التفسير الواضح - ج ١

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ١

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٢

وهم بدءوكم بالقتال أولا ، وقد قيل : الشر بالشر والبادئ أظلم ، وقد كان منهم كل ذلك إذ نقضت قريش العهد وأعانت بنى بكر على خزاعة ، وقتلوا منهم كثيرا حتى استنجدوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد أخرجوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بلدة مكة وأخرجوا غيره من المهاجرين ، وبدءوا بالقتال يوم بدر.

ثم قال هذه الحجج : أتخشونهم؟ وتتركون قتالهم خشية وخوفا إن كانت الخشية هي المانعة فالله أحق بها إن كنتم مؤمنين ، إذ شرط الإيمان الخوف من الله وحده وخشيته دون سواه.

وهذا الاستفهام يفيد الإنكار والتوبيخ ولكن للمنافقين ولمن كانوا يعظمون أمر القتال ويرون أنه لا يليق برحمة الإسلام وعطفه على الناس .. ثم بعد هذا البيان الكامل أمرهم بالقتال فقال : قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ، فالله هو الفاعل حقيقة وأنتم باشرتم العمل في الظاهر (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) إن تقاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ، ويخزهم بالقتل والأسر والهزيمة ، وينصركم عليهم نصرا مؤزرا ما دمتم تنصرون الله بطاعته ، ويشف صدور قوم مؤمنين كانت قد ملئت غيظا وألما من أفعال المشركين بهم في مكة ، وقيل : هم خزاعة شفى الله صدرها بحرب المسلمين لقريش وأحلافهم ، ويذهب غيظ قلوبهم بما كابدوا من المكاره والمكايد.

ولقد أنجز الله وعده ، وصدق عبده ونصر جنده وهزم الأحزاب وحده ، وهذا تحريض للقتال بأسلوب بليغ مع تبليغ أن النصر للمسلمين.

ويتوب الله بعد ذلك على من يشاء من عباده حسب مشيئته المبنية على الحكم البالغة ، ولا غرابة فالله عليم بخلقه لا تخفى عليه خافية ، حكيم لا يفعل إلا ما فيه الخير والحكمة لعباده ...

اختيار المسلمين وتمحيصهم

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٦)

٨٦١

المفردات :

(وَلِيجَةً) المراد : بطانة وصاحب سر ، مأخوذ من الولوج وهو الدخول ، وصاحبك يدخل في محيط أسرارك.

المعنى :

هذا كلام جديد غير السابق ، فيه بيان حال جماعة المسلمين شأنهم في الجهاد الحق الذي يتوقف عليه تمحيصهم من ضعف الإيمان والهوادة فيه ، بل أحسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم بالأموال والأنفس؟ ونفى علم الله دليل على عدم الوقوع والحصول ضرورة أن الله يعلم كل ما يحصل في الكون ، جاهدوا ولم يتخذوا من الكفار أولياء من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين ، لم يتخذوا وليجة وبطانة منهم ، والله خبير بما تعملون فمجازيكم عليه ، ومثل هذه الآية آية البقرة (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ) والخلاصة : أنه تعالى شرع لعباده الجهاد وبين أن له فيه حكمة ، وهي اختبار عبيده ليظهر من يطيعه ممن يعصيه وهو العالم بما كان وما سيكون.

عمارة المسجد للمسلمين لا للمشركين

ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨)

٨٦٢

المفردات :

(أَنْ يَعْمُرُوا) عمارة المسجد في اللغة : تشمل لزومه والإقامة فيه وعبادة الله فيه ، وبنيانه وترميمه وخدمته والإرعاء عليه ، والعناية به. (مَساجِدَ) : جمع مسجد ، وهو مكان السجود ، ثم استعمل في البيوت الخاصة بعبادة الله وحده. والمراد : المسجد الحرام.

روى عن ابن عباس ـ رضى الله عنه ـ أنه لما أسر العباس يوم بدر عيره المسلمون بالكفر وقطيعة الرحم ، وأغلظ علىّ في القول ، فقال العباس : ما لكم تذكرون مساوينا وتنسون محاسننا؟ فقال علىّ : ألكم محاسن؟ فقال : نعم ، إننا نعمر المسجد الحرام ، ونحجب الكعبة ، ونسقى الحاج ، فأنزل الله ـ عزوجل ـ ردا على العباس هذه الآيات ، والمراد أنها تتضمن الرد على العباس وأمثاله لا أنها وقعت عقب قوله ، وهي مناسبة لنقض عهودهم ، وعدم حجهم البيت ومنعهم منه إذا أنها تفيد منع خدمتهم وعمارتهم للمسجد الحرام أيضا.

