذه الآيات ، من هنا إلى آخر السورة ، نزلت في غزوة تبوك تقوى من عزم المؤمنين وتكشف عن ستر المنافقين ، وتبين أحكاما كثيرة لازمة لجماعة المسلمين ، وتعاتب من تخلف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغزوة تبوك كانت في السنة التاسعة للهجرة بعد رجوع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غزوة حنين والطائف وكان المسلمون في عسرة وضيق ، وقد حان قطاف الثمر عندهم وظهور الموسم.

لهذا كره بعض المسلمين الخروج إلى القتال خصوصا بعد ما أعلن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اتجاهه ومقصده في الغزوة (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [سورة البقرة آية ٢١٦].

أما سبب الغزوة فهو استعداد الروم والقبائل العربية المنتصرة من لخم وجزام لقتال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث أعدوا جيشا كثيفا لغزو المدينة فهي حرب دفاعية لا هجومية «هكذا غزواته وحروبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولما لم يجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من يقاتله عاد بلا هجوم ، وتبوك : مكان في منتصف الطريق تقريبا بين المدينة ودمشق.

المعنى :

يا أيها الذين اتصفتم بالإيمان ، واهتديتم بالقرآن الكريم : مالكم متثاقلين حين قال لكم رسولكم الأمين : انفروا في سبيل الله ولإعلاء كلمته؟! ماذا عرض لكم مما يتنافى مع الإيمان وكماله حين قال لكم الرسول : انفروا في سبيل الله لقتال الروم؟ الذين تجهزوا لقتالكم والإغارة عليكم فتثاقلتم عن النهوض ، وتباطأتم عن الحرب. مخلدين إلى الأرض وراحتها ولذتها؟! وآية الإيمان جهاد وعمل ، ونشاط وجد (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [سورة الحجرات آية ١٥].

أرضيتم بالحياة الدنيا ولذتها الفانية وعرضها الزائل بدلا من سعادة الآخرة ونعيمها المقيم؟! ، إن كان الأمر كذلك فقد استبدلتم الذي هو أدنى بالذي هو خير ، فما متاع

٨٨٤

الحياة الدنيا المشوب بالهم والحزن في جانب الآخرة ونعيمها الدائم والرضوان الإلهى العظيم فيها إلا شيء قليل لا يعبأ به ، ولقد شبه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نعيم الدنيا ونعيم الآخرة في قلته وسرعته بمن وضع إصبعه في البحر ثم أخرجها منه قال : «فانظر بم ترجع»؟ .. إن لم تنفروا خفافا وثقالا كل على قدر حاله وإمكاناته يعذبكم الله عذابا أليما موجعا ، ويستبدل قوما غيركم يطيعون الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويحبهم الله ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم. ومن هم؟ الله أعلم بهم ، على أن هذا تهديد فقط وإلا فالشرط وجوابه لم يتحققا.

ولا تضروه أيها المتثاقلون في شيء أصلا ، إذ لا يبلغ أحد ضره ولا نفعه ؛ كيف ذلك؟ وهو القاهر فوق عباده!!! والله على كل شيء قدير ، وهو الغنى عن نصرتكم لنبيه ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

إن لم تنصروه ، ولم تطيعوه للجهاد في سبيل الله فسينصره الله بقدرته وتأييده كما نصره وقت أن أجمع المشركون على الفتك به أو إخراجه من بلده أو حبسه (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) [سورة الأنفال آية ٣٠].

نصره الله في ذلك الوقت ولم يكن معه جيش ولا أنصار بل حال كونه ثانى اثنين وواحدا منهما إذ هما في الغار المعروف في جبل ثور ، إذ يقول لصاحبه أبى بكر حين فزع لما رأى المشركين وقال : يا رسول الله ، والله لو نظر أحدهم تحت قدمه لأبصرنا. يقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا بالنصر والمعونة والولاية والرعاية. وفي رواية : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟

فأنزل الله سكينته على أبى بكر حتى هدأ من روعه وطمأن نفسه أما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد كان ثابت الجنان هادئ النفس واثقا بالنصر ثقة لا حد لها ، ولم يخف ولم يحزن أبدا ، وأيد الله نبيه بجنود من عنده لم تروها ، فالله معه وناصره ، وحافظه ، وكافيه شر الكفار والمستهزئين ، وقد أمده الله بالجنود من الملائكة المسومين في بدر وحنين والأحزاب بما لا يدع مجالا للشك (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) [سورة غافر آية ٥١].

