التفسير الواضح - ج ١

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح - ج ١

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٢

والآية الكريمة على اختصارها جمعت أنواع الإعداد للجيوش التي تتلاءم مع كل عصر وزمن (مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ).

فالإعداد الأدبى ، والمادي ، والإدارى ، والفنى ، والمالى ، مع الحث على ذلك كله بالثواب الجزيل والعطاء الكثير كل ذلك في الآية الشريفة ، ولقد فرض القرآن علينا الإعداد بأنواعه (وَأَعِدُّوا) ، وأن نبذل فيه أكثر جهودنا وأن نقدم النفس والنفيس ما استطعنا إلى ذلك سبيلا.

ولم تغفل الآية الإعداد في وقت السلم حتى يكون الجيش على أتم استعداد في كل وقت (كلما سمعوا هيعة طاروا إليها) فأمرنا بإعداد الخيل المرابطة في الثغور لمقابلة العدو ليلا ونهارا.

ولقد ذكرت الآية سبب الإعداد وهو إرهاب العدو الظاهر والعدو الخفى ما نعلمه ، وما لا نعلمه.

ولم يكن هناك إعداد ونصر إلا بالمال ، ولا سبيل إليه إلا بالإنفاق المطلق كل على قدر طاقته وإيمانه مع حقنا على التسابق فيه والعمل على إحراز ثوابه الكبير المعد لنا يوم القيامة.

ولا يمكن أن تقوم أمة بهذا الإعداد الكامل ثم تظلم من جيرانها أبدا ، وأنتم لا تظلمون كذلك في الآخرة (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ ، وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) [سورة البقرة آية ٢٧٣].

والخيل في العصر القديم كانت عنوان الرهبة للأعداء ، ولا تزال لها مكانتها في العصر الحديث لهذا ذكرت ، وإن كانت الآية تدعو لإعداد المستطاع المناسب من كل قوة صالحة.

الميل إلى السلام ، وتقوية الروح المعنوية في الجيش

وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١)

٨٤١

وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (٦٥) الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٦٦)

المفردات :

(جَنَحُوا) : مالوا (لِلسَّلْمِ) السّلم ، والسّلم واحد. (حَسْبَكَ) : كافيك.

المعنى :

بعد ما أمر بالاستعداد التام للحرب ، وغالبا يكون مانعا له ، ذكر هنا حكم ما إذا طلبوا الصلح ومالوا إلى السلم فقال ما معناه : وإن مالوا إلى السلم وطلبوا عقد الهدنة والأمان فأعطهم ما طلبوا ، والصحيح ـ كما قال الزمخشري في كشافه ـ : أن الأمر في الآية موقوف على ما يرى فيه الإمام صلاح الإسلام وأهله من حرب أو صلح ، وليس بحتم أن يقاتلوا أبدا ، أو يجابوا إلى الهدنة أبدا.

٨٤٢

وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله ؛ فالله حسبك وكافيك ، وهو السميع لكل قول وطلب ، عليم بكل قصد ونية ، وهذا يفيد أن دين الإسلام دين السلام والمحبة ، وأنه عدو للحرب إلا إذا اقتضتها الظروف القاهرة.

وإن يريدوا خداعك بطلب الصلح حتى يستعدوا للحرب فاعلم أن الله كافيك شرهم ، وناصرك عليهم ، ولا غرابة ، فهو الذي أيدك وأمدك بنصر من عنده (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) وأيدك بالمؤمنين معك من الأنصار والمهاجرين ، الذين دافعوا عنك دفاع الأبطال ، وهو الذي ألف بين قلوبهم ، وجمعهم على كلمة الحق والشهادة ، وألزمهم كلمة التقوى ، وكانوا أحق بها وأهلها جمعهم على حبك وألف بين قلوبهم المتنافرة المتباغضة ، وقد كانوا في الجاهلية أصحاب حروب وفتن وعداوات وعصبيات وحب للانتقام وإثارة الحروب لأتفه الأسباب ، ومع أنك لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم. ولكن الله القوى القادر الحكيم العليم ألف بين قلوبهم ، وجمعهم على صراط سوى ، إنه عزيز كامل القدرة والغلبة يعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير ، حكيم في كل ما يصنع.

يا أيها النبي حسبك الله وكافيك في جميع أمورك أنت والمؤمنين بك فكونوا أقوياء العزم ثابتى الجنان ، فإن الله معكم بالنصر والمعونة. ولا شك أن هذا يقوى الروح المعنوية في جيوش المسلمين.