المعنى :

ما كان ينبغي ولا يصح للمشركين أبدا أن يعمروا مسجد الله الأعظم ، وبيته المحرم بالإقامة فيه للعبادة أو للخدمة والولاية عليه ، ولا أن يزوروه حجاجا أو معتمرين ، وهذا الحكم يشمل كل المساجد ما كان لهم ذلك في حال كونهم شاهدين على أنفسهم بالكفر ، فإن هذا جمع بين الضدين ؛ فإن عمارة المسجد الحسية أو المعنوية بالعبادة لا تصح إلا من المسلم الموحد بالله الذي يعبد الله وحده ، والكفر بالله والإشراك به يتنافى مع عبادة الله وحده والقيام على مساجد الله خصوصا مسجد الله الحرام. والخلاصة أنهم جمعوا بين أمرين متنافيين عمارة بيت الله مع الكفر بالله ، وشهادتهم بالكفر ثابتة قولا وعملا فهم يقولون : لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك ، وأما عملهم فقد عبدوا الأصنام واستقسموا بالأزلام ، فهذه شهادتهم بالكفر.

أولئك المشركون البعيدون في الضلال حبطت أعمالهم وبطلت ، وهم في النار خالدون وماكثون : (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ

٨٦٣

فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) (١) إنما يعمر مساجد الله وخصوصا المسجد الحرام بالرعاية والعناية والولاية والخدمة والعبادة إنما يعمره من آمن بالله إيمانا كاملا صادقا وآمن باليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب ، وكان عمله الظاهر موافقا لعقيدته فيقيم الصلاة ويؤديها كاملة الأركان والشروط ويؤدى الزكاة لأربابها وأكثرهم يقيمون بالمساجد ، على أن في مال الزكاة متسعا لتعمير المساجد تعميرا حسيا ، والذين يخشون الله وحده هم أولى الناس بذلك.

المعنى :

قصر تعمير المساجد على المؤمنين بالله إيمانا كاملا شاملا والمقيمين الصلاة إقامة كاملة مع إيتاء الزكاة ، والخشية من الله وحده دون غيره مما لا ينفع ولا يضر ، والمراد : الخشية الدينية الغريزية كالخوف من الحيوان المؤذى مثلا.

ونحن نرى الآن أنه لا يعمر بيوت الله إلا هؤلاء فقط.

فأولئك الموصوفون بهذه الصفات الجليلة هم المهتدون إلى الخير دائما ، المستحقون على أعمالهم عظيم الأجر ، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ وفي تصدير جزائهم بكلمة (عسى) إشارة إلى قطع أطماع الكفار ، أى : إذا كان هؤلاء العاملون المقربون جزاؤهم بين (لعل وعسى) فما بال الكفار!! والخير للمؤمن أن يكون بين الرجاء الذي يحمله على العمل وبين الخوف الذي يبعده عن التقصير ويغلب الخوف على الرجاء في حال الصحة والعكس في حال المرض الشديد ، وهذه الصفات الجامعة لشعب الإيمان والإسلام تقتضي حتما الإيمان بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنها لا تعمل على الوجه الكامل إلا بهديه وإرشاده صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فضل الإيمان والجهاد

أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ

__________________

(١) سورة الكهف آية ١٠٥.

٨٦٤

وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢)

المفردات :

(سِقايَةَ) في اللغة : هي الموضع الذي يسقى فيه الحاج ، أو الإناء الذي يسقى به ؛ والمراد : ما كانت قريش تسقيه الحجاج من الزبيب المنبوذ في الماء ، وكان يلي هذا ويشرف عليه العباس بن عبد المطلب في الجاهلية والإسلام ... روى عن النعمان بن يشير ما معناه قال : كنت عند منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال رجل : ما أبالى ألا أعمل لله عملا بعد الإسلام إلا أن أسقى الحاج ، وقال آخر : بل عمارة المسجد الحرام ، وقال آخر : بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم ، فزجرهم عمر ودخل يستفتى رسول الله فقرأ عليه هذه الآية (١) ، وبهذا الحديث يعلم أن الخطاب في الآية للمؤمنين ، وقيل : إن الخطاب فيها للمشركين ؛ وهي تكملة للآيتين السابقتين في بيان كون الحق في عمارة المسجد الحرام للمسلمين على كل حال ، وبيان أن الجهاد في سبيل الله مع الإيمان أعظم درجة عند الله.

المعنى :

أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيله في الفضيلة والدرجة؟ وهذا استفهام إنكارى لمن يدعى تشبيه هذا بذاك.

__________________

(١) أخرجه عبد الرزاق.

٨٦٥

وهل هذا خطاب للمشركين حسب السياق؟ أم هو خطاب للمؤمنين حسب حديث النعمان بشير ـ رضى الله عنه ـ إذا كان هذا حال السقاية والعمارة مع المؤمنين فما بال الكفار الذي يفتخرون بهما؟!!