وجعل الله كلمة الكافرين ودولتهم هي السفلى ، وكلمة الله ودولته هي العليا ، والله

٨٨٥

عزيز وغالب لا يغلبه أحد ، حكيم يضع الأمور في نصابها ، وقد نصر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعزته ، وأظهر دينه على الأديان كلها بحكمته (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [سورة التوبة آية ٣٣].

التجنيد العام

انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١)

المعنى :

بعد أن عاتب المتخلفين عن النفر أمر به أمرا عاما شاملا فقال : انفروا خفافا وثقالا ، والخفة والثقل تكون في الأجسام وأحوالها من صحة ومرض ، ونحافة وسمن ، وشباب وكبر ، وغنى وفقر ، وقلة وكثرة ، ووجود ظهر وعدم وجوده ... إلخ.

فإذا أعلن النفير العام وجب تجنيد القوى كلها في البلد للحرب ، ووجب الحرب على الكل ما عدا المعذورين عذرا شرعيا ، وقد نبه القرآن على نوع العذر حيث قال : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ) [سورة التوبة آية ٩١].

انفروا في سبيل الله وجاهدوا بالأموال والأنفس ما استطعتم إلى ذلك سبيلا ، فمن قدر على الجهاد بنفسه وماله وجب عليه ذلك ، ومن قدر على الجهاد بنفسه فقط أو ماله فقط وجب عليه.

وقد كان الصحابة يجاهدون بالنفس والمال ، وها هو ذا عثمان يجهز جيش العسرة ، وبعض الصحابة فعلوا مثله.

والأمم الآن ترصد الأموال الواسعة للدفاع والحرب حتى تأمن جارتها ، ذلك خير لكم وأجدى إن كنتم تعلمون حقيقة هذه الخيرية ، وقد أثبتت التجارب صدق هذه النظرية.

٨٨٦

هذا التجنيد العام واجب عند ظرفه الخاص به وفي الأحوال العادية فالواجب امتثال أمر القائد العام.

المنافقون وما صدر منهم

لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٤٢) عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (٤٣) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُد لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى

٨٨٧

جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ (٤٨) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٤٩) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (٥٠) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (٥٢)

المفردات :

(عَرَضاً) : وهو ما يعرض من منافع الدنيا ، أى : غنيمة قريبة. (سَفَراً قاصِداً) المراد : سهلا لا عناء فيه ولا مشقة. (الشُّقَّةُ) : هي المسافة البعيدة التي لا تقطع إلا بمشقة. (عَفَا اللهُ عَنْكَ) العفو : التجاوز عن الذنب أو التقصير وترك المؤاخذة عليه ، وقد يستعمل بمعنى الدعاء. (انْبِعاثَهُمْ) : خروجهم معك بنشاط وهمة.

(فَثَبَّطَهُمْ) التثبيط : التعويق عن الأمر والحبس عنه. (خَبالاً) والمراد به : الفساد والنميمة وإيقاع الاختلاف والأراجيف. (خِلالَكُمْ) الخلل : الفرجة بينكم. (قَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ) : تقلب الأمور : صرفها وإجالة الرأى والتفكير العميق فيها.

(سَقَطُوا) : وقعوا. (تَرَبَّصُونَ بِنا) التربص : الانتظار. (الْحُسْنَيَيْنِ) : مثنى الحسنى ، التي هي تأنيث الأحسن ، والمراد بها : الغنيمة ، أو الشهادة.

٨٨٨

كان دأب المؤمنين إذا دعوا إلى الجهاد لبوا مسرعين نشطين لأنهم ينتظرون إحدى الحسنيين : إما الشهادة والأجر ، أو الغنيمة والنصر.