وهذا لا يمنع الأخذ بالأسباب ، ولذا يقول الله : يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال ، وحثهم عليه حثا شديدا حتى يبذلوا النفس والنفيس في سبيل الله طيبة نفوسهم بهذا ، وذلك ببيان فضيلة الجهاد وأنهم ينتظرون في الجهاد إحدى الحسنيين : إما الشهادة ، ويا لها من شرف!! وإما الغنيمة والنصر. واعلموا أن الواجب عليكم أن الواحد يقاتل عشرة من الكفار ، إذ هناك فرق شاسع بين من يقاتل عن عقيدة ثابتة ونفس مطمئنة ، وبين من يقاتل مكرها أو مأجورا أو لغرض دنيوى بسيط.

إن يكن منكم عشرون صابرون محتسبون أجرهم عند الله يغلبوا مائتين ، وإن يكن منكم مائة صابرة على هذا الشرط يغلبوا ألفا من الذين كفروا بالله وبرسوله ، ولم يؤمنوا بالبعث والجزاء ، ذلك بسبب أنهم قوم لا يفقهون الأسرار الحربية ونظامها الذي يكفل النجاح ، وهم قوم لا يفقهون عن عقيدة وحجة ، ثم هم لا يؤمنون بالبعث

٨٤٣

والجزاء. أما أنتم فتقاتلون صابرين محتسبين الآجر من عند الله منتظرين إحدى الحسنيين من الغنيمة أو الشهادة. هذا هو الوضع الذي يجب أن يكون عليه المسلم ، وعدم الفقه والفهم هو الوضع الذي وصف به المشركون ، واليهود ؛ لأنهم ماديون أشد الناس حرصا على حياة ؛ هذه المرتبة العليا للمؤمنين وهي مرتبة (العزيمة) وهاك مرتبة أقل منها وهي (الرخصة).

الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا في البدن من كثرة الجهاد والعمل ، فإن يكن منكم مائة صابرة على هذا الشرط يغلبوا مائتين ، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله وقوته والله مع الصابرين بالمعونة والرعاية ، ولقد كرر القرآن مقاومة الجماعة لأكثر منها مرتين قبل التخفيف وبعده للدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة لا تتفاوت أبدا ما دام الجيش يسير حسب الشرع ، وتبعا لتعاليم الإسلام.

التشريع ينزل موافقا لرأى عمر

ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧) لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٧١)

٨٤٤

المفردات :

(يُثْخِنَ) يقال : أثخنه المرض والجرح : إذا أثقله وجعله لا يتحرك ، والمراد يكثر القتل ويبالغ فيه.

سبب النزول :

روى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم استشار أصحابه فيما يعمله في أسرى بدر فأشار أبو بكر بالفدية وقال : هم قومك وأهلك استبقهم لعل الله يتوب عليهم ، وخذ منهم فدية تقوى بها أصحابك ، واستشار عمر فأشار بالقتل قائلا : اضرب أعناقهم فإنهم أئمة الكفر والله أغناك عن الفداء. مكّن عليا من عقيل ، وحمزة من العباس ، ومكنى من فلان نسيب له فلنضرب أعناقهم ، وقد مال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى رأى أبى بكر فنزلت الآية وقد ختم الله سياق الكلام في القتال بذكر حكم يتعلق بالأسرى.

المعنى :

الأسير عدو من الكفار وقع في يد المسلمين ، والحكم فيه أن الإمام يتصرف فيه تبعا للمصلحة العامة فيعرض عليه الإسلام فإن أسلم فبها ، وإلا قتله الإمام ، أو قبل الفداء منه ، أو استرقه ، أو منّ عليه بدون فداء. هذا إذا كانت للأمة الإسلامية دولة وصولة ، أما في مبدأ الأمر كما هنا عند قيام الدولة فالرأى ألا يبقوا على الأسر ولا يحملوهم معهم بل يقتلوهم قتلا. إذ هم عالة عليهم وضغث على إبالة ، وإن بقي ربما تظاهر بالإسلام وكان جاسوسا على المسلمين ، وفي هذا المعنى كانت الآية الكريمة.

ما كان لنبي ، أى : ما صح له وما استقام أبدا ، أى : لا ينبغي أن يكون له أسرى ثم يبقى عليهم ، ويقبل الفدية. فإن هذا خطر على الدولة ، ما كان له ذلك حتى يكثر القتل في الكفار ويبالغ فيه ، وفي هذا إعزاز للمسلمين ، وإضعاف للكفار وكسر لشوكتهم ، أتريدون بقبول الفداء والإبقاء عليهم عرضا من أعراض الدنيا وحطامها الزائل؟ والله يريد لكم ثواب الآخرة ، أو يريد إعزاز دينه ، والقضاء على أعدائه وهذا سبب الوصول إلى ثواب الآخرة ، والله عزيز يعز أولياءه ، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ، حكيم في أفعاله وأعماله فامتثلوا أمره فهو يهديكم إلى سبيل الرشاد والخير.