نعم لا يستوون عند الله أبدا ، وإن كان في كل خير ، إلا أن الإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيل الله مع بذل النفس والنفيس أعلى درجة وأعظم مكانة عند الله ؛ والله لا يهدى القوم الظالمين إلى معرفة جهة الفضل ، وموضع الخير ، إذ قد طمس الله على قلوبهم.

الذين آمنوا بالله ورسوله وهاجروا ، وجاهدوا في سبيل الله ولإعلاء كلمته باذلين النفس والمال هم أعظم درجة ، وأعلى مكانة ممن لم يتصف بهذه الصفات كائنا من كان ، وإن حاز جميع ما عداها من الكمالات التي من جملتها السقاية والعمارة.

فإن فهمت الآية على أن الخطاب للمؤمنين المتفاخرين حسب حديث النعمان بن بشير قلنا : إنه لا مراء أن في السقاية والعمارة خيرا وإن كان الإيمان والجهاد أعظم درجة عند الله.

وإن فهمت الآية على أن الخطاب للمشركين والتفاخر من الكفار كان المعنى : نعم للسقاية والعمارة درجة عند الله إذا فعلا كما يرضى الله ورسوله ، ولكن الشرك يحبط عملهما كما سبق.

وأولئك المؤمنون المهاجرون والمجاهدون هم الفائزون بمثوبة الله وفضله وكرامته.

وما هذا الفوز؟ أجاب الله بقوله : يبشرهم ربهم في كتابه المنزل على نبيه برحمة واسعة ، ورضوان من الله أكبر من كل شيء ، وجنات لهم فيها نعيم مقيم دائم ، وهم خالدون فيها وماكثون إلى ما شاء الله عطاء غير مجذوذ ، أى : غير مقطوع.

إن الله عنده أجر عظيم فلا غرابة في هذا : (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [سورة التوبة آية ٧٢].

وقد ورد عن أبى سعيد الخدري ـ رضى الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن

٨٦٦

الله يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة. فيقولون : لبيك ربنا وسعديك. فيقول : هل رضيتم؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى؟ وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟ فيقول : أنا أعطيكم أفضل من ذلك. قالوا : يا ربنا وأى شيء أفضل من ذلك؟ فيقول : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا.

ولاء المؤمنين للكافرين وخطره

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٢٤)

المفردات :

(اسْتَحَبُّوا) : أحبوا. (عَشِيرَتُكُمْ) : أهلكم وقرابتكم. (فَتَرَبَّصُوا) : انتظروا. (كَسادَها) : بوارها وعدم رواجها.

كان لما أعلنه القرآن الكريم من البراءة من الله ورسوله إلى المشركين ، ومن نبذ عهودهم ونقض معاهداتهم ، ووجوب قتالهم كان لهذا أثر كبير في نفوس بعض المسلمين خصوصا ضعفاء الإيمان الذين لم تزل في قلوبهم العصبية الجنسية ، وصلة القرابة لها

٨٦٧

المكان الأعلى ، وبعضهم كان يكره الحرب ونقض العهد لما في ذلك من الاعتداء وهتك الحرمات ، ولقد اتخذ المنافقون من ذلك مادة للدعاية وللتأثير على بعض المسلمين حتى كان للبعض بطانة ووليجة من الكفار ، وما قصة حاطب بن أبى بلتعة ببعيدة ، وكانت نقطة الضعف هي نعرة القرابة ورحمة الرحم.

وبعد أن بين الله فضل الجهاد ونتائجه والهجرة وأثرها ، وحبوط أعمال المشركين حتى ما كان خيرا منها كالسقاية والعمارة ، بين هنا أن ذلك كله لا يتم إلا بترك ولاية المشركين ، وإيثار حب الله ورسوله والجهاد في سبيله على حب الوالد والولد والأخ والزوج والعشيرة والمال والمسكن.

المعنى :

يا أيها الذين آمنتم بالله ورسوله ، واتصفتم بهذا الوصف : لا يليق بكم أن تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء تنصرونهم في القتال ، وتظاهرون لأجلهم الكفار ، لا تتخذوا منهم بطانة ولا وليجة تخبرونهم بالأسرار الحربية الخاصة بالجيش الإسلامى (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً) [سورة التوبة آية ١٦].

لا تتخذوهم أولياء ما داموا يحبون الكفر على الإيمان ويؤثرون الشرك على الإسلام ولا يرقبون في مؤمن إلّا ولا ذمة ، ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون لأنفسهم ولجماعتهم التي ينتمون إليها ، وذلك أنهم وضعوا الولاية موضع البراءة ، والمودة محل العداوة.