ولما دعاهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى غزوة تبوك تثاقل بعضهم لأسباب رآها ، هذا التثاقل تختلف درجاته تبعا لقوة الإيمان وشدة العذر ، وقد نفرت الأكثرية طائعة وتخلفت قلة عاجزة معذورة. أما المنافقون فقد كبر عليهم الأمر ، وشق عليهم الخطب. كيف يقاتلون في تبوك أكبر دولة في العالم؟! فطفقوا ينتحلون الأعذار ، ويستأذنون في القعود ، والتخلف فيأذن لهم الرسول قبل بيان حالهم والوقوف على أسرارهم.

فكانت هذه الآيات الفاضحة للمنافقين ، الكاشفة عن أخلاقهم وطبائعهم.

وروى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للجند بن قيس لما أراد الخروج إلى تبوك : «يا جدّ هل لك في جلاد بنى الأصفر تتخذ منهم سرارى ووصفاء؟» فقال الجد : قد عرف قومي أنى مغرم بالنساء وإنى أخشى إن رأيت بنى الأصفر ألا أصبر عنهن ، فلا تفتني وأذن لي في القعود وأعينك بمالي ، فأعرض عنه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : قد أذنت لك. فنزلت هذه الآية.

المعنى :

لو كان ما دعوا إليه ـ هؤلاء المنافقون ـ عرضا قريبا ، ومغنما سهل المأخذ قريب المنال ، ولو كان سفرا ذا قصد وسهولة ليس فيه مشقة ولا تعب ، لو كان هذا أو ذاك لاتبعوك وأجابوك إلى طلبك ، ولكن بعدت عليهم الشقة التي دعوا إليها وهي غزوة تبوك ، وكبر عليهم التعرض لقتال الروم في ملكهم وعقر دراهم ، والروم أكبر دولة حينئذ ، نعم كبر عليهم ذلك فتخلفوا جبنا وميلا للراحة والدعة ، وسيحلفون بعد رجوعكم إليهم قائلين : لو استطعنا لخرجنا معكم مجاهدين غازين ، فإننا لم نتخلف إلا لعدم استطاعة الغزو وفقد المال والظهر ، وما علموا أنهم يهلكون أنفسهم باليمين الكاذبة «اليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع» (حديث شريف) ، والله يعلم إنهم لكاذبون ، وسيجازيهم على ذلك كله ..

روى أن ناسا قالوا لبعضهم : استأذنوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن أذن لكم فاقعدوا وإن لم يأذن لكم فاقعدوا.

٨٨٩

والذي حصل من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه أذن لهم لما أقسموا كاذبين : إنهم لا يستطيعون الجهاد ، فجاء قوله تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ)؟ .. صريحا في أنه ـ سبحانه وتعالى ـ عفا عنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ وما وقع منه عند إذنه للمتخلفين المنافقين ، فقد ترك الأولى والأفضل ، وكان الأحسن الانتظار والتأنى حتى تنكشف أمورهم وتظهر للعيان ، كأنه قيل : لم سارعت إلى الإذن لهم؟ وهلا انتظرت حتى ينجلي الأمر فإن هذا هو الحزم والحكمة!! على أن الله كره انبعاثهم ، وكان في خروجهم خطر على المسلمين ، وفي تصدير فاتحة الخطاب ببشارة العفو دون ما يوهم العقاب لطف الرب اللطيف بالحبيب المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك بخلاف مفاداة الأسرى فإن الخطأ فيها كان كثيرا ، وكذا كان التعبير هناك صارما (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى ..) [سورة الأنفال آية ٦٧].

ليس من شأن المؤمنين بالله الذي كتب عليهم الجهاد ، وباليوم الآخر الذي يكون فيه الأجر الكامل على الأعمال ، أن يستأذنوك في أمر الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس بل يقدمون عليه عند وجوبه بهمة ونشاط ، فهل يعقل أن يكون من شأنهم أن يستأذنوك في التخلف عنه بعد النفير العام له؟ .. كلا .. نعم لا يستأذنك المؤمنون في القعود عن الجهاد أبدا ما داموا مستطيعين ذلك ، والله عليم بالمتقين وسيجازيهم على ذلك أحسن الجزاء ، إنما يستأذنك المنافقون الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر في القعود عن الجهاد منتحلين الأعذار ، مقسمين أحرج الأيمان ، والله يعلم إنهم لكاذبون ، وهذا يقتضى عدم الإذن لهم بسرعة.