٨٤٥

لو لا كتاب من الله سبق وحكم قضاه في اللوح المحفوظ أن المخطئ لا يعاقب على خطئه ، لولا هذا لأصابكم بسبب ما أخذتم من الفداء عذاب عظيم وقعه ، شديد هوله ، وفي هذا تهويل لخطر ما فعلوا.

وقد أبيحت لكم الغنائم فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا ، واتقوا الله وامتثلوا أمره ونهيه ، إن الله غفور رحيم يقبل التوبة ، ويعفو عن السيئة.

روى أنه كان من الأسرى العباس بن عبد المطلب وقد كلفه النبي أن يفدى ابن أخيه عقيل بن أبى طالب ونوفل بن الحارث فقال : يا محمد ، تركتني أتكفف قريشا ما بقيت ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فأين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة؟ وكان هذا إخبارا بالغيب حيث لم يكن يعلم بهذا إلا الله ، فقال العباس : والله كان عندي ريب قبل هذا ولكن الآن لا ريب ، وفي رواية قال العباس : فأبدلنى الله خيرا مما أخذ منى.

يا أيها النبي قل لمن في ملككم من الأسرى : إن يعلم الله في قلوبكم إخلاصا وحسن نية يؤتكم خيرا مما أخذ منكم في الفداء ، ويغفر لكم والله غفور ستار للذنوب. وقيل : المراد من الآية أن يعرض النبي على الأسرى الإسلام ، ويمنيهم بالخير والمغفرة.

وإن يريدوا خيانتك ، ونقض عهدك فاعلم أنهم قد خانوا الله من قبل ذلك بنقضهم الميثاق المأخوذ على الناس جميعا (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) وإذا كان كذلك فلا يهمنك أمرهم فالله أمكنك منهم وسلطك عليهم فهزمتهم ، وهذا كلام مسوق لتسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطريق الوعد له والوعيد عليهم ، والله عليم بالنيات حكيم بفعل ما تقتضيه الحكمة البالغة ..

الرابطة الإسلامية أقوى الروابط

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا

٨٤٦

وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (٧٣) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥)

المفردات :

(هاجَرُوا) : تركوا دار الكفر وذهبوا إلى دار الإسلام. (آوَوْا) : أنزلوا وأسكنوا ، يقال : آواه : أنزله دارا وأسكنه إياها. (وَلايَتِهِمْ) : الولاية مصدر وليه يليه ، أى : ملك أمره وقام به. (تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ) : تحصل فتنة عظيمة ، والمراد ضعف الإيمان وظهور الكفر.

المعنى :

ما مضى كان في الكلام على الكفار وأسراهم وكيفية معاملتنا لهم ضاربين بقرابتهم عرض الحائط مستبدلين بها قرابة الإسلام ، ولذا تكلم القرآن هنا على رابطة الإسلام.

إن الذين آمنوا بالله ورسوله إيمانا صادقا كاملا ، وهاجروا في سبيله ، هجروا أوطانهم الحبيبة إلى نفوسهم ، وتركوا مالهم كل ذلك لله ، وجاهدوا في سبيله ، وبذلوا النفس والنفيس ، أولئك هم المهاجرون الذين تركوا مكة وعزهم وشرفهم ونسبهم فيها

٨٤٧

إلى يثرب التي قطنها الرسول الكريم ، إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله ، والذين آووا المهاجرين وأنزلوهم ديارهم وشاركوهم في أموالهم ، ونصروا رسول الله ومنعوه مما يمنعون به أزواجهم وأولادهم (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١) أولئك هم الأنصار ؛ هؤلاء المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض ، يتولون أنفسهم بالرعاية والعناية ، والسهر على المصالح فهم جسد الأمة الإسلامية ، إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ، فرابطة الإسلام بينهم أقوى رابطة ، والإيمان هو الصلة المحكمة ، وهكذا المسلمون في كل زمان ومكان اجتمعوا على الإيمان بالله ، والتقوى عند محبة الرسول الأكرم ولذا يقول الله فيهم : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (٢) فالأخوة في الإسلام إذا ما كانت لله حقا كانت هي الدعامة الوحيدة لتماسك بناء الأمة ، وقيل : المراد بالولاية هنا الميراث ، ونخست الآية بآية المواريث ، والذين آمنوا بالله ورسوله ولم يهاجروا بأن اعترضتهم عقابات لم يستطيعوا التغلب عليها ، وقد كانت الهجرة في مبدأ الإسلام علامة الإيمان الكامل هؤلاء ليس لكم ولاية عليهم ، وليس بينكم توارث ، وإن كانوا ذوى قربى حتى يهاجروا.