خاطب الله المؤمنين بهذا الوصف الكامل لينهاهم عن جريمة اتخاذ الولاية للكافرين المعادين للرسول والمؤمنين ، خاطبهم مباشرة (لا تتخذوا) ثم أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يخاطبهم في ما هو سببها مذكرا لهم مبينا الخطر الذي ينجم على فرض وقوعها منهم مع تصدير كلمة (إن) المفيدة للشك لأن هذا هو المنظور ، إذ حب المذكورات يجب أن يكون مشكوكا فيه بالنسبة للمؤمنين ، والمؤاخذة ليست على حب المذكورات بل على تفضيلها على حب الله ، أما أصل الحب فشيء طبيعي جبلّىّ لا مؤاخذة فيه.

٨٦٨

أما محبة الآباء فغريزة عند الأبناء ، إذ الولد يشعر أن أباه هو سبب وجوده وأنه قطعة منه وهو مثله الأعلى ، والأب هو المخلوق الذي عطف عليه ورباه ، ولا تنس أن الآباء مفخرة العرب (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) (١) ومحبة الأبناء غريزة ، فالولد محط الأمل ، وهو قطعة من الفؤاد وفلذة من الكبد ، وهو الجزء الباقي بعد الإنسان ، لا يحب أن يتميز عليه إنسان إلا هو ؛ والأخ هو اليد القوية والساعد لأخيه ، وابن أمه وأبيه (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ) (٢) وحب الزوجة شعور خاص ليس له ضريب فهو الذي يسكن إليها ، وتهدأ ثورة الطبيعة عندها وقد كانت محط نظره ومحل أمله ، وأما حب المال والتجارة فطبيعة عند كل إنسان ، وقد كان أكثر المسلمين يشتغلون بالتجارة ، وحب المسكن الذي ألفه الشخص غريزى أيضا ، فهو وطنه ، وأول أرض مس جسمه ترابها ... فهذه الثمانية المحبوبة بالطبيعة جعلت بعض المسلمين يكرهون القتال (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) (٣) لذلك لم يفرض إلا للضرورة القصوى.

والآية الكريمة تشير إلى إيثار حب الله ورسوله والجهاد في سبيله على كل منفعة في الأرض.

أما حب الله فيجب أن يكون هو المقدم لأنه صاحب النعم والفضل واهب الوجود والكون ، خلقنا ورزقنا وأحيانا. وهو الذي أوجد الآباء والأبناء والمال والتجارة والمساكن ، على أنه متصف بكل كمال ومنزه عن كل نقص.

وأما حب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو دون حبه ـ تعالى ـ وفوق حب تلك الأصناف الثمانية ، فهو زعيم العلماء العاملين وقدوة الهداة والراشدين ، وهو المثل البشرى الأعلى والأسوة الحسنة في الخلق والأدب والفضل ، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين ، قد جعل القرآن علامة محبة الله اتباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ) [سورة آل عمران آية ٣١].

وأما الجهاد في سبيل الله بأى نوع منه فدرجته لا تخفى وتفضيله على الأصناف الثمانية السابقة أمر ظاهر لا يحتاج إلى بيان : «لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها».

__________________

(١) سورة البقرة آية ٢٠٠.

(٢) سورة القصص آية ٣٥.

(٣) سورة البقرة آية ٢١٦.

٨٦٩

وعلى ذلك فمن أحب الآباء والأبناء والأزواج والمال أكثر من حب الله ورسوله والجهاد في سبيله فهو ناقص الإيمان يستحق هذا الوعيد الشديد ولينتظر الهلاك والدمار ، وما كان الذين يحبون الأهل والعشيرة والمال والتجارة أكثر من حب الله ورسوله والجهاد في سبيله إلا من المنافقين الذين كانوا يثبطون المؤمنين عن الجهاد ويوحون لهم زخرف القول بالاعتراض على نبذ العهود ، وإعلان الحرب على المشركين.

والله لا يهدى القوم الفاسقين الخارجين عن حدود الدين والعقل والحكمة.

وهل النصر إلا من عند الله؟

لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥) ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧)

المفردات :

(مَواطِنَ) : هي مواقع الحرب كبدر ، والحديبية ، ومكة. (حُنَيْنٍ) : واد بين مكة والطائف. (رَحُبَتْ) الرحب : الواسع. (سَكِينَتَهُ) : ما يسكنهم ويذهب خوفهم.