فهم قد ارتابت قلوبهم ، وملئت شكّا ونفاقا ، وهم في ريبهم يترددون ، يحسبون كل صيحة عليهم ، هم العدو قاتلهم الله أنى يؤفكون؟!

ولو أرادوا الخروج معك للقتال لأعدوا له عدته من الزاد والراحلة ، وقد كانوا مستطيعين ذلك. ولكن كره الله انبعاثهم وخروجهم مع المؤمنين ؛ لأنهم لو خرجوا ما فعلوا إلا تفريق كلمتهم ، وإذاعة قالة السوء بينهم ، فثبطهم بما أحدث في قلوبهم من الخواطر ، وما أذاع في جوانبهم من المخاوف فلم يعدوا للخروج عدته وكان في متناول أيديهم ، وقيل لهم من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اقعدوا مع القاعدين من المرضى والصبيان والنساء والضعفاء.

٨٩٠

ثم أراد القرآن أن يطمئن المؤمنين ويبين أن عدم خروجهم مصلحة للجيش فقال ما معناه : لو خرجوا منبثين فيكم ، وقاتلوا معكم ، ما زادوكم إلا خبالا وضعفا ، واضطرابا في الرأى وفسادا في العمل ، فلن يأتى منهم خير أبدا بل سيأتى شر ، وإذا خرجوا معكم فسيسرعون في الدخول بينكم بالنميمة وتفريق الكلمة حالة كونهم يبغون الفتنة ، وإذاعة السوء ، والتخويف من الأعداء ، وتثبيط الهمة وهذا كله خطر عليكم وأى خطر كهذا؟!!

ولا تنسوا أن فيكم قوما سماعين لهم من ضعفاء العقل والإيمان يسمعون لهم ويصدقونهم في قولهم ، والله يعلم أن قولهم إفك ، وحديثهم كذب ، والله عليم بالظالمين ، ومجازيهم على عملهم.

تالله لقد ابتغوا الفتنة من قبل لكم ، ألا تذكروا موقف عبد الله ابن أبىّ زعيم المنافقين في غزوة أحد حينما توقف عن السير للقتال في مكان يسمى بالشوط وانحاز له ثلث الجيش ، ولقد همت طائفتان منكم أن تفشلا وترجعا عن القتال ، ولكن عصمهم الله من الذلة (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا) [سورة آل عمران آية ١٢٢] ، وتقدم تفصيل ذلك في الجزء الرابع فخروجهم معكم خطر عليكم ، والله صرفهم عنكم.

لقد ابتغوا الفتنة لكم قديما ، وقلبوا لكم الأمور ، وفكروا كثيرا في القضاء على دعوتكم ولكن : أطنين أجنحة الذباب يضير؟!! نعم لم يفعلوا شيئا فالله معكم ، وقد جاء الحق بالنصر الموعود ، وظهر أمر الله بالتنكيل باليهود ، وبطل الشرك بفتح مكة ، ودخول الناس في دين الله أفواجا ، كل ذلك وهم له كارهون ..!!

يا عجبا لهؤلاء المنافقين ينتحلون الأعذار ، ويظهرون التمسك بالفضيلة ، وما علموا أن الله يعلم السر وأخفى ، ويعلم الغيب والشهادة!! وقد كانت نفوسهم منطوية على نفاق الله أعلم به. انظر إلى بعضهم يقول للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ائذن لي في القعود عن الحرب وسأعينك بالمال فإنى أخاف فتنة نساء الروم فأذن لي ولا تفتنّى ، فيرد الله عليهم مكذبا دعواهم كاشفا حقيقتهم : ألا في الفتنة سقطوا ، وقد وقعوا فيها كما يقع الإنسان في البئر ، وانظر إلى بدء الجملة بكلمة (ألا) للتنبيه وافتتاح الكلام ؛ وأنهم خبوا في الفتنة ووضعوا!!! وانظر إليهم وهم يتربصون بكم الدوائر ، ويتمنون لكم كل شر وخيبة

٨٩١

ويتألمون إذا أصابتكم حسنة في الدنيا من نصر أو نعمة. ويستاءون إساءة بليغة من وصول الخير لكم ، وإن تصبك يا محمد أنت وأصحابك مصيبة من هزيمة أو شر ـ في الغالب سببها ـ يقولوا فرحين مسرورين : قد أخذنا أمرنا من قبل وأعددنا أنفسنا لها ؛ إذ نحن متوقعون هذه الهزيمة منتظرون لها ، لذلك تراهم يعتذرون وينافقون ، ألا لعنة الله عليهم أجمعين.