ولكن إن استنصروكم في الدين ، وطلبوا إليكم أن تمدوا إليهم يد المساعدة لهم على أعدائهم بقدر الطاقة فانصروهم إلا على قوم بينكم وبينهم معاهدة وميثاق ، والله بما تعملون بصير.

والذين كفروا بعضهم أولياء بعض ليس لكم أن توالوهم أو تتخذوهم أصدقاء مهما كانوا من القرابة والصلة ، إن لم تفعلوا هذا ، وتقوموا بهذه الأوامر تحصل فتنة في الأرض وفساد كبير ، وذلك بضعف الإسلام وكسر شوكته ، وظهور الكفر ، وعلو رايته!!! يا سبحان الله أنت عالم الغيب والشهادة وأنت الخبير البصير ، فلقد ظل الإسلام كما هو حتى اتخذ المسلمون بطانتهم من غيرهم ووالوا أعداء الدين بحجة السياسة مرة أو الحاجة أخرى فأصبحوا ولا حول لهم ولا قوة ، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدينا ، نعم وسنظل على ذلك حتى نعود إلى الدين والقرآن نفعل ما يريده ونتجنب ما ينهى عنه.

__________________

(١) سورة الأعراف آية ١٥٧.

(٢) سورة الحجرات آية ١٠.

٨٤٨

والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله ، والذين آووا الرسول وعزروه ونصروه ، وهم المهاجرون والأنصار ، أولئك المؤمنون حقا ، فالهجرة والنصرة دليل على صدق الإيمان وكمال الإسلام ، ولهم مغفرة من الله ورضوان ، ولهم رزق في الدنيا والآخرة كريم ، أى : حسن وكبير.

هؤلاء هم السابقون المقربون ، ومن أتى بعدهم فهذا حالهم والذين آمنوا من بعد ذلك ، أى : بعد أن قويت شوكة المسلمين وامتد بهم الزمن وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله معكم فأولئك منكم ، وأنت منهم ، بعضكم أولياء بعض ، وأولو الأرحام وذوو القرابات في الإسلام بعضهم أولى ببعض ؛ فقد جمعوا بين الأخوة في الله والأخوة في النسب ، هذا الحكم في كتاب الله ، وقيل : المراد ميراث ذوى الأرحام ، وقد كان المهاجرون والأنصار يتوارثون في بداية الإسلام حتى نزلت آية المواريث ، ومنها هذه الآية ، واعلموا أن الله بكل شيء عليم.

وليس في الآيات تكرار ؛ فالأولى لبيان أن رابطة الإسلام أقوى من رابطة النسب ، والثانية لبيان مكانتهم وأنهم هم المؤمنون حقا ، والثالثة لبيان أن الذين جاءوا بعدكم وآمنوا بعد ظهور الإسلام فأولئك منكم والله أعلم.

٨٤٩

سورة التوبة

عدد آياتها تسع وعشرون ومائة وتسمى سورة براءة ، والمبعثرة ، والمثيرة ، والمخزية ، والفاضحة ، والمشردة ، وسورة العذاب ، لما فيها من ذكر التوبة ، وما فيها من التبرئة من النفاق ، وما فيها من التعرض للمنافقين وكشف سترهم وما يخزيهم ويشردهم ، وما فيها من نقض العهود وإرصاد العذاب للمشركين ، لهذا وذلك سميت بتلك الأسماء.

وكثرة أسمائها الواردة دليل على أنها سورة مستقلة ليست جزءا مما قبلها.

وإذا كانت سورة فلم تركت البسملة في أولها؟!!

أما الحكمة في ترك البسملة فالظاهر ـ والله أعلم ـ أنها نزلت لرفع الأمان ، ونقض العهود مع المشركين ، وفضيحة المنافقين ، وهذا يتنافى مع التصدير بالاسم الجليل الموصوف بالرحمن الرحيم ، وفي الكشاف : سئل ابن عينية ـ رضى الله عنه ـ فقال : اسم الله سلام وأمان فلا يكتب في النبذ والمحاربة. وما روى عن ابن عباس في هذا فأظنه مدسوس عليه إذ لا يعقل أن يلحق النبي بالرفيق الأعلى ولم يبين للصحابة مكان هذه الآيات ، فاختلف الصحابة في ذلك ؛ على أن الصحيح أن البسملة آية فذة من القرآن أنزلت للفصل والتبرك بها ، وأنه لا مدخل لأحد بالمرة في إثباتها أو تركها وإنما هذا كله توقيف ووحى ، ولا يعقل أن يترك ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يصح أن يتشكك مسلم في هذا أبدا ، ولا شك في عدم نزول البسملة ها هنا بالإجماع.