٨٧٠

لما بلغ قبيلة هوازن فتح مكة جمعهم مالك بن عوف وكانت الرياسة له ، وكان على ثقيف كنانة بن عبيد ونزلوا بأوطاس (واد في ديار هوازن فيه كانت وقعة حنين). ولما بلغ خبرهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عزم على قصدهم وأعد العدة ، وكان معه حوالى اثنى عشر ألفا من المسلمين : عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار ، وألفان من مسلمة الفتح وهم الطلقاء ، ولما رأى المسلمون كثرتهم غر بعضهم هذا حتى قال : لن نغلب اليوم عن قلة ، فوكلوا إلى أنفسهم حتى انهزموا ثم لما رجعوا عن غرورهم والتجأوا إلى ربهم كان النصر والظفر لهم.

المعنى :

لقد نصركم الله في مواطن كثيرة تقابلتم فيها مع أعدائكم وأنتم قلة قليلة ، وهم كثرة كثيرة ، ومع هذا نصركم الله (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) حيث كنتم متوكلين على الله ، معتمدين عليه ممتثلين أمر الله ورسوله ، معتقدين أن النصر من عند الله ، وأنه كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ، والله مع الصابرين. إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم.

أما إذا أعجبتكم كثرتكم ، وظننتم أنكم لا تغلبون عن قلة وضعف كما حصل منكم يوم حنين فقد ترككم ربكم لأنفسكم فلم تغن كثرتكم عنكم شيئا من قضاء الله وضاقت عليكم الأرض بما اتسعت من الخوف ثم وليتم مدبرين ؛ وكانت الدائرة عليكم في أول المعركة حتى فر كثير من الناس ، ولم يلو أحد على أحد ، وثبت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعلىّ والعباس وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وابنه جعفر ، وأسامة بن زيد ، وأيمن بن عبيد ، وربيعة بن الحارث ، والفضل بن عباس : وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على بغلته الشهباء ثابتا يقاتل الكفار ، وقال : «أى العباس» ناد أصحاب السمرة (الشجرة التي كانت عند بيعة الرضوان) فنادى عباس وكان ذا صوت : أين أصحاب السمرة! قال : فو الله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها ، فقالوا : لبيك. قال : فاقتتلوا والكفار ... قال : ثم أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حصيات فرمى بها وجوه الكفار. ثم قال : «انهزموا ورب محمد».

وفي رواية أنه دعا واستنصر وكان يقول : «أنا النبي لا كذب ، أنا ابن

٨٧١

عبد المطلب ، اللهم أنزل نصرك» قال البراء : كنا والله إذا احمر البأس ، أى : اشتد ، نتقي برسول الله ... ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين فاستجاب دعاء النبي وأنزل ما به تسكن قلوبهم وتطمئن نفوسهم ، وتقوى عزائمهم حتى اجترءوا على قتال المشركين ، وأنزل الله جنودا لم تروها من الملائكة يقوون روح المؤمنين المعنوية بما يلقون في قلوبهم من التثبيت والاطمئنان ويضعفون الكافرين بما يلقون في قلوبهم من الخوف والجبن من حيث لا يرونهم ؛ وهكذا عمل الدعاية في الحرب ؛ وقد ثبت أن لها النصر المؤكد ، والثابت أن الملائكة لم تقاتل إلا يوم بدر ، وفي رواية عمن أسلم بعد حنين قال : أين الخيل البلق والرجال الذين كانوا عليهم بيض ما كان قتلنا إلا بأيديهم؟!!

وعذب الله الذين كفروا بسيوفكم بعد أن كانوا أعزة لهم الغلب رماة ماهرين ، وذلك كله جزاء الكافرين ، ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء ممن انهزم وفر فيهديه إلى الإسلام ، ويثبت قلبه عند الشدائد.

وفي هذه الآيات تذكير للمؤمنين بنعم الله عليهم ، وأن النصر من عنده ، وكثيرا ما تتخلف الأسباب الظاهرة ليتذكروا أن عناية الله ـ تعالى ـ برسوله والمؤمنين وتأييده بالقوى المعنوية أعظم شأنا وأدنى إلى النصر من القوى المادية.

المشركون لا يدخلون المسجد الحرام

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨)

المفردات :

(نَجَسٌ) النجاسة في اللغة : القذارة وعدم النظافة ، وإذا وصف بها الإنسان كان المراد أنه شرير خبيث النفس وإن كان طاهر البدن ، وإذا وصف بها الداء كان المراد أنه

٨٧٢

عضال لا برء معه ، وفي عرف الفقهاء : ما يجب تطهيره سواء كان قذرا كالبول أو غير قذر كالخمر مثلا. (عَيْلَةً) : فقرا ، يقال : عال : افتقر ، وأعال : كثر عياله.

المعنى :

يا أيها الذين آمنوا اعلموا أن المشركين ما هم إلا أنجاس ، عقائدهم فاسدة يشركون بالله غيره ، ويعبدون الرجس من الأوثان والأصنام ، ويأكلون الميتة ولا يتحرّون الطهارة في أبدانهم ولباسهم ، فلا تمكنوهم بعد هذا العام (عام تسع الذي بلغ فيه على هذه الآيات) من دخول المسجد الحرام ولا الطواف به عراة يشركون بربهم في التلبية.