قل لهم يا محمد : لن يصيبنا أبدا إلا ما كتبه الله لنا ، وما كتب لنا فهو الخير والدواء وإن كان مرّا فعلى رسلكم أيها الناس فنحن راضون صابرون مطمئنون لقضاء الله وقدره فهذا هو الإيمان.

لهذا على الله وحده فليتوكل المؤمنون ، ومن يتوكل على الله فهو حسبه ، والله كافيه وحافظه ، وهو نعم المولى ونعم النصير. قل لهم : هل تتربصون بنا إلا إحدى الحسنيين من الغنيمة والنصر أو الشهادة والأجر ؛ فإن عشنا عشنا أعزة مؤمنين ، وإن متنا متنا شهداء مأجورين. أما نحن فنتربص بكم الدوائر التي تدور عليكم فيصيبكم الله بعذاب من عنده ، وتلك سنته مع من يخالف أمره ويبالغ في عصيان رسله ، أو يصيبكم الله بعذاب الهزيمة والذل على أيدينا. فتربصوا كما تشاءون وإنا معكم متربصون ؛ فإذا لقى كل منا ما يتربصه لا تشاهدون إلا ما يسرنا ، ولا نشاهد إلا ما يسوءكم.

أنفقوا طوعا وكرها

قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (٥٣) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (٥٤)

٨٩٢

فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٥٥) وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ (٥٩)

المفردات :

(وَتَزْهَقَ) زهوق النفس : خروجها من الأجساد بصعوبة عند الموت.

(يَفْرَقُونَ) من الفرق وهو الخوف الشديد الذي يفرق بين القلب وإدراكه.

(مَلْجَأً) : المكان الذي يلتجئ إليه الخائف ليعتصم به ، من حصن أو قلعة.

(مَغاراتٍ) : جمع مغارة ، وهي الغار في الجبل ، سمى بذلك لأنه يستتر فيها.

(مُدَّخَلاً) : مسلكا للدخول فيه بمشقة. (يَجْمَحُونَ) الجموح : السرعة التي لا تردها شيء. (يَلْمِزُكَ) اللمز : العيب مطلقا ، والهمز : العيب في الغيبة.

المعنى :

يا أيها الرسول قل لهؤلاء المنافقين : إن تنفقوا ما شئتم من الأموال في الجهاد أو غيره مما أمر الله به حال الطوع لتتقوا به المسلمين وصولتهم ، أو تنفقوا في حال الكره خوف

٨٩٣

العقوبة فلن يتقبل الله منكم في الحالين ، ما دمتم تشكون فيما جاءكم به الرسول من أمر الدين والجزاء عليه في الآخرة ، إنكم كنتم قوما فاسقين ، وهذا تعليل لعدم القبول منهم في الحالين : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [سورة المائدة آية ٢٧].

وهذا بيان أوضح لهذا التعليل ـ وما منع قبول نفقاتهم منهم شيء من الأشياء إلا كفرهم بالله وبصفاته وكفرهم برسوله وما يجب أن يكون له ، وأنهم لا يأتون الصلاة التي هي عماد الدين ، إلا وهم كسالى ولا ينفقون نفقة صغيرة أو كبيرة إلا وهم كارهون كراهة دائمة لازمة لهم ؛ فإن أنفقوا من غير أمر ولا إلزام من الرسول ، بل طوع أنفسهم فهم أيضا كارهون كراهة قلبية لإنفاقهم. ومع الإلزام من باب أولى كارهون ، ولقد صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما الأعمال بالنيات».