نبذة تاريخية :

في السنة السادسة للهجرة عاهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المشركين في الحديبية على السلم والأمان عشر سنين بشروط تساهل معهم فيها عن قوة وعزة لا عن ضعف وذلة ، ودخلت قبيلة خزاعة مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقبيلة بنى بكر في عهد قريش ، وكانت بين هاتين القبيلتين إحن قديمة وثارات موروثة فاعتدت بنو بكر على خزاعة ونقضوا عهدهم ، وأعانت قريش بنى بكر بالسلاح وبالرجال فانهزمت خزاعة فكان ذلك نقضا للصلح الواقع عام الحديبية :

٨٥٠

ولذا خرج عمرو بن سالم الخزاعي على رأس وفد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستغيثين به ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا نصرت إن لم أنصر بنى كعب» فكان ذلك سبب عودة حال الحرب العامة وفتح مكة في السنة الثامنة.

وقد ثبت بالتجربة أن المشركين في حال القوة والضعف لا عهود لهم ، ولا أمان (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) (١) إلا من عاهد واستقام أمره ، هذا هو الأساس الشرعي الذي بنى عليه ما جاءت به هذه السورة من نبذ عهودهم المطلقة ، وإتمام مدة عهودهم المؤقتة لمن استقام عليها منهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله.

ولما بلغ هوازن فتح مكة جمعهم أميرهم مالك بن عوف النصري لقتال المسلمين وكانت غزوة حنين في شوال في السنة الثامنة ، وبعدها حاصر الطائف بضعا وعشرين ليلة ورماهم بالمنجنيق.

ثم أقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة بعد ذلك ذا الحجة والمحرم من السنة التاسعة وصفر وربيع الأول والآخر وجماد الأول والآخر ، وخرج في رجب سنة تسع إلى غزوة تبوك وهي آخر غزوة غزاها النبي ، وفيها نزلت أكثر آيات السورة الكريمة.

ولما انصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تبوك أراد الحج ولكنه قال : يحضر البيت عراة مشركون يطوفون بالبيت فلا أحب أن أحج معهم ، فأرسل أبا بكر أميرا على الحج ، ثم لما خرج أرسل بعده عليا وقال له : «اخرج بهذه القصة من صدر براءة فأذن بذلك في الناس إذا اجتمعوا» وقال : «لا يبلغ عنى إلا رجل منى» فخرج علىّ على العضباء ناقة الرسول فأدرك أبا بكر في ذي الحليفة وأم أبو بكر ـ رضى الله عنه ـ الناس في الحج ، وقرأ علىّ على الناس صدر سورة «براءة».

__________________

(١) سورة التوبة آية ١٢.

٨٥١

إعلامهم بالحرب مع التحدي لهم ونقض عهودهم

بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢) وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤)

المفردات :

(بَراءَةٌ) يقال : برىء من العهد أو المرض براءة : خلص منه. (فَسِيحُوا) السياحة والسيح : الذهاب في الأرض حسبما يشاء الشخص. (وَأَذانٌ) أى : إعلام. (يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) المراد : يوم العيد.

كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون عاهدوا مشركي العرب من أهل مكة وغيرهم بإذن الله ـ تعالى ـ فنكثوا عهودهم ، إلا بنى ضمرة وبنى كنانة ، فأمر المسلمون بنكث عهد الناكثين وإمهالهم أربعة أشهر ليسيروا أين شاءوا فإذا انقضت الهدنة ومضت المدة قاتلوهم.

كان هذا في السنة التاسعة وقد أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا بكر أن يحج بالناس فلما سافر نزلت

٨٥٢

سورة التوبة وفيها نقض عهود المشركين ، فأمر عليا أن يبلغ ذلك الناس يوم الحج الأكبر قائلا : «لا يبلغ عنى إلا رجل منى» فلما اجتمعوا بمنى يوم النحر قرأ عليهم علىّ آيات من أول هذه السورة ثم قال : أمرت بأربع : ألا يقرب البيت بعد العام مشرك ، وألا يطوف بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة ، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد فهو إلى مدته ، ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر ، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده ...

المعنى :

هذه براءة مبتدأة من الله ورسوله واصلة إلى الذين عاهدتم من المشركين وإنما نسبت البراءة لله ولرسوله مع شمولها للمسلمين ونسبت المعاهدة للمسلمين فقط مع أنها بإذن الله واتفاق رسول الله ، للإشارة إلى وجوب تنفيذ نقض العهد ، وأنه صادر من الله ورسوله ، ولا حرج عليكم أبدا فيه ، فهو أمر واجب الامتثال ، وهو لحكمة الله يعلمها ، وأما المعاهدة فهي كبقية العقود أمرها الظاهر المشاهد أنها مع المسلمين ، وذكر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : براءة من الله ورسوله مع عدم ذكره في المعاهدة (عاهَدْتُمْ) للتنويه بمقامه المحمود ، ومكانه المرموق مع المولى جل شأنه.