وهل المراد أنهم أنجاس ، أى : ذواتهم نجسة؟ أو المراد أنهم أشرار خبثاء النفس؟ قولان ، والظاهر الثاني ، وأن المراد المعنى اللغوي لا المعنى العرفي عند الفقهاء ، وذلك لأن المتتبع للسيرة يرى أن معاملة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم لم تكن على أساس أنهم أنجاس بهذا المعنى ، فقد كان المسلمون يعاشرونهم وكانت رسلهم ووفودهم ترد على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتدخل مسجده في المدينة ، ومن الثابت أنه لم يأمر بغسل شيء أصابه بدنهم ، هذا هو الصحيح.

وقد ورد أن المسلمين قالوا : من أين لنا الطعام بعد هذا النهى؟ فقيل : وإن خفتم أيها المسلمون عيلة وفقرا من منع هؤلاء من دخول المسجد الحرام كما يوسوس لكم إبليس ، وكما يرجف بذلك المرجفون ، فاعلموا أنه سوف يغنيكم الله من فضله ، فهو واسع الفضل ، يداه مبسوطتان ، وهو على كل شيء قدير ، وهو العليم بخلقه الحكيم في فعله.

قتال أهل الكتاب وغايتهم

قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩)

٨٧٣

المفردات :

(الْجِزْيَةَ) : نوع من الخراج ـ الضريبة ـ يضرب على الأشخاص لا على الأرض.

(يَدٍ) : سعة وقدرة. (صاغِرُونَ) الصغار والصغر : ضد الكبر ، ويكون في الأمور الحسية والمعنوية ، والمراد هنا : الخضوع لأحكام الإسلام وسيادته التي تصغر بها أنفسهم بفقد الملك.

كل ما تقدم كان في قتال المشركين وهم أكثرية سكان جزيرة العرب ، وهذه الآية في حكم قتال أهل الكتاب والغاية التي ينتهى إليها ، وقد قاتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المشركين في جزيرة العرب على الإسلام لم يقبل منهم غيره ، وقاتل أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية.

المعنى :

يا أيها المسلمون قاتلوا الذين تجمعت فيهم صفات أربع ، هي سبب عداوتهم للإسلام ، وكراهيتهم لكم ، ووضعهم العراقيل في طريق الدعوة ، وتركهم مستقلين يجعلهم يغيرون على أطراف المملكة الإسلامية ويؤلبون العرب كما فعل اليهود في المدينة وما حولها ، وكما تفعل نصارى الروم في حدود بلاد العرب كما سيأتى في غزوة تبوك ، وهاك صفاتهم :

١ ـ لا يؤمنون بالله ، وقد شهد القرآن بأن أهل الكتاب من اليهود والنصارى فقدوه لأنهم لا يقولون بالتوحيد ، وقد اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ، يحلون ويحرمون كما يشاءون ، وقالوا : عزير ابن الله ، والمسيح ابن الله ، وقد سبق بيان عقائد النصارى في المسيح في سورة المائدة.

٢ ـ ولا يؤمنون باليوم الآخر. فهم يقولون : إنها حياة روحية فقط كحلم النائم ، ولا يرون فيها شيئا مما نعتقده من نعيم حسى وروحي ، وعذاب حسى وروحي.

٣ ـ ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ، نعم وهما لا يحرمون على أنفسهم ما حرمه الله عندهم على لسان موسى وعيسى ، وها هو ذا القرآن يقول : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ) [سورة النساء آية ١٥٥] ألم يحلوا الربا والخمر وهما محرمان عندهما؟ (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ)؟ [سورة البقرة آية ٨٥].

٨٧٤

٤ ـ ولا يدينون دين الحق ، نعم فهذا الذي يسيرون عليه ليس دين الله الحق الكامل ، وإنما لعبت الأهواء والأغراض والتحريف والتبديل في التوراة والإنجيل وهم لا يدينون بالإسلام وهو الدين الحق الذي لا شك فيه (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [سورة آل عمران آية ١٩].

قاتلوهم حيث اتصفوا بهذه الصفات حتى يعطوا الجزية عن قدرة وسعة وهم صاغرون ، والمعنى : قاتلوهم إن بدر منهم ما يوجب القتال كنقض العهد أو إثارة العدو ومعونته أو الإغارة على أطراف المملكة ، كما فعل النصارى في الشام ، وإعطاء الجزية دليل الخضوع وسلامة العاقبة على أنهم بهذا يخالطونكم فيرون عدل الإسلام وسماحته ، فإن أسلموا فهم منكم وأنتم منهم ، وإلا فالجزية مع معاملتهم معاملة حسنة بلا اضطهاد ولا تعذيب ، ويسمون أهل الذمة لأن حقوق المساواة والعدل في معاملتهم بمقتضى ذمة الله ورسوله ، والمعاهدون هم من بيننا وبينهم عهد محترم من الجانبين ، وهناك أحكام في كتب الفقه خاصة بالجزية وأهلها والمعاهدين.