وإذا كان هذا مآل أموالهم في الآخرة لا يقبل منهم صرف ولا عدل فهم لا ينتفعون بها فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم ولا تسر من حالهم ؛ فأموالهم في الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها حيث يجمعونها بالكدح والنصب ، وما يلزم ذلك من هم وألم ، ثم هم ينفقونها كارهين تذهب أنفسهم حسرات عليها كأنهم يلقونها في البحر ، بل أشد لأنها ستنفق في تقوية المسلمين ؛ وفي الآخرة لهم عذاب شديد ، فهم يموتون على الكفر الذي يحبط العمل الصالح ، وستخرج أرواحهم بشدة وعنف وصعوبة وألم ..

ألست معى في أنهم خسروا الدنيا والآخرة؟!!

المعنى : هكذا خلق المنافق يدفعه الخوف ، ويملى عليه الفرق فيحلف كاذبا إنه منك في الدين ومعك في الملة والطريق ؛ وما هو منك في شيء أبدا : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا ، وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) [البقرة ١٤].

وما دفعهم إلى هذا إلا الخوف الذي ملك قلوبهم ، والفرق الذي شاع في نفوسهم حتى إنهم لشدة كراهيتهم للقتال معكم وشدة رعبهم من ظهور نفاقهم لكم يتمنون الفرار منكم والمعيشة بعيدة عنكم بحيث لو يجدون ملجأ يلجئون إليه ، أو مغارة يغورون فيها أو مدخلا يندسون فيه ، لولوا إليه وهم مسرعون لا يلوون على شيء ، سرعة الفرس الجموح التي لا يردها لجام ولا قائد.

٨٩٤

وبعضهم يريد أن يشوه جمال الإسلام. ويطعن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيأتى إلى ما يظنه أنه نقطة ضعف كتقسيم الغنائم والصدقات ، وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرى إعطاء المؤلفة قلوبهم كما نص القرآن ، فيقولوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أعدل والله ما هذا بعدل. وهذا كله مما يؤثر عن ضعاف القلوب والإيمان من المسلمين ، فيرد الله عليهم بقوله : ومنهم من يلمزك في تفريق الصدقات ، ويعيب عليك طريقتك فيها ، فإن أعطوا منها رضوا واطمأنوا ، وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ويتألمون ، فليس نقدهم بريئا ، ولكن لغرض حقير ، ولو أنهم رضوا بما أعطاهم الله من الغنائم ، وما قسمه لهم رسوله ، وقالوا : حسبنا الله ، وكافينا في كل حال فهو الرزاق ذو القوة المتين ، وسيؤتينا الله من فضله في المستقبل ورسوله زيادة على ما أعطانا ، إنا إلى الله راغبون لا نرغب إلى غيره أبدا ، فبيده ملكوت السموات والأرض ، وهو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، وهو العليم بخلقه الحكيم في صنعه سبحانه وتعالى ...

إلى من تعطى الصدقة الواجبة

إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠)

من طبيعة الإنسان حب المال ، وقد يكون الغنى أشد حبا والطمع فيه شديد ، وضعيف الإيمان دائما لا يرضى بما يعطى ... وقد كان المنافقون وضعفاء الإيمان لا يرضون بقسمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ) على أن للمال سطوة وشهوة قد تجمح ببعض الأغنياء وأولياء الأمور فيميلون عن طريق الحق في صرف الزكاة ، لذلك بيّن الله في القرآن مصرف الصدقة الواجبة.

والآية مناسبة لما قبلها ، قاضية على أطماعهم ، مبينة حقيقة ما صنع الرسول معهم ، وأنهم مخطئون في اعتراضهم.

٨٩٥

المعنى :

إنما الصدقات للفقراء والمساكين ولغيرهم من الأصناف الثمانية لا تتعداهم إلى غيرهم أبدا ، والمراد إنما هي لهم لا لغيرهم ؛ وقد فرضها الله لهم فريضة منه ، والله عليم بخلقه حكيم في فعله.

وها هم أولاء الأصناف :

١ ـ الفقير : المقابل للغنى ، والقرآن دائما يذكرهما متقابلين : (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) (١) وهو المحتاج.