هذه براءة من الله ورسوله ، وتخلص من عهود المشركين ، وإيذان لهم بالحرب ، وإعطاؤهم فرصة للاستعداد مع التحدي الكامل لهم ، حيث أمروا بالسير في الأرض والسياحة فيها حسب مشيئتهم وهواهم ليحصنوا أنفسهم وأموالهم ، إذ ليس المراد أمر المشركين بالسياحة في الأرض وأقطارها أربعة أشهر.

فسيحوا في الأرض واستعدوا في هذه المدة ، واعلموا علما أكيدا ، أنكم غير معجزي الله أبدا ، وأن الله مخزيكم ومذلكم فأنتم كفرتم بالله ورسوله ونقضتم عهودكم مع المسلمين مرارا ، وقد يتحقق الموعود به بالأسر والقتل ، وإعلاء كلمة الله ، وذهاب الشرك إلى حيث لا رجعة ، هذا هو الخزي في الدنيا ، وفي الآخرة عذاب شديد أعد لهم.

أمرهم الله أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر تبتدئ من عاشر ذي الحجة سنة تسع

٨٥٣

وهو يوم الحج الأكبر (يوم النحر) الذي بلغ فيه علىّ ـ رضى الله عنه ـ وتنتهي في عاشر ربيع الآخرة سنة عشرة.

وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره : هذه الآية لذوي العهود المطلقة غير المؤقتة ، أو من له عهد دون أربعة أشهر فيكمل له أربعة أشهر فأما من كان له عهد مؤقت فأجله إلى مدته لقوله تعالى : (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) ولقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدته».

وأما من لم يكن له عهد فأجله أن يتم الأربعة أشهر الحرم الدائرة في كل عام وهي رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، ومحرم ، وعلى هذا تكون مدته خمسين يوما ، عشرون باقية من الحجة ، وثلاثون هي شهر المحرم.

وهذا أحسن الأقوال وأقواها ، وقد ارتضاه جمع من العلماء قديما وحديثا واختاره الشيخ محمد عبده في دروسه. أمروا بالسياحة والاستعداد ، وأن يعلموا علما أكيدا أنهم غير معجزي الله أبدا ، وأن الله مخزيهم ومذلهم ، لأنهم كفروا بالله ، ورسوله ... وأذان من الله ورسوله ، وإعلام تام منهما إلى الناس جميعا مؤمنهم وكافرهم (وكان ذلك على لسان على بن أبى طالب سنة تسع في السنة التي حج فيها أبو بكر بالناس كما تقدم) ليعلم الكل أن الله برىء من المشركين ، ومن عهودهم ، ورسوله كذلك برىء ، وأما المسلمون فهم حزب الله وأتباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وداخلون في ذلك دخولا أوليا ، وهذا إنذار شديد للمشركين!!! فإن تبتم أيها المشركون ورجعتم عن الشرك وآثامه فهو خير لكم وأى خير؟!! ... وإن توليتم وأعرضتم عن الإسلام فاعلموا أنكم غير معجزي الله ، ولا طاقة لكم بحربه في الدنيا ، وأما في الآخرة فبشرهم يا محمد ـ فأنت أدرى بأحوال الآخرة وأنت البشير النذير ـ بشرهم بعذاب أليم غاية الألم.

هذا الأذان بنقض العهد يسرى على المشركين جميعا إلا المعاهدين الذين عاهدتموهم ثم لم ينقصوكم شيئا من العهود ولم يخلوا بشرط من الشروط ، أى : حافظوا على نصوص المعاهدة وروحها. ولم يظاهروا عليكم أحدا ، ولم يعينوا عليكم عدوا كبني ضمرة وبنى كنانة ، فهؤلاء أتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ، إن الله يحب المتقين الخائفين من عذابه الذين يوفون بعهدهم إلا مع المشركين الناقضين العهد.

٨٥٤

وجوب قتال المشركين

فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)

المفردات :

(انْسَلَخَ) : انقضى ، وأصل الاستعمال في الجلد ، شبه الزمان به لأنه محيط بما فيه إحاطة الجلد بالشاة ، فإذا مضى الزمن فكأنه انسلخ عما فيه. (خُذُوهُمْ) المراد : ائسروهم ، والأخيذ : الأسير. (وَاحْصُرُوهُمْ) : امنعوهم من التقلب في البلاد والسير فيها. (كُلَّ مَرْصَدٍ) المراد : كل ممر وطريق يجتازونه في أسفارهم.