أهل الكتاب لا يعبدون الله حقا

وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١)

٨٧٥

يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣)

المفردات :

(عُزَيْرٌ) : هو عزرا الموجود في الكتب التي بأيديهم. (يُضاهِؤُنَ) : يشبهون. (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) : كيف يصرفون عن الحق إلى غيره؟ (أَحْبارَهُمْ) : جمع حبر ، وهو الذي يحسن القول وينظمه ويتقنه بحسن البيان عنه. (وَرُهْبانَهُمْ) : جمع راهب ، وأصله مأخوذ من الرهبة ، وهو الذي حمله خوف الله ـ تعالى ـ على أن يخلص له النية دون الناس ، ويجعل زمانه له ، وعمله معه ، وأنسه به. (أَرْباباً) : جمع رب ، وهو الخالق البارئ الذي يحل الحلال ويحرم الحرام.

هذا تقرير لما مر ، وتأكيد له ببيان أنهم لا يؤمنون بالله ، وعزير هذا هو عزرا الوارد في كتبهم التي أجمعت على أن أهل الكتاب مدينون لعزير هذا في كتابة كتبهم المقدسة وأنه هو الذي أملاها ، إذ ثابت أن التوراة التي كتبت في عهد موسى ضاعت قبل عهد سليمان ـ عليه‌السلام ـ وأن عزيرا هذا هو الذي كتب التوراة وغيرها بعد السبي ، كتبها بإلهام من الله أو بوحي ، وهذا ما لا يسلمه لهم غيرهم ، بل كتب علماء أوروبا الأحرار يشكون في هذا وينفونه كما في دائرة المعارف البريطانية.

والخلاصة أن اليهود كانوا وما يزالون يقدسون عزيرا هذا حتى أن بعضهم أطلق عليه لقب (ابن الله) ويظهر ـ والله أعلم ـ أنه كان إطلاقا في أول الأمر للتكريم ثم صار حقيقة بعد دخول الفلسفة الوثنية الهندية عندهم.

٨٧٦

المعنى :

وقالت اليهود ـ أى : بعضهم ـ : عزير ابن الله ، وقالت النصارى : المسيح ابن الله ، وقد كان القدماء منهم يقولون به قاصدين معنى التكريم والمحبة ، فهو إطلاق مجازى ، ثم لما سرت الفلسفة الوثنية صاروا يطلقونه إطلاقا حقيقيا على أن المسيح ابن الله وهو الله ، وهم متفقون جميعا على أن الموحد ليس نصرانيا ـ وقد مر شيء من التحقيق في هذا الموضوع في سورة المائدة بالجزء السادس ـ ذلك قولهم الكذب وافتراؤهم المحض بألسنتهم من غير دليل ولا حجة يشبهون به قول الذين كفروا من قبلهم سواء كانوا من العرب أو من آبائهم السابقين ، ألا لعنة الله عليهم أجمعين.

قاتلهم الله كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل؟ ويبدلون الحقائق ، ويصرفونها عن غير وجهها الطبيعي : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) [سورة المائدة آية ٧٥]. وقد بين الله حقيقة مضاهاتهم للمشركين ومشابهتهم لهم بقوله : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) [التوبة ٣١] ، والمعنى : اتخذوا اليهود والنصارى علماءهم وعبّادهم أربابا من دون الله يحلون ما يحلون ، ويحرمون ما يحرمون. وهذا معنى اتخاذهم أربابا كما ورد في الحديث ، فهم تركوا حكم الله واتبعوا حكم هؤلاء ، واتخذ النصارى المسيح ابن مريم إلها معبودا مع أنه قال : وقال المسيح يا بنى إسرائيل إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار ، وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا سبحانه وتعالى عما يشركون. كما ورد في كتبهم على لسان موسى وعيسى.

وهم يريدون أن يطفئوا نور الله الذي أفاضه على البشر بهدايته إلى الدين الحق والكتاب المحكم والقرآن المنزل على عبده ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكن أنى لهم هذا؟! ويأبى الله إلا أن يتم نوره بتثبيته وحفظه ، والعناية به وإكماله وتمامه في كل شيء ، ولو لم يكره الكافرون ، ولو كره الكافرون.