٢ ـ المسكين عديم الحركة من حاجته وضعفه ، فالفقر والمسكنة يلتقيان في الحاجة ، وهل هما صنفان مستقلان أم صنف واحد له؟ وهل هما في درجة واحدة أم أحدهما أشد من الآخر؟ أقوال كثيرة.

٣ ـ والعاملين عليها كالكتبة والحراس والصيارفة والمشرفين على الجمع.

٤ ـ المؤلفة قلوبهم ، وهو صنف من الناس كان يعطيهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر من باب تأليف القلوب وجمعها على الإسلام لضعف في إيمانهم أو حكمة في عطائهم ، وهذا حق للإمام يفعل ما فيه المصلحة.

٥ ـ وفي الرقاب ، والمراد الصرف للإعانة في فك الرقاب وعتقها من ذل الرق وبؤس الأسر ، ويدخل في ذلك المال المدفوع لفك الأمة وعتقها من ذل الاستعمار ، وكيد الدخيل الأجنبى.

٦ ـ والغارمين ، وهم من عليهم غرامة مالية أثقلت كواهلهم كديون عليهم استدانوها فأغرقت مالهم ، أو هم قوم غرموا في سبيل صلح بين الناس ، أو جمع شمل المسلمين ... إلخ.

٧ ـ وفي سبيل الله ، والمراد به هنا : مصالح المسلمين العامة التي بها قوام أمر دينهم ودولتهم من كل خير يعود على المجموع ، وهذا يشمل تسهيل العمل لكل عاطل ، وعلاج كل مريض ، وتعليم كل جاهل ، وبالأخص التعليم الديني.

__________________

(١) سورة النساء آية ٦.

٨٩٦

٨ ـ وابن السبيل ، وهو المنقطع عن بلده في سفر لم يتيسر له شيء من المال ، فيعطى حتى يصل إلى ماله.

والظاهر ـ والله أعلم ـ أن السر في التعبير باللام المفيدة للملك في أصناف خاصة هم الفقراء ، والمساكين ، والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم ، والغارمين ، وابن السبيل ، وبقي في صنفين هما : في الرقاب ، وفي سبيل الله (اللام) أصحابها أشخاص يملكون و (في) أصحابها ليسوا أشخاصا بل المراد أوصافا ومصالح عامة للمسلمين.

والترتيب في الآية ملحوظ ومقصود.

أذى المنافقين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والرد عليهم

وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦١) يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (٦٣) يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (٦٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ

٨٩٧

لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (٦٥) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٦٦) الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٦٧) وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٦٨) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٩) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠)

٨٩٨

المفردات :

(يُؤْذُونَ) الأذى : ما يؤلم الإنسان في نفسه أو ماله أو بدنه قليلا كان أو كثيرا.

(أُذُنٌ) : هذا من باب تسمية الإنسان باسم جزء منه للمبالغة في وصفه بوظيفته ، كما قالوا للجاسوس : عين. (يُحادِدِ اللهَ) المحادة كالمعاداة مأخوذة من الحد ، أى : طرف الشيء ، وهكذا كل عدو يكون في ناحية وشق بالنسبة لخصمه وعدوه.

(يَحْذَرُ) الحذر : الخوف في المستقبل من شيء خاص. (مُخْرِجٌ) الإخراج : يشمل إظهار مكنون الصدور وإخراج الحب من الأرض ، والنفي من الوطن.

(نَخُوضُ) الخوض : خاص بالعمل الباطل لا الحق لأنه مأخوذ من الخوض في البحر أو الوحل ، والمراد : الإكثار من العمل الذي لا ينفع. (بِخَلاقِهِمْ) الخلاق : النصيب. (حَبِطَتْ) : بطلت. (الْمُؤْتَفِكاتِ) : جمع مؤتفكة ، من الائتفاك : وهو الانقلاب والخسف ، والمراد أصحاب قرى قوم لوط.

هذا لون آخر من ألوان نفاقهم ذكر مناسبا لذكر لمزهم عليه ونقدهم له في تقسيم الغنائم والصدقات.