المعنى :

فإذا انقضى الأشهر الحرم التي كانت ساترة لهم ، وحرزا تمنعهم من أيدى المسلمين ، وهل المراد بها الأشهر الحرم السابقة؟ أو المراد بها الأشهر الحرم مع ما فهم من قوله تعالى : (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ)؟

فإذا انقضى الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين الناكثين خاصة ، أو المشركين مطلقا حيث تم لهم عهدهم.

وخذوهم أسرى حرب ، واحصروهم حالة كونكم مانعين لهم من الأسفار والتقلب في البلاد ، واقعدوا لهم كل مرصد وممر ، وترصدوا لهم في كل طريق حتى تملأوا قلوبهم خوفا ورهبة منكم ، فيخشى الواحد منهم لقاءكم حتى بينه وبين نفسه ، والحكمة في ذلك محو الشرك من جزيرة العرب بالقوة لتكون معقل الإسلام مع مراعاة قوله تعالى :

٨٥٥

(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) (١). (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) (٢) هذا كله بقدر الإمكان ، فإن ثابوا وأنابوا ، ودخلوا في الإسلام وأقاموا حدوده ، والتزموا أركانه التي أهمها الصلاة والزكاة فخلوا سبيلهم واتركوهم وشأنهم ، واعلموا أن الله غفور رحيم ، والآية الكريمة تفيد دلالة إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة على الإسلام ، وتوجب لمن يؤديهما حقوق الإسلام من حفظ ماله ودمه إلا بحق الإسلام.

سماحة الإسلام في معاملة الكفار

وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦)

المفردات :

(اسْتَجارَكَ) : طلب جوارك والاحتماء بك. (مَأْمَنَهُ) : مكان أمنه ... تقدم بيان حكم من تاب من الكفر ، ومن أصر عليه وهذا حكم من يتصدى للتوبة ويتقرب من المسلمين.

المعنى :

وإن استجارك أحد من المشركين ، وطلب جوارك وحمايتك ، فاقبل جواره حتى يسمع كلام الله ويتدبره ويتفهم معانيه ، ويقف على أسراره العالية فإن الإنسان إذا خرج من بيئة العناد والضلال قد يشرح الله صدره للإسلام ، ثم أبلغه مكان أمنه ، وأوصله للدار التي يأمن فيها إن أسلم أو لم يسلم ، ثم قاتله إن استوجب حاله القتال من غير غدر ولا خيانة.

وهذا من مكارم الأخلاق التي دعا إليها الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وتنبيه للمسلمين جميعا أن يعملوا على نشر الدين ومبادئه حتى يسمعها أولئك الذين لا يعرفون عن محاسن الدين الإسلامى شيئا.

__________________

(١) سورة البقرة آية ٢٤٤.

(٢) سورة الأنفال آية ٦١.

٨٥٦

ذلك ، أى : الأمر بالإجارة وحسن المعاملة. وتوصيله إلى مكان أمنه ودار إقامته بسبب أنهم قوم جهلة بحقيقة الدين ، ولا يعلمون عنه إلا معلومات مشوشة خاطئة كما يعلم الغربيون عن ديننا من المعلومات التي تعلموها على أيدى رجال دينهم ، وللأسف الشديد إذا أراد الواحد منهم أن يعرف شيئا عن الإسلام حكم عليه بأعمال أهله ، ويا له من حكم قاس!! فإننا مسلمون بالوراثة والنسب لا بالعمل والخلق!!

سبب البراءة من عهودهم

كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠)

المفردات :

(إِلًّا) : عهدا ، أو حلفا ، أو جورا. (وَلا ذِمَّةً) أى : عهدا ، وهي كل حرمة يلزمك إذا ضيعتها ذنب.

٨٥٧

المعنى :

هذا هو بيان الحكمة الداعية للبراءة من عهودهم ، مع أن الوفاء بالعهد فضيلة وشعبة من شعب الإيمان.

كيف يكون للمشركين عهد محترم عند الله وعند رسوله؟ وهذا استنكار لأن يكون لهم عهد حقيق وجدير بالمراعاة عند الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد : ليس لهم عهد على أى وضع وحال ، وهذا أبلغ في النفي من غيره ، ولكن الذين عاهدتم عند المسجد الحرام ، وهم الذين سبق استثناؤهم في قوله : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً) الآية. وهذا مقيدا بأنهم يستقيمون لكم ولا يقدمون أى إساءة ، فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ، وأتموا لهم عهدهم إلى مدتهم على هذا الأساس وهو عدم تعديهم عليكم ، إن الله يحب المتقين الذين يوفون بالعهد ولا يظلمون.