ولا غرابة في ذلك فهو الذي أرسل رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالهدى والدين ، والقرآن المبين ، وأرسله بدين الحق والكمال والجلال ليظهره على الأديان كلها ولو كره المشركون ، وقد صدق الله وعده ، ونصر عبده صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٨٧٧

سلوك رجال الدين من أهل الكتاب

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥)

المفردات :

(يَكْنِزُونَ) الكنز في اللغة : الضم والجمع مطلقا ، والمراد جمع الأموال وخزنها وإمساكها عن الإنفاق. (فَبَشِّرْهُمْ) : أنذرهم ، وهو تهكم بهم ؛ لأن البشارة في الخير لا في الشر. (فَتُكْوى) الكي : إلصاق الحار من الحديد والنار بالعضو حتى يحترق الجلد.

هذا بيان لسير الأحبار والرهبان العملية ، وكشف لنفسيتهم المالية حتى يقف أهل الكتاب على خطئهم في اتخاذهم الأحبار والرهبان أربابا من دون الله والاقتداء بهم ، وليعلم المسلمون السر في عنادهم وكفرهم ، وأنهم يريدون إطفاء هذا النور لأنهم ألفوا الضلال ، ألا ساء ما كانوا يعملون.

٨٧٨

المعنى :

يا أيها الذين آمنوا بالله ورسله : اعلموا أن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل لا بالحق ، وإنما نسب هذا لكثير منهم لا لكلهم إحقاقا للحق ، فإن أكثرهم فاسقون ، وقليل منهم صالحون ، أما أكلهم المال بالباطل فيظهر في صور شتى ، منها : صكوك الغفران التي شاعت في القرون الوسطى عند كثير من الفرق النصرانية كالأرثوذكس والكاثوليك ، وخلاصتها : أن يعترف المخطئ منهم بخطئه فيغفر له القسيس نظير مال يدفعه ثم يعطيه صكا يسمى صك الغفران. ألا لعنة الله على القوم الجهلاء!! ومنها الرشوة المنتشرة عند أهل الكتاب.

ومنها أكل الربا ؛ واليهود هم أساتذة الربا وقادته في العالم ، وقد قلدهم المسيحيون في ذلك ولهم فلسفة خاطئة فيه.

ومنها بيع الفتاوى بالمال لإرضاء الحكام والملوك والأمراء على حساب الدين وقد كان هذا شائعا في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما بعده.

ومنها إباحة أخذ ما تيسر لهم من مخالفيهم في العقيدة (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) [سورة آل عمران آية ٧٥] والمراد بالأكل كل ما يعم الأخذ وغيره ، وإنما عبر به لأنه المقصود المهم من الأخذ.

وأما صدهم عن سبيل الله فبما يختلقون على الله الكذب ، ويصفون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأحقر الأوصاف ، ويكتمون صفته وبشارته التي هي عندهم ، والنصارى انفردوا في هذه الأيام بالمبالغة في الصد عن سبيل الله بالتبشير في البلاد الإسلامية عن طريق المدارس والمستشفيات والجمعيات ... إلخ.

والمراد بقوله ـ سبحانه ـ : والذين يكنزون الذهب ... هم من تقدم من الأحبار والرهبان لأن الكلام معهم ، أو ما هو أعم وهم يدخلون في الموصول دخولا أوليا ، وكذا غيرهم من المسلمين ، وهذا هو الظاهر.

والذين يجمعون المال ويحبسونه عن الإنفاق في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ، وجمع المال وكنزه لا يكون خطرا إلا إذا منعت فيه حقوق الله ، أما إذا أديت الحقوق الواجبة

٨٧٩

عليك في المال ، ثم كنزت وجمعت فلا غبار عليك. وهذا هو الواجب فهمه في الآية خلافا لبعضهم. قال ابن عمر ـ رضى الله عنهما ـ : ما أدى زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين ، وكل ما لم تؤد زكاته فهو كنز.

فبشرهم وأنذرهم بعذاب أليم جدا يوم يحمى على ما جمعوه من دنانير ودراهم في النار ، أى : يوقد عليها في النار حتى تحمى فتكوى بها جباههم التي طالما اعتزت بكثرة المال وتكون جنوبهم التي طالما تمتعت بالحرير والديباج ، وتكوى بها ظهورهم التي طالما استندت للمال ، على أن الكي على الوجه أشهر وأشنع ، والكي على الجنب والظهر أوجع وآلم ويقال لهم : هذا جزاء ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون!!! وروى البخاري عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثّل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه ـ يعنى شدقيه ـ ثم يقول له : أنا مالك أنا كنزك» ثم تلا : (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [سورة آل عمران آية ١٨٠].

بيان عدة الشهور والأشهر الحرم والنسيء

إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ

٨٨٠