وكذا بيان عام لأصل النفاق مع ذكر جزائه في الدنيا والآخرة وضرب الأمثال بحالهم وحال من تقدمهم على أن المنافقين في العصر الإسلامى الأول ضربوا الرقم القياسي في النفاق.

المعنى :

وبعض هؤلاء المنافقين الذين يؤذون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويصفونه بصفات تتنافى مع نبوته ورسالته ، وشهادة الحق له بأنه على خلق عظيم (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [سورة القلم آية ٤] وهكذا عمل المنافقين دائما خارج عن حدود العقل والواقع.

يقولون في شأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هو أذن يسمع كل ما يقال له ، ويصدقه ، ويرمون إلى أنه لا يميز بين هذا وذاك ، كبرت كلمة تخرج من أفواههم ، وإنما هو النبي الكريم صاحب الخلق الكامل والإحساس العالي لا يجابه أحدا بما يؤلمه ، ولا ينقد أحدا بما يؤذيه ، بل يقول دائما : ما بال قوم؟ ما بال رجال؟ وقد كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعامل المنافقين

٨٩٩

بظاهر حالهم ، ويجرى عليهم أحكام الشريعة وآدابها التي يعامل بها الناس ، ولقد رد الله عليهم ولقنه الجواب : قل : هو أذن خير لا أذن شر كما تعلمون!! فهو لا يقبل مما يسمعه إلا الخير وما وافق الشرع ، ولا يسمع الباطل ، ولا الغيبة ولا النميمة ولا الجدل ولا المراء.

ثم فسر المراد بأذن خير .. بأنه يؤمن بالله وما يوحيه إليه من أخبار الغيب وأسرار السماء ؛ وبما يوحى إليه من أخباركم وأخبار غيركم : ويؤمن للمؤمنين إيمان جنوح وميل وائتمان للمهاجرين والأنصار وصادقي الإيمان ، أما المنافقون فلا يميل لهم ولا يصدق خبرهم ؛ وفي هذا تهديد لهم بأن الله ينبئه بأسرارهم وأخبارهم (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ) [سورة التوبة آية ٦٤].

وهم رحمة للمؤمنين فقد هداهم إلى سعادة الدنيا والآخرة ، وفي قوله : (مِنْكُمْ) إشارة إلى أن منهم من يدعى الإيمان وهو كاذب فيه ، وإشارة إلى أنه عالم أن فيهم المنافقين ، ولكن لحسن خلقه يعاملهم بالحسنى حتى يؤذن بغيرها.

والذين يؤذون رسول الله في كل ما يتعلق بالرسالة كوصفه بالسحر والكذب ، وعدم الفطنة ... إلخ لهم عذاب أليم ، إذ هم كفروا بهذا ، أما الإيذاء الخفيف فيما يتعلق بشخصه فحرام فقط مع أنه لا يصدر من مؤمن أبدا ، وإيذاء أهل بيته حرام كذلك.

إن من عادة المنافقين ، والكاذبين ، ومن يرتكبون جرما أن يشعروا بحرج موقفهم ، وكأن الناس جميعا مطلعون عليهم عالمون بأحوالهم ، ولذلك تراهم يكثرون من الحلف حتى تبتعد عنهم الشبهة المحيطة بهم ، وقد كان المنافقون كثيرا ما يحلفون ، ويعتذرون والله يعلم إنهم لكاذبون!! يحلفون لكم أيها المؤمنون أنهم براء مما نسب إليهم قولا وفعلا ليرضوكم فتطمئنوا لهم وتثقوا فيهم ، وقد فهموا أنهم بهذا يضمونكم لصفوفهم.

فيرد الله عليهم ويكشف سترهم حيث يقول : يحلفون لكم ليرضوكم والحال أن الله ورسوله أحق بالإرضاء من المؤمنين ، وإرضاء الله ورسوله بالإيمان الصادق والعمل الكامل ، والبعد عن النفاق ، وقد أفرد الضمير (أَنْ يُرْضُوهُ) ليعلموا أن رضاء الرسول رضاء الله (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) هذا إن كانوا مؤمنين حقا إذ علامة الإيمان ثقة بالله وحب له ولرسوله ، والعمل على رضاهما بامتثال الأمر واجتناب النهى : «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما

٩٠٠