وكيف يكون لهم عهد محترم وذمة عند الله وعند رسوله؟ والحال أنهم إن يظهروا عليكم ، ويظفروا بكم ، لا يراعون في شأنكم قرابة ولا صلة ، ولا يراقبون فيكم عهدا ولا ذمة ، وهم يرضونكم بألسنتهم ، وقلوبهم قد ملئت حسدا وحقدا ، وتأبى قلوبهم أن تكون معكم أبدا ، ولا غرابة في ذلك فأكثرهم فاسقون وخارجون عن حدود الدين والمروءة ، فالوفاء بالعهد للذين يخافون الله أو حساب الضمير ، وهم قد اشتروا بدل الآيات الإلهية الداعية للمثل العليا الكريمة ثمنا قليلا تافها وشيئا حقيرا ، وهو اتباع الأهواء ، والخضوع للشيطان ، ولذا تراهم صدوا عن سبيل الله ودينه الحق ، وبذلوا في سبيل الله كل مرتخص وغال ، إنهم ساء ما كانوا يعملون ، وبئس العمل عملهم!!

وهم لا يرقبون في شأن مؤمن ـ أيا كان ـ عهدا ولا ذمة على الإطلاق في أى وقت أو زمان ، وأولئك هم المعتدون المتجاوزون الغاية القصوى في الظلم والشر.

هؤلاء الذين وصفوا بهذا الوصف ، كيف يكون لهم عهد عند الله وعند رسوله؟! وكيف يثبت هؤلاء على عهدهم ، فهم يخضعون للقوة ، ويوفون للسيف لا للذمة ، وقد ثبت أنهم كذلك في الواقع.

٨٥٨

كيف نعامل هؤلاء الكفار؟

فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢)

المفردات :

(نَكَثُوا) أصل النكث : نقض الحبل ، ثم استعير لنقض العهد. (لا أَيْمانَ) المراد : لا عهود لهم.

المعنى :

هذا بيان لحال الكفار بعد ما ثبتت عداوتهم للإسلام ، فهم بين أمرين : أحدهما التوبة الصادقة والرجوع إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ والبعد عن الشرك والصد عن سبيل الله ، فإن تابوا بهذا المعنى ، وآمنوا وعملوا بإخلاص خصوصا إقامة الصلاة التي هي عماد الدين ، وإيتاء الزكاة الدالة على صدق التوبة ، وصفاء النفس وقوة العقيدة ، إن فعلوا ذلك فهم إخوانكم في الدين لهم ما لكم ، وعليهم ما عليكم ، وفي هذا التعبير الكريم التعبير بالأخوة ، إشارة إلى مقام الأخوة في الدين وأنها أعلى نسبا ، وأقوم صلة بين المسلم والمسلم ، وبهذه الأخوة تهدم صروح العداوة ، ويزول كل فارق بينكم.

والأخوة لا تتحقق إلا بالرجوع إلى الله حقا وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، ويمكننا أن نقول بأن الثلاثة متلازمة لا يمكن أن يحصل واحد بدون الآخر ، والله ـ سبحانه ـ يفصل الآيات ، ويوضحها كالشمس أو أشد ، ولكن لقوم يعلمون أو يريدون أن يعلموا.

٨٥٩

أما الحالة الثانية وهي أنهم ينقضون العهود ، بعد توكيدها ، ويخلون بالمعاهدة بعد إبرامها ، ويطعنون في دينكم بالنيل منه والاستهزاء به ، والصد عنه ، فهؤلاء يجب قتالهم قتالا عنيفا حتى يثوب إليهم رشدهم ، قاتلوا أئمة الكفر وقادته وحملة لوائه أينما كانوا إنهم لا عهود لهم ولا ذمة ولا يمين ، قاتلوهم لعلهم ينتهون إلى الحق ويرجعون عن الغي ، وهكذا نعامل هؤلاء المشركين إما بالأخوة الإسلامية إن تابوا وعملوا صالحا ، وإما حرب لا هوادة فيها إن ظلوا كما هم!!

تحريض على قتال المشركين

أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥)

المعنى :

كيف لا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم التي أقسموا بها عند المعاهدة؟!! ونقضوا عهدهم من بعد توكيده ، وهذا استفهام لإنكار عدم قتالهم. وهو يفيد الحض على القتال والحث عليه ببيان شناعة جرمهم وعظيم فعلهم المقتضى للقتال ، وهم هموا بإخراج الرسول من مكة ، أو حبسه حتى لا يراه أحد ، أو قتله بأيدى عصابة مكونة من القبائل حتى يضيع دمه (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ) [سورة الأنفال آية ٣٠].

٨٦٠